م.د.صابرين يوسف عبد الله الحياني

دكتوراه قانون عام/ قانون جنائي

كلية القانون / جامعة البيان – بغداد / العراق

sabreen.yoseif@albayan.edu.iq

009647712384610

الملخص:

          تعد الخصوصية الرقمية من الحقوق الأساسية للأفراد، وهي صورة مستحدثة للحق في الخصوصية ظهرت نتيجة للتطورات التقنية التي صاحبت الحياة الحديثة، إذ أصبحت غالبية تعاملات الأفراد تجري إلكترونيا وما يتبع ذلك من تجميع للبيانات الشخصية في الأنظمة المعلوماتية، فضلا عما تتضمنه وسائل الاتصال الإلكتروني من صور ومحادثات وتسجيلات شخصية يحرص أصحابه على كتمانها وعدم الإطلاع عليها من قبل الغير، وهذا التطور أدى إلى تعريض خصوصيات الفرد للخطر، وذلك بالنظر لسهولة خرق النظام ألمعلوماتي وإساءة استعمال تلك البيانات من قبل الجناة، وقد يسيء موظفي النظام أنفسهم استعمال تلك البيانات لتحقيق منافع شخصية أو لغرض الانتقام، خاصة أن النصوص الجزائية النافذة لا تحقق حماية كافية لهذه الخصوصية، وهو ما يكشف عن مدى الحاجة إلى تدخل تشريعي بإصدار قانون جزائي يعاقب على المساس بالخصوصية الرقمية، ويضمن حق الأفراد في حرمة حياتهم الخاصة.

كلمات مفتاحية: حق، خصوصية، رقمية، انتهاك، حماية، جزائية.

 

Criminal protection of the human right to digital privacy

Lect. Dr Sabreen Yousif Abdullah Al-Hayani

PhD in public law/ Criminal Law

Al-Bayan University

College of Law

 

Abstract:

Digital privacy is one of the important rights of individuals, and it is a modern form of the right to privacy that emerged as a result of the technical developments that accompanied modern life, as the majority of individuals’ transactions have become electronic and that lead to a collection of personal data in information systems, In addition to what is included in the electronic means of communication such as photos, conversations and personal recordings, whose persons are keen to keep them secret and not to be viewed by others, and this development has led to endangering the privacy of the individual, because the ease of breaching the information system and misuse of that data by the perpetrators, and the system employees themselves may misuse that data to achieve personal benefits or for revenge. Especially since the current penal provisions do not provide sufficient protection for this privacy. This reveals the need for legislative intervention by issuing a penal law that punishes violating digital privacy and guarantees the right of individuals to the sanctity of their private lives.

Keywords: right, privacy, digital, violation, protection, penal.

 

المقدمة:

أن حقوق الفرد كانت ولازالت تشكل محلا لكثير من صور الانتهاكات التي ترتكب من قبل الغير ،وسواء أكانت تلك الانتهاكات تمس الحقوق الشخصية اللصيقة بالكيان البدني والاعتبار المعنوي للفرد كالحق في الحياة وسلامة الجسد والحق في الاحتفاظ بالأسرار والخصوصيات بعيدا عن تلصص الغير،أم كانت تمس الحقوق المالية له، وكل منها له أهمية لا تقل شأنا عن الآخر، وقد ساهمت التطورات الكثيرة الحاصلة في مجال تقنيات المعلوماتية -رغم ما فيها من ايجابيات- في زيادة تلك الانتهاكات من ناحيتي الكم والنوع، وأصبح الأفراد ولاسيما محدودي الثقافة في مجال الأمن السيبراني عرضة لهجمات عديدة من قبل مجرمي المعلوماتية، وهي ترتكب في الغالب لتحقيق غايات متعددة وفي مقدمتها الجوانب المالية، وما يهمنا في هذه الدراسة هي الانتهاكات التي تمس خصوصيات الفرد، والتي يعبر عنها بالخصوصية الرقمية.

إشكالية البحث:

أن تطور تقنية المعلومات أدى إلى ولوجها في مجالات الحياة كافة وأصبحت تعتمد في تقديم الخدمات وتيسير الأمور اليومية للأفراد، وأن إتمام تلك الخدمات يتطلب إدخال بيانات شخصية تتعلق بالفرد، وهذه الخدمات تقدم على المستويات الاجتماعية والتعليمية والصحية والاقتصادية وغيرها، وأصبحت تلك التقنيات تضم الكثير من المعلومات التي تتعلق بخصوصيات الأفراد التي يحرصون على كتمانها وعدم إطلاع الغير عليها، وتظهر الإشكالية عندما يلجأ الغير إلى التدخل في تلك الخصوصيات، وذلك عبر ولوجه النظام ألمعلوماتي سواء بصورة مشروعة بحكم عمله الوظيفي أو غير مشروعة عبر اختراق النظام، والإطلاع على تلك البيانات الشخصية ونشرها للغير بدون وجه حق، ومع عدم وجود نصوص صريحة تعاقب على الفعل وتحد منه، نجد أن التعدي على الخصوصية الرقمية تتزايد خطورته كما ونوعا، وتجعل حقوق الأفراد وحرياتهم محلا للإساءة دون رادع، وبالنظر لأهمية استعمال التقنيات الحديثة في تقديم الخدمات وتسيير المعاملات اليومية، فأن الوضع يتطلب تدخلا تشريعيا لتوفير بيئة آمنه لخصوصيات الأفراد.

أهمية البحث وهدفه:

تظهر أهمية هذا البحث في كونه يسعى إلى تسليط الضوء في أهم حق من الحقوق الأساسية للأفراد والذي ورد النص عليه في الوثيقة الدستورية لكثير من الدول، وهو الحق في الخصوصية، وبالتحديد الخصوصية الرقمية التي ظهرت على أثر التطورات التكنولوجية التي اجتاحت الحياة العامة والخاصة للأفراد، وباتت تهددهم في كل ما يحرصون على كتمانه، ويهدف هذا البحث إلى توفير الحماية الجزائية للحق من الاعتداءات التي تنال منه، وذلك عبر استقراء التشريعات المقارنة للوقوف على أوجه ما تقرره من حماية له لغرض الاستفادة منها في صياغة نصوص عقابية تكفل الحد من المساس به.

حدود البحث:

سنبحث موضوع الخصوصية الرقمية في نطاق التشريعات الغربية والعربية، وسنتحدد بالقانونين الفرنسي والأمريكي من ناحية التشريعات الغربية، ومن ناحية التشريعات العربية سنتحدد في كل من القانون التونسي الأساسي لحماية المعطيات الشخصية ذي العدد (63) لسنة (2004)، ومرسوم القانون الإماراتي لمكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم (5) لسنة (2012)، والمرسوم التشريعي السوري رقم (17) لسنة (2012)، وقانون جرائم تقنية المعلومات البحريني رقم (60) لسنة (2014)، فضلا عن التشريع العراقي.

الدراسات السابقة:

          ومن الدراسات السابقة الباحثة في هذا الموضوع دراسة (مفيدة مباركية) بعنوان “الحماية الجنائية للحق في الخصوصية الرقمية”، وهدفت الدراسة إلى بيان فيما إذا كانت النصوص الخاصة بحماية الخصوصية في القانون الجزائري كافية لتشمل الخصوصية الرقمية أم أنها بحاجة لنصوص جديدة، وتوصلت إلى أن تطبيق تلك النصوص لا يمكن أن يوفر الحماية الكافية للخصوصية الرقمية، وأن المشرع الجزائري بحاجة إلى تشريع قانون خاص لحمايتها، ودراسة (عماد الدين بركات ود.حورية) بعنوان “الحماية الجنائية للحق في الخصوصية المعلوماتية”، وهدفت إلى بيان الآثار القانونية المترتبة على المساس بالخصوصية، ومدى كفاية الحماية المقررة لها؟ واعتمدت على المنهجين التحليلي والمقارن، وتوصلت عبرهما إلى أن الخصوصية تعد من الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية، وأن الجريمة المعلوماتية تعد أكبر انتهاك للحق في الخصوصية، وأنها لا تعترف بالحدود المكانية ولا الزمنية، ولا تحتاج عنفا ويصعب تحديد أضرارها، فضلا عن عدم كفاية قانون العقوبات للتصدي لها، وبينت أن المشرع الجزائري سعى إلى تعديل قانون العقوبات بالقانون رقم (04-15) لسنة 2004، وأضاف قسما جديدا تحت عنوان (المساس بأنظمة المعالجة الآلية للمعطيات)، كذلك استحدث إجراءات جديدة للتحقيق تتلاءم مع طبيعة هذه الجريمة بالقانون ذي العدد (09-04) لسنة 2009.

منهجية البحث وتقسيمه: 

سنعتمد في دراسة إشكالية البحث على كل من المنهجين الاستقرائي والمقارن كونهما المنهجين الأنسب في معالجة الموضوع، إذ سنقوم باستقراء نصوص التشريعات المقارنة في بعض الدول الغربية والعربية، للتعرف على الكيفية التي تصدت بها للانتهاكات التي تمس بالخصوصية الرقمية، وللتعرف على هذا الموضوع سنقوم بتقسيمه إلى ثلاثة مباحث: الأول نوضح فيه ماهية الحق في الخصوصية الرقمية، وذلك بتعريفه وبيان طبيعته في مطلبين اثنين، والثاني نتطرق فيه إلى بيان محل الحماية الجزائية للحق في الخصوصية الرقمية ومظاهر المساس به، وذلك في مطلبين اثنين، والثالث سيخصص للحماية الجزائية في التشريعات المقارنة، وسنتعرض للحماية الجزائية في التشريعات الغربية في المطلب الأول، والتشريعات العربية في المطلب الثاني، ثم نختتم الدراسة بأهم ما توصلنا إليه من نتائج ومقترحات.

المبحث الأول

ماهية الحق في الخصوصية الرقمية

سنخصص هذا المبحث للتعرف على الحق في الخصوصية الرقمية، وسنبين أولا تعريف هذا الحق للوقوف على ما إذا كان هنالك تعريفا جامعا مانعا له سواء على المستوى الفقهي أم القضائي أم التشريعي، ثم نتطرق إلى بيان طبيعته لمعرفة ما إذا كان يعد من حقوق الملكية أم غيرها، وذلك في ضوء المطلبين الآتيين:

المطلب الأول

تعريف الحق في الخصوصية الرقمية

أن مصطلح “الحق في الخصوصية” أو ما يسمى “الحياة الخاصة” يعد من المصطلحات الغامضة التي يصعب وضع تعريف جامع مانع لها على المستويات الفقهية والقضائية والتشريعية، نظرا لاختلاف مضمون هذا المصطلح ونطاقه من شخص لآخر، ومن المحاولات الفقهية التي سعت إلى تعريفه نجد محاولة”معهد القانون الأمريكي” الذي سعى إلى تعريف هذا الحق عبر المساس فيه (ويعد من أشهر التعريفات الفقهية) بأنه “كل شخص ينتهك بصورة جدية وبدون وجه الحق حق شخص آخر في ألا تصل أموره وأحواله إلى علم الغير، وألا تكون صورته عرضة لأنظار الجمهور، يعد مسؤولا أمام المعتدى عليه”، وعرف الفقه الفرنسي الخصوصية أو الحياة الخاصة “بأنها الحياة العائلية والشخصية والروحية للإنسان عندما يعيش وراء بابه المغلق، أو هي الحق في استبعاد الآخرين عنها واحترام طبيعته الشخصية، والحق في أن يعيش في سلام”، (خراشي 2015، ص 12-13) وهذا المصطلح “الحق في الخصوصية” أشار إليه “لبرنديس ووارن” في مقال له نشره في مجلة “هارفارد الحقوقية” في الولايات المتحدة عام (1890)، (مباركية 2021، ص560)، وهو أحد الحقوق اللصيقة بشخصية الإنسان ولا يمكن أن نحصرها على نحو يميزها عن ما يعد من الحياة العامة، وهذا الحق مرّ بثلاثة مراحل تاريخية هي الخصوصية: المادية، المعنوية وخصوصية المعلومات، (عدنان 2013، ص 429) وتتمثل الأولى بالاعتراف للإنسان بحقه في حماية جسده وممتلكاته من الاعتداءات المادية، والثانية بحماية القيم المعنوية له، والثالثة بحماية الإنسان من أوجه الاعتداءات التي تمس حياته بجوانبها المختلفة أيا كان مظهر هذا الاعتداء أو طبيعته، فالخصوصية هنا هي حق عام يحمي الإنسان من كل شيء، وفي نطاق هذا النوع ظهر مفهوم جديد للخصوصية وهي خصوصية المعلومات أو حماية البيانات الشخصية في ظل العصر الرقمي وتحدياته. (لامي 2017، ص12)

وهذا المفهوم الجديد للخصوصية المسمى بـ”الحق في الخصوصية الرقمية” أو “خصوصية المعلومات” ظهر كنتيجة لظهور أجهزة الحاسوب وولوجها في مجالات الحياة كافة، وما تسبب فيه من تزايد في الاعتداءات على الحريات الشخصية بصور جديدة وأنماط متعددة، فنشأ هذا الحق كرد فعل لحماية حقوق الفرد وحرياته من تلك الانتهاكات، علما أن ما يمس حقوق الأفراد وحرياته ليس الحاسوب بذاته لأنه أداة محايدة بطبيعتها وإنما الاستعمال غير المشروع له، وهو ما افرز الحاجة لوجود نظام قانوني يحمي البيانات الشخصية وينظم استعمالها خاصة وأن القواعد النافذة لا يمكن أن تحمي تلك البيانات، وبالتحديد البيانات المتعلقة بالاسم واللقب والهاتف والإقامة والوضع الاجتماعي وغيرها من البيانات التي لا يرغب في إطلاع الغير عليها، إذ إنها لا تتعلق بالسمعة والشرف كي يتم دمجها ضمن النصوص التي تحمي الشرف والاعتبار، كما لا يمكن حمايتها وفقا للقواعد المتعلقة بالسر المهني، لكون المعلومات المخزنة بالحاسوب يصل إليها الكثير من الموظفين والمستخدمين؛ لذا لا ينطبق عليها وصف المعلومات السرية. (نسمة 2019، ص62-63)

وهذه الصورة المستحدثة للحق في الخصوصية ظهرت على أثر الدراسات القانونية التي انطلقت في الستينيات والسبعينيات، وتوجهت نحو الاهتمام بالخصوصية وحماية حقوق الإنسان في ضوء التطورات التقنية، وبالتحديد خصوصية المعلومات الإلكترونية التي تناولتها كمفاهيم مستقلة عن مفاهيم الخصوصية الأخرى، وأول من كتب في هذا الموضوع هو الفقيه الأمريكي “آلان واستن” عام (1967) في مؤلفه “الخصوصية والحرية”، وعرفها بأنها “حق الأفراد في تحديد متى وكيف وإلى أي مدى تصل المعلومات عنه للآخرين”، والفقيه الأمريكي “ميلير” في مؤلفه “الاعتداء على الخصوصية” عام (1971)، وذهب هذا الفقيه في تعريفها بشكل أعمق من الفقيه الأول بقوله “أنها قدرة الأفراد على التحكم بدورة المعلومات التي تتعلق بهم”، وفي عام (1994) قام الفقيه “مايكل جيمس” تحت إشراف اليونسكو بإجراء دراسة بعنوان “الخصوصية وحقوق الإنسان”، وهي واحدة من أوسع الدراسات التي أجريت في موضوع الخصوصية وحقوق الإنسان في ظل التطورات التقنية، وتطرق فيها إلى الصعوبات والاختلافات الثقافية حول استعمال مصطلح الخصوصية واختلاف مفهومها القانوني بين النظم القانونية، كما عرفت خصوصية المعلومات بأنها “حق الفرد على بياناته الشخصية أو البيانات ذات الطبيعة الشخصية مما يسمح بمواجهة الاعتداءات الواقعة عليها، وتنظيم الحق على البيانات الشخصية وسيطرة صاحبها عليها”، (جدي 2018، ص126)  وهي أيضا “حق الفرد في أن يضبط عملية جمع المعلومات الشخصية عنه، وعملية معاملتها آليا، وحفظها، وتوزيعها، واستخدامها في صنع القرار الخاص به أو المؤثر فيه”، (عدنان 2013، ص433) أما على المستوى التشريعي فنجد تعريفا  لها في المرسوم السوري لسنة 2012 الذي عرفها في المادة الأولى بأنها “حق الفرد في حماية أسراره الشخصية والملاصقة للشخصية والعائلية ومراسلاته وسمعته وحرمة منزله وملكيته الخاصة وفي عدم اختراقها أو كشفها دون موافقته” (المرسوم التشريعي بشأن تطبيق أحكام قانون التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية السوري 2012)

المطلب الثاني

طبيعة الحق في الخصوصية الرقمية

أنقسم الفقه والقضاء بشأن الطبيعة القانونية للحق في الخصوصية إلى قسمين: الاتجاه التقليدي: وهو يعد حق الخصوصية حق ملكية، والاتجاه الحديث: وهو يعده من الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية، بالنسبة للاتجاه الأول فأنه استند في توجهه هذا إلى أن للإنسان حق ملكية على جسده وصورته، إذ يمكن له أن يستعمله أو يستغله أو يتصرف فيه، فهو أقوى الحقوق العينية ويخول المالك كل السلطات الممكنة على حقه، وذلك يعني -طبقا لهذا الاتجاه- أن الإنسان يملك حق التصرف والاستعمال والاستغلال لحقوقه المتصلة بشخصه سواء من جسد أو صور أو أسرار؛ كونها من الحقوق المتفرعة عن الملكية، وتبعا لذلك فأن هذه السلطات المطلقة التي تخول للمالك تعد الضمانة الأكبر لتحقيق أكبر حماية لصاحب الحق، إذ إن من يتعرض لأي اعتداء يستطيع أن يسلك طريق القضاء دون أن يضطر لإثبات الضرر المادي أو المعنوي؛ وذلك استعمالا لحق المالك على ملكه، ومن ثم يستطيع أن يوقف أي اعتداء على حياته الخاصة، وبرر هذا الاتجاه رأيهم بأن حق الملكية هو أقدس الحقوق، ومن ثم فأنه يعد الوسيلة الأنجع في حماية حق الخصوصية، ونشأة هذه الفكرة بدايةً بشأن موضوع الحق في الصورة، ثم عمم لاحقا ليشمل الحق في الخصوصية، إذ بما أن الصورة جزء لا يتجزأ من الجسد وأن للإنسان على جسده حق ملكية، فأن هذا الأخير يمتد إلى الحق في الصورة أيضا، فالسائد لدى هذا الفقه أن للإنسان حق الملكية على جسده، وأن شكله جزء من هذا الجسد، وأن الصورة لا تعدو أن تكون تجسيدا للشكل، ووفقا لذلك فأن حق الملكية أمتد وشمل الحق في الخصوصية بمختلف مظاهره، وكذلك الحال بالنسبة للمراسلات، إذ عدّ هذا الاتجاه -ومن أجل حماية سريتها- بأن للمرسل حق ملكية على الرسالة منذ تسلمها، وله وحده الانتفاع أو التصرف بها تحت قيد عدم المساس بحق الخصوصية للمرسل، وخلاصة هذا الاتجاه أن للإنسان حق ملكية على حياته الخاصة، وهذا الحق يمتد ليشمل كل ما يتعلق بالشخصية من جوانبها المختلفة كونها متفرعة عن حق الملكية، ومن المؤيدين لهذا الرأي القضاء الفرنسي الذي قضى بأن “الملكية غير قابلة للتقادم والتي لكل شخص على وجهه وعلى صورته تعطيه الحق في منع عرض صورته”، وأيده الفقه الانكليزي أيضا وعده ملكية جوهرية للإنسان شأنه شأن المنزل والملابس، ولكن تم نقد هذا الرأي بحجة الاختلاف بين الحق في الخصوصية والملكية من حيث الطبيعة والعناصر، فهو من الحقوق اللصيقة بالشخصية ويتناقض مع طبيعة حق الملكية التي تفترض وجود صاحب حق ومحل تمارس عليه سلطاته، فلا يتصور أن يكون للإنسان حق ملكية على جسده أو خصوصياته، لإتحاد صاحب الحق والمحل بشكل يتعذر معه الممارسة، لذا انتبذه الفقه القانوني، وانتبذته إحدى المحاكم الفرنسية أيضا بالقول “لا يجوز الركون إلى حق الملكية كأساس لتكييف المظاهر أو الحقوق التي تؤلف الحرية الشخصية، وذلك لتعذر إدخال الإنسان في دائرة المعاملات المالية وجعله موضوعا لحق عيني”. (لطيف 2018، ص40-44)

أما الاتجاه الثاني فيرفض فكرة الملكية ويعد الحق في الخصوصية من الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية، أي من الحقوق التي يكون موضوعها العناصر المكونة للشخصية، وهذه العناصر تستوحى من مظاهر متعددة مادية ومعنوية واجتماعية، ومن أهم النتائج التي ترتب على هذا الرأي أن صاحب الحق يستطيع مراجعة القضاء لمنع حدوث الاعتداء أو وقفه دون انتظار تحقق الضرر أو إثبات خطأ المعتدي، ومن نتائجه أنه يفرض التزاما عاما على الجميع مضمونه احترام الحق في الخصوصية ومقوماته كالحق في الشرف والاعتبار وسلامة الجسد وغيره، وأن الحق في الخصوصية كونه الكيان الشخصي للإنسان الذي يضم أسرار الحياة الخاصة يتمتع بالحماية ولا يجوز التعدي عليه، إذ يتكون هذا الكيان من عنصرين أساسيين أحدهما الطبيعي ويشمل النواحي العضوية والعقلية والنفسية، وثانيهما القانوني ويشمل الحقوق التي أقرها القانون كالحق في الاسم والصورة والشرف والاعتبار، وتبعا لذلك فأنه يضم كل أسرار حرمة حياته الخاصة، وهذا الرأي هو الراجح لدى الكثير من التشريعات المقارنة، وهو اتجاه يضمن حماية قانونية أكثر فاعلية لحق الخصوصية، لأنها من ناحية تكون وقائية لا تتطلب وقوع الضرر لأجل أن تحميه كما في الحماية المدنية التي تقررها القواعد العامة، ولأنها من ناحية أخرى توفر حماية كاملة للإنسان في مواجهة الجميع، وتلزمهم بعدم المساس به بأي صورة من صور الانتهاكات، ويترتب على ذلك أن الحق في الخصوصية يكون لصاحبه وحده يستأثر به ولا يمكن لغيره أن يطلع عليه، وأنه من الحقوق اللصيقة بالشخصية فلا يقبل التصرف به بأي شكل سواء البيع أم الهبة أم الوصية، ولا يجوز التنازل بصورة صريحة أم ضمنية، مؤقتة أم دائمة، وأي تصرف من هذا القبيل يعد باطلا. (الجاف 2019، ص20-21)

المبحث الثاني

محل الحماية الجزائية للحق في الخصوصية الرقمية ومظاهر المساس به

سنتطرق في هذا المبحث إلى بيان المحل الذي ترد عليه الخصوصية الرقمية، وسنبين أولا الناحية الموضوعية له لمعرفة الموضوع الذي يرد عليه، وبعدها نبين الناحية الشخصية لمعرفة الأشخاص الذي يتمتعون بالحماية، وفيما إذا كانت تشمل الأشخاص الطبيعية فقط أم تمتد إلى المعنوية أيضا، ثم نتطرق إلى أهم صور المساس بها، وذلك في مطلبين اثنين:

المطلب الأول

محل الحماية الجزائية للحق في الخصوصية الرقمية

ويتحدد محل الخصوصية الرقمية من الناحية الموضوعية بالمعلومات الشخصية التي أصبحت متاحة عبر الأنظمة المعلوماتية، وتشمل بالتحديد المعطيات الشخصية المخزنة في الأنظمة المعلوماتية والمتنقلة عبرها، ومحتوى الاتصالات الإلكترونية (مباركية 2021، ص561)، والخصوصية الصحية والمالية للإنسان وغيرها، وتشمل الصورة الأولى كل البيانات التي تحدد الفرد بشكل يكشف عن شخصيته دون جهالة، وهي تشمل الاسم، الصورة، الجنسية، فصيلة الدم، الديانة، السكن، الصفة الوظيفية له أو المهنة، المؤهل، الصفات اللصيقة بشخصيته والمميزة له عن الغير كالبصمات وغيرها، ويدخل ضمنها بيانات الوقائع المدنية كواقعة الميلاد (بما تتضمنه من بيانات عن تاريخ الولادة وجنس المولود وبيانات الوالد والوالدة الشخصية من اسم ولقب وعمر وجنسية وديانة ومهنة وإقامة)، الوفاة (بما فيها من بيانات تتعلق باسمه ولقبه وعمره وجنسيته وديانته، والمهنة ومحل الإقامة، وتاريخ الوفاة وسببه ومحله)، الزواج، الطلاق، الرقم المدني، عنوان البريد، الخدمة الإلزامية، الإقامة، وهذه البيانات تنظم في الغالب من قبل دوائر الدولة، (الزعبي 2004، ص259-260) إذ أن غالبية المعاملات اليومية تجري بشكل رقمي عبر الآلة كالسفر وحجز التذاكر والتصويت الإلكتروني ودفع الفواتير ..الخ، وهذه تتطلب ذكر بيانات شخصية على تطبيقات هذه المواقع، لغرض الاستدلال على أصحابها وتقديم الخدمات، فضلا عن بطاقات الهوية التي تمثل بيانات رقمية تحفظ لدى جهات حكومية لغرض الاستدلال على الهوية الشخصية، وهي بأكملها تمثل معاملات رقمية ويعبر عنها بـ(خصوصية البيانات الرقمية)، أما الصورة الثانية (الاتصالات) فأنها تشمل البريد الإلكتروني والشبكة الاجتماعية والهاتف المحمول، فالرسائل البريدية يمكن أن يتم اعتراضها والإطلاع على مضمونها بواسطة برامج مخصصة لذلك، والشبكات الاجتماعية هي محل لتكوين صداقات والدخول في مناقشات لمواضيع مختلفة كالرياضة والسياسة والفن وغيرها، وتظهر خطورتها في سهولة اختراقها مما يؤدي إلى انتهاك خصوصية مستعمليها ولاسيما موقع الفيس البوك، وهو ما دفع شركة فيس بوك إلى إجراء تعديلات لحماية الحق في الخصوصية لطمأنة المستخدمين، أما عن الهاتف فأنه يمكن أن يشكل خرقا للخصوصية عبر تقنية تحديد الموقع، إذ يمكن تتبع أي شخص من هاتفه عبر أحدى طرق ثلاث: جي بي اس وهي تقنية تعمل على مقارنة الوقت بين الإشارات الصادرة من الأقمار الصناعية والمتصلة بالهاتف النقال، طريقة التجميع الثلاثي التي تقوم على تحديد الأبراج المجاورة للهاتف ثم تتبع الإشارة التي تصدر من الأخيرة لتحديد الموقع على وجه الدقة، طريقة الواي فاي التي تعتمد على شبكات الواي فاي في منطقة معينة وبهذه الطريقة يتم إرسال إشارات عالية التردد إلى الهاتف النقال، ولا يقتصر خرق الخصوصية على هذا وحسب وإنما عبر الإطلاع على دليل الهاتف، وفي هذا الشأن سمحت بعض محاكم الولايات الأمريكية للشرطة بتفتيش دليل الهاتف بدون أذن، في حين نجد أن هنالك محاكم أخرى اتجهت إلى العكس من ذلك، ففي حكم لأحدى المحاكم قضت فيه بأن كشف الشركة التي تقدم الخدمات اللاسلكية عن مضمون رسالة إلكترونية لضابط شرطة أرسلت لرؤسائه في العمل بدون موافقة يعد خرقا للخصوصية، كما قضت أيضا المحكمة العليا الأمريكية بأن التجسس على المحادثات التلفونية يعد انتهاكا للحريات ويتناقض مع ما قرره الدستور الأمريكي في تعديله الرابع من حق للأفراد في الاحتفاظ بسرية مكالماتهم من صور التدخل غير المقبول. (لامي 2017، ص22-27)، ومن الصور الأخرى للخصوصية الرقمية البيانات الصحية التي تجمع عن الشخص بالنسبة لمرضه، وخاصة أن كان هذا الشخص من مدمني المخدرات، إذ أن تلك المعلومات التي تحصل من المريض ممكن أن تجعله مكشوفا أمام الآخرين، لذا تعد من الخصوصيات المهمة التي يحرص غالبا على إبقائها بعيدا عن تدخل الغير، وأيضا البيانات المالية بما فيها من معلومات تتعلق بالراتب والديون والوضع المالي والسمعة الخاصة به في البنوك وشركات التأمين والسوق التجاري والمحلي وغرفة التجارة والصناعة، والسمعة التجارية له في الخارج ورصيده المالي والتزاماته، إذ أنها جميعا تدخل ضمن نطاق الخصوصية، ومن حق كل فرد أن يعيش حياته دون أي تدخل في خصوصياته من قبل الغير. (الزعبي 2004، ص261-262)

أما المحل من الناحية الشخصية فأن التساؤل يثار فيما إذا كان يشمل الشخص الطبيعي فقط أم يمتد للشخص المعنوي أيضا، وانقسم الفقه في هذا الشأن قسمين: الأول يجعل الشخص الطبيعي فقط محلا للحق في الخصوصية، والثاني يجمع بينهما معا، ويتحجج الفريق الأول بأن حق الخصوصية هو من الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية، ومن ثم فأنه يثبت للإنسان فقط، وتحججوا أيضا بأن حق الخصوصية ليس مبدأ جديداً وإنما قديم قدم البشرية وأن التلازم بينه وبين الإنسان هو السمة الغالبة في جميع مراحل تطوره، فهو يعني خصوصية الإنسان في أفكاره وعلاقته بأفراد أسرته وعدم معرفة المجتمع عنها أي معلومات إلا في حدود ما يسمح به هو سواء أكانت خصوصية مادية أم معنوية أم رقمية، وتحججوا بأنه من الحقوق الدستورية اللصيقة بالشخصية الإنسانية وان المبادئ الدستورية المتعلقة بالخصوصية المعلوماتية في أوربا تؤكد على أن محلها هو الفرد، ولما كانت عبارات الفرد والمواطن تنصرف للشخص الطبيعي دون المعنوي، فأن الأخير لا يمكن أن يكون محلا للحق في الخصوصية، وهذا الحق لم تقرره الدساتير وحسب وإنما أقرته التشريعات أيضا للأشخاص الطبيعيين، كما أن الدعوة لحماية حقوق الإنسان كانت دافعا لسن قوانين تحمي خصوصيته في شتى مجالات حياته ومنها الخصوصية المعلوماتية، وتحججوا بأن الشخص المعنوي يمكن حمايته بتشريعات أكثر ملائمة من الخصوصية وهي تشريعات حماية المعلومات، وهذا يعني أن الخصوصية هي أوسع نطاقا من حماية المعلومات، إذ أنها يمكن أن تشمل أمورا يسعى الإنسان إلى كتمانها عن الغير وأن لم تكن لها سمة المعلومة، في حين يسعى الشخص المعنوي إلى حماية المعلومات التي يترتب على كشفها أو إعلانها أضرارا مادية، فكل من الشخص الطبيعي والمعنوي يشتركان في حاجتهما إلى حماية المعلومات، لكن الشخص الطبيعي يحتاج إلى حماية ما هو أكثر من المعلومات، لذا فأنه يحمي شؤون حياته بالحق في الخصوصية عكس الشخص المعنوي الذي يحمى بالحق في حماية المعلومات فقط، وهنالك من رفض الاعتراف بالحق في الخصوصية للشخص المعنوي ورفض تطبيق قوانين الخصوصية المعلوماتية لكون القيود المفروضة على هذا الحق لا تتناسب مع ما يقتضيه التحرك التجاري من سرعة لبعض الشركات، ولاسيما أن ذلك الحق سيمكن الدولة من فرض سيطرتها على تلك الشركات، فضلا عن خشية الأخيرة من الإطلاع على أسرارها التجارية من قبل الغير مما يؤثر على منافستها وبالتالي تلحق أضرارا  بمصالحها، خاصة وان الحماية وفقا لقانون الخصوصية يسمح للخاضع له بالإطلاع على المعلومات المخزنة عنه، وهذا من شأنه أن يسهل على أي شركة الإطلاع على المعلومات الخاصة بها (أو بغيرها من الشركات) والمخزنة لدى الشركات المنافسة. (الزعبي 2004، ص254-256)

وهنالك من تحجج بالسكينة والألفة لنفي الحياة الخاصة أو الخصوصية عن الشخص المعنوي، إذ يرون أنه لا يتمتع بها سوى الشخص الطبيعي، وتبعا لذلك فأن الحق في الخصوصية يكون للشخص الطبيعي فقط، وأن القوانين التي تنظم ما يتعلق بالشخص المعنوي هي قوانين الشركات، والأخيرة لا تتحدث عن الحياة الخاصة للشخص المعنوي، وأن أسراره سواء الصناعية أم التجارية لا تكون ضمن الحياة الخاصة، وأن التجسس عليها لا يعد جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات، وإن أضرارها تجبر وفقا للقوانين المدنية بالتعويض، أما الفريق الثاني من الفقه فيذهب إلى العكس من الأول ويتحجج بأن الشخص المعنوي له حياة خاصة شأنه شأن الأشخاص الطبيعيين، وأن كلمة المواطن التي وردت في التشريعات لا تحول دون تمتع الشخص المعنوي بحياته الخاصة كونه يملك جنسية وفقا لقوانين البلد الذي هو فيه، وله حياته الداخلية الخاصة إلى جانب حياته الخارجية، وأسراره، ويرى هذا الفريق أن عدم تمتع الشخص المعنوي بالألفة والسكينة لا يعني أنه ليس له حياة خاصة، إذ أن الأخيرة وألفتها تعد جميعها واحدة في نظر غالبية الفقه، وتأييدا لهذا الرأي أكد القانون البلجيكي على أن الشخص المعنوي يتمتع بالحياة الخاصة، ويستظهر ذلك عبر تجريمه لانتهاك سرية الأشخاص المعنوية سواء أكانت بقصد الإضرار به أم تحصيل منفعة منه. (حمادي 2010، ص 280-281 )

وفي اعتقادنا المتواضع أن الرأي الثاني هو الأصح والأقرب للواقع العملي، إذ لا يمكن أن يكون انعدام الألفة والسكينة سببا لنفي الخصوصية عنه، فالأخيرة لا تتوقف على هذا وحسب، وإنما تتعلق بجميع البيانات التي يسعى الشخص إلى حمايتها من تدخل الغير، وهذه الأسرار مثلما يملكها الشخص الطبيعي يملكها الشخص المعنوي أيضا، وأن كانت تختلف في مضمونها بحكم اختلاف طبيعة كل منهما، فالشخص المعنوي لديه أسرار تتعلق بنشاطاته وبسمعته التي تعد أساس نجاحه، وجميعها تعد من الخصوصيات الرقمية التي من شأن التدخل فيها ونشرها بدون موافقة صاحبها أن يسبب أضرار بليغة لا تقل خطورتها عن الأضرار التي تلحق بالشخص الطبيعي.

المطلب الثاني

مظاهر المساس بالحق في الخصوصية الرقمية

بالنظر للتطور المستمر في تكنولوجيا المعلومات فأن صور المساس بالخصوصية لا يمكن حصرها في حد، إذ أنها في تطور مستمر أيضا تبعا لتطور تلك التكنولوجيا، وهذا التطور في انتهاكات الخصوصية يجب أن يقابله تطور في حماية حقوق الأفراد ضد تلك الانتهاكات التي تنال من حقوقهم، وسنشير هنا إلى أبرز صور تلك الانتهاكات وهي:

جريمة استعمال بيانات شخصية غير صحيحة: بموجب هذه الطريقة يعمل الجاني على انتهاك خصوصية الغير عبر الدخول للنظام ألمعلوماتي والإطلاع على المعلومات الشخصية والتلاعب بها أو محوها دون أن يكون مرخصا له الدخول إلى النظام، أو أن يقع الانتهاك من قبل أشخاص مرخصا لهم الدخول وذلك عبر استعمال بيانات شخصية غير صحيحة، وفي أغلب الأحيان يكون الإهمال هو السبب الرئيس وراء جمع أو معالجات البيانات الشخصية غير الصحيحة، كما قد يكون العمد سببا لحدوثها في أحيان أخرى، وجريمة الجمع والتخزين غير المشروع جنائيا لبيانات شخصية صحيحة، وعدم المشروعية فيها ترجع أما إلى أساليب جمعها أو إلى طبيعتها، كأن يقوم الجاني باعتراض الرسائل المتبادلة عبر البريد الإلكتروني وتفريغها أو مراقبتها، أو يقوم خفية بتوصيل أسلاك إلى الحاسوب المخزنة فيه البيانات والاستيلاء عليها، أو أن يستولي على بيانات الآخرين بطرق غير مشروعة أيا كانت، وجريمة عدم التقيد بالإجراءات الشكلية الخاصة بجمع البيانات الشخصية ومعالجتها ونشرها، إذ تفرض بعض القوانين جملة إجراءات ينبغي مراعاتها عند التعامل مع البيانات الشخصية ومنها الترخيص المسبق كما هو الحال في القانون الفرنسي الخاص بالمعالجة الإلكترونية للبيانات الاسمية لعام (1978)، إذ تطلب الحصول على ترخيص من اللجنة المختصة قبل القيام بمعالجة إلكترونية للبيانات الشخصية، ورتب على مخالفة ذلك الحبس بين (6) أشهر إلى (3) سنوات والغرامة بين (2000-20000) فرنك، وتبعا لذلك أدانت المحاكم الفرنسية شركة (s.k.f) بسبب تخزينها للبيانات الشخصية الخاصة بالتوجهات السياسية للعاملين لديها بدون ترخيص خلافا لما نص عليه القانون. (لامي 2017، ص 112-115)

ومن الانتهاكات الأخرى الإفشاء غير المشروع للبيانات، وتتحقق هذه الصورة عندما يقوم الشخص المصرح له في المعالجة بالإطلاع على البيانات الشخصية بهدف إفشائها خلافا للقانون لتحقيق منافع خاصة، وهذه الصورة يتكون ركنها المادي من فعلين اثنين: هما حيازة البيانات وفعل الإفشاء، والفعل الأول يتحقق سواء أكانت الحيازة بقصد تصنيفها أو نقلها أو علاجها وبأي شكل كان، أما الثاني فيتحقق عندما يتم إفشائها لمن لا يكون مخولا بتلقي تلك البيانات، ويجب أن ينطوي هذا الإفشاء على مساس بحرمة حياته الخاصة أو خصوصيته، ولا يهم أن كانت البيانات صحيحة أم مزورة طالما كانت تمس بالضحية، ومن الشروط المهمة لقيام هذه الجريمة هي انتفاء رضاء المجنى عليه، وأن تكون من شخص لا يحق له الإطلاع على تلك البيانات، وأن ترتبط تلك الأضرار الماسة بخصوصيته بعلاقة السببية مع فعل الإفشاء وإلا ترتب على ذلك تخلف الجريمة، والانحراف عن الغرض من المعالجة الإلكترونية للبيانات الاسمية، ويراد بالانحراف “قيام الشخص الذي يمتلك بيانات اسمية باستخدامها في غير الوجهة المجموعة من أجلها هذه البيانات بحيث يشكل هذا الاستخدام ضرر على من تخصه هذه البيانات”، وفي هذه الصورة فأن الجاني يستعمل البيانات التي جمعها أو عالجها خلافا للغرض المقرر قانونا، وبما يترتب عليه من أضرار كبيرة تلحق بالفرد وتشكل قيدا على حريته، وتختلف أضرار هذه الجريمة بحسب نوع المعلومات المقدمة لتلك الجهات وحجمها وبحسب الهدف الذي دفعه لتقديمها، ومن التطبيقات القضائية لهذه الجريمة قيام محكمة ألمانية بإيقاف إحصاء رسمي أجرته وزارة الداخلية بعد أن تبين للمحكمة أن الوزارة انحرفت عن الغاية المتوخاة من الإحصاء، وإنها استعملته كوسيلة في الحصول على عناوين مجموعة إرهابية عبر الاستمارات التي قدمت فيه، وعدت ذلك الفعل انتهاكا صارخة للخصوصية المعلوماتية (الرقمية) وقررت إيقافه. (الشامي 2018، ص121-114)

ومن الصور الأخرى التجسس الإلكتروني على الحياة الخاصة، وهو يتم عبر زرع فيروسات للتطفل على الحياة الخاصة للآخرين أو تدمير البيانات أو تعديلها، وقد يصل الحال إلى أن يقوم الفيروس بجمع المعلومات عن الآخرين ومعالجتها والحصول منها على معلومات جديد عبر التقريب والمقابلة بينها وإعداد الإحصاءات والإدماج للعناصر وربطها مع بعض ليصل الجاني عبر ذلك إلى ترجمة لحياة الغير ، ومن ثم استعمال تلك المعلومات في تحقيق أغراض غير مشروعة كفضح أسراره وابتزازه. (عدنان 2013، ص435)

 

المبحث الثالث

الحماية الجزائية للحق في الخصوصية الرقمية في التشريعات المقارنة

سنتطرق في هذا المبحث إلى أوجه الحماية الجزائية في التشريعات الغربية والعربية على حد سواء، وسنتخذ من التشريعات الغربية كل من القانونين الفرنسي والأمريكي أنموذجا، في حين سنتخذ من التشريعات العربية كل من القوانين التونسية والإماراتية والسورية والبحرينية أنموذجا لبحث الحماية الجزائية للخصوصية الرقمية، ثم نتعرف على موقف المشرع العراقي، وذلك في مطلبين اثنين:

المطلب الأول

الحماية الجزائية للحق في الخصوصية الرقمية في التشريعات الغربية

ومن التشريعات الغربية سنشير إلى القانون الأمريكي أولا ثم نبين القانون الفرنسي، فالأول وضع نصوص متفرقة للتصدي لأي مساس بخصوصيات الأفراد، وقد جاءت هذه الحماية التشريعية بعد محاولات فقهية أكدت على ضرورة التدخل وحماية الحق في الخصوصية من التهديدات التي تطال منه، خاصة بعد أن رفض القضاء التدخل بالحماية بسبب عدم وجود سوابق قضائية تحميه، وعدّ التشريع هو الجهة الوحيدة التي تملك الاعتراف بهذا الحق، وتحججوا أيضا بأن الاعتداء على الخصوصية لا يكون ذا طبيعة مادية وإنما معنوية، وأن الكثير من الالتزامات ذات الطبيعة المعنوية لا يعوض عنها، وأنه يمكن للمشاعر التي تمس بهذه الاعتداءات أن تحمى وفقا لقانون الأخلاق والرأي العام (المتعاطف) بحسب ما أشارت المحكمة العليا، لكن القضاء عدل عن وجهة نظره تأثرا بدعوات الفقه التي نادت بضرورة توفير حماية للمال والإنسان، كون النظام يتجدد تبعا لتطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الأخير يفرض ضرورة الاعتراف بالحق في الخصوصية وحمايته، لذا حاول حمايته عبر التفرقة بين الحالات التي تظهر لأول مرة ولم يسبق عرضها على القضاء، وبين تطبيق مبدأ موجود على الحالات الجديدة، وبذلك اعترف بالحق في الخصوصية عبر الحالة الأخيرة وتمكن من حمايته، وتوصل إلى إقرار هذا المبدأ في الدساتير الأمريكية، إذ أقرت دساتير الولايات للإنسان بالحق في الحياة والسعادة، وفسر ذلك بأنه لا يقصد منه البقاء على قيد الحياة فقط وإنما توفير حياة آمنه وهانئة وهي لا تتحقق إلا إذا تم منع الغير من التدخل في حياة الفرد وشؤونه الخاصة. (لامي 2017، ص85-86)

وتبعا لمواقف الفقه والقضاء أتجه المشرع الأمريكي إلى إصدار مشروع قانون عام (1935) عن أفعال الخطأ، وقد تضمن اعترافا للحق في الخصوصية ولإقامة الدعوى ضد ما يطال حرمة الحياة الخاصة من انتهاكات، كما اعترف بالحق في حماية الأحاديث الشخصية والتلفونية من التنصت والتسجيلات غير المرخصة وعاقب عليها جزائيا ومدنيا بالقانون الخاص بمكافحة الجريمة في سيارات نقل الركاب والشوارع عام (1968)، ثم وضع قانونا آخر عام (1970) وتضمنه حماية لخصوصية الفرد ومعلوماته بنصوص غير مباشرة، وبعدها وضع قانون جديد للخصوصية عام (1974)، وتم تعديله بالقانون ذي العدد (94- 393) لعام (1976)، تضمن عدة مبادئ منها ما يتعلق بشروط انتقال المعلومات، وحق الإطلاع على البيانات وتصويب الأخطاء الخاصة بكل شخص، فضلا عن تضمنه لنظام رقابة غير رسمي لغرض مراقبة تنفيذ القانون بجانب الرقابة القضائية، ولم يقف المشرع الأمريكي عند هذا الحد، وإنما وجدت هنالك قوانين خاصة منها القانون الخاص بجرائم المراقبة والتفتيش في العامين (1973، 1976)، والقوانين الخاصة بحماية حقوق التربية والحياة الخاصة لعام (1974)، وقانون حماية البيانات المالية لعام (1978)، كما صدر قانون عام (1986) يتعلق بخصوصية الاتصالات الإلكترونية، وبموجب هذا القانون لا يجوز الحجز على الاتصالات الإلكترونية الخاصة أو بثها، سواء أكانت على شكل بريد صوتي أم إلكتروني، إذ جرم الدخول غير المشروع لأي منها وعده انتهاكا لخصوصية هذا القانون، ويضاف إلى هذه القوانين قوانين أخرى تتعلق بتنظيم البطاقات المتعلقة بالمصارف والتأمين وعلاقات العمل، كما تضمنت قوانين بعض الولايات تجريم الولوج إلى النظام ألمعلوماتي بسوء نية للحصول على معلومات تتعلق بالغير، أو إدخال معلومات غير صحيحة سواء لتحسين سمعة الغير أو الإساءة له، وهكذا فأن التشريع الأمريكي وفر حماية لحق الخصوصية بنصوص عامة متفرقة تعلقت بخصوصية الفرد وحماية المعلومات. (لامي 2017، ص87-89)

أما عن التشريع الفرنسي فنجده وعلى خلاف الوضع في التشريع الأمريكي تضمن حماية بنصوص خاصة وليست عامة، إذ أصدر قانونا لحماية البيانات الشخصية المرتبطة بالحياة الخاصة للأفراد، وهو قانون “المعلوماتية والحريات” في (6/1/1978)، وكان الهدف من هذا القانون هو حماية حقوق المواطنين وحرياتهم ضد مخاطر تقنية المعلومات، وقد جرى تعديله عدة مرات وتممت أحكامه بمراسيم مختلفة في الأعوام (1988، 1992، 1999)، وأهم ما جاء في هذا القانون هو أنشاء سلطة إدارية تسمى بـ”اللجنة الوطنية للمعلوماتية والحريات”، وبهذا القانون تعد فرنسا من الدول الرائدة في مجال حماية الحقوق والحريات ضد أخطار تقنية المعلومات، (عائشة 2016، ص46) ونص هذا القانون ذي العدد (78-17) في المادة الأولى منه على “أن المعلوماتية يجب أن تكون في خدمة المواطن. فلا يجب أن تلحق الضرر لا بالهوية البشرية ولا بحقوق الإنسان ولا بالحياة الخاصة”. (جدي 2018، ص137)

يضاف إلى ذلك الحماية التي وفرها قانون العقوبات الجديد من بعض الجرائم، ومنها جريمة المعالجة الإلكترونية للبيانات الشخصية دون ترخيص (المادة/ 226-1) وعقوبتها الحبس لمدة سنة واحدة والغرامة لثلاثمائة يورو مع العقوبة التكميلية وهي نشر الحكم ، وجريمة التسجيل غير المشروع للبيانات الاسمية (المادة/ 226-17، 226-18، 226-19) وعقوبتها الحبس (5) سنوات وغرامة (2) مليون يورو، وجريمة الحفظ غير المشروع للبيانات الاسمية (المادة/ 226-20) وعقوبتها الحبس لمدة سنة واحدة مع الغرامة لثلاثمائة ألف يورو، وجريمة الانحراف عن الغرض أو الغاية من المعالجة الإلكترونية للبيانات الاسمية (المادة/ 226-21) وعقوبتها الحبس (5) سنوات مع غرامة (2) مليون يورو، وجريمة الإفشاء غير المشروع للبيانات الاسمية (المادة/ 226-22) وعقوبتها الحبس لمدة سنة واحدة مع الغرامة لمائة ألف يورو، (عدنان 2013، ص437-438) فضلا عن النص على حماية المراسلات التي تجرى عبر وسائل الاتصال كما نصت على ذلك المادة (432-9). (عائشة 2016، ص46)

كما أشار المشرع الفرنسي في المادة (9) من القانون المدني إلى أنه من حق كل فرد في أن تحترم حياته الخاصة، وله الحق في الحصول على التعويض عن كل ما يلحق به من أضرار، كما أن للقضاء الحق في اتخاذ ما يلزم من التدابير، كالحراسة القضائية والحجر لغرض إيقاف كل تعد على الحياة الخاصة، وتتخذ هذه التدابير في حالة العجلة من قبل قاضي الأمور المستعجلة، وطبقا لهذا النص فأن أي تعدي على الخصوصية يثير المسؤولية المدنية للجاني، وقد جاء تأكيد هذا الحق في حكم محكمة النقض الفرنسية بالقول”أن أي شخص أيا كان جنسه وولادته أو شكله أو عمله أو ثروته له الحق في احترام حياته الخاصة”. (عبدالله 2020، ص18 و25)

المطلب الثاني

الحماية الجزائية للحق في الخصوصية الرقمية في التشريعات العربية

أن أول قانون وضع في تونس لحماية البيانات الشخصية كان في (9 أوت 2000) وهو القانون المتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونية ذي العدد (83) لسنة (2000)، ثم جاء القانون الأساسي لحماية المعطيات الشخصية ذي العدد (63) لسنة (2004) في (27 جويلية 2004)، وأقر في الفصل الأول من الباب الأول لكل فرد بالحق في حماية معطياته الشخصية المرتبطة بحياته الخاصة كونها حقوقا أساسيا كفلها الدستور، ويتم معالجتها وفقا لمقتضيات هذا القانون، وبما لا يتعارض مع الشفافية والأمانة واحترام الكرامة الإنسانية، كما حدد الشروط الواجب إتباعها في معالجة المعطيات الشخصية في الباب الثاني منه، واستحدث في الباب السادس هيئة تتمتع بشخصية معنوية واستقلال مالي وهي “الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية” وجعل مقرها في العاصمة، وحدد لها الكثير من المهام في الفصل (76) لغرض تأدية دورها في حماية المعطيات الشخصية. (القانون الأساسي لحماية المعطيات الشخصية التونسي 2004)

ونص على حماية هذه البيانات ضد الكثير من الجرائم منها: جريمة الجمع غير الشرعي للمعطيات الشخصية، جريمة عدم المحافظة على سلامة المعطيات، جريمة معالجة ما حظره القانون أو أخضع معالجته لشكليات معينة، جريمة الحرمان أو الحد من حقوق من كان معنيا بالمعالجة، جريمة عدم احترام الغاية من المعالجة، وجعل لهذه الجرائم عقوبات متدرجة تراوحت بين السجن (3) أشهر والسجن لمدة عامين فضلا عن الغرامات المالية، ويلاحظ أن المشرع التونسي قد خصص الباب السابع منه لحصر عقوبات تلك الجرائم، وذلك في الفصول (86 -94).

أما في الإمارات العربية المتحدة فقد صدر مرسوم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم (5) لسنة 2012، وخصص نصا صريحا لتجريم انتهاك الحق في الخصوصية عبر تقنية المعلومات، إذ جاءت المادة (21) متضمنة تجريم كل تعدي يمارس عبر استعمال الشبكة المعلوماتية أو نظام المعلومات أو أي وسيلة تقنية ضد خصوصية الأفراد في غير ما هو مصرح قانونا، وتشددت في عقوبتها إلى الحبس الذي لا يقل عن (6) أشهر والغرامة التي تتراوح بين (150,000-500,000) درهم أو إحداهما، وحددت هذه المادة طرق المساس بالخصوصية صراحة في حالات ثلاث، وتشمل استراق السمع أو اعتراض المحادثات أو التسجيلات صوتية أو مرئية أو الاتصالات أو نقلها أو بثها أو إفشائها، التقاط الصور العائدة للغير أو نقلها أو إعدادها أو كشفها أو نسخها أو الاحتفاظ بها، نشر صور إلكترونية كانت أم فوتوغرافية أو أخبار أو بيانات أو تعليقات أو معلومات حتى وأن كانت حقيقية وصحيحة، ولم يكتفِ بذلك وإنما نص المشرع في المادة نفسها على تجريم كل تعديل أو معالجة يتم باستعمال نظام معلوماتي أو أي وسيلة من وسائل تقنية المعلومات على تسجيل أو صورة أو مشهد طالما كان القصد منه التشهير أو الإساءة لشخص ما أو انتهاك خصوصيته أو الاعتداء عليها، وتكون العقوبة الحبس الذي لا يقل عن السنة والغرامة التي تتراوح بين (250,000-500.000) درهم، أو إحداهما. (مرسوم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الإماراتي 2012)

وفي سوريا صدر المرسوم التشريعي رقم (17) لسنة (2012) بشأن تطبيق أحكام قانون التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية، وأكد في المادة الثالثة منه على ضرورة قيام مسؤولي مقدمي خدمات النفاذ بحماية خصوصية المستخدمين وبياناتهم الشخصية عبر اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنب الوصول غير المشروع للمحتوى المخزن في النظام، وضرورة العمل على إتلاف كل ما انتفت الحاجة إلى وجوده في المحتوى، كما تضمن هذا القانون تجريما صريحا لانتهاك حرمة الحياة الخاصة في المادة (23) التي نصت على: “يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر والغرامة من مئة ألف إلى خمسمئة ألف ليرة سورية كل من نشر عن طريق الشبكة معلومات تنتهك خصوصية أي شخص دون رضاه حتى ولو كانت تلك المعلومات صحيحة”.

وفي مملكة البحرين صدر قانون جرائم تقنية المعلومات ذي الرقم (60) لسنة (2014)، وتضمن تجريما لكثير من الانتهاكات المرتكبة عبر تقنية المعلومات الحديثة، ومنها ما يمس خصوصية الفرد، إذ جرم كل اعتراض أو التقاط أو تنصت بأي وسيلة فنية على بيانات مرسلة من النظام ألمعلوماتي أو إليه أو ضمنه، طالما كانت هذه البيانات لم توجه للعموم ولم يكن للمعتدي أي مسوغ قانوني يخوله الإطلاع، ورتب على ذلك الحبس والغرامة التي لا تتعدى الـ (100000) دينار، أو إحداهما، وإذا نشأ عن هذه الجريمة إفشاء لما هو مرسل وبدون مسوغ قانوني عدّ ذلك ظرفا مشددا بحسب ما أشارت المادة (4) منه، كذلك جرم الدخول بصورة غير قانونية لنظام تقنية المعلومات أو حتى جزءا منه، وحدد له عقوبة الحبس الذي لا يتعدى السنة والغرامة التي لا تتجاوز الـ (30000) دينار، أو إحداهما، وجعل من إفشاء البيانات المخزنة فيه ظرفا مشددا وفقا لما نصت عليه المادة الثانية منه. (قانون جرائم تقنية المعلومات البحريني 2014)

والتساؤل يثار بشأن موقف المشرع العراقي من انتهاكات الخصوصية الرقمية، والواقع أن المشرع العراقي كان حريصا على حماية خصوصية الفرد، وسعى إلى تقرير تلك الحماية في الوثيقة الدستورية التي تعد القاعدة الأسمى في الدولة، إذ بالرجوع إلى المادة (17) منها نجد أنها تنص على “أولا- لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية، بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين، والآداب العامة…”، (دستور العراق الدائم 2005) وهذا النص يؤكد على مدى أهمية الحق في الخصوصية وأن المشرع الدستوري عدّها من أسمى الحقوق المدنية للشخصية الإنسانية وأوردها مع بقية الحقوق الأساسية في الفصل الأول من الباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات، وهذه الأهمية تفرض ضرورة التدخل وحمايتها من الانتهاكات التي تنال منها، ولكن على المستوى التشريعي لا نجد لتلك الحماية دورها الفاعل، إذ أن المشرع لم يسن قانون لمكافحة جرائم المعلوماتية لغاية الآن، وإنما وضع مشروع قانون منذ عام (2011) ولم تكتمل إجراءات تشريعه بعد، وبالرجوع إلى قانون العقوبات النافذ نجد أنه نص في المادة (438) على حرمة الحياة الخاصة، إذ عدّ كل نشر يتم بطرق العلانية لأخبار أو صور أو تعليقات تتعلق بأسرار الحياة الخاصة جريمة، وأن كانت صحيحة طالما ترتب على النشر إساءة للأفراد، وهي جنحة لا تتعدى عقوبتها السنة حبس والغرامة التي لا تتعدى المائة دينار أو إحداهما، (قانون العقوبات العراقي 1969) إذ أن هذا النص يتحدث عن المساس بالحياة الخاصة بشكل عام ولم يتطرق للخصوصية الرقمية صراحة، ولكن بما أن المشرع أشار إلى النشر عبر طرق العلانية، وأن هذه الطرق حددت بعبارات واسعة في المادة (19) من قانون العقوبات، فأن مرونة تلك العبارات تدفعنا إلى القول أنها يمكن أن تشمل الاعتداءات التي تنال الخصوصية الرقمية ولو في نطاق محدود، ولكنها في كل الأحوال ليست بالحماية الفعالة لاسيما وأن عقوباتها بسيطة لا تتناسب مع حجم الأضرار التي يمكن أن تلحق بالأفراد، لذا نأمل من المشرع الإسراع في سن قانون لمكافحة جرائم المعلوماتية ووضع نص يكفل الحد من المساس بالخصوصية الرقمية بعقوباته الرادعة، وقبل أن نختم حديثنا عن المشرع العراقي لابد من الإشارة إلى قانون منع إساءة استعمال أجهزة الاتصالات رقم (15) لسنة 2008 الذي صدر في إقليم كردستان، إذ نص على حرمة المكالمات والاتصالات البريدية والإلكترونية ولا يجوز انتهاكها في المادة الأولى، وعدّ استعمال الهاتف وأجهزة الاتصال والانترنت والبريد في نشر بيانات تتصل بالحياة الخاصة وأسرارها أيا كانت طريقة الحصول على تلك البيانات جنحة يعاقب عليها بالحبس (6 أشهر -5 سنوات) وغرامة (1000000-5000000) دينار أو إحدى هاتين العقوبتين، حتى وأن كانت المعلومات صحيحة طالما أدى نشرها إلى إلحاق الضرر بأصحابه والإساءة إليهم وذلك في المادة الثانية، وإذا ترتب على ذلك الفعل ارتكاب جريمة فأنه يعد شريكا مع الجاني في جريمته بحسب ما أشارت المادة الرابعة، في حين عدّت المادة الخامسة ظرفا مشددا ارتكاب الجريمة من قبل شخص من القوات المسلحة أو الأمن الداخلي أو من ذي صفة رسمية أساء استعمالها أو ممن أطلع بحكم وظيفته ومهنته على الأسرار الشخصية أو ممن استعمل جهاز يعود لغيره في ارتكاب الجريمة. (قانون منع إساءة استعمال أجهزة الاتصالات في إقليم كردستان-العراق 2008 )

 

خاتمة

          وبعد أن أنهينا بحثنا عن الخصوصية الرقمية من حيث تعريفها وطبيعتها، ومحل الحماية القانونية فيها، ومظاهر المساس بها، وموقف التشريعات المقارنة منها، توصلنا إلى النتائج الآتية:

  • أن الخصوصية الرقمية صورة مستحدثة من صور الحق في الخصوصية ظهرت كأثر للتطورات التكنولوجية التي دخلت حياة الأفراد من جوانبها كافة.
  • أنها من الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية التي لا تقبل التنازل، فهي من الحقوق المعنوية التي لا يمكن للفرد أن يستغني عن حمايتها، وأن الأضرار التي تصيبها تكون على درجة كبيرة من الجسامة قد لا تعوض بسهولة بحكم اتصالها بحرمة حياته الخاصة.
  • تتنوع صور المساس بهذا الحق ولا تتوقف عند حد معين من حيث النوع أو الكم، وذلك بحكم اتصالها بتكنولوجيا المعلومات التي لا تتوقف عن التطور.
  • أن الغالبية من التشريعات المقارنة لم تتمكن من حماية هذا الحق وفقا للقوانين العقابية النافذة لديها، ونتيجة للانتهاكات المستمرة ضد هذا الحق اتجهت إلى تشريع نصوص عقابية خاصة بحمايته تعمل على الحد من التجاوزات التي تنال منه.
  • أن المشرع العراقي لم يضع قانونا يكفل الحماية القانونية للخصوصية الرقمية من التجاوزات التي تنال منها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي باتت تنتشر بشكل واسع بدون رادع، فضلا عن صور الانتهاكات الأخرى التي تمارس عبر اختراق الأنظمة المعلوماتية الشخصية أو الهواتف النقالة، خاصة وأن القوانين النافذة بما تتضمنه من نصوص تجريمية وعقوبات لا تكفي لوضع حد للمتطاولين على حقوق الأفراد في حرمة حياتهم الخاصة، وهذا الفراغ التشريعي يشكل خطرا كبيرا ليس على الفرد الضحية وحده وإنما على أسرته خاصة وعلى المجتمع عامة، بحكم ما ينشأ عن تلك التجاوزات من أضرار بليغة تلحق بهم، وهو ما يتطلب تدخلا تشريعيا يتناسب مع حجم تنامي هذه الانتهاكات خاصة في ظل التطور التقني الكبير، الذي سهل كثيرا من ارتكاب تلك الانتهاكات وزادها كما ونوعا.

أما المقترحات فهي:

  • نشر الوعي بين أفراد المجتمع كافة بأهمية احترام الحق في خصوصيات الغير وعدم التدخل فيها أو المساس بها؛كونها من الحقوق الموثقة في الدستور والتشريعات المحلية والدولية، وأن التعرض لها من شأنه أن يجعلهم محلا للعقاب.
  • إقامة الورش والندوات والبرامج التثقيفية حول الأمن السيراني وكيفية حماية الأفراد لخصوصياتهم من التعرض للانتهاك.
  • تشريع قانون خاص أسوة بالتشريعات المقارنة يضمن عدم المساس بهذا الحق، وأن يكون على درجة من المرونة من حيث التجريم والعقاب لغرض التصدي لأكبر عدد من الانتهاكات التي تنال منه، وأن تكون عقوباته على درجة من الجسامة تتناسب مع ما يسببه من أضرار كبيرة لأجل أن يكون قانونا رادعا للجناة بالفعل.

المراجع

  • إبراهيم علي حمادي. “انتهاك حرمة الحياة الخاصة “الخطأ الصحفي أنموذجا”.” مجلة جامعة الأنبار للعلوم القانونية والسياسية، (2010)،مجلد (1)، عدد (2): 280-281.
  • “القانون الأساسي لحماية المعطيات الشخصية التونسي .” رقم (63).
  • “المرسوم التشريعي بشأن تطبيق أحكام قانون التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية السوري.” ذي العدد (17). 2012.
  • بارق منتظر عبدالوهاب لامي. جريمة انتهاك الخصوصية عبر الوسائل الإلكترونية في التشريع الأردني. رسالة ماجستير. عمان: كلية الحقوق.جامعة الشرق الأوسط، 2017.
  • بطيحي نسمة. “الجرائم المتعلقة بانتهاك الأحكام الإجرائية المقررة لحماية الحق في الخصوصية الرقمية في التشريع الجزائري.” مركز جيل البحث العلمي. سلسلة كتاب أعمال المؤتمر .عدد خاص بالمؤتمر الدولي “الخصوصية في مجتمع المعلوماتية”، 19-20 7, 2019، عدد (26) .س (7): 62-63.
  • بن قارة مصطفى عائشة. “الحق في الخصوصية المعلوماتية بين تحديات التقنية وواقع الحماية القانونية.” المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث، 4 يونيو, 2016، مجلد (2). عدد (5).
  • “دستور العراق الدائم.” 2005.
  • سلامة فضل الشامي. جرائم الاعتداء على الحق في الخصوصية في ضوء التطور التكنولوجي.رسالة ماجستير. غزة: اكاديمية الإدارة والسياسة للدراسات العليا وجامعة الأقصى. القانون والإدارة العامة، 2018.
  • سوزان عدنان. “انتهاك حرمة الحياة الخاصة عبر الانترنت.” مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، 2013، مجلد (29). عدد (3): 429.
  • شيرين حميد علي الجاف. الانتهاك الجرمي لحق الخصوصية باستخدام وسائل التصوير والاتصالات المستحدثة.رسالة ماجستير. كركوك: كلية القانون والعلوم السياسية. جامعة كركوك، 2019.
  • صبرينة جدي. “الحماية القانونية للحق في الخصوصية المعلوماتية.” مجلة التواصل في الاقتصاد والإدارة والقانون، أوت/ آب, 2018، مجلد (24). عدد (2): 126.
  • ضياء حسين لطيف. حق الخصوصية الفردية في التشريع المقارن. اطروحة دكتوراه. كلية الحقوق. الجامعة الإسلامية في لبنان، 2018.
  • عادل عبدالعال إبراهيم خراشي. الحماية الجنائية للحق في الخصوصية الرقمية. ط 1. القاهرة: شركة ناس للطباعة، 2015.
  • علي أحمد عبد الزعبي. حق الخصوصية في القانون الجنائي. الموصل: كلية القانون. جامعة الموصل، 2004.
  • “قانون العقوبات العراقي.” رقم (111).
  • “قانون جرائم تقنية المعلومات البحريني.” رقم (60).
  • “قانون منع إساءة استعمال أجهزة الاتصالات في إقليم كردستان-العراق .” رقم (15) . 2008 .
  • “مرسوم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الإماراتي.” رقم (5).
  • مفيدة مباركية. “الأدلة الجنائية الرقمية والحق في الخصوصية في ظل قانون (09-04).” مجلة المعيار، 2021، مجلد (25). عدد (58): 560.
  • هوزان عبدالمحسن عبدالله. “المسؤولية التقصيرية الناجمة عن التعدي على الحياة الخاصة في القانون الفرنسي.” دفاتر السياسة والقانون، كانون الثاني, 2020، مجلد (12)، عدد (1).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *