الباحث : أيوب صالح نوري

 باحث دكتوراه في قسم اللغة العربية – كلية الإلهيات – جامعة يوزنجوييل وان –تركيا

ayubsalih18@yahoo.com      

009647504896861

الملخص

          عرف البلاغيون الخبر بأنه ” كل كلام يحتمل الصدق والكذب”، وهو يختلف عن الإنشاء الذي لا يدل على الصدق ولا الكذب، وقسم البلاغيون الخبر إلى ثلاثة أقسام، فجعلوا منه الخبر الابتدائي الذي يخاطب به خالي الذهن، ثم إلى الخبر الطلبي الذي يخاطب به المتردد في مضمون الخبر، وأخيرا الخبر الإنكاري والذي يخاطب به المنكر للخبر، وقد حظي هذا الموضوع بأهمية كبيرة، ودراسات كثيرة في مجال البلاغة العربية خاصة في القرآن الكريم، فقد وردت أنواع الخبر الثلاثة في كثير من آيات القرآن الكريم،وكان القرآن في كل نوع من تلك الأنواع الثلاثة يهدف إلى معاني مقصودة؛ ففي موضع نجد القرآن آثر التعبير بالخبر الابتدائي، وفي موضع آخر نراه آثر التعبير بالخبر الطلبي، وفي موضع آخر نراه يعبر بالخبر الإنكاري المؤكد بكثير من المؤكدات؛ والقرآن في أخباره المتعددة نراه يشتمل على وسائل إقناعية في خطاباته المتعددة، ومن هنا أردت أن يكون البحث عن ” بلاغة الإقناع في سياق الخبر الإنكاري في القرآن الكريم”، و لكي يؤتي البحث ثمرته المرجوة منه، كان لا بد من تحديد المشكلة التي يسعى إلى حلها والإجابة عنها.

والمشكلة التي يسعى البحث لإظهارها، والحديث عنها تكمن في طرح هذا السؤال وهو هل استخدم القرآن من وسائل إقناعية في الأخبار الإنكارية التي وردت في القرآن الكريم؟، ولا شك أن هذا السؤال المطروح في حاجة إلى الإجابة عنه من خلال الدراسة التطبيقية على نماذج من الآيات القرآنية في سياقات الخبر الإنكاري؛ لنتبين الأسرار البلاغية التي تكمن وراء هذا التعبير، والكشف أيضا عن وسائل الإقناع التي استخدمها القرآن في سياقات هذه الأخبار.

ومن هنا تبدو لنا أهمية هذا البحث في كونه يكشف عن وسائل الإقناع التي استخدمها القرآن الكريم، ويكشف عما وراءها من أسرار بلاغية ارتبطت بتلك الوسائل الإقناعية في إطار المنهج التحليلي الذي يعتمد على دراسة الآيات التي وردت فيها الأخبار الإنكارية دراسة تحليلية تكشف عن سمات هذه الآيات وخصائصها وما اشتملت عليه من أسرار بلاغية .

الكلمات المفتاحية: البلاغة، الإقناع، الخبر، الإنكاري، القرآن.

The eloquence of the denial of news in the Noble Qur’an

Researcher:  Ayub Salih Nori

PhD researcher in the Department of Arabic Language \ College of Theology \ Yuzengoyel University\ VAN \ Turkey

 

Abstract:

The rhetoricians defined the report as “every speech that bears truth and falsehood,” and it differs from the construction that does not indicate truth or falsehood. The content of the news, and finally the denial news, which addresses the denial of the news, and this topic has received great importance, and many studies in the field of Arabic rhetoric, especially in the Holy Qur’an, the three types of news are mentioned in many verses of the Holy Qur’an. In each of these three types, the Qur’an aimed at intended meanings; In one place we find the Qur’an preferring the expression to the primary predicate, and in another place we see it preferring the expression to the prescriptive predicate, and in another place we see it expressing the affirmative predicate with many affirmations; And the Qur’an in its various reports, we see that it includes persuasive means in its various discourses, and from here I wanted to search for “the eloquence of persuasion in the context of the denial news in the Holy Qur’an”, and for the research to yield the desired fruit of it, it was necessary to identify the problem that it seeks to solve. and answer it, And the problem that the research seeks to show and talk about lies in asking this question, which is, did the Qur’an use persuasive means in the denial of news that was mentioned in the Holy Qur’an? There is no doubt that this question posed needs to be answered through an applied study on examples of Qur’anic verses. In the context of denial news; Let us discover the rhetorical secrets that lie behind this expression, and also reveal the means of persuasion that the Qur’an used in the context of this news. Hence, the importance of this research appears to us in that it reveals the means of persuasion used by the Noble Qur’an, and reveals the rhetorical secrets behind them that are associated with those persuasive means within the framework of the analytical method, which depends on the study of the verses in which the denial news was contained, an analytical study that reveals the characteristics and characteristics of these verses. And what it contained rhetorical secrets.

Keywords: rhetoric, persuasion, news, denial, the Qur’an.

مقدمة:

لا شك أن القرآن الكريم كتاب معجز في ألفاظه، ومعانيه، وألفاظه، فقد أعجز القرآن الإنس والجن، وسيظل هذا الكتاب معجزا إلى أن تقوم الساعة، ومن مظاهر إعجاز القرآن الكريم الإعجاز البلاغي، فقد اشتمل القرآن على كثير من الأسرار البلاغية التي تحتاج إلى الباحثين، والعلماء، والدارسين للبحث، والكشف عن هذه الأسرار التي لا تنتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن مظاهر الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم أسلوب الخبر، فقد تنوع هذا الأسلوب، وتنوعت طرقه في القرآن وفقا لحال المخاطبين به، وقد استخدم القرآن هذا الأسلوب البلاغي في خطاباته مع المؤمنين، وغيرهم من غير المؤمنين بأساليب متعددة، وقد تضمن هذا الأسلوب البلاغي كثيرا من وسائل الإقناع في خطاباته، وكان الهدف من تلك الوسائل هو إقناع المخاطبين به ، وتوضيح الحقائق لهم خاصة في مخاطبة المشركين، ومنكري وحدانية الله، ومنكري البعث، فقد خاطبهم القرآن بأسلوب الخبر الإنكاري مشتملا على كثير من وسائل الإقناع الكاشفة عن الحقائق، والمبينة للصواب؛ ولهذا كان لا بد من الوقوف على خصائص هذا الأسلوب؛ لنتبين طريقة القرآن الكريم في إقناع المخاطبين بهذا الأسلوب، وأيضا الكشف عن سمات، وخصائص هذا الأسلوب من جهة البلاغة القرآنية، فأسلوب القرآن الكريم يشتمل على كثير من الأسرار البلاغية التي تحتاج منا إلى الكشف عنها، والوقوف عليها، وهذا مظهر من مظاهر القرآن الكريم في إعجازه.

التمهيد:

أولا:  عرف البلاغيون الخبر بقولهم :” الخبرُ: هو كل كلامٌ يحتملُ الصدق والكذب لذاته( المراغي، بدون تاريخ، ص 55)، فكل كلام يحتما أن يقال عنه إنه صادق، أو كاذب يسمى عند البلاغيين بالخبر؛ وذلك بالنظر إلى الكلام نفسه لا إلى قائله، ومن هنا نراى البلاغيين قد أخرجوا من هذا التعريف الأخبار المقطوع بصحتها، وصدقها بالنسبة إلى قائلها، ومن تلك الأخبار الواجبة الصدق، الأخبار الواردة عن الله عز وجل، وأخبار الرسل، والبديهيات المألوفة نحو قولنا: السماء فوقنا”، فهذا من المعلوم والمقطوع بصحته، فلا توصف حينئذ إلا بالصدق، ولا يجوز أن نقول إن الجملة هذه تحتمل الصدق والكذب، بل هي من الخبر الصادق؛ لأنه أمر بديهي، ومقطوع بصدقه وصحته، وكذلك كل النظريات المتعين صدقها، فهي لا تحتمل شكا، كإثبات العلم، والقدرة لله عز وجل، وكذلك الأخبار المقطوع بكذبها، كأخبار المنبئين في دعوى النبوة، والصدق بالنسبة للخبر هو أن تتطابق النسبة الكلامية مع النسبة الخارجية، فيسمى حينئذ بالخبر الصادق، والكذب هو أن تختلف النسبة الكلامية عن النسبة الخارجية أي لا تتطابق النسبتان، وحينئذ يسمى بالخبر الكاذب،” فحينئذ هناك نسبتان نسبة تفهم من الخبر، ويدل عليها الكلام وتسمى النسبة الكلامية، ونسبة أخرى تعرف من الخارج بقطع النظر عن الخبر، وتسمى النسبة الخارجية، فما وافق الواقع فهو صدق، وما خالف الواقع فهو كذب( المراغي، بدون تاريخ، ص55).

يقول الإمام عبد القاهر :” وإِذْ قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر الخبرُ إِلاّ فيما بينَ شيئين: مخبرٍ به ومخبرٍ عنه، فينبغي أن تعلم أنهُ يحتاجُ مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ. وذلك أنه كما لا يتصوَّر أن يكونَ ههنا خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، كذلك لا يُتصوّر أن يكونَ خبرٌ حتى يكونَ له “مُخبِرٌ” يصدرُ عنه ويحصلُ من جهته، ويكونَ له نِسبةٌ إِليه، وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه، فيكونَ هو الموصوفَ بالصدق إِن كان صدقاً، وبالكَذِب إِن كان كَذباً. أفلا تَرى أن من المعلوم أنه لا يكون إِثباتٌ ونفيٌ حتى يكونَ مثبتٌ ونافٍ يكون مصدرُهما من جهته، ويكون هو المُزْجِيَ لهما، والمبرم والنقاض فيهما، ويكونَ بهما مُوافقاً ومُخالفاً، ومصيباً ومخطئاً، ومحسناً ومسيئاً، وجملةُ الأمرِ، إنَّ “الخبرَ” وجميعَ الكلامِ، معانٍ ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويارجع فيها عقلَه، وتوصَفُ بأنَّها مقاصدُ وأغراضٌ، وأعظمُها شأناً “الخَبرُ”، فهو الذي يُتصوَّر بالصُوَرِ الكثيرة، وتقعُ فيه الصناعاتُ العجيبةُ، وفيه يكونُ، في الأمرِ الأعمِّ، المزايا التي بها يقعُ ‌التفاضلُ في الفصاحَةِ ( عبد القاهر، 1992م، ص 528).

 

‌وقد ذكر العلامة السكاكي إن المعتبر عند العربي شيئان، الخبر والطلب ( السكاكي، 1987م، ص 164)، فالعلامة السكاكي بين أهمية هذين الأسلوبين الخبر والطلب، وبين أنهما من الأهمية بمكان عند العرب؛ لما تكمن وراءهما من المزايا، والأسرار البلاغية، ونلاحظ أن العلامة السكاكي من خلال تعريفه السابق قد بين الأهمية لهذين الأسلوبين في حين لم يضع لهما تعريفا، ولا حدا، وقد ذكر ذلك حيث قال :” اعلم أن المعتنين بشأنهما فرقتان: فرقة تحوجهما على التعريف، وفرقة تغنيهما عن ذلك، واختيارنا قول هؤلاء( السكاكي، 1987م، ص164)، فنراه من خلال قوله السابق أنه لم يعول على تعريفهما، وهذا الأمر غير محمود للعلامة السكاكي؛ لأن كل علم، بل وكل أسلوب يجب أن يوضع له حد يبين حدوده، وأن يوضع له تعريف يبين ملامحه، وإلا لتداخلت الأساليب، والعلوم، فلا بد من أن تكون هناك تعريفات، وحدود جامعة مانعة، جامعة لمعنيها، ومانعة من دخول أنواع أخرى تحت مفاهيمها، وهذا ما بينه لنا العلامة عبد القاهر الجرجاجي في كتابه ” أسرار البلاغة ” حيث نراه يشدد على أهمية، وضرورة معرفة الحدود، وتوضيح الأقسام، وضرب لذلك أمثلة حيث قال :” فإنك تعلم ‌أن ‌قائلاً ‌لو ‌قال الخبر مثل قولنا زيد منطلق، ورضي به وقَنِع، ولم تطالبه نفسُه بأن يعرف حدّاً للخبر، إذا عرفه تَميَّز في نفسه من سائر الكلام، حتى يمكنهُ أن يعلم هاهنا كلاماً لفظُه لفظُ الخبر، وليس هو بخبرٍ، ولكنه دعاءٌ كقولنا: رحمةُ اللَّه عليه وغفر الله له ولم يجد في نفسه طلباً لأن يعرف أن الخبر هل ينقسم أو لا ينقسم، وأنّ أوّل أمره في القسمة أنه ينقسم إلى جملة من الفعل والفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر، وأَنَّ ما عدا هذا من الكلام لا يأتلف نعم ولم يُحبَّ أن يعلم أن هذه الجملة يدخل عليها حروفٌ بعضها يؤكّد كونها خبراً، وبعضها يُحدث فيها معاني تخرُج بها عن الخَبَرية واحتمال الصدق والكذب( عبد القاهر، بدون تاريخ، ص261).

ونعود إلى أنواع الخبر، فسبق القول أن الخبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام ” الابتدائي، والطلبي، والإنكاري”، والخبر الابتدائي يأتي خاليا من أنواع التأكيد؛ لأن المخاطب به هو خالي الذهن، وإن كان  المخاطب بالخبر متصورا لطرفيه، ولكنه متردد في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبا له، فحينئذ يكون من البلاغة أن يؤكد له الخبر، ويحسن تقويته له  بمؤكد، كقولك: “لزيد عارف”، أو “إن زيدا عارف”، والخبر حينئذ يسمى بالخبر الطلبي، وفيه يكون المخاطب مترددا، وليس منكرا، فيحسن توكيده بمؤكد واحد يزيل تردده، وإن كان المخاطب بالخبر حاكما بخلافه، ومنكرا له، وجب توكيده بحسب الإنكار؛ فتقول: “إني صادق” لمن ينكر صدقك، ولا يبالغ في إنكاره، و: “إني لصادق” لمن يبالغ في إنكاره، وعليه قوله تعالى: “وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ”حيث قال في المرة الأولى: “إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ “، وفي الثانية “إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ”، فزيد في التأكيد على قدر الإنكار( الصعيدي، 2005م، ج1\45)،

ويؤيد هذه الأنواع الثلاثة من أنواع الخبر، وأن بينها فرقا في التعبير ما روي عن الفيلسوف الكندي في سؤاله لأبي العباس المبرد في قوله: “إني أجد في كلام العرب حشوا؛ يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد! “، فأجاب المبرد بأن قال: “بل المعاني مختلفة؛ فعبد الله قائم إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر( عبد الرازق، 2006م، ص106)،ومن هنا فقد استنبط البلاغيون من أسلوب الكلام ثلاثة أنواع للخبر، فإن جاءت الجملة الخبرية خالية من المؤكدات سُميَّ الخبر ابتدائياً، وإذا أُكدت الجملة بمؤكد واحد كان الخبر طلبيا، وإن أكدت الجملة بمؤكدين أو أكثر كان الخبر إنكاريا، ويبدو أن علة التسمية نابعة من طبيعة الخبر، ولتفصيل ذلك نورد أنواع الخبر مشفوعة بالأمثلة  واعتماداً على ما سبق فالخبر ثلاثة أنواع ( التفتازاني، 1912م، ج2\ص14) ، وبعد هذه الوقفة حول تعريف الخبر عند البلاغيين، وبيان أقسامه بحسب  حال المخاطب ” ابتدائي، وطلبي، وإنكاري” نقوم الآن بتطبيق ذلك على النوع الثالث من أنواع الخبر وهو الخبر الإنكاري على بعض النماذج من الآيات القرآنية؛ للكشف عن الأسرار البلاغية فيها، وعن وسائل الإقناع التي دلت عليها.

سبق الكلام عن الخبر الإنكاري وهو من أضرب الخبر الثلاثة ” الابتدائي، والطلبي، والإنكاري”، وهو الضرب الثالث من الأضرب والأنواع الثلاثة، وهذا الضرب من أضرب الخبر الثلاثة لا يكون إلا إذا ” ألقى المتكلم خبره إلى حاكم فيه بخلافه؛ وذلك ليرده إلى حكم نفسه، وهذا الضرب يحتاج من المؤكدات في الخبر بحسب ما أُشرِبَ المخالف من الإنكار في اعتقاده( السكاكي، 1987م، ص 171) ، ومؤكدات الخبر كثيرة منها: ” إنَّ ، وأنَّ ، وكأنَّ ، ولكنَّ ، ولام الابتداء ، والفصل ، وأما ، وقد ، والسين ، والقسم ، ونونا التوكيد ، ولن ، والحـروف الزائدة ، وحروف التنبيه ( مطلوب، 2006م، ج2\467)، فالخبر الإنكاري تأتي المؤكدات فيه وفقا لحال المخاطب، ووفقا لدرجة إنكاره للخبر الملقى إليه، وكلما اشتد الإنكار زادت المؤكدات؛ لتتناسب مع درجة الإنكار، ولتبدد الإنكار وتزيله من نفس المخاطب الذي تمكن الإنكار منه تمكنا شديدا، ولننظر إلى قول السكاكي رحمه الله تعالى في كلامه عن الخبر الإنكاري :” وإذا ألقاها أي: جملة الخبر الإنكاري على حاكم فيها بخلافه؛ ليرده على حكم نفسه، استوجب حكمه ليرجح تأكيداً بحسب ما أشرب المخالف الإنكار في اعتقاده، كنحو: إني صادق لمن ينكر صدقك إنكاراً، وإني لصادق لمن يبالغ في إنكار صدقك، ووالله إني لصادق على هذا( السكاكي، 1987م، ص 177).

والآن ننظر في بعض الآيات التي وردت في خطابات الأنبياء عليهم السلام، والتي ورد فيها الخبر الإنكاري؛ لنتبين، ونقف على الأسرار البلاغية في التعبير بهذا الخبر؛ ولنتعرف على الأسباب التي دعت إلى توكيد تلك الأخبار، وما هي المقامات التي سوغت الإنكار، ونتبين درجات الإنكار التي وردت في الآيات، ونحاول الوقوف على السياق، والمقام في الآيات في بيان الأسرار الكاشفة عن الخبر الإنكاري في الآيات، وأيضا سنتبين من خلال الآيات الأخبار الإنكارية التي جاءت على مقتضى الظاهر ، ونثني ببعض الآيات التي جاءت على خلاف مقتضى الظاهر، والله المستعان .

قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِين ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ ‌إِنَّكُمْ ‌بَعْدَ ‌ذلِكَ ‌لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ } المؤمنون 12-16.

 

‌الآيات السابقة من سورة المؤمنون، وهي تتحدث عن خلق الإنسان، وإظهار القدرة الإلهية من خلال خلق الإنسان، فالإنسان ذلك المخلوق الضعيف أصله سلالة من طين، وهذه السلالة قد مرت بمراحل حتى صار الإنسان المخلوق إنسانا سويا، وعاقلا، ومدركا، وقد مرت هذه السلالة بمراحل قبل أن يكون صاحبها تام الخلقة، فها هي السلالة من طين التي خلق منها نبي الله آدم عليه السلام، ثم اختلف الخلق وصار الخلق المعروف الذي يكون عن طريق التزاوج بين الذكر والأنثي، وهذا في عموم البشر إلى قيام الساعة، ثم نجد الآيات تشير إلى طلاقة القدرة في جعل النطفة وهي الحيوان المنوي علقة، ثم مضغة ثم تكون عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يكون خلقا كاملا بقدرة الله عز وجل، وهذا من دلائل القدرة الإلهية، ثم بعد ذلك لم يبق إلا الموت، والبعث يوم الحشر والنشور.

وهذه الآيات كما قلت جاءت للإشارة إلى طلاقة القدرة لله عز وجل، والعجيب أن يأتي بعد الإشارة إلى قدرته سبحانه وتعالى الحديث عن الموت، ثم الحديث عن البعث، وذلك ليتأكد الإنسان أن القادر على هذا قادر على ذاك سبحانه وتعالى.

وموطن الشاهد في الآيات السابقة هو قوله تعالى :” ‌ثُمَّ ‌إِنَّكُمْ ‌بَعْدَ ‌ذلِكَ ‌لَمَيِّتُونَ “، فهذه الجملة من قبيل الخبر الإنكاري حيث جاءت مؤكدة بأكثر من مؤكد ” إِنَّ، واللام، والاسم َمَيِّتُونَ”، وهذه المؤكدات المتعددة جعلت الجملة التي وردت فيها تلك المؤكدات من قبيل الخبر الإنكاري؛ لكثرة هذه المؤكدات، ولكن هناك سؤال يتبادر إلى الذهن وهو أن الموت لا ينكره أحد، فالكل من المسلمين، واليهود، والنصارى، واللادينيين كلهم لا ينكرون الموت ومع هذا جاءت تلك الجملة الخبرية مؤكدة بأكثر من مؤكد فما السبب في ذلك؟، والجواب أن هذه الجملة الخبرية من قبيل الخبر الإنكاري وإن كان المخاطبون بذلك ليسوا منكرين لحقيقة الموت؛ لأن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود التي لا ينكرها أهد لأنه مشاهد، ونراه بأعيننا كل يوم، وإنما السبب في تأكيد هذه الجملة الخبرية هو الإشارة إلى غفلة الناس عن هذه الحقيقة، فهذه الغفلة التي هم فيها كأنهم أنكروا هذه الحقيقة المعلومة المشاهدة، فنزلوا منزلة من ينكرها؛ ولهذا جاءت الجملة مؤكدة؛ لتشير إلى تلك الغفلة التي يعيش فيها بنو الإنسان، ومن هنا نعلم أن السبب في التوكيد هو تنزيل غير المنكر منزلة المنكر، فالجملة الخبرية من قبيل مجيء الخبر على خلاف مقتضى الظاهر.

 

ولكي نقف على الأسرار البلاغية للتأكيد في الجملة الخبرية الإنكارية في قوله تعالى :” ‌ثُمَّ ‌إِنَّكُمْ ‌بَعْدَ ‌ذلِكَ ‌لَمَيِّتُونَ”، لا بد من إلقاء نظرة على المقام الذي وردت فيه الآيات، فالمقام الذي وردت فيه الآيات هو مقام الاستشهاد على طلاقة القدرة لله جل وعلا، فالخطاب في الآيات للمنكرين لقدرة الله تعالى؛ ولهذا اقتضى الإنكار أن تأتي الأدلة الدامغة لرد هذا الإنكار، ” فالآيات اشتملت على دليلين، الدليل الأول: هو القدرة على الإنشاء، والاختراع من خلال ذكر طلاقة القدرة على خلق الإنسان، والدليل الثاني: هو دليل الموت، والبعث( الزمخشري، 1407ه، ج3\ 179)، فالآيات السابقة قد ذكرت دليلين اثنين للدلالة على طلاقة القدرة، الأول : ذكر الخلق، ثم الدليل الثاني وهو إثبات الموت والبعث ( السمرقندي، 1431ه، ج2\ 476)، فالمقام هو مقام الدلالة على طلاقة القدرة؛ لأن المخاطبين منكرون؛ ولهذا جاء الدليل الأول بالإشارة إلى طلاقة القدرة في خلق الإنسان، ثم جاء الدليل الثاني الذي هو مشاهد وهو دليل الموت والبعث، ولكن كان يمكن أن يشار إلى الدليل الثاني وهو دليل الموت والبعث دون تأكيد، ولكن عرفنا السر وراء التأكيد؛ لأن هؤلاء المخاطبين منكرون، ومن شأن المنكرين أن يكونوا في غفلة، وماداموا هم منغمسون في الغفلة والنسيان خاصة عن أمر الموت الذي لا ينكره أحد؛ ولهذا كان لا بد من تنزيل المخاطبين المقرين للموت منزلة المنكرين له؛ لأنهم مع إقرارهم به إلا أنهم غفلوا عن حقيقته، فالتأكيد فيه” كسر على أهل الغفلة سطوة غفلتهم، وفلّ دونهم سيف صولتهم بقوله: ‌”ثم ‌إنكم ‌بعد ‌ذلك ‌لميتون”، وللجماد مضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لمبعدون، وفى عداد ما لا خطر له من الأموات معدودون( القشيري، 1431ه، ج2\571).

والملاحظ أن الموت جاء مؤكدا، مع أن الجميع مجمع عليه، والبعث جاء مؤكدا بتأكيد خفيف مع أنه محط الإنكار والتكذيب، والسر البلاغي وراء ذلك ” أن الموت جاء مؤكدا بأكثر من مؤكد للرد على من ينكر الموت كالتناسخية القائلين بانتقال الروح من حيوان إلى غيره، فاحتيج إلى تأكيد وقوعه في إخبارهم به، وترك تأكيد البعث إشارة إلى أنه لقوته في نفسه كالمجمع عليه الغني عن التأكيد، وقيل إن سر تخفيف التأكيد بالبعث مع أنه محط الإنكار والتكذيب، لأن المخاطب بالبعث إما مصدق للرسول المخبر به، فلا حاجة له إلى التأكيد، أو مكذب له فلا يفيد معه التأكيد، فسقط التأكيد لسقوط فائدته في هذا المكان ( الحنبلي، 2005م، ص451).

يقول العلامة الخطيب القزويني :” أكد إثبات الموت تأكيدين، وإن كان مما لا ينكر؛ لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل “ميتون” دون “تموتون”، وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرًا بأن لا ينكر، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فينزل المخاطبون منزلة المترددين، تنبيهًا لهم على ظهور أدلته، وحثًّا لهم على النظر فيها، ولهذا السبب جاء تبعثون على الأصل ( القزويني، بدون تاريخ، ج1\ص76).

ويؤكد على هذا العلامة السيوطي حيث قال :” جاء التأكيد في الموت بمؤكدين وهو ليس محط إنكار؛ وذلك لتنزيل غير المنكرين به منزلة من أنكروه بسبب ما هم فيه من غفلة عنه، ونسيان له، وجاء تأكيد البعث بمؤكد واحد، وإن كان أشد نكيراً؛ لأن أدلة البعث لما كانت ظاهرة للعيان، وأدلته واضحة للجميع  كان جديرا بألا ينكر، فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر، حثاً لهم على النظر في أدلته الواضحة ( السيوطي، 1988م، ج1\ ص253).

يقول ابن تيمية رحمه الله :”وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لِمَ دَخَلَتْ لَامُ التَّوْكِيدِ فِي الْمَوْتِ وَهُوَ مُشَاهَدٌ، وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ غَيْبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيدِ؟ وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْجَزَاءِ وَالْمُعَادِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ هُوَ الْمَوْتُ، فَنَبَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمُعَادِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ إنَّمَا قَالَ ” تُبْعَثُونَ ” فَقَطْ، وَلَمْ يَقُلْ ” تُجَازُونَ ” لَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبَعْثَ لِلْجَزَاءِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَهْرِ الْإِنْسَانِ وَإِذْلَالِهِ يَقُولُ: بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إنَّك تَمُوتُ فَتُرَدُّ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( ابن تيمية، 1995م، ج16\ 279).

وخلاصة القول في بيان السر البلاغي وراء مجيء الجملة الخبرية على وجه الخبر الإنكاري في قوله تعالى :”‌ثُمَّ ‌إِنَّكُمْ ‌بَعْدَ ‌ذَلِكَ ‌لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ” هو تنزيل غير المنكر منزلة المنكر، وتنزيل غير المتردد منزلة المتردد،فالموت غير المنكرجاء مؤكدًا، وإن كان مما لا ينكر؛ لأنه نزل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده؛ ولهذا قيل (ميتون) دون (تموتون)، وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا، وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة، كان جديرًا بألا ينكر، بل إما أن يعترف به، أو يتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين؛ تنبيهًا لهم على ظهور أدلته، وحثًا على النظر فيها، ولهذا جاء تبعثون على الأصل ( عبد الرازق، 1983، ص146).

وهذا من بلاغة القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم قد يؤكد أمرا لا يحتاج إلى تأكيد؛ لأنه من البداهة بمكان؛ لأنه يرمى من وراء ذلك إلى هدف هام، تتبينه النفس عند ما تتدبر أمر هذا التوكيد، لترى ما موقعه، ولم كان، ففي قوله تعالى:” ‌ثُمَّ ‌إِنَّكُمْ ‌بَعْدَ ‌ذلِكَ ‌لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ” كان الغرض من تأكيد الموت بمؤكدات كثر أنه لما كان تماديهم في الضلال يصرفهم عن التفكير المستقيم، المؤدى إلى الإيمان، بالله ورسله، واليوم الآخر، وكانت هذه الغفلة تلفتهم عن التفكير في مصيرهم، فكأنهم مخلدون لا يصيبهم موت ولا فناء، أكد نزول الموت بهم تأكيدين؛ ليفكروا فيه، وفيما يتطلبه نزوله بهم، من عمل صالح ينفعهم بعد هذا الموت ( بدوي، 2005م، ص115).

قال تعالى:{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ‌‌قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } يس 15-17.

الآيات تبين لنا هذا الخطاب القرآني بين رسل نبي الله عيسى عليه السلام وقومهم، فالرسل جاءوا لهداية قومهم وحثهم على الإيمان بالله جل وعلا، ولكن ما كان من القوم جاء خلافا لما يرجوه رسل نبي الله عيسى عليه السلام، “فالمفسرون على إجماع  بأن هؤلاء الرسل، هم من حواريى المسيح، ورسله الذين بعثهم لينشروا الدعوة فى الناس ( عبد الكريم ، بدون تاريخ، ج11\ 914).

والمعنى الإجمالي للآية ” أن الله عز وجل قد أرسل رسولين إلى أهل القرية؛ ليدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى الهدى والإيمان، فكذبوهم،ا فشدد الله تعالى أمرهما بثالث، وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا، وهؤلاء أهل القرية قد أنكروا دعوة هؤلاء الرسل بقولهم :” وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ “، وراجعتهم الرسل بأن يردوا العلم إلى الله تعالى وقنعوا بعلمه وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم( ابن عطية، 1422ه، ج4\499).

والآيات تؤكد وتركز على بيان دعوة الرسل، والآيات تركز على بيان تعاقب الرسل على أقوامهم لهدايتهم؛ ولكنه العناد الذي جعل أهل القرية يصرون على التكذيب، بل وصل الأمر بهم إلى التهديد أي تهديد الرسل عليهم السلام حتى لجأووا إلى رجمهم بالحجارة، والعذاب الأليم، ومع هذا الإرار، والعناد ما كان من رسل الله عز وجل إلا الاستمرار على الدعوة والهداية لهم على الرغم من التهديد والتعذيب ( الراغب، 2001م، ص194).

وبعد بيان المعنى الإجمالي للآيات نأتي إلى موطن الشاهد، وهو جملة ” ‌‌قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ” حيث إنها جاءت مؤكدة بأكثر من مؤكد، فالجملة من قبيل الخبر الإنكاري، وهناك سر بلاغي يكمن وراء هذا التأكيد في الجملة الإنكارية، وهذا التأكيد يكشف عنه المقام الذي وردت فيه الآية، فالمقام مقام تكذيب وإنكار لرسل الله عليهم السلام الذين جاءوا لهداية قومهم من الضلال والهلاك، كما أن السياق انضم مع المقام ليكشف لنا عن سر التأكيد في الجملة الخبرية، فالسياق الذي جاءت عليه الآية يساهم في الكشف عن حال القوم، ومن ذلك بد الآيات بأسلوب القصر ” قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ” عن طريق النفي والاستثناء، وهذا الأسلوب أعني القصر بالنفي والاستثناء لا يستعمل إلا في مقامات الإنكار، فبداية الآيات يكشف لنا عن حال القوم، وتكرار القصر بالنفي والاستثناء يؤكد على هذه الحال التي عليها قوم نبي الله عيسى عليه السلام، ” إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ “، فالقصر بالنفي والاستثناء، وتكراره يكشف عن نفسية، وحال القوم مع رسل الله عز وجل، ثم تأتي هذه الجملة ” ‌‌قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ” لنقف عندها وقفة لنتبين سر التأكيد هنا، والغرض البلاغي في زيادة المؤكدات هنا، فهذه الجملة الخبرية قد أُكِّدَت “بالقسم، وإن، واللام واسمية المجلة؛ وذلك لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: “مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إن أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ”( القزويني، بدون تاريخ، ج1\ 71).

ومما يدل على أن تأكيد الجملة السابقة بكثير من المؤكدات هو أن الآيات السابقة نجد هؤلاء القوم قد تدرجوا في إنكارهم لرسل الله عز وجل، وهذا التدرج في التأكيد جاء موافقا للتدرج في الإنكار، ففي الآيات السابقة قال تعالى :” وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) ‌قَالُوا ‌رَبُّنَا ‌يَعْلَمُ ‌إِنَّا ‌إِلَيْكُمْ ‌لَمُرْسَلُونَ”، فقد جاء خطاب الرسل لأصحاب القرية في المرة الأولى مؤكداً بإن، واسمية الجملة، لأنهم كذبوا، بدليل قوله تعالى: “فَكَذَّبُوهُمَا”، فلما رد عليهم أصحاب القرية بقولهم:”مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا” مؤكدين ردهم بالنفي والاستثناء مردفين ذلك بقولهم:” ومَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ”، وهو تأكيد ثان لنفي الرسالة عنهم بصورة أبلغ، لأنهم ثم أردفوا ذلك بقولهم: “أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ”، فوصفوا رسل الله بالكذب بأسلوب مؤكد بالنفي والاستثناء، فما كان من الرسل – عليهم السلام- إلا أن ردوا عليهم بعد هذا العناد والإنكار والمكابرة والتطاول – بقولهم-: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فكرروا قولهم الأول، وفي هذا ضرب من التأكيد، ثم زادوا مقولتهم بجرعات أخرى من التأكيد تمثلت في (إن) و (اللام) و (اسمية الجملة)، وهكذا نجد أن التأكيد يأتي على قدر الإنكار، فالكلام جاء على مقتضى ظاهر حال المخاطبين ( عبد الرازق، 2006م، ص94)، والآن عرفنا السر وراء مجيء الجملة مؤكدة بكثير من المؤكدات، فهذا الضرب من الخبر الإنكاري يجب تأكيده بحسب قوة الإنكار وضعفه، فكلما ازداد الإنكار زيد في التأكيد، وهذا من بلاغة القرآن الكريم أن يأتي الكلام مطابقا لمقتضى الحال، ومناسبا للمقام والسياق.

فالكلام ليس كما يفهم بعض الناس أنه من قبيل التكرار، وإنما هو من البلاغة القرآنية العالية، ففرق بين قوله الله تعالى :” إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ”، وبين قوله سبحانه :” ‌إِنَّا ‌إِلَيْكُمْ ‌لَمُرْسَلُونَ”، ففي الجملة الأولى كان الإصرار أقل؛ ولهذا كان التأكيد أقل، بينما في الثانية كان الإصرار والإنكار أشد؛ ولهذا كان التأكيد أكثر منه في الجملة الأولى ” فاقتضى هذا الإِصرار على الإِنكار والتكذيب، أن يزيد الرُّسُل بيانَهُمْ تأكيداً، فأضَافُوا إلى المؤكّدات السابقات تَأْكيداً بالْقَسَمِ: “رَبُّنَا يَعْلَمُ”، وباللاّم المزحلقة، الّتي هي لام الابتداء، زُحْلِقَتْ إلى خبرَ “إنّ” فهي الداخلة على “مُرْسَلُون”، فتكاثرتْ نِسْبَةُ المؤكّدات بحسب الإِمعان في التكذيب والإِنكار ( الميداني، 1996م، ج2\ 113) ، فالغرض البلاغي، والسر الأبلغ في زيادة التأكيد هو الرغبة في إزالة الشك والإنكار الذي حل بالقوم ( مطلوب، 1980، ص94).

وهذا من بلاغة القرآن كما بينت وذكرت وهو أن يأتي الكلام على قدر المطلوب، فكل كلمة بل وكل حرف في القرآن الكريم قد جاء في مكانه الملائم له ، فالتأكيد إنما زاد وفق حال المخاطبين ولم يأت عبثا، وإنما أفاد معنى جديد وهو أن القوم قد اشتد عداؤهم، وزاد إنكارهم، فكان لا بد من بيان هذه الحال من خلال هذه المؤكدات وهذا من صميم بلاغة القرآن الكريم، فالتأكيد هنا جاء وفق ما يتطلبه ظاهر حال المخاطب، وحينئذ ينبغي للمتكلم أن يراعي في خطابه ما يبدو من حال مخاطبه؛ ليكون كلامه مطابقًا، ويسمى الجري على هذا النحو إخراجًا للكلام على مقتضى ظواهر الحال، فلما أمعن المخاطبون في الإنكار زيد في المؤكدات؛ ليتناسب ذلك مع حال المخاطبين ( عوني، بدون تاريخ، ج2\14).

 

يقول العلامة أبو موسى :” وإن كان الحال مستحكمًا تضاعفت عناصر التوكيد بمقدار تصاعد حالة الإنكار؛ لأن وظيفة الخبر حينئذ هي تثبيت هذا المعنى في تلك النفس الرافضة له، فلا مفر من أن تكون قوة العبارة، ووثاقتها ملائمة لحال النفس قادرة على الإقناع، وخير شاهد يصور هذا الأصل النفسي الدقيق في بناء الأسلوب، تلك الآية الكريمة التي تصف لنا حوار المرسلين مع أصحاب القرية، “وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، ‌قَالُوا ‌رَبُّنَا ‌يَعْلَمُ ‌إِنَّا ‌إِلَيْكُمْ ‌لَمُرْسَلُونَ”، … فرد الرسل الكرام عليهم بعد هذا العناد، والإنكار والتطاول بقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، عادوا إلى القضية الأولى وكرروها -وهذا ضرب من التوكيد- ثم أضافوا إلى صياغتها ألوانا جديدة من التوثيق، والتوكيد فجاءت كما ترى مؤكدة بأن وإسمية الجملة، واللام ومصدرة بقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ}، فقد وضح إذن كيف تتكاثر عناصر التوكيد وفقا لتصاعد أحوال الإنكار في هذا الحوار القرآني الخصب الذي يحتاج إلى تأمل، ومراجعة تكتشف فيه طبيعة العقلية المعاندة؟ وكيف كانت تنحرف في حوارها عن طلب الحقيقة، ومنهج الاحتجاج القويم ( أبو موسى، 2004، ص 86).

قال تعالى : {‌لَقَدْ ‌أَنزَلْنَآ ‌إِلَيْكُمْ ‌كِتَاباً ‌فِيهِ ‌ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} } الأنبياء 10.

وهذه الآية الكريمة من سورة الأنبياء جاءت مشتملة على كثير من المؤكدات، فالآية من قبيل الخبر الإنكاري، ولكي نتبين السر البلاغي وراء كثرة المؤكدات في الآية لا بد أن نقف على دلالة كل من المقام والسياق؛ لأنهما كاشفان عن سر التأكيد هنا، وقبل الوقوف على المقام والسياق نبين المعنى الإجمالي للآية، والغرض الذي سيقت إليه.

هذه الآية الكريمة من الخطاب الذي دار بين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، والآية تبين لهؤلاء المخاطبين من كفار قريش أن القرآن الكريم الذي هو الذكر فيه هدايتهم إن اهتدوا وفيه ذكرهم أي شرفهم، “وهذه الآية من قبيل الوعيد بشكل خفي للمشركين، فالآية  وإن كانت تدل على وعد الله للمؤمنين بالنصر، والشرف إلا أنها تحمل وعيدا للمشركين، وتوبيخا لهم إن لم يهتدوا، ففي الآية تحريض، وتأكيد على ذلك ( ابن عطية، 1422ه، ج4\75)

فالمخاطب هنا بالآية هم كفار قريش الذين عادوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وحاربوه، وآذوه بكل أنواع العذاب، والأذى؛ ودليل أن الآية جاءت في خطاب كفار قريش أنها ذيلت بقوله تعالى:” أَفَلا تَعْقِلُونَ ” بما يحمله الاستفهام من التوبيخ لعدم التفكر في الهداية، والتمسك بالقرآن الذي فيه شرفهم وعزهم، ويشير الإمام القرطبي إلى ذلك فيقول رحمه الله:” ثُمَّ نَبَّهَهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْقِيفُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:”أَفَلا تَعْقِلُونَ” أي: أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؟! ( القرطبي، 1964م، ج11\ 273)

وقد نص العلامة البيضاوي، وغيره من المفسرين رحمهم الله جميعا على أن المخاطب بالآية هنا هم كفار قريش حيث قال :” لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ” أي: يا قريش كِتاباً يعني القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ صيتكم وما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنون ( البيضاوي، 1418ه، ج4\ 47).

ويقول العلامة النسفي رحمه الله :” المراد كفار قريش، والغرض أن هذا القرآن فيه شرفكم إن عملتم به، أو لأنه بلسانكم، أو فيه موعظتكم، أو فيه ذكر دينكم ودنياكم ثم ختمت الآية بقوله تعالى: ” أَفَلَا تَعْقِلُونَ” أي: أفلا تعقلون ما فضلتكم به على غيركم فتؤمنوا ( النسفي، 1998م، ج2\ 963).

 

وهو من خطاب الغير، والمراد العين ( شمس الدين، 1427ه، ج5\259)، فالمراد بالخطاب هنا الغير أي كفار قريش، وإن كان يبدو في ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، وهذا أسلوب قرآني فريد، فقد يأتي الخطاب لشخص، والمراد به غيره،  على نحو قول الله تعالى: “يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ”، ونحو قوله تعالى:” لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ”، ونحو قوله تعالى: “لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ( التهانوي، 1996م، ج1\ 751)، وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال، بعد توجيهه إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- في الإرسال؛ لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام ( ابن عجيبة، 1419ه، ج3\ 446)، والقرآن هنا أراد أن يحرض أهل قريش على الهداية، فبين لهم أن هذا القرآن هو الشرف الحقيقي طالما هم يبحثون عن الشرف، فهو الذكر أي الصيت والشرف، والفخر، والاعتزاز، فهو شرف لمن آمن به ( الخازن، 1415ه، ج3\ 221).

وشاهدنا في الآية هنا هو الجملة الخبرية الإنكارية في قوله تعالى :” ‌لَقَدْ ‌أَنزَلْنَآ ‌إِلَيْكُمْ ‌كِتَاباً ‌فِيهِ ‌ذِكْرُكُمْ “، حيث جاءت حاشدة بكثير من المؤكدات ” لام القسم، وحرف التحقيق، وتقديم الجار والمجرور ” إليكم”، وهذه المؤكدات المتعددة جاءت في مقابلة الحشد الهائل من الإنكار في قبول الهداية، والشرف الذي هو من خصائص اتباع الإسلام، والتدبر في القرآن الكريم،  فالمخاطبون بذلك لا عقل لهم حيث إنهم لا يعرفون ما أنزل إليهم من القرآن الكريم، ولا يعرفون قدر هذا الكتاب العظيم، وليت الأمر اقتصر على عدم معرفتهم، وجهلهم بالقرآن، بل أنكروه، وادعوا زورا، وبهتانا أنه من صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مقتضى البلاغة أن يأتي التأكيد للرد، ولدفع هذا الإنكار، يقول ابن عاشور رحمه الله :” وذلك أبلغ من أن يقال أنزلنا لكم، وفي ذلك إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين كونه كتاب هدى، وكونه آية ومعجزة للرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مراتبه ( ابن عاشور، 1984م، ج17\ 22)، فالتأكيد الوارد في الآية  كان الغرض منه التبيكيت بهؤلاء المنكرين المعرضين عن كتاب الله عز وجل، فما يقتضيه العقل أن يؤمنوا بهذا الكتاب الذي فيه ذكرهم، وعزهم؛ لكنه العناد الذي دعاهم إلى الإنكار، والذي استوجب تأكيد هذه الجملة، يقول العلامة الصاوي رحمه الله:” جملة (لقد أنزلنا إليكم كتاباً) قصد بها التبكيت عليهم؛ لأن ما يقتضيه العقل أن يعظموا هذا الكتاب، وهذا النبي، فإعراضهم عنه دليل على عدم عقلهم ( الصاوي، بدون تاريخ، ج4\ 143).

وهذا العناد الذي حل بالقوم قد كشف عنه السياق والمقام، فالمقام الذي وردت فيه الآية مقام إنكار وتكذيب بدليل ما جاء قبل هذه الآية وما بعدها، فالسورة نفسها التي وردت فيها الآية قد بدأت بقوله تعالى:” اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ” الأنبياء 1، وقد بدأت السورة بهذا الافتتاح المفزع لينذر أهل مكة من ضلالهم، وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت الآيات بعد ذلك، لتكشف عن عناد القوم، وعدم قبولهم للهداية، في قوله تعالى :” مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، وهاتان الآيتان تكشفان عن بَيَانِ تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ واشْتَغَلُوا عَنْهُ بِاللَّعِبِ، ثم تتوالى الآيات لتكشف عن حال القوم وتكذيبهم، وإعراضهم عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم آن الآية محل الاستشهاد قد جاءت في جملة آيات تتحدث عن طبيعة القوم ” كفار قريش” وتكشف عن العناد، والإصرار الذي حلَّ بهم، وهذا هو المقام الذي وردت فيه الآية، فالمقام مقام تكذيب وإعراض.

ثم يأتي السياق بجمله، وألفاظه، وتراكيبة ليؤكد على هذا الحال حيث نجد أن الآية الكريمة قد بدأت بقوله تعالى :” ‌لَقَدْ” التي اشتملت على ” حرف القسم اللام، وحرف التحقيق قد، وكلاهما من المؤكدات، فالقسم لا يستعمل إلا حيث أريد التأكيد، وحرف ” قد ” من المؤكدات، ثم جاء تقديم الجار والمجرور ” إليكم” ؛ ليؤكد على أن هذا الذكر وهو القرآن قد أنزل إليهم خاصة لهدايتهم، فالتقديم هنا أفاد تأكيدا على تأكيد، ثم تنكير ” كتاب ” كان الغرض منه التعظيم من شأن هذا الكتاب، ثم ختام الجملة بالاستفهام الإنكاري” أَفَلَا تَعْقِلُونَ”؛ للإنكار على المعرضين عن هذه الهداية، وفيه دعوة للتفكر وإعمال العقل، وهذا كله مما سلكه السياق؛ ليكشف لنا عن سر المؤكدات الحاشدة التي اشتملت عليها الجملة الخبرية الإنكارية في قوله تعالى:” ‌لَقَدْ ‌أَنزَلْنَآ ‌إِلَيْكُمْ ‌كِتَاباً ‌فِيهِ ‌ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”.يقول أبو حيان رحمه الله تعالى :”وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الآية أن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قد توعدهم الله في الآيات السابقة، ثم أعقب في هذه الآية بِوَعْدِهِ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ :” ‌لَقَدْ ‌أَنْزَلْنا ‌إِلَيْكُمْ ‌كِتاباً ‌فِيهِ ‌ذِكْرُكُمْ” وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ ( أبو حيان، 1420ه، ج7\ 411).

ويلخص لنا العلامة ابن عاشور سر التأكيد في الآية السابقة فيقول رحمه الله تعالى:” وَلِقَصْدِ هَذَا الْإِيقَاظِ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ مِنْ لَامِ الْقَسَمِ، وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ، وَجُعِلَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ، وجُعِلَ الْإِنْزَالُ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْإِنْزَالَ كَانَ لِأَجْلِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ،  وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: ” لَقَدْ أَنْزَلْنَا لَكُمْ”  ثم يأتي التنكير “كِتاباً”؛ وفي الإضافة ” ‌ذِكْرُكُمْ “؛ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا بِهِ نِهَايَةُ إِصْلَاحِهِمْ، ومجيء الاستفهام ” أَفَلا تَعْقِلُونَ” في أحسن مواقعه في الآية؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ هنا لِنَفْيِ عَقْلِهِمْ؛ لأن مَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ هَدْيُهُ ،فَلَمْ يَهْتَدِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ عَقْلِهِ ( ابن عاشور، 1984م، ج17\ 22).

 

الخاتمة وأهم النتائج

بعد هذه الدراسة حول بلاغة التعبير بالأسلوب الإنكاري في القرآن الكريم وقفت على كثير من النتائج التي أسفرت عنها الدراسة، والتي يمكن ذكر أهم هذه النتائج التي توصل إليها البحث، والتي يمكن إجمالها في النقاط التالية:

  • تبين لنا من خلال الدراسة أن الخبر في أنواعه الثلاثة مرتبط بالمخاطب، فحال المخاطب هو الذي يحدد نوع الخبر، فإن كان المخاطب خالي الذهن كان الخبر ابتدائيا، وإن كان المخاطب مترددا في الخبر كان الخبر طلبيا، وإن كان المخاطب منكرا للخبر كان الخبر إنكاريا، فالمعول عليه في نوع الخبر هو حال المخاطب.
  • تبين لنا من خلال الدراسة أهمية المقام ودوره في التعبير بالخبر الإنكاري، فالمقام في الآيات التي كانت محل البحث كان المقام فيها داعيا إلى هذا الخبر، وموجبا لمطابقة الخبر لحال المخاطبين في الآيات
  • ظهر لنا من خلال الدراسة أن الخبر الإنكاري متفاوت، فهناك كما تبين من خلال الآيات أن هناك أخبار من قبيل الخبر الإنكاري، ولكنها متفاوتة من حيث درجة الإنكار، فهناك آيات جائت مؤكدة بمؤكدين، وهناك آيات ذات فيها التأكيد على اثنين مما يدل على أن درجة التأكيد مرتبطة بدرجة الإنكار.
  • تبين لنا أيضا أن الخبر الإنكاري تنطوي وراءه كثير من الأسرار البلاغية التي كشفت عن بعضها على قدر طاقتي، فهذا النوع من الخبر تأتي وراءه أسرار جمة من البلاغة القرآنية، ويكشف هذا الخبر عن مظهر من مظاهر إعجاز القرآن الكريم كما تبين لنا من خلال الآيات.

 

قائمة المصادر والمراجع

أبو البركات عبد الله بن أحمد حافظ الدين النسفي، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، تحقيق: يوسف بديوي، ( بيروت: دار الكلم الطيب، ط1، 1998م).

أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، تحقيق: أحمد القرشي،( القاهرة: منشورات حسن عباس، ط1419ه).ـ

أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصري، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، ( مصر: دار طيبة، ط2، 1999م).

أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، الكشاف عن حقائق  التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ( بيروت :دار الكتاب العربي،ط3، 1407هـ).

 

أبو بكر بن عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني،  أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، ( القاهرة: مطبعة المدني، بدون تاريخ).

أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تحقيق: محمود محمد شاكر، ( القاهرة: مطبعة المدني، ط3، 1992م).

أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني، ( القاهرة: دار الكتب المصرية، ط2، 1964م).

أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، ( بيروت: المكتبة العصرية، بدون تاريخ).

أحمد مطلوب أحمد الرفاعي، أساليب بلاغية، الفصاحة،البلاغة، المعاني، ( الكويت: مكالة المطبوعات، ط1، 1980).

تقي الدين أبو العباس بن تيمية الحراني،مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن قاسم،( السعودية: مجمع الملك فهد، ط 1995).

حامد عوني، المنهاج الواضح للبلاغة، (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، بدون تاريخ).

حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق، البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع، ( القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، ط2006م).

حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق، النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق،( القاهرة: دار الطباعة المحمدية، ط1، 1983م).

حسن بن إسماعيل بن عبد الرازق، البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع،( القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، ط2006م).

سعد الدين التفتازاني، تهذيب المنطق والكلام، تحقيق: عبد القادر معروف الكردي، ( القاهرة: مطبعة السعادة، ط1912ه).

عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ( تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ( مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1974م).

عبد الرحمن حسن حَبَنَّكَة الميداني، البلاغة العربية، ( بيروت: دار الشامية، ط1، 1996م).

عبد السلام أحمد الراغب، وظيفة الصورة الفنية في القرآن، ( حلب: فصلت للدراسات والترجمة والنشر،ط1، 2001م).

عبد الكريم بن عبد الملك القشيري، لطائف الإشارات، تحقيق: إبراهيم البسيوني، ( مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، بدون تاريخ).

عبد الكريم يونس الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ( القاهرة: دار الفكر العربي، بدون تاريخ).

عبد المتعال الصعيدي، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، ( القاهرة: مكتبة الآداب، ط17، 2005م).

محمد الطاهر بن محمد الطاهر بن عاشور، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المسمى بالتحرير والتنوير، ( تونس: الدار التونسية للنشر، ط 1984م).

محمد بن أحمد بن سعيد الحنفي الملقب بشمس الدين، الزيادة والإحسان في علوم القرآن،( الإمارات: مركز البحوث والدراسات، ط1، 1427ه).

محمد بن عبد الرحمن بن عمر  الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، ( بيروت: دار الجبل، ط3، بدون تاريخ).

محمد بن عرفه الدسوقي، حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، ( بيروت: المكتبة العصرية، بدون تاريخ).

محمد بن علي بن حامد الحنفي التهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق:د.علي دحروج،( بيروت: مكتبة لبنان، ط1، 1996م).

محمد عرفه الدسوقي، حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، ( بيروت: المكتبة العصرية، بدون تاريخ).

محمد محمد أبو موسى، خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني، ( القاهرة: مكتبة وهبة، ط7، بدون تاريخ).

ناصر الدين أبو سعيد البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق : محمد عبد الرحمن،( بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط1، 1418ه).

يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي، مفتاح العلوم، تحقيق: نعيم زرزور( بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1987م).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *