دريد وليد نزال

مدرس القانون الجنائي المساعد –  كلية القانون/ جامعة بغداد   

doraid.waleed1003@colaw.uobaghdad.edu.iq

009647733535870

الملخص:

تقوم الوساطة الجنائية على فكرة البحث عن حل ودي وسلمي للنزاع عن طريق تدخل شخص ثالث -وسيط- يتولى حل النزاع الجنائي بعيداً عن الأسلوب التقليدي في حلهِ والذي تضطلع به الدولة من خلال مباشرتها للدعوى الجزائية ممثلة عن المجتمع عن طريق أجهزتها العدلية والقضائية وصولاً لاستيفاء حقها في العقاب بصدور الحكم وتنفيذه وفق القواعد المقررة قانوناً، لذلك فأن الوساطة الجنائية تعد اسلوباً جديداً وغير مألوف في حل النزاعات الجنائية، وذلك بالخروج من دائرة السلطة القضائية الى دائرة العلاقات الاجتماعية، الامر الذي من شأنه ان يثير التحفظ في قبول هذا الاجراء على الرغم من فاعليته وسهولته حيث انه يسلب من السلطة القضائية جزءً من مهامها، وتعهد به الى جهات لا علاقة لها بالجهاز القضائي، على الرغم من بقائها تحت رقابة المؤسسة السلطة القضائية حيث ان الصورة الشائعة للوساطة هي الوساطة -المفوضة- أي تلك التي تبقى تحت رقابة السلطة القضائية إذ هي التي تأذن بها وتصادق على نهايتها.

الكلمات المفتاحية: الوساطة، العدالة التصالحية، الرضائية، ازمة العدالة، الدعوى الجزائية، السلطة القضائية، الحد من العقاب.

Criminal mediation as an alternative to a criminal lawsuit

A comparative study

Duraid Waleed Nazzal

Assistant criminal law teacher

College of Law/University of Baghdad

Abstract:

Criminal mediation is based on the idea of searching for an amicable and peaceful solution to the dispute through the intervention of a third person – a mediator – who is responsible for resolving the criminal dispute away from the traditional method of resolving it, which is undertaken by the state through its initiation of criminal proceedings as a representative of society through its judicial and judicial bodies, to fulfil its right to Punishment is the issuance of the ruling and its implementation by the rules established by law. Therefore, criminal mediation is a new and unusual method of resolving criminal disputes. It leaves the sphere of judicial authority to the sphere of social relations, which would raise reservations in accepting this procedure despite its effectiveness and ease. As it robs the judicial authority of part of its tasks, and entrusts it to parties that have nothing to do with the judicial authority, despite it remaining under the supervision of the judicial authority institution, as the common form of mediation is – delegated – mediation, that is, that which remains under the supervision of the judicial authority, as it is the one that You authorize it and approve its completion.

Keywords: mediation, restorative justice, consent, justice crisis, criminal case, judicial authority, reducing punishment

 

مقدمة:

يعد القانون ظاهرة اجتماعية لصيقة بالمجتمعات البشرية واهم مظاهر التعبير عن الإرادة الجماعية والقيم السائدة في المجتمع، إذ يتضمن مجموعة من القواعد التي تنظم سلوك الافراد والتي تكفل الدولة احترامها عند الاقتضاء عن طريق توقيع الجزاء على من يخالفها. ويهدف القانون بذلك الى تحقيق غرضين أساسيين الأول حفظ كيان المجتمع بإقرار النظام فيه وكفالة المصلحة العامة. والثاني حماية حقوق وحريات الافراد ومصالحهم الخاصة.

وإذا كانت فروع القانون تتمحور حول هذين الغرضين، فأن القانون الجنائي بشقيه -الموضوعي والاجرائي – أقرب هذه الفروع الى ذلك، إذ يهتم بمعالجة كافة الأمور الأساسية اللازمة لسير الحياة الاجتماعية. إذ يهدف الى حماية المجتمع من كل اختلال واضطراب ويكفل للدولة حقها في معاقبة من يخل بأمن واستقرار المجتمع.

وقد أدى سعي الدولة الى تحقيق هذا الهدف الى نشوء ظاهرة التضخم العقابي التي نجمت عن إفراط المشرع في استخدام السلاح العقابي في مواجهة الظاهرة الاجرامية، الامر الذي أدى الى زيادة عدد الجرائم ومن ثم زيادة وتضخم عدد القضايا المنظورة امام المحاكم الجنائية فأصبح الوصول الى العدالة الناجزة امراً عسيراً أو صعب المنال، وأضحت العدالة الجنائية امام أزمة تُعرف بأزمة العدالة الجنائية.

لذا فأن السياسات الجنائية المعاصرة ذهبت للبحث عن حلول لهذه الازمة على المستوى الموضوعي والمتمثلة بسياسة (اللاتجريم) أو (الحد من التجريم) أي الاتجاه نحو صوب قانون العقوبات الإداري، وعلى المستوى الاجرائي وذلك بالتحول من العدالة التقليدية (العقابية) نحو عدالة تصالحية أو تعويضية وتسمى بسياسة (الحد من العقاب) والتي تستند الى فكرة الرضائية وإعطاء دور لإرادة الخصوم في حل الخصومة الجنائية، ومن تطبيقاتها الصلح والتصالح أو التسوية الجنائية والوساطة الجنائية، لذا سيكون بحثنا محاولة لبيان ماهية واحكام الوساطة الجنائية في التشريعات المقارنة ومدى توافقها مع الشرعية الإجرائية وحق التقاضي.

إشكالية البحث:

تتمثل إشكالية البحث في حداثة نظام الوساطة الجنائية كوسيلة حديثة غير تقليدية لأنهاء الخصومة الجنائية، إذ أن هناك العديد من الصعوبات التي تعتري تطبيق هذا النظام لحداثته أولا ولما يحتويه من تساؤلات عديدة ثانياً، ومن هذه التساؤلات التي تحتاج الى إجابة وتوضيح، هل تمثل الوساطة الجنائية تجاوزاً على حق الدولة بالعقاب فتتجه بالدعوى الجزائية نحو الخصخصة؟، أم انها تحمل توجهاً جديداً في تفعيل هذا الحق على نحوٍ يُحقق اغراضه؟، هل تهدف الوساطة الجنائية الى تأهيل الجاني، ام انها تكترث بترضية الضحية وإعادة العلاقات الاجتماعية فحسب؟، وما دور الوساطة الجنائية في علاج ازمة العدالة الجنائية؟، ما دورها في مواجهة الظاهرة الاجرامية؟، وهل ان التشريع الاجرائي العراقي يعوزهُ تطبيق الوساطة الجنائية؟، وما الفارق بينها وبين الصلح الجنائي الذي يتبناه المشرع العراقي، وايهما اميز؟ كل هذه التساؤلات وغيرها سنحاول الإجابة عنها في ثنايا البحث.

أهمية البحث وأسباب اختياره:

تتأتى أهمية البحث من ناحيتين، الأولى من ناحية نظرية، والثانية من ناحية عملية. فأما الأولى فتتمثل في محاولة البحث الى بيان مدى توافق أو تعارض الوساطة الجنائية مع المبادئ القانونية العامة والمستقرة في النظام القانوني، إذ أن دراسة مدى توافق أي نظام حديث مع المبادئ القانونية المستقرة يرسخ تأصيله القانوني ويُعد إجازة نظرية لإدماجه في التشريع الوطني، لا سيما ان كانت الدراسة معززةً بتجارب الأنظمة القانونية أو التشريعات المقارنة الأخرى إذ أن ذلك سيساعد من الناحية النظرية على اختيار ما يتناسب مع التشريع والمجتمع الوطني.

واما الأهمية العملية للدراسة، تكمن في الدور الذي يمارسه نظام الوساطة الجنائية للخروج من أزمة العدالة الجنائية (الإجرائية)، حيث يهدف هذا النظام الى سرعه إنهاء الخصومة الجنائية، على نحوٍ يضمن معه اصلاح وتأهيل الجاني ودمجه في المجتمع، مع إعطاء دور للمجني عليه (الضحية) في الخصومة الجنائية وضمان حصولهِ على تعويض مناسب. هذا فضلاً عن الدور الذي يمارسهُ نظام الوساطة الجنائية في إنهاء الاضطراب الاجتماعي وتحقيق السلام الاجتماعي.

منهج البحث ونطاقه:

نظراً لحداثة نظام الوساطة الجنائية كوسيلة غير تقليدية لحل النزاعات الجزائية، وعدم تبني التشريع الاجرائي العراقي لهذا النظام، فأن منهج البحث سيقوم على الجانب النظري مع بيان الجانب العملي في بعض جوانبه، وعليه سنتبع المنهج الوصفي والمقارن دون التقيد بأنظمة قانونية أو تشريعات معينة مع التأكيد على وجه الخصوص على النظام اللاتيني والانكلوأمريكي كونهما من اول الأنظمة التي عرفت العدالة التصالحية عامةً والوساطة الجنائية خاصةً، مع الإشارة الى بعض التشريعات الإجرائية العربية التي تبنت نظام الوساطة الجناية كتشريعات دول المغرب العربي.

تقسيم البحث:

تم تقسيم البحث على مبحثين: سنتناول في الأول التعريف بماهية الوساطة الجنائية، وسنخصص المبحث الثاني لتقييم نظام الوساطة الجنائية ومدى الحاجة الى تبنيه في التشريع الاجرائي العراقي.

المبحث الأول

التعريف بالوساطة الجنائية

تقوم الوساطة الجنائية على فكرة البحث عن حل ودي وسلمي للنزاع عن طريق تدخل شخص ثالث -وسيط- يتولى حل النزاع الجنائي بعيداً عن الأسلوب التقليدي في حلهِ والذي تضطلع به الدولة من خلال مباشرتها للدعوى الجزائية ممثلة عن المجتمع عن طريق أجهزتها العدلية والقضائية وصولاً لاستيفاء حقها في العقاب بصدور الحكم وتنفيذه وفق القواعد المقررة قانوناً، لذلك فأن الوساطة الجنائية تعد اسلوباً جديداً وغير مألوف في حل النزاعات الجنائية، وذلك بالخروج من دائرة السلطة القضائية الى دائرة العلاقات الاجتماعية، الامر الذي من شأنه ان يثير التحفظ في قبول هذا الاجراء على الرغم من فاعليته وسهولته حيث انه يسلب من السلطة القضائية جزءً من مهامها، وتعهد به الى جهات لا علاقة لها بالجهاز القضائي، على الرغم من بقائها تحت رقابة المؤسسة السلطة القضائية حيث ان الصورة الشائعة للوساطة هي الوساطة -المفوضة- أي تلك التي تبقى تحت رقابة السلطة القضائية إذ هي التي تأذن بها وتصادق على نهايتها.

مما تقدم كان لزاماً علينا ان نتطرق الى تحديد مفهوم ونشأة الوساطة الجنائية وتحديد طبيعتها القانونية وتمييزها عما يشتبه بها من أنظمة العدالة التصالحية أو التفاوضية، ومن ثم بيان صورها وكما هو مبين في المطالب الآتية:

المطلب الأول

نشأة وتعريف الوساطة الجنائية

سنقسم هذا المطلب الى فرعين نخصص الأول منه لبيان مفهوم الوساطة الجنائية، وفي الفرع الثاني منه سنتطرق لبيان مختصر عن نشأة الوساطة الجنائية بمفهومها الحالي.

الفرع الاول

مفهوم الوساطة الجنائية

سنتطرق في هذا الفرع الى بيان مفهوم الوساطة الجنائية عن طريق بيان المدلول اللغوي للوساطة لا سيما ان كان المدلول اللغوي يلقي بظلاله نحو تأصيل الاصطلاح الفقهي أو القانوني للوساطة، ومن ثم سنتطرق الى بيان المفهوم الاصطلاحي، ومن ثم بيان المفهوم التشريعي وحسب التفصيل الاتي:

اولاً: التعريف اللغوي:

الوساطة لغةً هي اسم للفعل وسط، ووسط الشيء: صار في وسطه وهو واسط. وهي التوسط بين الناس، والوسط من كل شيء اعدله ومنه قوله تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا﴾ (سورة البقرة، اية 143) اي عدلاً. اما التوسيط والتوسط، فيعرف بأنه جعل الشيء في الوسط كقوله تعالى ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ (سورة العاديات، اية 5). ويوصف الشيء بانه وسط حين يتراوح بين الجيد والرديء أو بي الحق والباطل. والوساطة: “التوسط بين امرين أو شخصين لفض نزاع قائم بينهما بالتفاوض، والوسيط هو المتوسط بين المتخاصمين؛ بمعنى آخر الوساطة هي التوسط بين الناس” (الرازي، 1999، ص.610).

والوساطة في اللغة الفرنسية (la Médiation) تعرف بانها “إجراء يهدف الى خلق توافق أو تصالح بين الأشخاص” أو هي سلسلة من الإجراءات الخلاقة التي يمكن من خلالها الانتقال من موقف ابتدائي محل اختلاف الى حل نهائي محل اتفاق”(مصطفى،2011، ص.61).

اما الوساطة في اللغة الإنكليزية (Mediation) هي التوسط لإصلاح ذات البين أو إيجاد تسوية، أو هي ” التدخل بين طرفين أو أكثر لحسم نزاع قائم أو توفيق بين اهداف متباينة” (البعلبكي، 2013، ص.713؛ الفاروقي، ص.450).

ثانياً: التعريف الاصطلاحي

لا يختلف مفهوم الوساطة باعتبارها وسيلة بديلة عن الدعوى الجزائية عن المدلول اللغوي السابق كثيراً، حيث انها ” إجراء يتم قبل التصرف في الدعوى أو الحكم فيها، وبناء على اتفاق الأطراف، بموجبه يحاول شخص ثالث محايد البحث عن حل للنزاع الذي يواجهونه بشأن جريمة معينة”. أو هي ” ذلك الاجراء الذي بموجبه يحاول شخص من الغير، بناءً على اتفاق الأطراف، وضع حد ونهاية لحالة الاضطراب التي احدثتها الجريمة عن طريق حصول المجني عليه على تعويض كافِ عن الضرر الذي حدث له، فضلاً عن إعادة تأهيل الجاني”((Schmitt, 1998, P.19.

فهي آلية مستحدثة يتفق بموجبها الجاني والمجني عليه على استبعاد القواعد القانونية القابلة للتطبيق بطبيعتها واستبدالها بقبول أطراف النزاع الجلوس سويّاً والحوار في محاولة للحد من الآثار السلبية للسلوك العدائي وللتمزق المجتمعي، ولتوفير المال (نفقات التقاضي)، ولحفظ علاقات العمل أو الجيرة أو القرابة، فضلاً عن إنقاذ الأرواح (PRADEL, 1988, P.20).

وعُرفت الوساطة الجنائية بالمعنى ذاته بانها “العمل عن طريق تدخل شخص من الغير (الوسيط) للوصول الى حل نزاع نشأ عن جريمة، غالباً ما تكون قليلة أو متوسطة الخطورة، يتم التفاوض بشأنها بين الأطراف المعنية (الجاني والمجني عليه)، والذي كان من المفترض ان يُفصَل فيه بواسطة المحكمة الجنائية المختصة” (LAZERGES, 1997, P.194).

وفي الفقه العربي عُرفت الوساطة الجنائية بانها: ” نظام قانوني مستحدث يهدف الى حل الخصومات الجنائية بطريقة غير الطريقة التقليدية، ودون الحاجة الى مرورها بالإجراءات الجنائية العادية بغية ادخار الوقت والجهد والنفقات، والحفاظ على العلاقات الاجتماعية الوطيدة بين افراد المجتمع، عن طريق تدخل شخص ثالث بين أطراف الخصومة بقصد تقريب وجهات النظر، ووضع اتفاقية تضمن جبر الضرر الذي لحق بالمجني عليه، كما تضمن إعادة تأهيل الجاني، وكل ذلك تحت اشراف قضائي”(صدقي و زغلول، 2009، ص.289).

وعُرفت ايضاً بانها: نظام رضائي بديل بمقتضاه تخول النيابة العامة-الجهة القضائية المختصة- برضاء الطرفين؛ الجاني والمجني عليه بإحالة القضية الى وسيط (طبيعي أو معنوي) للوصول لتسوية النزاع، وانهاء الاضطراب الاجتماعي للجريمة، وتعويض المجني عليه، وإعادة تأهيل الجاني، وعند تنفيذها تقضي النيابة العامة بانقضاء الدعوى الجزائية (براك، 2009، ص.478).

مما تقدم يتضح ان جوهر الوساطة هو رضاء أطراف النزاع، فضلاً عن تدخل شخص ثالث محايد، وذلك قبل التصرف في الدعوى أو الحكم فيها.

ثالثاً: التعريف التشريعي (القانوني)

في البدء يتعين علينا القول انه ليس من واجب المشرع الجنائي وضع تعريف لمصطلح قانوني معين، إلا بهدف إزالة اللبس عن هذا المصطلح أو تحديد المعنى المقصود من التطبيق العملي. وقد خلت بعض التشريعات الإجرائية المقارنة التي نصت على الوساطة الجنائية من وضع تعريف محدد لماهيتها، ومن هذه التشريعات القانون الفرنسي وقانون لكسبمورغ والقانون السويسري، إلا ان هناك جانباً من التشريعات الأخرى التي وضعت تعريفات للوساطة الجنائية كالقانون البرتغالي، والبلجيكي والتونسي (القاضي، 2010، ص.40). وفيما يلي نتناول هذه التعريفات على النحو الآتي:

  1. خلو القانون الفرنسي من تعريف للوساطة الجنائية: لم يضع المشرع الفرنسي تعريفاً للوساطة الجنائية، إذ جاءت المادة (41/1) من قانون الاجراءات الجنائية الفرنسي المعدل خالية من الإشارة الى أي مفهوم محدد للوساطة الجنائية، غير ان وزير العدل الفرنسي حدد مفهومها اثناء المناقشات التي دارت اثناء إقرار هذا القانون، والذي أشار الى ان الوساطة في القانون الفرنسي : ” تتمثل في البحث، وبناء على تدخل شخص من الغير (شخص ثالث)، عن حل يتم التفاوض بشأنه، وبحرية بين اطراف النزاع الذي احدثته الجريمة ذات الخطورة البسيطة؛ وبصفة خاصة المنازعات العائلية، منازعات الجيرة، جرائم الضرب أو العنف المتبادل، الإتلاف أو التخريب، النشل أو الاختلاس” (القاضي، ص ص. 40-41).
  2. تعريف الوساطة الجنائية في القانون البرتغالي: نصت الفقرة الأولى من المادة الرابعة من القانون رقم 21 لسنة 2007، والخاص بإقرار الوساطة الجنائية على تعريفها: “عملية غير رسمية ومرنة، تتم عن طريق طرف ثالث محايد وهو الوسيط، والذي يسعى الى جمع الجاني والمجني عليه سوياً، ودعمهم في محاولة الوصول الى اتفاق بشكل فعال، حيث يتم اصلاح الضرر الناجم عن الفعل المخالف للقانون، والمساهمة في إعادة السلام الاجتماعي” (القاضي، ص.14).

من كل ما تقدم يمكننا وضع تعريف للوساطة الجنائية بانها: وسيلة بديلة عن الدعوى الجزائية تلجأ اليها السلطة المختصة (جهة التحقيق أو الحكم بحسب الاحوال) بعد موافقة أطراف النزاع (المجني عليه، المتهم) وذلك وفق اعتبارات الملائمة المستمدة من خطورة الجريمة وخطورة المتهم، من اجل تسوية ودية لأثار الجريمة عن طريق تدخل شخص ثالث – وسيط- فتنقضي بها الدعوى الجزائية.

ولعل هذا التعريف يبرز المبادئ التي تقوم عليها العدالة التصالحية عامة والوساطة الجنائية خاصة وهذه المبادئ تتمثل بالرضائية والملائمة. أما بالنسبة لسلطة الملائمة التي تملكها الجهة القضائية المختصة (النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو محكمة الموضوع) فهي نوع من التفريد الاجرائي للدعوى الجزائية يقوم على اعتبارات وضوابط موضوعية محددة مستمدة من خطورة النزاع موضوع الوساطة، والخطورة الاجرامية للجاني، وجدوى اللجوء الى الوساطة وما إذا كانت قادرة على تحقيق الأهداف التي تحققها الإجراءات العادية. وبالتالي فأن هذه السلطة ليست مطلقة.

اما بالنسبة للرضائية فأن مبررها هو ان إجراءات الوساطة هي خروج عن الأصل، وقد تنتهي الى جملة من الواجبات الملزمة لأطراف النزاع وهو ما يجعلها تنطوي على مساس أو تهديد للحقوق والحريات مما يقتضي معه الموافقة المسبقة لأطراف النزاع على هذا الاجراء (جلال، 2004، ص.432).

الفرع الثاني

نشأة الوساطة الجنائية

قدمنا فيما سبق ان الوساطة الجنائية ظهرت لمواجهة ازمة العدالة الجنائية، وهي وسيلة بديلة عن الدعوى الجزائية وما ينجم عنها من خسارة للوقت والجهد، وذلك بإعطاء دور كبير لإرادة الخصوم في إنهاء الدعوى الجزائية وذلك بعد عرض الامر عليهم من الجهة القضائية المختصة وفقاً لاعتبارات الملائمة.

ويرجع البعض نشأتها تاريخياَ إلى النظام الانجلوأمريكي، حيث عرفت في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم انتشرت في أوربا، ويرجع ظهور أولى تجارب الوساطة الجزائية -بشكلها الحالي- في كندا في قضية عرفت باسم كيتشنز نسبة إلى المدينة التي طبقت بها وذلك عام 1974 وتتلخص وقائع القضية أن شخصين تتراوح أعمارهما ما بين 18و 19 سنة قاما تحت تأثير السكر بإتلاف وتحطيم زجاج وإطارات 22 مركبة، فتقدم محاميهما بطلب إلى القاضي بقصد التوسط بين الشابين والمجني عليهم وتعويض الأضرار التي ارتكبها الشابين وتجنيبهم من تسجيل القضية في سجلهم القضائي وكذلك تجنب تسليط العقوبة عليهم خاصة أنهم لم يسبق لهم أن ارتكبوا أفعالا إجرامية، كما أن اهتمام أصحاب المركبات لا ينصب على تسليط العقوبة على الشابين بقدر رغبتهم في الحصول على تعويض، وقد كانت المشكلة التي اعترضت القاضي هي عدم وجود نص قانوني يتيح إمكانية اللجوء إلى مثل هذه الوساطة إلا أنه كان مقتنعاً بالفكرة وسمح بلجوء الأطراف إلى عقد اتفاق وساطة يرضي كل من المجني عليهم والشابين وبالفعل تحقق ذلك خلال ثلاثة أشهر من إبرام عقد وساطة حصل بموجبها المجني عليهم على مبلغ للتعويض عن الضرر اللاحق بمركباتهم، وقد أقر القاضي هذا الاتفاق، وبناء عليه قضى بإيقاف الإجراءات القضائية ضد الشابين المذكورين، وكانت بذلك تجربة مفيدة في مجال السجل الجنائي انتقلت إلى كثير من الدول منها الولايات الأمريكية المتحدة وأوروبا. إذ شهدت الولايات المتحدة الأمريكية قيام جمعية الوساطة بين الجناة والمجني عليهم (AOMV) أو برنامج المصالحة بين الجاني والضحية ((VORP الذي نشأ في جامعة ولاية كاليفورنيا (Fresno) عام 1982، والتي قادت فكرة الوساطة الجنائي والتي أصبحت جمعية عالمية في سنة 2000 (القاضي، 2011، ص.34؛ الجمال، 2009، ص ص. 57-58؛ Umbreit, 1996, P.1; JENNIFER, 2002, P.8-10).

ثم انتشرت في أوربا، ولقد كانت فرنسا سباقة في ذلك، إذ ظهرت أولى تجارب الوساطة الجنائية فيها وتحديداً في مدينة (فالنس) في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي حيث كانت الوساطة تتم بمبادرة شخصية من طرف قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق حال مباشرتهم لوظائفهم القضائية كبديل عن تحريك الدعوى الجزائية أو كبديل عن الحكم الجنائي، وذلك بهدف الحدد من مشكلة تزايد اعداد أوامر الحفظ في الدعوى، أو لتصفية اعداد القضايا التي تنظر امام المحاكم، ثم بدأت هيكلة هذا النظام تتبلور تدريجيا من خلال إنشاء جمعيات مساعدة الضحايا والرقابة القضائية في عدة مدن فرنسية، وأخيرا كان تدخل المشرع ضروريا لتنظيم هذا الإجراء من خلال القانون الفرنسي الجديد الصادر في 3/1/1993 (بموجب المادة 41/5 من قانون الإجراءات الجنائية) إذ اعتمد هذا الإجراء كبديل لحل المنازعات الجزائية يتم تنفيذه بعيداً عن الدولة ولكن تحت رقابتها بدءاً من المبادرة به أو قبول الطلب لإجرائه وانتهاء بتنفيذه (فرج، 2013، ص.78؛ نصر الدين و الطاهر، 2017، ص 147).

المطلب الثاني

طبيعة الوساطة الجنائية

لعل ما يثير بحث طبيعة الوساطة الجنائية بوصفها اسلوباً لسياسة جنائية مرنة هو ذلك الطابع الاجتماعي الذي يشكل هاجس الوساطة، مما يدفعنا الى التساؤل: أيمثل إجراء الوساطة الجنائية نظاماً اجتماعياً بعيداً وخارجاً عن النظام العام لقانون الإجراءات الجنائية أم انه نظام قانوني في الإطار العام لهذا القانون؟ بمعنى آخر، إذا كانت السلطة القضائية تمثل محور حل النزاعات الجنائية وتعلن هيبة الدولة وسلطتها، فهل يبقى لها هذا الدور في ظل إجراء الوساطة الجنائية؟ (المانع، 2006، ص.43).

وللإجابة على ذلك سنقسم هذا المطلب على فرعين نبحث في الأول منه ببيان طبيعة الوساطة الجنائية وفي الفرع الثاني سنتناول تمييز إجراء الوساطة الجنائية عما يتشابه معه من إجراءات توفيقية، وحسب التفصيل الاتي:

الفرع الأول

طبيعة الوساطة الجنائية

اختلف الفقه القانوني في تحديد الطبيعة القانونية للوساطة الجنائية، ويرجع ذلك الى اختلاف الزاوية التي ينظر من خلالها كل جانب للوساطة الجنائية، فذهب رأي الى إضفاء صبغة إجتماعية على الوساطة الجنائية وذلك بالنظر الى الغرض منها، وآخرون اعتبروها أحد صور الصلح الجنائي، في حين ذهب رأي آخر الى اعتبارها مجرد إجراء إداري يصدر من النيابة العامة. وذهب رأي آخر ايضاً للقول بان الوساطة الجنائية هي إحدى بدائل اللجوء للقضاء، سنتناول هذه الآراء تباعاً وحسب التفصيل الاتي:

اولاً: الطبيعة الاجتماعية للوساطة الجنائية:

ينطلق أنصار هذا الاتجاه من نقطة أساسية مؤداها أن الوساطة الجنائية تهدف في المقام الأول الى تحقيق الامن الإجتماعي، ومساعدة طرفي الخصومة في الوصول الى تسوية ودية. إذ أنها تنظيم اجتماعي مستحدث يدور في فلك القانون الجنائي، ويمتزج فيها الفن الإجتماعي بالقانون. بيد ان هذا لا ينفي طبيعتها الجنائية فمن خلالها يتوصل الجاني والمجني عليه لتسوية ودية بطريقة أكثر إنسانية، وذلك عن طريق تدخل طرف محايد مستقل لا يملك سلطة التقرير، ويملك الأطراف دوماً حرية الاختيار، وهي بذلك تعد طريقة مركبة وغير تقليدية لتنظيم الحياة الاجتماعية، فهي توليفة إجتماعية جنائية (المجالي، 2008، ص.140؛ نايل، 2001، ص.37).

وقد انتقد جانب من الفقه ما ذهب اليه هذا الرأي، نظراً لإغفال الغاية الأساسية من إجراء الوساطة الجنائية، والمتمثلة في إنهاء النزاع الجنائي، فإذا كان من الصعب إنكار الدور الإجتماعي للوساطة الجنائية، إلا ان هذا الدور لا يمكن ان يغير من طبيعة هذه الوساطة بكونها وسيلة من وسائل إنهاء النزاعات الجنائية في نطاق الإطار العام للقانون الجنائي، ولا يلغي دور الدولة وهيبتها إذ يبقى هذا الاجراء محكوماً في ظل نظام قانوني جنائي على الرغم من طغيان النظام الإجتماعي فيه (عبد الحميد، 2004، ص.32؛ المانع، ص ص43-44).

ويبدوا أن أصحاب هذا الرأي قد تأثروا بالنشأة الأولى للوساطة الجنائية، عندما كانت تطبق بين افراد الاسرة الواحدة أو بين افراد تربطهم علاقات إجتماعية مستمرة كعلاقة العمل والجيرة ونحوهما (الزهري، 2017، ص 17).

ثانياً: الوساطة الجنائية صورة من صور الصلح

يذهب جانب من الفقه الى ان الوساطة الجنائية تتماثل مع الصلح بمعناه الواسع، وقد اختلف أنصار هذا الاتجاه حول نوع الصلح الذي تُعد الوساطة الجنائية إحدى صوره، هل هو الصلح الجنائي ام المدني، وسوف نبحث ذلك تفصيلاً على النحو الاتي:

1.       الوساطة الجنائية صورة من صور الصلح الجنائي

يرى أنصار هذا الاتجاه بأن الوساطة الجنائية ما هي إلا صورة من الصلح الجنائي، ذلك لان المشرع اشترط لإجرائها موافقة أطراف النزاع عليها، وتعد بذلك أحد الإجراءات المكملة للصلح الجنائي (عبد الحميد، ص.33).

وقد تبنى هذا الاتجاه جانب من الفقه العربي، حيث ذهب الى اعتبار الوساطة الجنائية إحدى تطبيقات نظام الصلح أو بالأحرى هي بمثابة مجلس صلح. فالهدف الأساسي منها هو الوصول الى اتفاق أو تسوية ودية، وتدخل بذلك في مفهوم الصلح بالمعنى الواسع. فالصلح والوساطة من الوسائل غير التقليدية في إنهاء الخصومات الناجمة عن الجرائم قليلة الخطورة، وتتركز غاية كل منهما في حصول المجني عليه على تعويض عادل من الجاني يجبر الضرر الذي احدثتهُ جريمتهُ، وبمقتضاه يتجنب الجاني مساوئ عقوبة الحبس قصيرة المدة (عطية، 1991، ص.354؛ رمضان، 2000، ص.22؛ نايل، 2001، ص17).

ان هذا الرأي لم يرق لجانب من الفقه الفرنسي، نظراً للاختلاف الواضح بين الوساطة الجنائية والصلح الجنائي ولاسيما في فرنسا فيما يتعلق بالأثر المترتب على كل منهما، إذ يترتب على الصلح الجنائي انقضاء الدعوى الجزائية، بينما لا تغل الوساطة الجنائية يد النيابة العامة عن مباشرة الدعوى الجزائية (عبد الحميد، 2004، ص.34).

2.       الوساطة الجنائية صورة من صور الصلح المدني

ذهب جانب من الفقه إلى القول إن الوساطة الجنائية ماهي إلا صورة من صور الصلح المدني، مستندين فيما ذهبوا اليه الى ان الوساطة الجنائية لا يترتب عليها انقضاء الدعوى الجزائية. وهي بذلك تتشابه مع عقد الصلح المدني الذي يبرم بين المتهم والمجني عليه، لذا فالوساطة لا تسمح بانقضاء الدعوى الجزائية. فالغرض الأساسي للوساطة الجنائية يتمثل في قيام الجاني بتعويض المجني عليه عن الاضرار التي لحقتهُ من جراء جريمته، وهو نفس الغرض الذي ينشده عقد الصلح المدني المنصوص عليه في المادة 2044 من القانون المدني الفرنسي. ويؤيد جانب كبير من الفقه هذا الاتجاه التعاقدي، فالوساطة ثلاثية التركيب (الجاني، والمجني عليه، الوسيط) وتؤدي رسالة جوهرية للتخفيف من حدة الإجراءات الجنائية، وإقامة علاقات أو قنوات اتصال بين الأطراف، وبالإجمال، فهي إجراء من الإجراءات الملطفة. ومن ثم فأن الوساطة الجنائية تعتبر تصرفاً قانونياً يتضمن تقابل اراداتي الجاني والمجني عليه، وبالتالي فهي -أي الوساطة- بمثابة عقد مدني. ويؤيد جانب من الفقه المصري هذا الاتجاه، حيث يرى ان الاتفاق بين الجاني والمجني عليه يعتبر صلحاً يرتدي ثوب العقد الحقيقي. ويستند أنصار هذا الرأي للتدليل على صحة ما خلصوا اليه الى ما استقر عليه القضاء المدني في بعض الولايات الامريكية من اعتبار موافقة الطرفين على تسوية المصالح المالية الناجمة عن الجريمة بمثابة الصلح المدني (الشكري، 2011، ص85؛ رمضان 2000، ص35؛ براك، 2009، ص. 495؛ الحكيم، 2002، ص.155).

وقد تعرض هذا الاتجاه بشقيه للانتقاد، لا سيما الشق المتعلق باعتبار الوساطة الجنائية عقداً مدنياً، فالوساطة الجنائية تتعلق بخصومة جنائية ولا تتعلق بنزاع مدني، فالوساطة سياسة جنائية خاصة لا تتشابه مع الصلح الجنائي أو المدني، فالأطراف لا يمكنهم التراضي على الدعوى الجزائية أو العمومية إلا إذا نص القانون على ذلك صراحةً (المجالي، 2008، ص.143).

أما في اختلاف الوساطة الجنائية عن الصلح الجنائي، فيتمثل في عده امور، منها ان الصلح لا يشترط ان يكون مكتوباً، ولا يشترط ان يكون الصلح بمقابل فمن الجائز ان يكون بدون مقابل. اما بالنسبة للوساطة الجنائية فهي تشترط وفقاً لأغلب التشريعات التي تأخذ بها ان يكون التقرير النهائي المقدم الى الجهة القضائية المختصة -النيابة العامة في التشريعات المقارنة- من قبل أطراف النزاع مكتوباً، كما ان المقابل هو شرط من شروط الوساطة والذي يتخذ شكل التعويض أو وضع نهاية للاضطراب الناجم عن الجريمة (عوض، 2002، ص.140؛ عبد اللطيف، 2009، ص ص.76-81؛ نايل، 2001، ص17).

ومن أوجه الخلاف ايضاً ان الصلح الجنائي يتم بمبادرة تلقائية ومباشرة من قبل أطراف النزاع وبدون تدخل أحد، بينما الوساطة الجنائية تتم بمبادرة من الجهة القضائية المختصة وبتدخل شخص ثالث محايد يسمى بالوسيط وهو الذي يقوم بالدور الرئيسي في الوصول الى اتفاق للوساطة الجنائية بين أطراف النزاع (جلال،2004، ص.433).

كما وانه من ضمن الفروقات المهمة بين الوساطة والصلح الجنائي، هي ان الوساطة الجنائية تخضع الى اعتبارات الملائمة من قبل السلطة القضائية المختصة ابتداءً بالإحالة الى الوسيط وانتهاءً باعتماد وإقرار الاتفاق، في حين ان الصلح الجنائي لا يتوقف على موافقة قاضي التحقيق أو المحكمة من حيث الأصل، عدا بعض الحالات التي تتوقف على موافقة من قبل الجهة القضائية المختصة كما هو الحال في الجرائم الوارد ذكرها في المادة (195 /ب،ج) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي.

ثالثاً: الوساطة الجنائية إجراء إداري

وذهب أنصار هذا الرأي-في فرنسا- الى مسألة تحديد الصيغة القانونية للوساطة الجنائية على أنها ذات طبيعة إدارية، انطلاقاً من نقطتين، الأولى من كونها ليست عقداً مدنياً وإنما هي مجرد إجراء إداري تمارسها النيابة العامة (جهة التحقيق) في الدعوى الجزائية، فهي لا تتوقف على موافقة الجاني والمجني عليه، وإنما تعود المسألة لتقدير النيابة العامة، إذ أن الوساطة الجنائية في فرنسا كانت تباشر في إطار سلطة النيابة العامة في ملائمة تحريك الدعوى المنصوص عليها في المادة (40) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، وما دامت الوساطة تباشر في إطار سلطة النيابة في الحفظ الإداري للقضية وفقاً لذات المادة (٤٠ / أ/ ج/ ف) عن طريق إصدار أمر بحفظ الأوراق، وهذا القرار ذو طبيعة إدارية، لذا فأن الوساطة تكون ذات طبيعة إدارية (القاضي، 2010، ص.67؛ بابصيل، 2011، ص. 86).

اما النقطة الثانية التي يستند اليها أصحاب هذا الاتجاه، فهي اعتبار الوساطة الجنائية من اشكال الحفظ تحت شرط الذي تصدره النيابة العامة وفق اعتبارات الملائمة، وهو شرط تعويض المجني عليه وإزالة اثار الجريمة، وبما ان إجرائها هذا إجراء إدارياً فأن الوساطة الجنائية تكون ذات طبيعية إدارية ايضاً (الحكيم، 2002، ص ص.156-157).

ويذهب أنصار هذا الرأي الى رفض الرأي القائل باعتبار الوساطة الجنائية إحدى بدائل الدعوى الجزائية، إذ أنها مجرد إجراء من إجراءات الاتهام التي تمارسها النيابة العامة في الدعوى الجزائية، فهي جزء من نسيج هذه الدعوى وليس بديلاً عنها، فضلاً عن ذلك فأن موافقة طرفي النزاع على ما انتهى اليه الوسيط تخضع لتقدير النيابة العامة (المجالي، 2008).

ويبدو لنا بانه ان كان هذا الوصف منطبقاً على نموذج الوساطة الجنائية في فرنسا وفق المادة (41) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي إذ أن النيابة العامة هي الجهة الوحيدة – حسب القانون الفرنسي- التي لها صلاحية مباشرة الوساطة الجنائية، فأن ذلك لا يشمل صوراً أخرى من الوساطة الجنائية يقوم بها قضاء الحكم في مرحلة المحاكمة؛ عندما يقوم بإحالة طرفي النزاع الى شخص ثالث لتسوية النزاع بطريقة ودية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الامريكية وكندا. فإضفاء الطبيعة الإدارية على الوساطة الجنائية من شأنه حصر صورها في تلك التي تباشرها النيابة العامة قبل التصرف في الدعوى الجزائية، ومن ثم لا تشمل الصور الأخرى التي يقوم بها قضاء الحكم، وفي ذلك مخالفة صارخة للمنطق القانوني السليم، إذ يتعين ان يشمل التكيف القانوني لنظام معين كافة صوره واشكاله.

رابعاً: الوساطة الجنائية بديلة عن التقاضي

يرى أصحاب هذا الاتجاه ان الوساطة الجنائية من بدائل التقاضي، إذ يلجأ اليها طرفا النزاع غاضين الطرف عن الالتجاء بالقضاء إذا ما شعروا ان الوساطة من شأنها ان تجلب لهما نفعاً فيحصل المجني عليه سريعاً على تعويض عن الاضرار التي ألمت به أثر ارتكاب الجريمة، ويدرأ الجاني عن نفسهِ ضرراً متمثلاً في وصمة الإدانة والزج به بمحبس نكالاً بما اقترفت يداه، فهي نموذج أكثر رضائية في إدارة أو حل المنازعات (نايل، 2001).

إذ أنه من الثابت أن النموذج الذي تدخل في نطاقهِ الدعوى الجزائية هو نموذج العدالة العقابية، وهي عدالة تسلب الافراد نزاعهم لتستأثر به الدولة، فضلاً عن ذلك؛ فأن الشغل الشاغل للقضاة هو التوقيع النموذجي للعقوبة أكثر من مراعاة المصلحة الخاصة لأطراف النزاع، بغية الردع سواء كان عاماً أو خاصاً (Davis, 1992).

وبتأمل الوساطة الجنائية في مفهومها، وصورها، وإجراءاتها، وأهدافها، يتجلى لنا ما شاب الرأي السالف من قصور؛ إذ أن الوساطة الجنائية، لم تكن يوماً بديلاً للقضاء، ذلك لان الغالبية العظمى من صور الوساطة تعد في الحقيقة ” وساطة قضائية”، أي تتم بأشراف ومراقبة القضاء فضلاً عن ذلك ان الوساطة الجنائية تخضع لاعتبارات الملائمة من قبل الجهة القضائية المختصة (جهة التحقيق أو الحكم بحسب الأحوال) ابتداءً عند الإحالة الى الوسيط، وانتهاءً عند مصادقتها على الاتفاق ولها ان تستمر بإجراءات الدعوى الجزائية على الرغم من وجود اتفاق الوساطة الجنائية، وبالتالي فأن القول المنضبط يكون باعتبار نظام الوساطة الجنائية بديلاً عن الدعوى الجزائية.

خامساً: الطبيعة القانونية للوساطة الجنائية في تقديرنا

إزاء النقد الذي وجه للآراء السالفة، فضلا عن التباين الجلي بين الوساطة والصلح الجنائي، نستطيع ان نقول بأن الطبيعة القانونية للوساطة الجنائية تتمثل في كونها آلية أو وسيلة مستحدثة في تنظيم المنازعات الجنائية وإنهائها فهي تعمل كبديل عن الدعوى الجزائية.

فإذا كانت الوساطة الجنائية تتجه نحو سياسة جنائية جديدة إلا انها ليست بديلاً عن القضاء، كما انها ليست مجرد فن حديث لإدارة المنازعات ويرجع ذلك الى أنها وسيلة افرزتها السياسة الجنائية من اجل احياء الانسجام الاجتماعي وتحمل في طياتها آلية لفض المنازعات.

فأمام ما تشهدهُ العدالة الجنائية من ازمة، وامام قصور السياسة الجنائية التقليدية من جانب، ولما تحتاجهُ هذه المنازعات من معالجة اجتماعية أكثر من اللجوء الى الدعاوى القضائية التقليدية من جانب آخر؛ لم يكن امام السياسة الجنائية بداً من التحول من نموذج العقاب الى نموذج التعويض أو الترضية أي من عدالة عقابية الى عدالة تصالحية.

وبذلك فأن الوساطة الجنائية تعد وسيلة مستحدثة في إدارة الدعاوى الجنائية بصورة تخفف عبئاً كبيراً عن كاهل القضاء، فباتت الوساطة تقلل من مباشرة الدعاوى العمومية سواء بالحفظ أو بالإحالة للقضاء.

نخلص مما تقدم أن الوساطة الجنائية صورة جديدة للعدالة الجنائية تدعم العدالة التقليدية وتعضدها في مهمتها في مكافحة الجريمة، وهي تستند الى فكرة فلسفية بسيطة مفادها أنهُ لا يوجد شخصان لا يتفاهمان، ولكن يوجد شخصان لم يتناقشا.

الفرع الثاني

تمييز الوساطة الجنائية عما يشتبه بها من البدائل الأخرى للدعوى الجنائية

أن السياسات الجنائية الحديثة وفي صدد مواجهتها لازمة العدالة الجنائية وسعيها الى تبسيط الإجراءات الجنائية قد ساهمت بشكل كبير في تبني التشريعات الجنائية لأنظمة بديلة للدعوى الجنائية، منها ما يقوم على الرضائية المطلقة ومنها ما يقوم على مبدأ الرضائية والملائمة، وبما اننا قد عرضنا لمفهوم الصلح وتميزهُ عن الوساطة الجنائية في الفرع السابق، فأننا سنقصر دراستنا هنا وبإيجاز على بعض الأنظمة وأكثرها انتشاراً والتي تتشابه مع الوساطة الجنائية في بعض الوجوه وتختلف معها في وجوه أخرى، وحسب التفصيل الاتي :

اولاً: التمييز بين الوساطة الجنائية والتسوية الجنائية (التصالح)

تُعد التسوية الجنائية إحدى الآليات الحديثة والفعالة في فض الخصومات أو النزاعات الجنائية، وقد اخذت مكانة متميزة في الإجراءات الجنائية الحديثة، ولغرض بيان أوجه الشبه والاختلاف عن الوساطة الجنائية لابد ان نتعرض أولا لبيان مفهومها ومن ثم بيان أوجه الاتفاق والاختلاف مع الوساطة الجنائية وحسب التفصيل الاتي:

1.       مفهوم التسوية الجنائية

عُرف نظام التسوية الجنائية اصطلاحاً بانه ” إجراء يباشره عضو النيابة العامة في مرحلة ما قبل تحريك الدعوى الجزائية على الجاني الذي يقر بارتكابه الجريمة في طائفة من الجرائم المحددة قانوناً، ويترتب على قبول الجاني وتنفيذه لهذهِ التدابير وتصديق أحد القضاة على ذلك انقضاء الدعوى الجزائية” (القاضي، 2011، ص.147).

ويعود اول تطبيق قانوني للتسوية الجنائية (التصالح) الى القانون الفرنسي الذي استحدثها بموجب القانون المرقم (515/99) لعام 1999، ثم عدله بالقانون رقم (204/2004) لعام 2004، إذ مثل هذا النظام وسيلة جديدة لحسم الدعاوى الجنائية، إذ يتيح للنائب العام (نائب الجمهورية) أن يقترح على الشخص -البالغ- الذي يعترف بارتكابه واحدة أو أكثر من جرائم الجنح والمخالفات، والتي حددها المشرع الفرنسي في المادتين (41/2) و (4/3) من قانون الإجراءات الفرنسي، بأن ينفذ تدابير معينة وينبغي ان يعتمد هذا الاقتراح من القاضي المختص، ويترتب على ذلك انقضاء الدعوى الجزائية (يوسف، 2016).

وقد تبنى المشرع المصري في قانون الإجراءات الجنائية المادة (18 مكرر) هذا النظام وأطلق عليه لفظ (التصالح) تميزاً عن الصلح الذي يتم بين الجاني والمجني عليه، في حين ان التسوية الجنائية(التصالح) يتم بين الجاني وبين الدولة ممثلة بالنيابة العامة. وهو حسب تعديل عام 2007 جائز في المخالفات وكذلك في الجنح التي لا يعاقب عليها وجوباً بغير الغرامة أو التي يعاقب عليها جوازياً بالحبس الذي لا يزيد حده الأقصى على ستة أشهر.

وهو على رأي في الفقه المصري حقاً للمتهم وذلك على اعتبار ان عرض التصالح وحسب المادة السابقة يكون وجوبياً على السلطة المختصة بعرضهِ، وعدم عرض التصالح من الجهة المختصة على المتهم لا يسقط حقه في طلب التصالح والذي يبقى ثابتاً طيلة مراحل الدعوى مالم يصدر حكم بات، هذا بخلاف القانون الفرنسي الذي يقيم التسوية الجنائية على أساس من الرضائية والملائمة (عوض، 2002).

وجدير بالذكر ان المشرع العراقي لم يعرف نظام التصالح كقاعدة عامة باستثناء ما ورد في بعض القوانين التنظيمية (العقابية الخاصة) ومنها قانون الجمارك رقم (23) لسنة 1984 المعدل بحدود الجرائم الجمركية وذلك اما قبل إقامة الدعوى أو خلال النظر بها أو بعد صدور الحكم وقبل اكتسابه درجة البتات، وذلك بالاستعاضة كليا أو جزئيا عن العقوبات الجمركية المنصوص عليها في هذا القانون بغرامة نقدية لا تزيد على ضعف التعويض المدني، وتدفع اضافة الى مبلغ الرسوم والضرائب المترتبة على البضائع موضوع الجريمة، وكذلك التسوية الصلحية في قانون ضريبة الدخل العراقي رقم (113) لسنة 1982 المعدل، وحسب ما مبين بأحكام المادة (59) مكررة.

من هذه المقدمة الموجزة عن نظام التسوية الجنائية (التصالح) يمكننا بيان أوجه الشبه والخلاف بينه وبين الوساطة الجنائية وحسب ما هو مبين في النقطة الاتية.

2.       أوجه الشبه والخلاف بين الوساطة الجنائية والتسوية الجنائية

يتفق هذان النظامان في عدة وجوه؛ إذ يعد كل منهما أحد الحلول المتاحة لتخفيف عبء تزايد المطالبات القضائية للحقوق عن كاهل المحاكم. ويستهدفان معا علاجاً فعالاً لصنف معين من الجرائم يقصر القضاء التقليدي عن تحقيقه. ومع ذلك فهما يختلفان من ناحيتين: الاولى تتعلق بوظيفة المقابل، والثانية تتعلق بطبيعة كل منهما.

  • من حيث وظيفة المقابل في كل منهما: إذا كان المقابل في النظامين يتمثل في دفع مبلغ معين من المال، إلا أنه لا يستهدف تحقيق الغاية ذاتها، إذ يحدد هذا المبلغ في نظام التسوية على ضوء ما أصاب النظام العام من اضطراب، وتحصل عليه الدولة. بينما يتم تقديره في نظام الوساطة وفقاً للضرر الخاص الذي أصاب المجني عليه، مستهدفة بذلك تعويضه عليه (عبيد، 2005).

ويرجع هذا الفارق إلى ما بين النظامين من مغايرة جوهرية، فالتسوية ذات صفة جزائية، خلافاً للوساطة فهي ذات طبيعة إصلاحية أو تعويضية (المجالي، 2008).

  • من حيث طبيعة كل منهما: التسوية الجزائية هي إحدى صور العدالة الرضائية في إطار العدالة التفاوضية، وإذا كان صحيحاً أن كلا منهما يستلزم رضاء الأطراف، فأن هذا الرضاء هو الحد الأولي للتفاوض، وعدّ بمثابة شرط مفترض أو شرط سابق لإجرائه، ويرتبط ذلك بما تكفله الوساطة الجزائية من مساواة بين طرفيها، مقارنة بسمو مركز (السلطة العامة) على المتهم في شأن التسوية الجزائية. فالتسوية تعتمد على مشيئة الجهة القضائية المختصة من حيث صياغة شروطها، إما المتهم فعلى الرغم من ضرورة رضائه إلا أنه يتجرد من أية سلطة تفاوضية في مواجهة الجهة القضائية بخصوص العرض المقدم إليه فهو إما إن يقبله كله، أو يرفضه جملة. إما في الوساطة الجزائية فالأمر مختلف جداً، بحسبانها نظاماً ثلاثياً، يستوعب كل من الجاني والوسيط والمجني عليه (المجالي، 2008).

وإذا كان جوهر مهمة الوسيط ينحصر في عقد لقاء مشترك بين الجاني والمجني عليه، فهو بذلك يدعو كلا منهما إلى مائدة التفاوض المباشر على موضوع الاتفاق وشروط تنفيذه، باسطاً ما لديه من حجج مدعمة لموقفه. وداحضة لحجج خصمه إلى الى أن يتم الاتفاق على حل يرضي الطرفين دون ثمة ضغط من جانب الوسيط (عبيد، 2005).

ثانياً: التمييز بين الوساطة الجنائية والامر الجزائي

ان الامر الجزائي هو امر قضائي يفصل في الدعوى الجزائية دون ان يستند الى تحقيق قضائي يجري وفق القواعد العامة. وقد تبنى المشرع العراقي نظام الامر الجزائي للفصل في قضايا المخالفات التي لا يوجب القانون الحكم فيها بالحبس وان طلباً بالتعويض وبرد المال لم يقدم، وان الفعل ثابت على المتهم، فتصدر امراً جزائياً بالغرامة وبالعقوبات الفرعية دون تحديد جلسة لمحاكمة المتهم (نزال و الحيدري، 2020).

ويستند نظام الامر الجزائي على فكرة تبسيط واختصار الإجراءات في القضايا البسيطة، ومن اجل توفير الوقت والجهد والعناء على القضاة وتوفير النفقات والمصاريف التي تطلبها إجراءات الدعوى الجزائية (عبد الحسين، 1989). وهو بهذا الامر يتفق مع الوساطة الجنائية إذ يشتركان في تحقيق ذات الهدف في تبسيط الإجراءات الجزائية وتخفيف العبء عن كاهل القضاء. غير انهما يختلفان في بعض الأوجه منها:

  1. أن الأمر الجزائي هو بمثابة قرار قضائي يصدر من المحكمة بغير تحقيق أو مرافعة في المخالفات والجنح البسيطة-في بعض التشريعات-. في حين أن الوساطة وسيلة بديلة لحل النزاع الناشئ عن جرائم الجنايات والجنح ولا يشترط أن تكون من القضايا البسيطة.
  2. إن الامر الجزائي يكون اما بالإدانة والحكم بعقوبة الغرامة والعقوبات الفرعية، أو يقضي بالإفراج لعدم كفاية الأدلة، أما في الوساطة فأن العقوبة تأخذ بعداً أكبر من ذلك، فقد تصل إلى تعويض المجني عليه أو تقديم خدمات اجتماعية.
  3. إن الأمر الجزائي يصدر بمثابة قرار من المحكمة في حين أن الوساطة لا تعد قراراً في الدعوى، إنما هي مجرد محاولة للتقريب بين الجاني والمجني عليه للوصول لحل يرتضيه الطرفان، وفي كل الأحوال تنتهي الوساطة بتقرير يعرض على الجهة القضائية المختصة ولها سلطة قبوله أو استئناف اجراءات الجزائية (بابصيل، 2011).
  4. ان الوساطة الجنائية لا تهدف فقط إلى تعويض المجني عليه بما يرضيه بل وتساعد في إعادة تأهيل الجاني وبناء الروابط الاجتماعية بينهما، وهو الأمر الذي لا نجده في الأمر الجنائي (المجالي، 2008).

المطلب الثاني

صور الوساطة الجنائية في التشريعات المقارنة

ان من الصعوبة بمكان بحث ودارسة كافة صور واشكال الوساطة الجنائية، ذلك أن المناهج التي يضمها نشاط جهات الوساطة هي مناهج متعددة، ويرجع هذا التعدد الى كون الوساطة الجنائية لازالت حتى الان إحدى أهم الوسائل المستحدثة في إدارة المنازعات الجزائية. ولذلك فقد تعددت تجارب الوساطة باختلاف الدول والتشريعات التي تأخذ بها، وباختلاف الجهات التي تمارسها في داخل كل دولة (عبد الحميد، 2004).

هذا ويؤصل الفقه أشكال الوساطة الجنائية الى صورتين أساسيتين هما: الوساطة المفوضة، والوساطة المحتفظ بها (الاستئثارية) (عبيد، 2005). وسوف نقصر دراستنا في هذا المطلب على هاتين الصورتين الرئيسيتين للوساطة الجنائية في الفرعين التاليين وذلك على النحو الاتي:

الفرع الأول

الوساطة المفوضة

أن الوساطة الجنائية نظام يستند الى جملة مبررات من بينها الرغبة في تدعيم روح الجماعة في حل المشاكل التي تواجهها، وفي هذا الإطار تبرز الصورة المفوضة للوساطة الجنائية كإحدى مظاهر إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة فيما يتعلق باختصاص الأخيرة في مواجهة ظاهرة الاجرام. وكما يوحي المصطلح ذاته فأن الوساطة المفوضة هي تلك التي تتحقق أو تجري بواسطة هيئات، مثل جمعيات ضحايا الجريمة (المجني عليهم)، وذلك بناءً على ارسال ملفات القضايا أو الدعاوى من الجهة القضائية المختصة -جهة التحقيق أو الحكم- وفق إطار الملائمة ( Faget, 1993).

ويقصد بالوساطة المفوضة تلك التي تتم بمعرفة الهيئات الأهلية، بناءً على تفويض جهة التحقيق أو جهة الحكم – في غير فرنسا – لها بحل النزاع ودياً، وذلك عن طريق إرسال ملفات القضايا اليها ، إذ تعهد النيابة العامة الى شخص طبيعي أو معنوي بمهمة الوسيط بين طرفي النزاع، املاً في انهائه بطريقة ودية وسلمية . وبذلك يتضح أن الوساطة المفوضة تتم بناءً على وكالة قضائية وتحت الرقابة القضائية (عبد الحميد، 2004؛ عبيد، 2005؛ ( Faget, 1993.

ويشترط في الوسيط، أن يكون تابعاً إلى إحدى جمعيات مساعدة المجني عليهم وتحت الرقابة القضائية المرتبطة مع النيابة بمقتضى اتفاق للقيام بتلك المهمة وليس هناك شكل معين لهذا الاتفاق فقد يكون صريحا وقد يكون ضمنياً، أما عن الأول فقد يتخذ شكل وثيقة مكتوبة بين النيابة وهذه الجمعية ولا مانع من أن يكون شفوياً، والأصل أن يكون مفصلاً ومتضمناً حقوق والتزامات الجهة المختصة بالوساطة، فضلاً عن القواعد الموضوعية والإجرائية الخاصة بعرض المنازعة عليها والبت فيها، لذلك يفضل أن يكون مكتوباً حتى يكون شاملا بكل هذه الجوانب وبالنسبة للثاني-الضمني- فهو يتمثل في عدم معارضة النيابة لبرامج الوساطة التي تنظمها تلك الجمعيات شريطة أن تراعي الأخيرة الحقوق الأساسية للخصوم، وبخاصة ما يتعلق بصفتها الرضائية (عبيد، 2005).

ونطاق تطبيق الوساطة المفوضة-في فرنسا- ينحصر في الجرائم ذات الخطورة البسيطة التي لا تمثل خطراً كبيراً على المجتمع كتلك التي تثار بين الجيران، وجرائم العنف البسيط كالسب، والقذف والمضايقات، واستعمال القسوة مع الأطفال، والخلافات العائلية بين الزوج والزوجة، غير ان هذه السياسة كانت محلاً للنقد من بعض الفقه الفرنسي وذلك استناداً الى كون الوساطة تمثل في الأصل امتداداً للرقابة الاجتماعية، ومن ثم كان على المشرع الفرنسي توسيع نطاقها لتشمل جرائم ذات الخطورة، كما هو الحال في تشريعات دول أخرى كبلجيكا مثلاً إذ تخضع الجرائم كافة سواء كانت ذات خطورة كبيرة أو بسيطة الى نظام الوساطة، إذ تحضا الوساطة الجنائية فيها بأهمية كبيرة وتم التأكيد على هذه الأهمية في كثير من الدراسات التي اكدت ان النتائج التي حققتها الوساطة تفوق النتائج التي حققتها الدعاوى الجنائية التقليدية، لاسيما تلك المتعلقة بمدى ارتياح الأطراف ورضائهم بالحلول التي تصل اليها جهود الوساطة، الامر الذي يتولد عنه الشعور بالسلام الاجتماعي (عبد الحميد، 2004).

وتجدر الإشارة الى ان الغالبية العظمى من نماذج الوساطة الجنائية تندرج تحت هذه الصورة، إذ تتفق مع النظر للوساطة كآلية مستحدثة لفض المنازعات الجنائية، سواء باعتبارها شكلاً لتعويض الضرر الذي يكابدهُ المجني عليه والذي يقع على كاهل جمعيات مساعدة ضحايا الجريمة، أم باعتبارها وسيلة لإعادة تأهيل الجاني وهو امر تقوم به جمعيات الرقابة القضائية (المجالي، 2008).

 

الفرع الثاني

الوساطة المحتفظ بها (الاستئثارية)

أسلفنا فيما سبق ان الأصل في الوساطة الجنائية ان تكون مفوضة، إذ تقوم فيها النيابة العامة أو المحكمة-في غير فرنسا- بإرسال ملفات القضايا إلى جمعية تمارس أعمال الوساطة، إلا أن الوساطة المحتفظ بها تختلف عن ذلك، حيث تفرد المشرع الفرنسي نموذج الوساطة المحتفظ بها وأسندها لدور العدالة والقانون(MJD) التي تندمج مباشرة في الهيئة القضائية يرأسها ويشرف عليها أحد أعضاء النيابة وأحد قضاة الحكم، وتهدف الوساطة المحتفظ بها إلى التفاعل مع المواطن من أجل حل المشكلات بطريقة إنسانية وتحقيق التقارب يبن المواطن والأجهزة المعنية بشؤون العدالة (براك، 2009).

يتضح مما تقدم ان الذي يقوم بدور الوسيط في الوساطة المحتفظ بها هو إحدى الجهات التابعة للسلطة القضائية وبالأحرى النيابة العامة، فلا تخرج الدعوى من حوزتها بل تحتفظ بها من اجل حلها ودياً، ومن هنا جاءت تسمية هذه الصورة من الوساطة بالوساطة المحتفظ بها؛ إذاً تلك الوساطة التي تقوم بها دور العدالة والقانون في الاحياء التي من المشاكل، مشاركة من السلطة القضائية في سياسة التنمية الاجتماعية للأحياء والتقريب بين المواطن وأجهزة العدالة (عبد الحميد، 2004).

وتهدف دور العدالة والقانون لإيجاد معالجة إنسانية للجرائم البسيطة بعيداً عن النطاق القضائي، بهدف التغلب على الزيادة المطردة في أوامر الحفظ، حيث يمكن للنيابة من خلال بيت العدالة معالجة نحو ٨٠% من القضايا التي كان مصيرها الحفظ الإداري، ومن ثم تكفل الوساطة من خلال بيوت العدالة ضمان تعويض المجني عليه في جرائم قليلة الخطر التي كان مصيرها الحفظ الإداري، فمن الواضح مدى التغير الذي طرأ على السياسة الجنائية في فرنسا حيث أصبحت مصلحة المجني عليه محور اهتمام التشريعات الفرنسية وأتاحت له الوساطة الجنائية أن يكون له دور فعال ومؤثر في مصير الدعوى الجزائية(عبيد، 2005، ص. 523).

المبحث الثاني

مدى الحاجة للوساطة الجنائية في التشريع الاجرائي العراقي

بعد أن بينت الدراسة ماهية الوساطة الجنائية واستعرضت نطاقيها الموضوعي والاجرائي عبر العديد من التشريعات المقارنة يظل التساؤل مطروحاً: هل يعوز التشريع الاجرائي العراقي تطبيق الوساطة الجنائية؟ وإذا ما كانت الإجابة على التساؤل السابق بنعم، فما هو التطبيق الامثل للوساطة الجنائية في العراق؟

وهدفنا في هذا المبحث الوصول إلى تصور لتطبيق الوساطة الجنائية في التشريع العراقي ولكن بعد تحاشي كافة المثالب التي أخذت على تطبيقاتها في التشريعات المقارنة، وبما يتناسب مع مبادئ النظام القانوني العراقي.

وحري بنا ان نتعرض الى تقييم الوساطة الجنائية مفندين أوجه النقد التي وجهت اليها، وبيان مزاياها، ومن ثم نعرض الى محاولة وضع إطار عام لتطبيق الوساطة في التشريع العراقي، وذلك على النحو الاتي:

المطلب الاول: تقييم نظام الوساطة الجنائية.

المطلب الثاني: نحو وضع إطار عام للوساطة الجنائية في التشريع الاجرائي العراقي.

المطلب الاول

تقييم نظام الوساطة الجنائية

تقوم الوساطة الجنائية على فكرة إحلال الحل الودي للنزاع الجنائي محل الاجراءات القضائية الخاصة بالدعوى الجزائية، والوساطة الجنائية كأي نظام قانوني، له مؤيدون يبرزون محاسنه ومزاياه، ولهُ رافضون يظهرون عيوبه ومثالبه، وبين هذا وذاك لنا ان نقدر هذا النظام ونحكم عليه، وذلك في فرعين منفصلين وعلى النحو الاتي:

الفرع الأول

الانتقادات الموجه للوساطة والرد عليها

نعرض في هذا الفرع أهم الانتقادات الموجهة الى نظام الوساطة الجنائية، وبيان الردود حول هذه الانتقادات، وتتلخص هذهِ الانتقادات فيما يلي:

اولاً: الإخلال بضمانات المحاكمة العادلة:

يستند هذا النقد على أن الوساطة الجنائية تخل بضمانات المحاكمة المنصفة والعادلة، وخاصة في شأن حقوق المتهم الإجرائية أو حقوق الدفاع، فأن المتهم يندفع إلى الولوج بإجراءات الوساطة الجنائية لا قناعة بها إنما خشية من الزج به في السجن، فهي بذلك تخل بمبدأ الأصل في الإنسان البراءة، وتنال من حق المتهم في الصمت، وتؤدي إلى الإخلال بحقه في الدفاع حيث لا يتاح للمتهم أن يبدي دفاعه أمام قاضيه الطبيعي، ومن ثم يقبل إقراره بالوساطة دون إجراءات محاكمة أمام محكمة شرعية. وعليه فأن نظام الوساطة الجنائية، تمثل إخلالا بالضمانات اللازمة لفرض الجزاء، والمتمثلة في احترام مبدأ أو قرينة البراءة وصون حقوق الدفاع ورعاية حرية الإرادة ومشروعية الأدلة (الزهري، 2017، ص. 48).

الرد:

حقاً ان الأصل في الإنسان البراءة، فهي قاعدة أصولية لا خلاف عليها، وان هذا الأصل ورد عليه استثناء ثبوت الإدانة، فقد قد يكون المرء بريئاً من تهمة مسندة إليه، وقد يكون مدان بجرم يعلم أنه اقترفه.

وفي طور اختيار الوساطة كبديل للدعوي الجنائية، يكون المتهم وحده هو من يعلم إن كان بريئا أم مداناً، فأن كان يعلم أنه بريئاً ولم يقترف الجرم المنسوب إليه فليتمسك بالدعوى الجزائية، ويلوذ بالضمانات والحقوق التي منحتها إليه، ولا يتخلى عنها بموافقته على اللجوء للوساطة الجنائية، وإن كان يعلم أنه مداناً، فما الضير إذاً في أن يركن للوساطة الجنائية، ويسعي لترضية ضحيته، ويصلح بإرادته الحرة ما أفسدته جريمته، فيعود تارة أخرى للمجتمع، إذ أن اللجوء للوساطة لن يتم دون إرادته، وبسبق تفكير وتدبر منه، ولن يسلبه حقه في المثول أمام قاضيه الطبيعي إن رفض عرض الوساطة.

فهو ذاته من يقبل طائعاً مختاراً أن يباشر إجراءات الوساطة الجنائية بما تشترطه من رضائية في اختيارها، واختبار الجزاء الاتفاقي الذي سيصل إليه مع ضحيته، كما يدرك ايضاً عدم إحاطتها بسياج المبادئ التي تصون المتهم في الدعوي الجنائية، إذ أن قرينة البراءة غير مفترضة فيها، إذ أن بمجرد رضاء المتهم باللجوء إليها لن يناقش الوسيط قيامه بالجريمة من عدمه، إنما يسعى الجميع لترضية ضحية الجريمة.

ثانياً: الاخلال بمبدأ العدالة والمساواة

يذهب أصحاب هذا النقد الى القول بان نظام الوساطة الجنائية لا يحقق المساواة والعدالة بين الافراد، ذلك أنه نظام شرع لإفلات الأغنياء من قبضة القانون، فمن يملك مقابل اصلاح الأضرار الناجمة عن الجريمة يستطيع أن يفلت من العقوبة المقررة قانونا لها، إذ أنه من غير المقبول ان يستطيع متهم من الإفلات من التبعات الجزائية للجرم الذي اقترفه لمجرد انه قيامه بدفع مبلغ من المال، في الوقت الذي يتعرض فيه متهم آخر وفي نفس موقف المتهم الأول لتحمل التبعات الجزائية لجرمهِ وتطبيق العقاب عليه لعدم قدرته على الدفع لتعويض المجني عليه (عبد الحميد، 2004، ص.139؛ المجالي، 2008، ص ص 133-134).

ومن ناحية أخرى إن أغلب التشريعات الإجرائية التي أجازت إجراء الوساطة الجزائية لم تضع معياراً دقيقاً منضبطاً يمكن الركون أليه من قبل جهة التحقيق أو الحكم عند التصرف في القضايا التي تقرر إرسالها للوساطة الجزائية، وهذا القصور التشريعي، قد يقود إلى اختلاف العمل من جهة قضائية إلى أخرى، فبعض القضايا ترسل إلى الوساطة والبعض الآخر تكون محلاً لمباشرة الاتهام والإجراءات الجزائية، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة التعرف على طبيعة القضايا التي تعالج عن طريق الوساطة، نظراً لاختلاف الاستراتيجية التي تسير عليها كل جهة قضائية بشأن الوساطة(Schmitt, 1998, P.50)، إذ لا يكفي أن يكون معيار تحديد الجرائم التي تعالج عن طريق الوساطة هو الجرائم غير الخطيرة ( الجرائم البسيطة )، فهذا المعيار فضفاض ويؤدي إلى الإخلال بمبدأ المساواة أمام القضاء (سرور،2000، ص. 706 وما بعدها).

الرد:

ان القول بان نظام الوساطة الجنائية يخل بمبدأ المساواة بين الافراد، هو قول غير صحيح بمطلقهِ فهناك فرق بين المساواة امام القانون والمساواة داخل القانون، فالأولى تعني ان تقوم السلطة المختصة بتطبيقه بنفس الطريقة على الجميع مهما كانت مستوياتهم، اما المساواة داخل القانون فتتحقق بتقرير المشرع معاملة مختلفة لأصحاب المراكز القانونية المختلفة (سرور، 2002، ص. 427)، ومثال ذلك الأنظمة القانونية التي تفرد معاملة خاصة للأحداث الجانحين أو أنظمة التفريد، فلا أحد يقول بمساس هذه الأنظمة بمبدأ المساواة امام القانون. فهي مقررة وفق مقتضيات الصالح العام، فضلاً عن ذلك ان العدالة ذات طابع نسبي أي تتصف بالنسبية ولا تحمل في طياتها معنى المساواة المطلقة. هذا بالإضافة الى ان نظام الوساطة الجنائية هو استثناء على الأصل في السير بالإجراءات الجزائية، هذا ولربما يكون دفع مبلغ التعويض للمجني عليه هو اشد ايلاماً من الجزاء الجنائي، وقد تنتهي ذات الإجراءات الجنائية بالحكم بالتعويض لصالح المجني عليه مع فرض جزاء جنائي فهنا يكون لزاما على الجاني ان يتحملهما معاً ومن ثم فأن الوساطة الجنائية هي الاجدر ابتداءً طالما ان النتيجة-دفع التعويض- واحده في الحالتين حالة اللجوء للوساطة أو اكمال الإجراءات الجنائية.

اما القول بأن نظام الوساطة يؤدي إلي اختلاف العمل من جهة قضائية إلى أخرى – بسبب عدم تحديد الجرائم محل الوساطة- فهو غير سديد في مطلقه؛ إذ أن اختلاف العمل من جهة قضائية الى أخرى هو السلوك الغالب في المواجهة لأي جريمة تباشرها، فسلطة قاضي التحقيق في القانون العراقي – مثلا – في رفض الشكوى -أو الحفظ في التشريعات الأخرى- لعدم كفاية الادلة تؤدي ولا ريب إلى اختلاف العمل من محكمة تحقيق الى اخرى، وما نال أحد من منح تلك السلطة لقضاة التحقيق، بل إن أحكام القضاء ذاتها تتباين في عقوبة الفعل الواحد بين عقوبة مغلظة، وعقوبة مشددة، وعقوبة موقوفة – التفريد-. وما قال أحد أن هذا الاختلاف في الأحكام الصادرة عن الوقائع المتشابهة يعصف بقواعد العدالة والإنصاف فاختلاف المعالجة الجزائية بين الواقع امر محمود طالما وجد ما يبرره كظروف الجاني، وخطورته الإجرامية، ومقدار الضرر الناشئ عن الجريمة وعلاقته بصحة الجريمة.

ثالثاً: ان نظام الوساطة الجنائية يمثل تجاوزاً على السلطة القضائية

يرى أصحاب هذا الاتجاه ان الوساطة الجنائية تشكل مساساً بجوهر عمل السلطة القضائية، وهي تتجه بالدعوى الجزائية نحو الخصخصة، إذ أنها تقوم بالأساس على دور الوسيط والذي يتمثل في محاولة التوفيق الودي بين أطراف الخصومة، دون ان يكون من مهمته البحث عن الحقيقة، ولا يستطيع فرض إرادته على أطراف النزاع وإجبارهم على الالتزام بما تنتهي اليه الوساطة، وفي ذلك تطاولاً على دور السلطة القضائية؛ إذ أنها تسمح بدخول أطراف جدد غير مؤهلين قانوناً لحل نزاع جنائي (عبد الحميد،2004، ص.141؛ الزهري، 2017، ص.86).

الرد:

بالفعل ان دور الوسيط هو التوفيق بين أطراف الخصومة وحثهم وحسب على انهائها، إذ أنه لا ينبغي له ان يفرض عليهم رأياً وإلا لخرجت الوساطة الجنائية من المحتوى الرضائي للعدالة الرضائية الى النطاق الزجري للدعوى الجنائية، وبالتالي لا نكون امام بديل للدعوى الجنائية، انما نكون بصدد نمط من انماطها بطبيعتها القسرية وبخصائصها من إيلام وزجر، فهدف الوسيط وغايته تتمثل في الوصول بأطراف النزاع الى حل يرتضوه سويةَ، حل نابع من إرادة الأطراف، يشبع شعور الضحية بالعدالة، وينمي روح المسؤولية والإصلاح لدى المتهم، وليس من شأن الوسيط ان يجبر أطراف النزاع على حل بعينه، والا فما الحاجة إذاً الى الوساطة كبديل للدعوى الجنائية، إذ أن الأخيرة توفر الانهاء القسري للنزاع (الزهري، 2017، ص.86).

اما القول بالتجاوز على وظيفة السلطة القضائية فهو قول تنقصه الدقة، ذلك لان الوساطة الجنائية تجري تحت اشراف السلطة القضائية، جهة التحقيق أو الحكم بحسب الأحوال، فهي التي تحيل الخصومة الى الوساطة وفق اعتبارات الملائمة ابتداءً، ولها مطلق الحرية في اعتماد نتائج اتفاق الوساطة أو رفضها حسب اعتبارات الملائمة ووفق أغراض الوساطة (المجالي، 2008، ص. 346).

رابعاً: ان نظام الوساطة الجنائية يسلب أهم خصائص القانون الجنائي والمتمثلة بالجزاء

يذهب أصحاب هذا القول الى ان الوساطة الجزائية تسلب قانون العقوبات أهم خصائصه التي تميزه عن سائر القوانين الأخرى والمتمثلة باقترانه بعنصر الجزاء، أي بمعنى فرض العقوبة على من يخالف نصوصه وأحكامه، فنصوص قانون العقوبات وضعت لتطبق بدقة وحسم، وهذا التطبيق قد لا يتحقق طالما إن مخالفة القواعد والنصوص الموضوعية لا يؤدي إلى العقوبة بفضل تطبيق إجراء الوساطة الجزائية، وهذا سينشأ عنه بطبيعة الحال عدم احترام الأفراد لقانون العقوبات وذلك السلب عنصر الجزاء منه، فالقاعدة العامة تقضي بأن الدعوى الجزائية هي ليست محلاً للتراضي وذلك لأنها ملك للمجتمع، فهي الوسيلة لاقتضاء حق الدولة بالعقاب من مرتكب الجريمة الذي عكر أمن وسلامة المجتمع وعرض مصالح أبنائه للخطر أو أصابهم بالضرر (الشكري، 2011، ص ص 111-112). وتطبيق إجراء الوساطة من شأنه إهدار هذه القاعدة العامة، حيث يجعل الدعوى الجزائية محلاً للتفاوض ومن ثم التراضي، وهذا ما يجرد قانون العقوبات من أهم أهدافه التي يحققها عن طريق العقوبة وما يتمخض عنها من ردع عام وخاص يتحقق إلا من خلال الدعوى الجزائية، أو بالأدق الحكم القضائي البات المنفذ (عبد الحميد، 2004، ص.140).

الرد:

ان القول بعمومية الدعوى الجزائية -من النظام العام- ومن ثم ليس لاحد سلطان في النزول عن أحد اجراءاتها لأنها مقررة لمصلحة المجتمع في ملاحقة المجرمين، كذلك ليس للجهة القضائية المختصة بمباشرة الدعوى ان تتصالح في شأنها مع المتهم، أو تخرجها من حوزة القضاء بعد دخولها (حسني، 1998، ص.6)، لم يعد قولاً مستساغاً على اطلاقهِ، و إذ كان الأصل كذلك فأنه مع تطور الفكر الجنائي وظهور الازمة التي تعانيها إدارة العدالة الجنائية والمتمثلة في الكم الهائل والمتراكم من القضايا وعجز هذه الإدارة عن حسم هذه القضايا في وقت معقول، أصبح من غير المقبول التمسك بالنتائج المترتبة على طبيعة الدعوى الجزائية بهذا الشكل الصارم، فاصبح الخروج عن الإجراءات العادية للدعوى، واتباع إجراءات موجزة في جرائم معينة – على سبيل الاستثناء- امراً مقبولاً ولا يخالف النظام العام لما يقدمهُ هذا الخروج من مزايا (إبراهيم، 2004، ص. 8).

كما ان القول بتعارض الوساطة الجنائية مع تحقيق الردع بنوعيه العام والخاص، فيمكن القول بأن مثل هذا التعارض هو تعارض ظاهري، حيث ان تحقق الصلح في نظام الوساطة في معظم صورهِ يحوي معنى العقوبة وذلك في المبلغ الذي يقوم المتهم بدفعهِ ويلتزم به. كما ان نظام الوساطة الجنائية يعتبر تطبيقاً لقاعدة اقل مجهود، والتي تقضي بأنه إذا كان بالإمكان تحقيق الهدف بوسيلة أسهل فلا معنى لتبذير وتبديد الوقت والجهد والمال بالالتجاء الى وسائل اشق (المجالي، 2008، ص. 349).

الفرع الثاني

مزايا الوساطة الجنائية

يذهب الرأي الغالب في الفقه الجنائي إلى تأييد نظام الوساطة الجزائية لما يحققه من مزايا وفوائد، قد لا يصل أليها الحكم الجزائي ومن ورائه كافة إجراءات الدعوى الجزائية التقليدية، وعلى الرغم من سيل الانتقادات الموجهة من الفريق المعارض لنظام الوساطة إلا أنها لا تنال من أهميته، لذا تصدى أنصار هذا النظام بالرد على تلك الانتقادات ودحضها وقد تطرقنا لجانب منها في الفرع السابق، لذا سنقصر بحثنا هنا على عرض أهم المزايا لنظام الوساطة الجنائية باعتباره وسيلة لإنهاء الدعوى الجزائية، وحسب التفصيل الاتي:

أولا: المساهمة في علاج ازمة العدالة الجنائية والتخفيف عن كاهل القضاء

تعمل الوساطة الجنائية على إيجاد حل للنزاع بين المتهم والمجني عليه بعيداً عن الإجراءات الجنائية، مما يؤدي الى التخفيف عن كاهل القضاء وتوفير الوقت والجهد والمال لأطراف النزاع (متهم، مجني عليه، الدولة ممثلةً عن المجتمع).

فالهدف الأساسي من تطبيق نظام الوساطة الجنائية يتمثل في تخفيف العبء عن كاهل الأجهزة المعنية بشؤون العدالة الجنائية. إذ بموجب هذا النظام تتخلص أجهزة التحقيق والحكم من اعداد ضخمة من القضايا الجنائية البسيطة أو القليلة الأهمية التي تثقل كاهلها وتتفرغ للقضايا الهامة التي تتطلب وقت وجهد كبيرين. ولا يتوقف دور الوساطة الجنائية عند هذا الحد، بل يمتد ليساهم في مساعدة المؤسسات العقابية في النهوض من عثرته الناتجة عن زيادة عدد النزلاء، مما أثقل كاهلها وأعجزها عن القيام بدورها الإصلاحي والتهذيبي. وتجنب الوساطة الجنائية الافراد المثول أمام القضاء ومباشرة الإجراءات الجنائية التقليدية للدعوى الجزائية وما فيها من مساس بحقوقهم وحرياتهم ولاسيما – التوقيف- في الجرائم البسيطة، كما تجنبهم التعرض لقضاء عقوبة الحبس قصير المدة المقررة لهذه الجرائم، ولا شك أن مساوئ هذا الحبس تفوق وبشدة مزاياه. الامر الذي حدا بالفقه الجنائي بمختلف اتجاهاته الى الدعوةِ بضرورة الغاء هذه العقوبة في الجرائم البسيطة (أنور، 2000، ص. 17 ومابعدها؛ أنور، 2000، ص. 18).

ولذلك فقد أوصت ندوة طوكيو بضرورة تطبيق نظام الوساطة الجنائية كوسيلة لحل المنازعات كلما كان المجتمع ليس له مصلحة في رفع الدعوى إلى القضاء، وأن الأمر يتطلب البحث عن أسباب الجريمة ومعالجتها، وتعويض المجني عليه أما عيناً أو نقداً. كما ينبغي تطبيق هذا النظام كلما كان من المحتمل أن يكون من مصلحة المتهم في المستقبل بأبعاده عن ساحة القضاء، تفاديا لتعريضه لعقوبة الحبس قصيرة المدة، والتي قد تعود عليه وعلى المجتمع بأثار لا يحمد عقباها (عطية، 1991، ص. 352).

ثانياً: تحقيق السلام الاجتماعي

تكفل الوساطة الجنائية – في حالة نجاح جهود الوساطة- تعويضاً عادلاً ومناسباً للمجني عليه عن الأضرار التي أصابته من جراء الجريمة، وبطبيعة الحال سيساعد هذا التعويض—في اغلب الأحيان- على امتصاص غضب المجني عليه، الأمر الذي يساعد في أعادة الألفة الاجتماعية، وتحقيق السلام الاجتماعي بين أفراد المجتمع خاصة وانها تسعى ايضاً لتأهيل الجاني وإعادة دمجه في المجتمع تارة أخرى بدلاً من إقصاءه والزج به في السجن والتشهير به، على نحو يبغض على إثره من حوله ويعاود الانتقام من المجتمع الذي لفظه بمعاودة ارتكاب الجريمة، وهو ما تعجز عن تحقيقه الأحكام القضائية، إذ أنها إلا تورث سوى الحقد والضغينة بين الأفراد، بل وزيادة حدة التوتر في العلاقات الاجتماعية (Schmitt, 1998, P.35).

ومن ناحية اخرى يبحث نظام الوساطة الجنائية عن جوهر المشكلة وأسباب النزاع ويحاول معالجتها ووضع الحلول الكفيلة بتجنبها في المستقبل، مع أيجاد حلول مرضية للمجني عليه دون إجحاف بالجاني، ومن أجل الوصول لهذه الغاية قد يلجأ الوسيط إلى طبيب نفسي أو أخصائي اجتماعي لمساعدة أطراف النزاع، فضلا عن الاستفادة من كافة الخدمات الإدارية والاقتصادية المتاحة، ومن هنا تبرز أهمية هذا النظام في المساعدة على الحد من الظاهرة الجريمة (نايل، 2001، ص. 37).

ومن كل ما تقدم ننتهي الى أن نظام الوساطة الجنائية صالح للتطبيق في العراق عن طريق تبني نظام قانوني يسمح بإحالة القضايا التي يقع غالب الضرر منها على ضحية الجريمة، أكثر من إصابته لباقي أفراد المجتمع، وذلك بشرط رضاء كافة أطراف الدعوى الجزائية، وخلال مدة محددة ويترتب عليها انقضاء الدعوى الجزائية حين تنفذ بنود الوساطة سواء باعتذار المتهم وإنهاء الاضطراب الجنائي الذي أحدثته الجريمة أو التعويض المادي للمجني عليه، وهذا ما سنحاول ان نبينهُ في المطلب الثاني.

المطلب الثاني

نحو وضع إطار عام للوساطة الجنائية في التشريع الاجرائي العراقي

بعد ان استعرضنا مزايا نظام الوساطة الجنائية في المطلب السابق، ومع تفنيد كافة الانتقادات الموجهة له، بقي لنا ان نستعرض الإطار العام الذي ينبغي ان تكون عليه الوساطة الجنائية ضمن النظام الاجرائي العراقي، لذا سنتطرق في هذا المطلب الى تحديد الإطار أو النطاق الموضوعي والنطاق الاجرائي المقترحين لتطبيق الوساطة الجنائية في التشريع الاجرائي العراقي، وقبل ذلك يتوجب علينا التمييز بين نظام الوساطة الجنائية-المقترح- والصلح العشائري المتبع في مجتمعنا وذلك على النحو الاتي:

الفرع الأول

التمييز بين الوساطة الجنائية والصلح العشائري

قد يلتبس الامر على البعض ويصعب معه التمييز بين الوساطة الجنائية والصلح العشائري المتبع في معظم الدول العربية والاسلامية ومنها العراق على وجه الخصوص بسبب المد البدوي والريفي وما رافقه من موروث اجتماعي من اعراف وتقاليد باتت متجذرة في مجتعنا العراقي إذ تتسم بالثبات والقبول وتتحكم في بنيته وقراراته إذ تمارس العشائرية بتكوينها دوراً محورياً في بنية وتركيب المجتمع العراقي، فقد اضافت له وأخذت منه الكثير، واصبحت هناك قوالب مجتمعية جاهزة من اعراف وقيم وعادات وتقاليد تقوم على منحىً عشائرياً، أثرت بطريقة واخرى على المجتمع (محمد، 2008، ص 126 وما بعدها)، إذ تمارس دوراً كبيراً في  كافة مجالات المجتمع السياسية والاقتصادية والقانونية ولاسيما في نطاق القانون والقضاء الجنائيين إذ تحل المطالبة العشائرية والصلح العشائري محل القضاء الجنائي في كثير من الحالات والظروف خاصة مع ضعف الدولة وغياب القانون ولجوء الافراد واضطرارهم الى الانضواء تحت جماعة تحميهم.

ان موضوع الصلح العشائري يتضمن جوانب كثيرة من حيث الاساس الشرعي والعرفي والاجراءات المتبعة فيه والمزايا والسلبيات والاثار المترتبة عليه ، وهوبذلك يحتاج الى إفراد بحث متخصص لا يتسع اليه بحثنا لذلك سنقصر دراستنا هنا على بيان مفهوم الصلح العشائري والتمييز بينه وبين الوساطة الجنائية وبيان ايهما اميز على النحو الاتي:

 

اولاً: التعريف بالصلح العشائري:

عرف الصلح العشائري على انه عقد تتقابل فيه الالتزامات يعقد بإرادة الطرفين ويسفر عن النزول عن العقوبة كلها او بعضها مقابل التزامات معينة يجب على المسؤول اداءها او هو اجراء من شانه ان ينهي الخصومة والعداوة في النفوس المتنازعة، وهو كل تنازل من أصحاب الحق عن حقهم في متابعة إنزال العقوبة بالجاني سواء كان في صورة صلح او عفو سواء تضمن مقابلا للصلح او لم يتضمن (شلهوب و الباقي، 2003، ص. 29).

كما عرف الصلح العشائري بانه أسلوب او منهج معتمد بين العشائر يرتكز على أسس وجسور مبنية ونظم وقواعد متوارثة جيلاً بعد جيل لفض المنازعات وحل الخلافات وما يرتبط به من عادات وتقاليد واعراف ويمتاز بالسرعة في البت في النزاعات والوساطة والإصلاح وصفاء القلوب ويغلب علية الطابع الجنائي وله قوة الزامية سلطة الجاه والوجه وقوة العشيرة والعزوة والمصالح المشتركة دون وجود سلطية تنفيذية ويسود تبعا للروابط العائلية، وهو عقد ملزم بين الطرفين لا يجوز الرجوع عنه وتسقط به دعوى المدعي(جرادات،  2014، ص.29).

ان الصلح العشائري – في العراق- غير مقنن قانوناً غير انه يمثل قيماً واعرافاً متجذرة في المجتمع العراقي لا أحد ينكر دوره – الإيجابي او السلبي-، غير اننا نرى انه من الناحية القانونية غير جائز إلا في نطاق المادة (194) من قانون أصول المحاكمات الجزائية سواء كان قبل رفع الدعوى الجزائية او اثناء النظر فيها، او في إطار الحق -الشخصي- فقط في جرائم ذات الحق العام. وان يكون وفق القيم الإنسانية الاصيلة التي لا تنتهك القانون وحقوق الانسان من اجل تحقيق الانسجام الاجتماعي وإزالة الأحقاد والضغائن التي خلفتها الجريمة. وهذا ما يجب ان يكون عليه الامر، لكن الملاحظ ان ما هو كائن اليوم في مجتمعنا قد خالف كافة القيم الإنسانية لعشائرنا الاصيلة والقيم والدينية والقانونية فما نسمعه ونشاهده او نقراءهُ بين الحين والأخر يجعلنا نستشعر خطورة نظام الصلح العشائري -العرفي- بعد ان كان صمام امان للمجتمع، اذ تحولت اغلب المطالبات العشائرية الى وسيلة للابتزاز على الرغم من تجريم بعضها. لذلك فقد افقد القضاء العشائري العرفي القيمة القانونية للقاعدة الجنائية، كما ان الجزاءات المقررة في القضاء العشائري تتصف بالجماعية مخالفةً بذلك مبدأ دستوري ومبدأ من مبادئ القانون الجنائي الا وهو مبدأ شخصية العقوبة، اذ ان المقابل (الدية) يجمع من قبل افراد العشيرة كافة، كما قد يتخذ – احياناً- صوراً أخرى كما في تسليم ذوي القاتل نساء بواكر لذوي المقتول وفق ما يعرف-عرفاً- بنظام (الفصلية)، وبهذا فأن القضاء العشائري في هذه الممارسات يشكل خروجاً على القيم الإنسانية والدينية والقانونية، لذا لابد من التدخل للحد من هذهِ الممارسات عن طريق تقنين الأعراف والعادات العشائرية المتبعة وفق ما ينسجم مع مبادئ القيم الدينية والإنسانية والقانونية ووفق ما مقرر دستورياً وفق المادة 45 من دستور 2005. خاصة مع عدم إمكانية الغاؤها في الوقت الحاضر كون الأعراف والتقاليد العشائرية لازالت متأصلة ومتجذرة في مجتمعنا.

ثانياً: وجه الشبه والاختلاف بين الوساطة الجنائية والصلح العشائري: بعد ان بينا مفهوم الصلح العشائري والاشكالات التي تعتري تطبيقه بقيا لنا ان نبين وجه الشبه والاختلاف بينهما من اجل بيان ايهما اميز وذلك على النحو الاتي:

  1. وجه الشبه: يتفق الصلح العشائري مع نظام الوساطة في ان كلاهما وسيلة غير تقليدية لحل النزاعات ويتسمان بسرعة حسم النزاعات، ويهدفان الى إعادة الانسجام الاجتماعي وإزالة الأحقاد والضغائن التي خلفتها الجريمة على فرض ان تراعى القيم الإنسانية والدينية والقانونية في الصلح العشائري وتجنب الانتهاكات سالفة الذكر، كما قد يكون هناك وسيط بين العشيرتين.
  2. وجه الاختلاف: هناك عدة اختلافات جوهرية بين الوساطة والصلح العشائري تكمن بالآتي:
  • من حيث الطبيعة: خلصنا عند بحثنا لطبيعة الوساطة الجنائية الى ان الوساطة الجنائية بديل عن الدعوى الجزائية وليس بديلاً عن النظام القضائي اذ هي تتم وفق اعتبارات الملائمة بقرار من جهة التحقيق او الحكم بحسب الأحوال وتخضع إجراءاتها لمراقبة السلطة القضائية كما ان انقضاء الدعوى الجزائية يكون بعد مصادقة الجهة القضائية المختصة وفق اعتبارات الملائمة.

في حين ان الصلح العشائري يتم بمعزل عن القضاء أي يمثل بديلاً للقضاء، إذ لا يملك القضاء أي دور-عدا الجرائم التي يتوقف فيها الصلح على الموافقة- في البحث في تفاصيل الصلح إذ انه من المحتمل ان يكون الاتفاق ناتج عن إرادة معيبة بعيب من عيوب الرضا كإكراه المجني عليه على قبول الصلح.

  • من حيث القائم بالوساطة: ان القائم بالوساطة يكون شخص طبيعي او معنوي مختص ومستقل وحيادي حسب الشروط التي سبق وان تطرقنا لها في موضع سابق من هذا البحث، اما القائم بالصلح العشائري فهم غالباً ما يكونوا من ذوي الجاني والمجني عليه وان حصل وان تدخل وسيط فهو شخص غير مختص ولربما يكون غير حيادي.
  • من حيث الرضائية: الوساطة الجنائية ستند الى الرضائية اذ لا يمكن اللجوء اليها الا بعد موافقة طرفي النزاع دون أي اذعان منهما، اما في الصلح العشائري فهو وحسب اجراءاته العرفية المتبعة غالباً ما ينتهي بإذعان من جانب ذوي الجاني او المجني عليه حسب قوة العشيرة ووجاهتها.
  • من حيث النطاق الموضوعي والاثر: الوساطة الجنائية جائزة في جميع الجرائم على اختلاف أنواعها بشرط توافر اعتبارات الملائمة من حيث خطورة النزاع وخطورة الجاني وإمكانية تحقق أغراض العدالة، ويترتب على نجاحها انقضاء الدعوى الجزائية.

اما الصلح العشائري فانه وفق القانون العراقي جائز في جرائم التي يجوز الصلح عنها أي ذات الحق الشخصي وهنا يرتب أثره في انقضاء الدعوى الجزائية وفق احكام المادة 194 أصولية، اما في الجرائم الأخرى-ذات الحق العام- فلا اثر لاتفاق الصلح الا على الحق الشخصي دون الحق العام إذ تملك الدولة استيفائه او التنازل عنه في بعض الأحيان كقانون العفو العام.

  • من حيث الغرض: تهدف الوساطة الجنائية الى تعويض المجني عليه والى اصلاح وتأهيل الجاني، اما الصلح العشائري فهو -قد- لا يضمن تعويض المجني عليه اذ ان (الدية) يتم توزيعها على افراد العشيرة كافة، كما قد لا يضمن تأهيل وإصلاح الجاني كون ان الصلح يتم عن طريق اشخاص غير مؤهلين.
  • من حيث المشروعية: من الشروط المهمة للوساطة الجنائية هو استنادها لمبدأ الشرعية الذي يحكم كافة القواعد القانونية وهي ان تكون منصوص عليها قانوناً وخاضعة لرقابة القضاء، اما الصلح العشائري فهو اجراء عرفي متجذر في مجتمعنا وغالباً ما يمثل تجاوزاً على القانون من خلال بعض الممارسات التي سبق وان أشرنا اليه سابقاً.

امام هذا الفرق الواضح لصالح الوساطة الجنائية نرى ان من الضروري تنظيم احكام الوساطة الجنائية بدقة للحد من اللجوء الى القضاء العرفي او العشائري واضفاء صفة العدالة التصالحية عليه! إذ انه غالباً ما يمثل تهديداً للنظام القضائي برمتهِ.

الفرع الثاني

النطاق الموضوعي المقترح للوساطة الجنائية

سبق وان بينا ان تشريعات الدول قد تباينت في تحديد الجرائم التي تكون محلاً للوساطة، فالبعض من التشريعات تبنت المعيار الحصري وذلك بتحديد الجرائم الخاضعة للوساطة على سبيل الحصر ومثالها التشريع الجزائري والتونسي، ومنها ما اخذ بمعيار القاعدة العامة أو الوصفية في تحديد طبيعة الجرائم التي تكون محلاً للوساطة وفق شروط معينة فوصفت بالجرائم البسيطة، أو ذات الخطورة القليلة والتي تمس مصالح خاصة بالمجني عليه أكثر من اصابتها لمصلحة عامة ومثال هذه التشريعات القانون البلجيكي والبرتغالي.

وفي سعينا نحو وضع إطار عام للوساطة الجنائية صالح للتطبيق في التشريع العراقي، فأننا نؤيد الاخذ بمعيار القاعدة العامة وعدم تحديد الجرائم محل الوساطة على سبيل الحصر، إذ نجد ان معيار القاعدة العامة هو الأنفع في تطبيق الوساطة الجنائية ويرجع ذلك لأسباب عديدة أهمها أن الوساطة الجنائية تهدف إلى سرعة إنهاء النزاعات الناشئة عن الجرائم المرتكبة، وذات الضرر البسيط القابل للتعويض والواقعة بين أطراف قد تربطهم علاقة تسبقها، وهي جميعها أمور واقعية تتصل بملابسات الجريمة وأشخاصها وهو الأمر الذي يستعصي على المشرع إدراكه وفق بيان حصري بالجرائم التي يجوز إنهاؤها بالوساطة الجنائية. في حين ان الامر يبدو يسيراً على -الجهة القضائية المختصة- إدراكه من واقع معايشتها للواقعة الإجرامية محل التحقيق، ودراستها للجاني ومدي تعمق الجذور الإجرامية في سلوكه، وإدراكها للضرر الناتج عن الجريمة، ومدي إمكانية جبرة، والتيقن من إعادة العلاقة بين الجاني والضحية عَقب إتمام الوساطة فيعود الوئام الاجتماعي كما كان قبل الجريمة. وخاصة ان المشرع العراقي قد اخذ بنظام الصلح وقد حدد على سبيل الحصر الجرائم التي تكون محلاً للصلح. وقد بينا في موضع سابق الفرق بين الصلح والوساطة الجنائية -مع اشتراكهما بصفه الرضائية-، وخاصة من ناحية المقابل فالصلح قد يكون دون مقابل -تعويض- في حين ان الوساطة لا يمكن ان تتم دون مقابل فهو من أهم شروطها.

ومن أهم الفروقات بين الوساطة الجنائية والصلح هو دور الجهة القضائية المختصة جهة التحقيق أو الحكم بحسب الأحوال، إذ أنها في الصلح -كقاعدة عامة- ليس لها دور يذكر إذ يقتصر دورها في اثبات الصلح من لسان المجني عليه أو وكيله، دون البحث في تفاصيل هذا الصلح، فقد يكون مبنياً على إرادة معيبة كأن يكون المجني عليه واقعاً تحت ضغط أو اكراه للتنازل عن القضية بالشكل الذي يؤدي الى المساس بالعدالة. اما في الوساطة فأن الجهة القضائية المختصة -تحقيق أو حكم- تمارس دوراً مفصلياً في الموافقة على اللجوء الوساطة ابتداءً وفي التصديق على اتفاق الوساطة واعتماده إنتهاءً وفق اعتبارات الملائمة، ووفق توافر شروط الوساطة، وهي بذلك تتلافى ما قد يرافق عملية الصلح من مساوئ محتملة.

وقبل ان نحدد المعيار الذي تسند اليه القاعدة العامة في تحديد الجرائم محل الوساطة، سنطرح عدة امثلة نستنتج من خلالها كيفية تحديد هذا المعيار ومن ثم تحديد نطاق تطبيق الوساطة الجنائية وعلى النحو الاتي:

المثال الأول: مجموعة من الشباب في ملعب كرة القدم وفي مباراة جماهيرية يسودها نوع من التوتر وشد الاعصاب، فحدثت مشاجرة بين اثنين من الجماهير فصفع أحدهما الاخر قاصداً وجههُ ولكنها اصابت عينه ففقعها، محدثاً بذلك عاهة مستديمة. فإذا ما كيفنا الفعل المقترف في الواقعة السابقة على انها جناية (اعتداء مفضي الى عاهة مستديمة) وفق احكام المادة 412/2 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، فهل يمكننا الركون الى الوساطة الجنائية إذا ما قبلها الجاني والمجني عليه رغم كون الفعل جناية؟

المثال الثاني: لنفرض ان ذات المشجعين (أحمد و محمود) قد تشاجرا بعد المباراة وقد انهال (أحمد) دهما على (محمود) بالضرب فأوجعه ضرباً حتى خارت قواه، فاحضر (أحمد) آلة واخزة ففقع عين (محمود) محدثاً بذلك عاهة مستديمة. وتكيف هذا الفعل على انه جناية (اعتداء بقصد احداث عاهة مستديمة)، وفق احكام المادة 412/1 من القانون أعلاه، فهل يمكننا الركون الى الوساطة الجنائية إذا ما قبلها الجاني والمجني عليه رغم كون الفعل جناية؟

المثال الثالث: هو ذات المثال الأول مع اختلاف النتيجة، بأن أتت الصفعة على وجه المجني عليه فأحدثت إصابات لا تعجز المجني عليه عن القيام بأشغاله المعتادة مدة تزيد عن 20 يوماً، وتكيف هذا الفعل على انه جنحة (إيذاء بسيط-جريمة الاعتداء بأحداث اذى أو مرض) وفق احكام المادة 413/1 من القانون أعلاه ، فهل يمكننا الركون الى الوساطة الجنائية إذا ما قبلها الجاني والمجني عليه رغم كون الفعل جنحة؟

ان الإجابة على الأسئلة أعلاه لا تتطلب البحث في الأنظمة القانونية المقارنة التي اخذت بالوساطة الجنائية، بل ان الجواب الي نبتغيه جواب مبعثهُ الحس والموازنة والتقدير من قبل افراد أعضاء في هذا المجتمع الذي ارتكبت فيه هذه الجرائم، فكل منا يرق حاله للمجني عليه، وننفر ونبغض سلوك الجاني ونسعى لان ينال جزائه المقرر قانوناً لنعيش وذوينا آمنين. وقد نلتمس العذر- أحياناً- للجاني (المتهم) متى كانت الاقدار هي التي من القت به على مسرح الجريمة، دونما سابق موعد، ولا تصميم يكشفان عن خطورة إجرامية بداخلهٍ.

وإذا ما فعلنا ذلك؛ فأننا نعتقد ان الإجابات على الأسئلة السابقة تكون على النحو الاتي:

  • في المثال الأول: ليس هناك ما يحول دون اعمال الوساطة الجنائية اذا ما قبلها المجني عليه والمتهم.
  • في المثال الثاني: لا يسوغ اعمال الوساطة حتى وان طلبها الأطراف (المتهم و المجني عليه).
  • في المثال الثالث: ليس هناك ما يحول دون اعمال الوساطة الجنائية إذا ما قبلها المجني عليه والمتهم.

وبذلك فأن المثالين الأول والثالث تماثلا في إمكانية اعمال الوساطة بهما، في حين استعصى الثاني على ان يندرج تحتها. وبتمحيص الأمثلة السابقة نجد انها تنقسم وفق عدة معايير:

المعيار الأول: معيار العقوبة

المثال الاول المثال الثاني المثال الثالث
جناية جناية جنحة

المعيار الثاني: الخطورة الاجرامية

المثال الاول المثال الثاني المثال الثالث
خطورة إجرامية بسيطة خطورة إجرامية عاتية خطورة إجرامية بسيطة

إذاً فالمعيار الذي اتفقا فيه المثالين الأول والثالث، والذي قدرنا ملائمة الوساطة لإنهائهما هو معيار: الخطورة الاجرامية البسيطة أو المحدودة، وليس نوع الجريمة وفق التقسيم الثلاثي وفق معيار العقوبة.

مما تقدم نرى ان يكون المعيار في تحديد الجرائم محل الوساطة الجنائية هو الخطورة الاجرامية، والتي تعني “احتمال ارتكاب المجرم جرائم تاليه” (حسني، 1973، ص. 135)، ويعد هذا التعريف من أوجه التعاريف التي وضعت للخطورة الاجرامية ذلك لأنه قرن بين الخطورة والمجرم إذ أن الخطورة لا تكون إلا لدى المجرم . أو هي ” حالة نفسية تتكون لدى الشخص-المجرم- نتيجة عوامل داخلية وخارجية تجعلهُ أكثر ميلاً لارتكاب جريمة في المستقبل” (حبيب، 1980، ص. 32).

وقد يبدو للوهلة الأولى؛ ان الوقوف على مدى الخطورة الاجرامية يعد امراً عسيراً، ولكن هذا من الناحية النظرية المجردة فقط، ولكن بفحص الواقعة من الجهة القضائية المختصة (التحقيق أو الحكم) بقدر الرفق، واللين، واللطف، نجد أنه كم هو امر سهل يسير. خاصة وان المشرع العراقي قد بين لنا العوامل التي تستخلص منها هذهِ الخطورة. وهي مسائل واقعية او موضوعية تخضع الى تقدير جهة التحقيق أو الحكم حسب الأحوال.

الفرع الثالث

النطاق الاجرائي المقترح للوساطة الجنائية

قدمنا سابقاً الى ان الوساطة عملية رضائية تقوم على ادخال طرف ثالث (وسيط) ما بين المتهم والمجني عليه، يعمل على تقريب وجهات النظر والوصول الى تسوية عادلة ترضي جميع الأطراف وتحقق الغرض من الوساطة الجنائية، وسنتعرض بهذا الخصوص الى نقطتين الأولى تتعلق بوضع مقترح متعلق بالية اعداد واختيار الوسيط، والإجراءات المقترحة لسير الوساطة الجنائية وأثرها على الدعوى المدنية وعلى النحو الاتي:

اولاً: آلية اعداد واختيار الوسيط

يعد الوسيط حجر الزاوية في إتمام الوساطة الجنائية، ويمثل نجاح الوسيط في أداء دوره الدعامة الأهم لنظام الوساطة الجنائية (منصور، 2014، ص. 285).

وسيقتصر كلامنا هنا عن  الالية المقترحة لاعداد واختيار الوسيط، إذ نقترح ان يتم انشاء مركز وطني للوساطة الجنائية مرتبط بمجلس القضاء الأعلى- بموجب تعليمات يصدرها رئيس مجلس القضاء الأعلى- مهمته اعداد وتأهيل الوسطاء وفق دورات تدريبية معدة لهذه الغرض، وان تكون هذه الدورات بمثابة شرط لمنح إجازة أو ترخيص بممارسة مهنة – الوسيط الجنائي- وتهدف هذه الدورات الى انماء الجانب النفسي والحواري لدى المتقدمين كي يتمكنوا من المحاورة ومجاراة الحديث أثناء اجتماع الوساطة سواء مع الجاني أو المجني عليه، فيتدرب على كيفية الحوار مع المجني عليه لامتصاص غضبه، وسخطهُ، والسعي لتحديد مطالب ميسورة يتمكن الجاني من اتيانها وتنفيذها، وايضاً يتم تأهيله على كيفية إدارة الحوار مع الجاني موضحاً له سخط المجني عليه والمجتمع على ما اقترفت يداه، وانه حتى ينظم ثانيةً لمصاف المجتمع تارة أخرى عليه ان ينهض بتعويض المجني. وتمنح تلك الدورات للوسيط المهارات اللازمة لإدارة الاجتماع النهائي الذي يجمعه مع المتهم والمجني عليه والذي بنجاحه تتم الوساطة ويبرم اتفاقها.

ونقترح ان يكون المتقدم للدورة محامياً مسجل في نقابة المحامين له من الخبرة والممارسة مدة لا تقل عن 5 سنوات، وان يكون له مقر معلوم، على ان يخضع المتقدمون للمفاضلة وفق معايير منها مستوى الشهادة ومعدل التخرج والخبرة القانونية واي معيار آخر تنظيمي لغرض تحديد عدد المتقدمين لكل دورة. على ان يمارسون أعمالهم كل في محافظته، بعد تقديم طلب مرفق مع الترخيص الى رئاسة الاستئناف لغرض تقيدهم في سجلات خاصة بهم، بعد أدائهم اليمين امام رئيس محكمة الاستئناف بأن يؤدون عملهم بكل اخلاص وامانة. وتعطى نسخة من هذه السجلات الى جهات التحقيق والحكم.

ويشكل هؤلاء الوسطاء قطاعاً خاصاً-مكاتب وساطة خاصة- غير مرتبط باي جهة حكومية، إلا من حيث الاشراف والمتابعة الدورية النصف سنوية من قبل (المركز الوطني للوساطة الجنائية) المقترح، لمتابعة أعمالهم ومدى نجاحهم في حل النزاعات المحالة إليهم، لغرض تجديد إجازة الوساطة من عدمها. وكذلك يحق لمركز الوساطة الوطني ان يتدخل كلما شاب قصور في شرط من شروط منح الترخيص فيسحبه على الفور لانتفاء شروطه، لان شروط الوسيط لا تعد شروط ابتداء فحسب وانما شروط استمرار ايضاً فإذا تخلف أحدها وجب سحب الترخيص من الوسيط إذ أنه بات غير ذي اهل لأعمال الوساطة.

ونقترح ان تكون دورات الاعداد والتأهيل للمتقدمين على نفقتهم الخاصة أي تكون مقابل رسوم معينة، وذلك بهدف عدم تحمل الدولة لأعباء مالية، ومن اجل استثمارها في إقامة الندوات والمؤتمرات من قبل المركز الوطني للثقافة بهدف تعريف افراد المجتمع بأهمية ودور الوساطة في إنهاء الخصومات وإعادة الانسجام والسلم الاجتماعي.

ثانيا: إجراءات ونتائج الوساطة الجنائية (المقترحة)

سنتناول في هذا المحور عدة نقاط تتعلق إجراءات الوساطة، ونتائج الوساطة وأثرها على الدعوى الجزائية والمدنية، ومدة الوساطة، واتعاب الوسيط، وحسب التفصيل الاتي:

  1. إجراءات الوساطة:

نقترح هنا ان يكون اللجوء الى اعمال الوساطة بطلب أطراف النزاع مجتمعين (متهم، مجني عليه) وبموافقة جهة التحقيق أو المحكمة حسب الأحوال، أو على العكس باقتراح من الجهة القضائية المختصة وبموافقة أطراف النزاع. ويكون اللجوء للواسطة في أي مرحلة تكون عليها الدعوى قبل صدور حكم فاصل من محكمة الموضوع.

بعد ذلك يرسل قاضي التحقيق أو المحكمة بحسب الأحوال صورة من اوراق القضية لمكتب الوساطة المختار من قبل الأطراف أو الذي تختاره الجهة القضائية في حال عدم اختيار الأطراف لمكتب الوساطة. وهنا يدعو الوسيط أطراف النزاع لتبدأ مراحل الوساطة كافة والتي تنتهي بأحد الفرضين:

الفرض الاول: فشل الوساطة (عدم الوصول الى اتفاق)

ففي هذه الحالة على الوسيطان يرسل للجهة القضائية المختصة (تحقيق أو حكم) تقريراً يضمن فيه أن الوساطة فشلت في إيجاد حل للنزاع بين أطراف النزاع، موضحاً تداعيات وأسباب هذا الفشل، ونفضل ان لا يشير الى أسباب الفشل الراجعة الى المتهم ضماناً لعدم تكون حكم مسبق لدى الجهة القضائية قبل المتهم (المانع، 2006، ص. 71).

 

الفرض الثاني: نجاح الوساطة وتنفيذ الاتفاق

ففي هذهِ الحالة تنتهي مهمة الوسيط متوجة بالنجاح، وعلى الوسيط كذلك ان يرسل تقريره النهائي الى قاضي التحقيق أو المحكمة بحسب الاحول، مبيناً فيه الاتفاق الذي توصل اليه رفقة أطراف النزاع، وانه تم تنفيذه بالفعل وبمقتضى ذلك تنقضي الدعوى الجزائية أي ان يصدر عن قاضي التحقيق أو المحكمة قراراً برفض الشكوى. بعد التأكد من تنفيذ اتفاق الوساطة من قبل الطرفين.

اما عن تأثير نجاح الوساطة على الدعوى المدنية، فنرى ان يسقط حق المجني عليه في إقامة دعوى مدنية، وذلك لان اتفاق الوساطة في مضمونه يشمل تعويض المجني عليه عن الضرر الذي لحق به من الجريمة المقترفة، وعليه يكون إقامة الدعوى المدنية تكراراً للمطالبة بتعويض سبق وان حصل عليه المجني عليه. لذا نقترح ان يكون اتفاق الوساطة المنفذ بمثابة تنازلاً عن الدعوى المدنية.

  1. مدة الوساطة

نرى انه في حالة تبني نظام قانوني للوساطة ان يقوم المشرع بتحديد مدة معينة ينتهي خلالها عمل الوسيط يسعى خلالها رفقة الأطراف الوصول الى اتفاق لإنهاء النزاع. وهذه المدة يجب ان تكون معتدلة فليست بالمدة الطويلة إذ يطول معها النزاع وليست بالقصيرة التي تجعل من الوساطة مجرد إجراء لا فائدة منه، ونرى ان تكون 30 يوماً قابلة للتمديد لمرة واحدة بقرار من الجهة القضائية المختصة بناءً على طلب الأطراف، إذا لمست جدوى في ذلك وذلك على ضوء التقرير الذي يرسله لها الوسيط فور إنتهاءً مدة الثلاثون يوماً.

  1. اتعاب الوسيط: نقترح ان يكون مبلغ الوساطة محدد سلفاً-بموجب تعليمات- ويدفع نصفه مقدماً للوسيط من قبل خزينة الدولة وفي حالة نجاح الوساطة يسلم النصف الاخر، على ان ترجع المحكمة بما انفقته على الوساطة على المتهم والمجني عليه بالتساوي لانهما أصحاب المصلحة من اتفاق الوساطة، مالم يتفقا اثناء الوساطة على تحمل المتهم كافة التكاليف. أخيراً نرى ان يكون من حق مكاتب الوساطة الاستعانة بخبير كطبيب لتحديد مدة أو تكاليف العلاج مثلاً أو باحث اجتماعي أو مختص نفسي أو غيرهم وان يعتبر عملهم هذا داخلاً ضمن وظيفتهم التي يشغلونها في دوائر الدولة إلا إذا اقتضى الامر العمل خارج أوقات الدوام الرسمي فيكون تكاليف ذلك ضمن مبلغ الوساطة ويراعى ذلك في تحديد مبلغ اتعاب الوساطة.

 

الخاتمـة:

مما تقدم قدمنا خلاصة معمقة عن موضوع الوساطة الجنائية ودورها في إنهاء النزاعات الجنائية كبديل عن الدعوى الجزائية، وقد توصلنا إلى الاستنتاجات والمقترحات الآتية:

أولاً: الاستنتاجات:

  1. خلصنا الى تعريف الوساطة الجنائية بانها وسيلة بديلة عن الدعوى الجزائية تلجأ اليها السلطة المختصة (جهة التحقيق أو الحكم بحسب الاحوال) بعد موافقة أطراف النزاع (المجني عليه، المتهم) وذلك وفق اعتبارات الملائمة المستمدة من خطورة الجريمة وخطورة المتهم، من اجل تسوية ودية لأثار الجريمة عن طريق تدخل شخص ثالث – وسيط- فتنقضي بها الدعوى الجزائية.
  2. تسهم الوساطة الجنائية في التخفيف من أزمة العدالة الإجرائية الجنائية بما توفره من تقليل النفقات التي تنفق في سبيل إنهاء الدعوى الجزائية والتقليل من تكدس القضايا على كاهل المحاكم بالإضافة إلى أنها تخلق دورا هاماً للمجني عليه في إنهاء الدعوى الجزائية.
  3. تمثل الوساطة الجنائية صورة جديدة للعدالة الجنائية تدعم العدالة التقليدية وتعضدها في مهمتها في مكافحة الجريمة، وهي تستند الى فكرة فلسفية بسيطة مفادها أنهُ لا يوجد شخصان لا يتفاهمان، ولكن يوجد شخصان لم يتناقشا.
  4. لا تمثل الوساطة الجنائية تجاوزاً على السلطة القضائية، ذلك لان الوساطة الجنائية تجري تحت اشراف السلطة القضائية، جهة التحقيق أو الحكم بحسب الأحوال، فهي التي تُحيل الخصومة الى الوساطة وفق اعتبارات الملائمة ابتداءً، ولها مطلق الحرية في اعتماد نتائج اتفاق الوساطة أو رفضها حسب اعتبارات الملائمة ووفق أغراض الوساطة.
  5. تتباين التشريعات التي أخذت بالوساطة الجنائية في تحديد الجرائم محل الوساطة، فنجد أن البعض منها اتخذ المعيار الحصري للجرائم كالتشريعين التونسي والجزائري إذ حددا على سبيل الحصر الجرائم الجائز تطبيق الوساطة فيها، ونجد أن تشريعات أخري اتخذت بمعيار القاعدة العامة (الوصفي) لتحديد النطاق الموضوعي للوساطة بأن وضع المشرع شروطا في الجرائم الجائز مباشرتها بالوساطة كالقانون البلجيكي، والبرتغالي، وأن تشريعات أخري وضعت ضوابط تهتدي بها الجهة القضائية المختصة إذ ما لجأت للوساطة الجنائية كالمشرع الفرنسي. وخلصنا الى أن المعيار الوصفي هو الأنفع في تطبيق الوساطة الجنائية؛ لأن الوساطة الجنائية تهدف إلى سرعة إنهاء الجرائم المرتكبة من مبتدأ في الإجرام، وذات الضرر البسيط القابل للتعويض والواقعة بين أطراف تربطهم علاقة تسبقها، وهي جميعها أمور واقعية تتصل بملابسات الجريمة وأشخاصها وهو الأمر الذي يستعصي على المشرع إدراكه وفق بيان المعيار الحصري.

ثانياً: التوصيات:

  1. ندعو المشرع الى التوسع في تبني بدائل للدعوى الجزائية التي تطبق في الخصومات التي لا تستوجب انهائها عبر إجراءات الدعوي الجزائية. كي تتفرغ ساحات المحاكم للخصومات الجنائية المهمة. فتحد من أزمة العدالة الجنائية الإجرائية وكذلك تجنب المساوئ الناجمة عن الإفراط في تطبيق العقوبات المقيدة للحرية قصيرة المدة.
  2. نتمنى على المشرع وضع نظام قانوني للوساطة الجنائية يبين فيه النطاق الموضوعي قوامه الاخذ بالمعيار الوصفي في تحديد الجرائم محل الوساطة، وان يرتب على الوساطة الجنائية انقضاء الدعوى الجزائية بعد موافقة الجهة القضائية المختصة-تحقيق أو حكم- بحسب الأحوال وبعد التأكد من تحقيق أغراض الوساطة الجنائية.
  3. العمل على ترويج ثقافة العدالة التصالحية بين افراد المجتمع عموماً وبين المشتغلين بالسلك القضائي خاصةً، ويقع ذلك على عاتق كليات القانون وبالتعاون مع منظمات المجتمع المدني من خلال عقد دورات وندوات تثقيفية للتعريف بأهداف ومزايا العدالة التصالحية.
  4. ضرورة وضع منهاج علمي بخصوص بدائل الدعوى الجزائية ومنها الوساطة الجنائية يتم تدريسه في كليات القانون في الجامعات العراقية، وذلك بقصد اعداد مختصين في هذا المجال توكل لهم مستقبلاً مهمة الوسطاء مثلما هو معمول به في الدول التي اعتمدت هذا النظام.

‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ

 

المصادر:

القران الكريم.

  1. إبراهيم، مدحت محمد عبد العزيز. (2004). الصلح والتصالح في قانون الإجراءات الجنائية (ط1). القاهرة: دار النهضة العربية.
  2. أنور، إيهاب يسر. (2000). بدائل الدعوى الجزائية-دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية.
  3. أنور، إيهاب يسر. (2000). البدائل العقابية في السياسة الجنائية المعاصرة. القاهرة: دار النهضة العربية.
  4. بابصيل، ياسر بن محمد سعيد. (2011). الوساطة الجنائية في النظم المعاصرة-دراسة تحليلية (رسالة ماجستير). كلية الدراسات العليا، جامعة نايف للعلوم الأمنية.
  5. براك، احمد محمد. (2009). العقوبة الرضائية في الشريعة الإسلامية والأنظمة الجنائية المعاصرة-دراسة مقارنة (أطروحة دكتوراه). كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
  6. البعلبكي، مزي منير. (2013). المورد الحديث (ط1). بيروت: دار العلم للملايين.
  7. جرادات، ادريس محمد (2014)، الصلح العشائري وحل النزاعات، نابلس: جامعة النجاح الوطنية.
  8. جلال، محمود طه. (2004). أصول التجريم والعقاب في السياسة الجنائية المعاصرة – دراسة مقارنة (أطروحة دكتوراه). كلية القانون، جامعة عين شمس.
  9. حبيب، محمد شلال. (1980). الخطورة الاجرامية-دراسة مقارنة(ط1). بغداد: دار الرسالة للطباعة.
  10. حسب الله، سعيد. (1990). شرح قانون اصول المحاكمات الجزائية. الموصل: دار الحكمة للطباعة والنشر.
  11. حسني، محمود نجيب. (1973). علم العقاب. القاهرة: دار النهضة العربية.
  12. حسني، محمود نجيب. (1998). شرح قانون الإجراءات الجنائية (ط3). القاهرة: دار النهضة العربية.
  13. الحكيم، محمد حكيم حسين. (2002). النظرية العامة للصلح وتطبيقاتها-دراسة مقارنة (أطروحة دكتوراه). كلية الحقوق، جامعة عين شمس.
  14. دريسي، جمال. (2013). بدائل إقامة الدعوى العمومية. حوليات جامعة الجزائر، (24)، 43-68.
  15. الرازي، زين الدين محمد بن أبي بكر. (1999). مختار الصحاح (ج1، ط5). بيروت: المكتبة العصرية – الدار النموذجية.
  16. رمضان، مدحت عبد الحليم. (2000). الإجراءات الموجزة لإنهاء الدعوى الجزائية في ضوء تعديلات قانون الإجراءات الجنائية-دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية.
  17. الزهيري، معتز السيد. (2017). الوساطة كبديل عن الدعوى الجزائية-دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية.
  18. سرور، احمد فتحي. (1983). بدائل الدعوى الجزائية. مجلة القانون والاقتصاد، 205-243.
  19. سرور، أحمد فتحي. (1996). الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية. القاهرة: دار النهضة العربية.
  20. سرور، أحمد فتحي. (1996). الوسيط في قانون العقوبات (ط.6). القاهرة: دار النهضة العربية.
  21. سرور، أحمد فتحي. (2000). الحماية الدستورية للحقوق والحريات (ط.2). القاهرة: دار الشروق.
  22. سرور، أحمد فتحي. (2002). القانون الجنائي الدستوري (ط.2)، القاهرة: دار الشروق.
  23. الشكري، عادل يوسف. (2011)، الوساطة الجزائية وسيلة مستحدثة وبديلة لحل المنازعات الجنائية. مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية، (9)، 58-143.
  24. شلهوب، نادرة. والباقي، مصطفى عبد. (2003). القضاء والصلح العشائري وأثرهما على القضاء النظامي في فلسطين: معهد الحقوق.
  25. صدقي، أنور محمد. وزغلول، بشير سعد. (2009). الوساطة في إنهاء الخصومة الجنائية-دراسة تحليلية مقارنة. مجلة الشريعة والقانون، (40)، 272-294.
  26. عبد الحميد، أشرف رمضان. (2004). الوساطة الجنائية ودورها في إنهاء الدعوى العمومية-دراسة مقارنة (ط1). القاهرة: دار النهضة العربية.
  27. عبد اللطيف، براء منذر كمال. (2009). شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية (ط2). الموصل: دار ابن الاثير للطباعة والنشر.
  28. عبيد، أسامة حسنين. (2005). الصلح في قانون الإجراءات الجنائية ماهيته والنظم المرتبطة به- دراسة مقارنة (ط.1) القاهرة: دار النهضة العربية.
  29. عطية، حمدي رجب. (1990). دور المجني عليه في إنهاء الدعوى الجزائية (أطروحة دكتوراه). كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
  30. العكيلي، عبد الأمير. وحربة، سليم إبراهيم. (1988). أصول المحاكمات الجزائية (ج 1). بغداد: المكتبة الوطنية.
  31. عوض، عوض محمد. (2002). المبادئ العامة في قانون الإجراءات الجنائية. الإسكندرية: منشأة المعارف.
  32. فاروق، ياسر الأمير. (2010). تقادم العقوبة في الفقه الجنائي المعاصر(ط1). الإسكندرية: دار الجامعية الجديدة.
  33. الفاروقي، حارث سليمان. (د.ت.). المعجم القانوني (ط5). بيروت: مكتبة لبنان.
  34. الفتلاوي، صلاح هادي. (2008). الخطورة الاجرامية وأثرها في تحديد الجزاء الجنائي (أطروحة دكتوراه). كلية القانون، جامعة بغداد.
  35. فرج، محمد عبد اللطيف. (2013). السياسة الجنائية المعاصرة ” واتجاهات تطوير القانون الجنائي ودعم التعاون الدولي(ط1). القاهرة: مطابع الشرطة.
  36. القاضي، رامي متولي. (2010). الوساطة في القانون الجنائي الاجرائي المقارن(ط1). دار النهضة العربية، القاهرة: دار النهضة العربية.
  37. القاضي، رامي متولي. (2011). اطلالة على أنظمة التسوية في الدعوى الجزائية في القانون الفرنسي (ط 1). القاهرة: دار النهضة العربية.
  38. المانع، عادل علي. (2006). الوساطة في حل المنازعات الجنائية. مجلة الحقوق، (4)، 35-80.
  39. المجالي، هشام مفضي. (2008). الوساطة الجزائية “وسيلة غير تقليدية في حل النزاعات الجزائية” – دراسة مقارنة (أطروحة دكتوراه). كلية الحقوق، جامعة عين شمس.
  40. محمد، مازن مرسول. (2008) سويسيولوجيا الازمة؛ المجتمع العراقي أنموذجاً-دراسة نظرية (أطروحة دكتوراه). كلية الآداب، جامعة بغداد.
  41. المفتي، حيدر نجيب احمد. (2012). التجريم والعقاب في قانون ضريبة الدخل العراقي النافذ -دراسة تحليلية. مجلة ديالى للبحوث الإنسانية، (54)، 1-64.
  42. منصور، ايمان مصطفى. (2010). الوساطة الجنائية-دراسة مقارنة (أطروحة دكتوراه). كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
  43. منصور، ايمان مصطفى. (2011). الوساطة الجنائية-دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية..
  44. نايل، إبراهيم عب (2001). الوساطة الجنائية طريقة مستحدثة في إدارة الدعوى الجزائية دراسة في النظام الاجرائي الفرنسي. القاهرة: دار النهضة العربية.
  45. نزال، دريد وليد. و الحيدري ، جمال ابراهيم. (2021). الأمر الجزائي ودوره في إنهاء الدعوى الجزائية- دراسة مقارنة مجلة العلوم القانونية،4(35)،1-41.

https://doi.org/10.35246/jols.v35i4.355

  1. نصر الدين، عمران. والطاهر، عباسة. (2017). الوساطة الجزائية كبديل للدعوى الجزائية. مجلة الحقوق والعلوم الإنسانية، 10(1)، 145-161.
  2. الوردي، علي حسين. (2005). دراسة في طبيعة المجتمع العراقي (ط1). قم: منشورات سعيد بن جبير.
  3. Schmitt, Bonafê. (1998). La médiation pénale en France et aux États-Unis, coll. « Droit et Société. Recherches et Travaux ».
  4. Davis, Gwynn. (1992). Mediation and reparation in criminal justice( first published)., London and New York: Routledge .
  5. Faget, (1993) . La médiation pénale : une dialectique de l’ordre et du désordre. Déviance et société, 17( 3). 47-68.
  6. Gerarda, Jennifer Brown. (2004). The Role of Apology in Negotiation. Marquette Law Review, 87 (4), 72-103.
  7. (1988). Le consensualisme en droit pénal compare Mélanges Edurdo Correia Boletim da facultade di direito de Coimbra.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *