الباحثة زهرة بوخاتمي

جامعة سيدي بلعباس  ،  الجزائر .

           يتربّع مفهوم المشهد على أركان سنيمائية من شخصيات، أحداث ومكان، فقد ذاع صيته بهذه البنية المفهوميّة في جلّ الدّراسات التي تتناوله بالتّحليل، وما لبث هذا الطّغيان ينهزّ في ظل عرش السّرديات الحديثة، التي جنحت إلى إخراجه من بوتقة التّحديد المفاهيمي وتفعيله في ركح فضاء اصطلاحي آخر، ليلمس ما تلبّد به من معنى سديد وتبلّد عنه التّخييل الرّشيد، فقد راودته آليات إجرائية من قراءة وتأويل، لتهيم بالمشهديات السّردية في عوالم من التّخييل الذّهني مشيِّدة فراغات بانية تستقرئ ما ثقل اللّسان الأدبي عن تفريغه، وعزف الحبر الإبداعي عن خطّه.

إنّ مراسيم التّأويل الهرمنيوطيقي للقصص السّردي من أجل استقراء مكامن الفراغات البانية في مشهدياته، أوجبت على الباحثة ضرورة أجرأة آليات التّأويل العرفاني لمقايضة الدّلالات الكامنة، وتحريكها بموجب إعادة بناء التّشكيل البصري والسّينوغرافي. ومن ثمّ وجب تفعيل التّخييل الذّهني تحيينا للمنتج الدّلالي في ثوبه التّفسيري.

إنّ إشكاليات البحث الرّاهن تتعلق فيما تتعلّق بحيثيات تنظيرية وتطبيقيّة من شأنها أن تجيب عن التساؤل التّالي: ما هي التّشكيلات المشهدية للفراغات البانية السّردية في قصص ذكريات من مواجع على ضفاف عدن؟

المقدمة:

     لا شكّ أنّ الاهتمام بفكرة الفراغ الباني في الدرّاسات النّقدية الحديثة بات من أهمّ القضايا التي عكف الدّارسون على مباحثة حيثياتها بغية مساءلة الدّلالات الكامنة في الذّوات الإبداعية، ومن ثمّ استدعت بناء مشاهد سرديّة يحظى القارئ بمباغتتها واستقراء دلالاتها من خلال آلية التّأويل، وقوفا على مطيّ الإجراءات اللّسانية العرفانية وما أجرأته من أدوات لسانية وذهنيّة تسهّل عمل الطّالب وتقشع الظّلام عن مدلولات المطلوب.

        ولعلّ القصص الموضوعة بين أيدينا للدّراسة والتّحليل لَنماذج لنصوص ناطقة، تؤزّ متلقّيها لسبر أغوارها وتفجير مضخّاتها الدّلالية، بمباغتة لغتها الرّصينة وفراغاتها الخصبة، فما هي أهم المعاني المؤوّلة من أبنيتها اللّغوية بالاستناد إلى التّأويلات الذّهنية؟ وما الذّي تعنيه كلّ من المصطلحات: المشهد، السّرد، الفراغ الباني؟

  1-السّرد وعلم السّرد

       السّرد لغة تقدمة شيء إلى شيء تأتي به مشتقّا بعضه في أثر بعض متتابعا، وسرد الحديث ونحوه يسرده سردا إذا تابعه، فلان يسرد الحديث سردا إذا كان جيّد السّياق له، وفي صيغة كلامه صلى الله عليه سلّم: لم يكن يسرد الحديث سردا، أي يتابعه ويستعجل فيه، وسرد القرآن تابع قراءته في حذر منه” (ابن منظور، ص165) فالسّرد هو القصّ والحكي.

          أمّا اصطلاحا هو: “الكيفية التي تروى بها القصّة عن طريق قناة الرّاوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصّة ذاتها”( حميد الحميداني ، 2003، ص45) ، يوازي في مفهومه الاصطلاحي ماتبنّاه لغويا من حكي وقصّ، كما عرّفه سعيد يقطين على أنّه فعل لا حدود له، يتّسع ليشمل جميع الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية يبدعه الإنسان أينما وجد وحيثما كان”( سعيد يقطين، 1997، 19ص) ، فالسّرد كلّ إبداعي متكامل من بنى فنيّة تعمل على رسكلة جملة من الخطابات التاريخية، الدّينية، الاجتماعي، الثّقافية وغيرها لتعمل على تشكيل صور سردية مشهدية تتنامى فيها الحركة الإبداعية وتتعالق بالسّكون التّصوير.  

2-علم السّرد Narratology

        يتبنّى علم السّرد أو السّردية La science de récit   مفهوم تحليل مكوّنات الحكي وآلياته  كما جاء على لسان عبد الله إبراهيم( عبد اللّه ابراهيم،ص117)، تعمل السّردية تبعا لهذا المنظور على تقفّي النّظم البنائية السّردية واستخراج أهمّ  القواعد والعلاقات الدّاخلية التي تحكمها، كما تسعى إلى اكتناه مكوّنات الخطاب السّردي جملة وتفصيلا.       

         إنّ عزل العناصر المكوّنة للتّركيب السّردي الشّخصيات الزّمن المكان والأحداث عن بعضها البعض ودراستها في حالاته الإفرادية كمسلك بعجته السّرديات الحديثة ليس من شأنه أن يعزّز عملية تفسير وتأويل دلالات البنى السّردية، ما بدّد طاقتها وأذهب التّلاحم الذي يكسب العنصر السّردي قيمته الفعلية النّابعة من الاندماج الكلّي في البناء العام. فتبنّي آليتي السّردية: الدّلالية واللّسانية أمر لا مناص من شقّه في هذا المضمار البحثي بغية رفع السّتار عن المشاهد المتوارية خلف البنى اللّغوية.

3-المشهد ونظرية المشهد أو المشهدية

        المشهد Scène لغة “المجمع من النّاس ….. محضر النّاس” (ابن منظور، ص241) ، يتآزر في بنائية المشهد كلّ من الشّخصيات المكان، فالمشهد، المجمع والمحضر كلّها أسماء أمكنة، فهي فضاءات يختارها الكاتب لتصوير أحداث مرافقة لفضاء زمني،كما عرّف على أنّه “أسلوب العرض الذي تلجأ إليه الرّواية حين تقدّم الشّخصيات في حال حوار مباشر، والتّضاد في السّرعة بين المشهد المفصّل والسّرد الملخّص  هو صدى للتّضاد في المضمون بين المسرحي وغير المسرحي، فالمشهد مخصّص في الرّواية للأحداث المهمّة، أمّا الملخّص فيروي الوقائع العادية”(لطيفة زيتوني، ص75) ، أي أن السّرد ملخص في بنيته يروي الأحداث الواقعة، فيما المشهد فيختصّ بالأحداث الهامة ي الخطاب القصصي.

        تقدّم لنا نظرية المشهد السّردي فكرة النّظرة الشّمولية التي لا تغفل قيمة العناصر متجاورة في الحركة الواحدة، ويرى ليون سرميليان المشهد موازيا للسّرد من حيث المعنى فيقول أنّ المشهد: “يزيد من متعة القصّة في مراحلها المتعاقبة، وتزداد متعة القارئ الذي يقوم بكشوفاته بنفسه شأنه شأن الشّخصيات القصصية ذاتها، وهو أمر يختلف عن أن يأتي المؤلّف أو الرّاوي ليخبره عنها”(ليون سيرمليان،2020،ص 70)، هذا ما يفسّر فكرة تداعي التجارب التّأويلية للنصوص الإبداعية.

         لقد تغاضت نظرية المشهد السّردي عن استخدام الأدوات الإجرائية المنتهجة في السّرديات الحديثة في تحليلها للنصوص السّردية، إذ لا تسنح هذه المقاربة بتفكيك الأثر الفنّي وعزل عناصره عن بعضها البعض، وإحالة الوحدات إلى شتات، وإنّما يكفل لها المشهد الإطار الذي تنتظم فيه العناصر السردية في وحدة تامة.

          إن المتحكّم في المشهد هو المكان، إذ بإمكان الشّخصيات والأحداث أن تتبدّل،  فالمشاهد هي تلك الأفضية التّي ينتقيها الكاتب لسرد خياله، وإن كانت الأفضية تقف فقط على المكان في المفهوم القديم، غدت تتعالق بالذّهن وتتقصّى دواعي أبعد من مفهوم الكلام، إنها تداعيات التّمثيلات الذّهنية التي تحرك مشهدية السّرد الذّهني في اتجاه أكثر بعدا، يمثّل للتّأويلات الذّهنية والتّفسيرات، وإنّما ينطلق ذلك لا محالة من البنية اللغوية.

         كما أنّ تشكيل الفضاء الدّلالي في السّرد يعنى بتشريح التّخمة الدّلالية إلى وحدات دالّة قارة في مختلف البنى في حالتها المتكاملة والمجزّأة، فالفضاء بهذا المفهوم:”مجموعة من الأشياء المتجانسة من الظّواهر والحالات والوظائف والصّور والدّلالات المتغيّرة “( حسن البحراوي، 1999، ص34) ، وبذلك يمسي متمتّعا بفجوات دلالية متسّعة ينتقل الفضاء من خلالها  الأمكنة الموصوفة باستعمال لغة إيحائية إلى أفضة دلالية معبّأة بتحميلات قيمية دالّة.

            هذا و تمنح اللّغة للمتلقّي فضاء دلاليا على بساط الفضاء السّردي، فلم تعد “تؤدّي وظيفتها بطريقة بسيطة، إذ ليس للتّعبير الأدبي معنى واحدا، فهناك المعنى  الحقيقي والمعنى المجازي، وهذا من شأنه إلغاء الوجود الوحيد للامتداد الخطّي للخطاب، إذ يتأسّس الخطاب تبا لذلك من تداخل سلسلة من الدّوال الحاضرة مع سلسلة المدلولات الغائبة”( Gerard Genette, 1972;p46 ) ،  يتشكّل الفضاء بذلك بين المدلول الحقيقي والمدلول المجازي.

4-الفراغ الباني السّردي

        يتولّد الفراغ الباني عن تأويل البنى اللّغوية المستثمرة في البناء السّردي لينبجس عن ذلك الوقوف على الجماليات السّردية، الواقعة إثر تحقّق المعادل الموضوعي في التّشكيل الفني القصصي ما بين القاصّ والمتلقّي، ما يجعل هذا الأخير لمتابعة النّمو والتّطور الدرامي للأحداث الفنية، ومن ثم فالفراغ الباني هو المسكوت عنه، فقد يتبدّى للمتلقّي الشيء المفقود في المنهج في “المشاهد التي تبدو تافهة، والثّغرات التّي تبرز من الحوارات هو ما يحثّ القارئ على على ملء الفراغات بالانعكاسات” (فولفغانغ إيزر، ص10) ، إذ يسعى القارئ إلى فهم ما لم يذكر، فالفراغات النصيّة في نظر إيزر بمثابة مفاصل مفاصل حقيقية كونها تفصل بين الخطوط العريضة والآفاق النصيّة(فولفغانغ إيزر، ص10) إذ المشهد السّردي في المنتج الفني مختصر وملخّص.

        يعدّ الفراغ عنصرا بنائيا في السّرد، كونه يحتّم على المتلقّي ضرورة ملء الفراغات الموجودة في النّصوص السّردية، يعرّف على أنّه “عبارة عن بياضات موجودة في النّص تسمح للمتلقّي بالكتابة عليها لإضافة ما لم يكتبه المبدع، ممّا يثري النّص ويميّزه عن غيره من النّصوص الصّامتة التّي لا تسمح لمتلقّيها إلاّ بالقيام بفعل التّلقي السّلبي دون أن تفسح له مجالا للتفاعل مع النّص بملء فراغاته المفترضة”(فاطمة البريكي، 2006، ص152) ، وبالتّالي فالفراغات في النّص تحثّ المتلقي على عملية القراءة، ممّا يثير عملية التّخييل، الذّي يجعل من المتلقي مستكشفا لما استغلق، فيبني بذلك عوالم حقيقية وأخرى ممكنة من خلال عملية التّأويلات التّي يخمنّها، كما أنّ العامل المتخيّل أو المسقط إنّما ينبعث من العالم الحقيقي ويستقرأ باللّغة، يقول عبد الجبّار جحفة في ذات الخصوص:”العالم الموجود الخارجي والعالم المسقط هو التّنظيم الّذي يقيمه الفرد للعالم الخارجي أو يسقطه عليه وهو مشتقّ من العالم الأوّل عبر الإدراك والتّنظيم الّذي هو مسارات آلية غير واعية لا يمكنها أن تخرج إلى مستوى المراقبة القصدية أو الوعي للعالم الخارجي إلاّ في حدود معيّنة وهذا العالم المسقط هو ما تنقله اللّغة”(عبد الجبّار جحفة، 2000، ص98). ويمكّنه من استقراء دلالات متعدّدة تفرغ المنتج الفنّي الإبداعي في قالب تشويقي. 

         5-الآليات الذّهنية في تأويل المشاهد السّردية المغيّبة

     يقول السّيد قطب متحدّثا عن المشهد والتّصوير أنّ الذّهن البشري  يتصرّف بتخييلاته ليلامس المعاني والدّلالات المقصودة ممكنة كانت أو افتراضية، إذ “المعنى الذّهني هيئة أو حركة، وإذ الحالة النّفسية لوحة أو مشهد، وإذا النّموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطّبيعة البشرية مجسّمة مرئية، فأمّا الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة، إذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كلّ عناصر التّخييل” (سيّد قطب، ص32) فالمشهد  تصوير تمثيليّ يستدعي التّخييل الذّهني يرتقي به المؤلّف ليحقّق المعادلة الموضوعة التي من شأنها إيداع الحسّ التفسيري والتّأويلي لدى التلقّي. إذ يحاول المتحدّث بصفة عامّة أو القاصّ بصفة خاصّة بعث مرسلة كلامية مؤلّفة من تراصص وحدات لسانية تتلاحم فيها الألفاظ والعبارات، ليعمل المتلقّي بعد ذلك على فكّ هذه الشّفرات اللّغوية من خلال التآلف النّاجم عن اتّحاد الألفاظ اللّغوية، مستخدما قواعد التّأويل التّي تضمّ بنيات تأويلية مجرّدة إلى العبارات اللّغوية (جورج لايكوف ومارك جونسون، 2009، 07) ، إنّ عملية التّلقي تحفّز استخدام آليات القراءة من تفسير وتأويل لاستدراج المعاني المقصودة،  يرى سمير حميداني أنّ فعل القراءة كونه نشاطا عمليا وذهنياّ يساهم أولا في إنتاج المنى، وثانيا في بناء موضوع جمالي متناغم ومتلاحم(2005،26). 

التطبيقـــــق

  • ـ ذكريات ومواجع على ضفاف عدن:

               أفضية [i] سردية ولدت عن مخاض عسير، تجاذب فيها القاصّ أطراف الحديث على نسمات البحر في شوارع ومدن عربية متعدّدة، بأساليب طاهرة طهارة الحبر المراق، والحسّ المساق، متأمّلا أمداء الواقع المحلاّة برداء الإبداع، متبنّيا جماليات كتابة الوجود، راقنا معارج الموجود بأساليب تتلاعب باللّغة، لتشحنها بالفراغات والمشاهد البانية، في شكل مجموعة قصصية، تتلاحم فيها الكلمات لتنسج قصصا تشدّ النّاظر فيها وتحمله لمتابعة أحداثها، وما قصّة المنقار والبؤبؤ إلاّ ومضة سردية، أثّثها القاص بتجلّيات الفضاء المكاني جمالا وقبحا، اتّساعا وضيقا، وضوحا وغموضا، فراحت الأفضية الذّهنية تتراقص على أجساد الألفاظ وزمهرير التّأويلات، لتتشابك البنى الدّلالية في طيّاتها، وتخرج عن حصار المكان لتتبنى أطاريح مكونّات القصّ المشهدي متلازمة متعالقة، يقول صالح إبراهيم أنّ الفضاء: “كلّ معقّد لا يمكن اختزاله إلى مجرّد وصف للأمكنة” (صالح إبراهيم، 2003، ص09) ، هذا ما نسعى لمباغتته في هذه السّطور. 

             القصّة: “بين البؤبؤ والقلب تاريخ مشروخ ونصال ورماح، وسندباد بحري يغازل جواري بغداد، وجزيرة نائية يبتلعها غول  يرفع البؤبؤ بصره إلى السّماء، وفي المصعد يقابله منقار بجعة، قال المنقار للبؤبؤ: أترغب في صداقتي، فأنا أرعى حرمة الصّداقة وأسافر كثيرا، وأشتري هدايا، وأعرف النّساء والخمارات، ولي فيلا على شاطئ كان؟ وفجأة انقطعت الكهرباء … احمرّت عينا المنقار، وبسط كفّه اليمنى، واستطالت أظافره. لكنّ البؤبؤ سرعان ما انزلق، وخرج يتأمّل الفضاء الرّحب المغروس بالنّبال الأسطورية”(محمّد عبد الرّحمن يونس، 2016، ص11)

        إنّ لعبة الكتابة تفتح الباب واسعا أمام رهانات القراءة لبلوغ المعاني المقصودة، يرى سارتر أنّهما تتلازمان إذ يقول: “إذّ عملية الكتابة تتضمّن عملية القراءة لازما منطقيا لها، وهاتان العمليتان تستلزمان عاملين متميّزين، الكاتب والقارئ، فتعاون المؤلّف والقارئ في مجهودهما هو الذّي يخرج إلى الوجود هذا الأثر الفكري، وهو النتاج الأدبي المحسوس الخيالي في وقت معا، فلا وجود لفن إلاّ بواسطة الآخرين ومن أجلهم”(جون بول سارتر، ص49)، لذا نسعى في ظلّ هذه السّطور التّأويلية إلى إماطة اللّثام عن أهم الأفضية الذّهنية التي تشيّد العوالم الحقيقية والافتراضية ضمن مشهديات السّرد بفراغاته الايحائية.

          يقول القاص في العتبة الثّانية للمنتج السّردي“بين البؤبؤ والقلب تاريخ مشروخ ونصال ورماح، وسندباد بحري يغازل جواري بغداد، وجزيرة نائية يبتلعها غول”، يتمثّل الفضاء الأساس في التّعالق الوجداني بين شخص المتحدّث البؤبؤ والمكان القلب، هي علاقة حبّ وتعلّق شديدين لصرح عظيم في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، مهد العلوم والثّقافة، يتبدّى هذا الفضاء في مجموعة من البنى اللّغوية الدّالة: البؤبؤ، القلب، بين، تاريخ، … ، فالتّعالق إطار كامل تعمل كلمة تاريخ مشروخ على جسدنته ضمن التمفصل الزّمني كمحدّد باني للفضاء الأساس، والبؤبؤ السّيد الطّريف الخفيف، الذّي قد يجسّد شخص القاصّ، المتعلّق بهذه المدينة ليعبّر عنها بالعنصر اللّغوي القلب، معرّفا كلى الرّمزين للتّدليل على أنّهما غنيّين عن التّعريف، فمبدأ الرّبط العرفاني بين أطري هذا الفضاء وصف بغداد بالقلب وتعريف الرّمز اللّغوي الأخير يشيد بعظمة هذا الكيان الرّمزي لدى المتحدّث والمتلقّي على حدّ سواء.

           ينجرّ عن هذا الفضاء الأب فضاء ابن[ii] يتمثّل في حسرة الكاتب على ما آلت إليه بغداد في قوله تاريخ مشروخ ونصال ورماح، فمبدأ الاهتداء يؤزّ النّاظر في هذه السّطور إلى وقع الانهزام والانحطاط الذّي ألّم ببغداد فجعا بعدما كانت موطن العلم ومهد الحضارة الإسلامية خلال العصر الذّهبي أيّام الخلافة العبّاسية، يهتدي المتلقّي إلى هذا التّخمين من خلال مبدأ الإحالة المتضمّنة في الشطر الموالي من النّتاج الكلامي، فالقرينة الدّالة هي السّندباد البحري الأسطورة التّي تزامنت مع أيّام هارون الرّشيد، إنّ مشفّرات الفضاء الابن متعدّدة في هذا البناء اللّغوي: مشروخ، نصال ورماح، ينشأ ههنا الفضاء مجدّدا بعنصر آخر وهو تعرّض البلد القلب لغزو مثبت بشواهد تاريخية وهو غزو المغول والتّاتار، فبعدما كانت بغداد عاصمة العالم القديم، أمست لقمة سائغة في يد أبناء قبائل منغوليا سنة 1258م، ثمّ ما أصابها بعد ذلك على يد العثمانيين مع حلول بدايات القرن السّادس عشر، ثمّ وقوعها تحت الانتداب البريطاني1917م، وما لحق بها في القرن العشرين من مآسي أطاحت بسيادتها وأوقع الشرّ بشعبها، يرث الفضاء الابن من الفضاء الأساس عددا من العناصر الدّالة: النّصال الحادّة والرّماح  بوصفها عناصر بانية في جسدنة المشهد السّردي الذي يعج بالفوضى التّاريخية. 

     ثمّ يتوالد عن الفضاء الأساس فضاءان ابنان آخران، يتجسّد أوّلهما في الأسطورة “وسندباد بحري يغازل جواري بغداد”، سندباد رجل تاجر مندفع وبطل من بغداد، يفتكّ القاصّ شفرات لغويّة ذات دلالات عميقة “يغازل”، من منطلق أنّ النساء تُغرَين بالرّجل القويّ البطل، ثمّ استعمل دليلا لغويا آخر وهو “جواري”، واللاّتي كنّ موجودات بالفعل في عهد الدّولة العباسية، معجبات بشخصية الرّجل الفذّ قاطع البحور ومكتشف الجزر.

           أمّا ثانيهما يتنمذج في مشهدية الجزيرة النّائية كفضاء ابن ثالث، “وجزيرة نائية يبتلعها غول، إنّ القاصّ في مجموعته القصصية “ذكريات ومواجع على ضفاف عدن” مولع بتأمّل البحر وارتطام أمواجه وتصادم أشرعته، وهو في هذا الموطن يقف على طهارة أرض يتأمّل التّاريخ المجيد في رمشة عين، يغازل جزيرة بغداد النّائية  المتموقعة وسط نهر دجلة، غير المتمظهرة للعيان لذلك وسمها بالنّائية فهي تبعد عن بغداد بعشرين كيلومتر شمالا، ابتلعها الغول جرّاء الغزو، وتعدّ العناصر اللّغوية “جزيرة” و”الغول” نظائر قرائنية تعمل على ربط هذا الفضاء بسابقيه ممّا يجعل المتلقّي يهتدي إلى الدّلالات المقصودة.

          أمّا الجزيرة فتربط هذا الفضاء بالفضاء الابن الثّاني عن طريق العنصر اللّغوي السّندباد البحري، وبالفضاء الأب عن طريق العنصر اللّغوي “القلب” أي بغداد. في حين نثقف “الغول” نظيرا لغويا لبغداد حتّى يربط الفضاء الابن الثاني بالفضاء الابن الأول، وكذا يعدّ نظيرا للتّاريخ المشروخ، النّصال ، الرّماح، إنّ الرّبط بين الأفضية الذهنيّة ناتج عن تباعد المسافات الدّالة بين الأفضية.     

ساهم التّبئير في تشكيل حركة الانتباه بين مجموع الأفضية الذّهنية المنشأة باستخدام نظائر لغوية شيّدت جسور الرّبط بين الأفضية الذّهنية.

        إذا ما ولج القارئ الشّطر الموالي من القصّة والذّي تتصاعد فيه أحداثها وحيثياتها، يجد نفسه مغامرا بمعية الملقي في أفضية ذهنيّة أخرى، لا تكاد تنعزل عن سابقاتها، وإنّما تشابكها لتنسج بوتقة من الدّلالات الهرمنيوطيقية.

     يعدّ هذا المقطع السّردي منطلق بناء أفضية ذهنية أخرى، تتلاحم فيما بينها منحدرة عن فضاء رئيسي ثان، يعكس إقامة جسور علاقة ثانية بين القاصّ ورجل آخر، والتي لم تلبث أن تنقطع ويمضي كلّ في حال سبيله، يتوالد لنا فضاء ابن رابع أو بالأحرى الأول من الفضاء الأساس الثّاني، حين يمتدّ بصر القاصّ إلى السّماء، كفضاء واقع متعلق بفضاء افتراضي، إذ كان البؤبؤ ينظر إلى ما هو أعلى من مكان تموقعه، فالمدرَك للسّامع أنّه كان على متن مصعد باعتباره هدفا يشكّل قرينة رابطة بالاهتداء، يهتدي إليها المتلقّي بموجب القادح “المصعد” المذكور في الفضاء الابن الموالي.

                       ثمّ مقابلة منقار البجعة أي رجل كفضاء ذهنيّ خامس، قد يأتي القاصّ على هذا التّشبيه لعدم وجود إعجاب أوّلي بهذا الشّخص،  إن كان وجه الشّبه قائما على حجم الشّفاه من خلال التّركيز على المنقار، فالبجعة طير من فصيلة البجعيات، له منقار طويل عريض، معقوف يحمل تحته حويصلة ضخمة يخزّن فيها الأكل، وأغلب البجعات ذات اللّون الأبيض، هكذا هو الرّجل، يبدو أنّه قويّ ضخم، يملك شفاها كبيرة، ورقبة سمينة، ويرتدي لباسا أبيضا كما هو معروف عن قاطني المشرق العربي عامّة ارتداء العباءات البيضاء، وإنّما يدلّ ذلك على الحالة الماديّة الميسورة للرّجل.  

أمّا الفضاء الذّهني السّادس يعدّ فضاء ذهنيّا منشودا، يتجسّد في سؤال الرّجل عن رغبة البؤبؤ بمصادقته كونه صاحب امتيازات متعدّدة، طرحها كآليات حجاج ترغيبيّة من أجل إقناعه، والتّي تشكّل أفضية صغرى موجبة بصنفيها الواقعية والافتراضية، فالرّجل مقتدر ماديّا، كما سبقت الإشارة إليه، وما الأفضية الاستدراكية الموالية إلاّ سبل يهتدي بها المتلقّي للنتيجة الحتمية.

    إنّ الفضاء السّادس بحدّ ذاته يحيل أو يتضمّن مجموعة من الأفضية المتعالقة: الصّداقة القائمة على الاحترام، السّفر الكثير والذّي يحيل بحد ذاته على مجموعة من الأفضية البانية، المال الوافر، التّمتّع بالحياة، النّفس المنشرحة، ….،  تقديم الهدايا الكثيرة للبؤبؤ أي القاصّ، يتضمّن جملة من الفضاءات البانية، اللّهو والمجون، التّمتع بالنّساء، تمضية الوقت، التّرفيه عن النّفس، تكثيف العلاقات، …، امتلاك مكان هادئ رومانسي فيلا على شاطئ، ما يعنيالتّمتّع بالبحر وتمضية الوقت، ….،  إنّ هذه الأفضية الذّهنية قوادح عرفانية تحيل المتلقّي على تمثّله الذّهني حول وضعية الرجل منقار البجعة الماديّة كهدف.

          وما تلبث الأفضية الذّهنية الحجاجية تسترسل وتتشابك حتّى تحدث نقلة تبئير أخرى، تغيّر وجهة نظر القاصّ والمتلقّي على حدّ سواء من زاوية الإغواء، إلى القطيعة التّي شابت الفضاء الأساس الثّاني فغيّرت مجريات الأحداث ومسارات الأفضية الذّهنية، فيتوالد فضاء ابن غير شقيق للأفضية السّابقة، يتجسّد في انصراف البؤبؤ.

           استعان الكاتب بالعنصر اللّغوي انقطعت الكهرباء، فالكهرباء مصدر للاسترسال والتجدّد والحركية، عكسها الظّلام رمز السّكينة والهدوء، وكما يحدث انقطاع الكهرباء بشكل مفاجئ، انصرف البؤبؤ بشكل لم يتوقّعه المنقار، ما يفضي بالاهتداء إلى الحالة التي ستنتاب الرّجل في أفضية حفيدة متولّدة عن الفضاء الابن غير الشّقيق: احمرار عيني المنقار دهشة وخجلا، تقديم السّلام كرمز على التّوديع، الإمساك بيد القاصّ لمدّة غير اعتيادية، أو قد تعني الإمساك بإحكام وشدّة نابعة عن دهشة.

     بنيت الأفضية الذّهنية الحفيدة وفق سلّم زمني متعثّر، توالت فيه الأحداث بشكل مباشر ودون قطيعة ، ما يدلّ على ذلك استعمال الواو في البناء اللّغوي، فلم يستخدم القاصّ فاء التعقيب، ولا ثمّ لترتيب الأحداث، بل استعمل الواو للدلالة على أنّ الفترات الزمنية بين الأحداث متعاقبة ومسترسلة رغم عدم تساويها.

          ثمّ يستدرك بفضاء حفيد رابع للتّدليل على مغادرة القاصّ عين المكان، وقد وظّف العنصر اللّغوي “انزلق” بدل غادر أو رحل، كقادح لغوي هدفه الإحالة إلى جذب يده من يد المنقار الذّي أطال التّسليم، لينتقل المتلقّي بعد ذلك إلى فضاء نهائيّ يتضمّن بدوره فضاءين: فضاء الخروج بانصراف القاصّ عن مكان تواجده مع المنقار، وفضاء الاختزال يختزل هذا الفضاء جميع الأفضية السّابقة، ليجسّد لنا مبدأ الرّبط العرفاني العودة إلى الفضاء الأساس الأوّل: إقامة علاقة بين القاصّ وبغداد من خلال مجموعة من النّظائر اللّغوية: خرج، يتأمّل، الفضاء الرّحب، النّبال: الأسطورية، كقوادح تعيد عملية التّمثيل الذّهني للمشهد السّردي الأوّل، فيفتكّ بذلك حرمة رزنامة زمنية من الأحداث المتواترة.

  ختام القول :

 القصة التي انتقيناها للدّراسة والتّحليل قطعة من بلاغة التّجريب التي صاغ من خلالها القاصّ ما جاش ذاته، واقتحم بيئته من مشاكل حسيّة مدركة، وتجريدية متأمّلة، فالجسد السّردي نمط من أنماط تكريس الذّات الواعية واللاّذات المفقودة في هاجس الكتابة السّردية، لقد قاربتها الباحثة استنادا إلى مناويل عرفانية، ثقافية وتداولية تراقص الذّهن، المجتمع والتّاريخ، لتتبنّى مسارا لوجيستيا جعل الدّلالات المفاهيمية تغوص في بنية ذهنيّة في شكل دائرة.

 تنشأ الدّلالات من انتماء القاصّ الشّعبوي، العربي والإسلامي، وكذا غيرته على الماضي التّليد الذي شهدته حضارة المسلمين، وما انبجس عنه من تزعزع في أركان الحضارة الإسلامية وتدهورها، حتّى أمسى الرّجل العربي المسلم غير مهتما باللّهو والمجون، فيما كان بالأمس رجل الحضارة الرّاقية بفكرها وعلمها وتجارتها، فيكتفي القاصّ بالتّأمل باكيا على الأطلال.

     ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] -الأفضية جمع فضاء، يعرفه سعيد يقطين أنّه:” “إنّ الفضاء أعمّ من المكان لأنّه يشير إلى ما هو أبعد وأعمق من التّحديد الجغرافي (سعيد يقطين، 2007م،ص237).

أمّا عن الفضاء الذّهني كما ورد ذلك في غضون البحث، فهو “جملة المعلومات المنظّمة المتعلّقة بالمعتقدات والأشياء. يتكوّن من عناصر وليس من الضّروري أن تكون لتلك العناصر مراجع في المعنى السّوسيريّ” (الأزهر الزناد،2010، ص206)

– 2يهتدي فوكونييه إلى مبدأ عامّ مفاده أن كلّ “مفهوم يقتضي في تمثيله فضاءين ذهنيين، يكون الواحد منهما أوّليا والآخر تابعا له” الأزهر زناد: 2010، ص)201.

المراجع:

  • إبراهيم، صالح. (2003م).  الفضاء ولغة السّرد في روايات عبد الرّحمن منيف.  ط1. المركز الثّقافي العربي. المغرب. 
  • فولفغانغ، إيزر. فعل القراءة، نظرية جمال التّجاوب. تر حميد الحميداني والجيلالي الكدية. منشورات مكتبة المناهل.
  • البحراوي، حسن. (1999م). بنية الشّكل الرّوائي. ط1. المركز الثّقافي العربي. المغرب.
  • البريكي، فاطمة.(2006) . مدخل إلى الأدب التّفاعلي. ط1.المركز الثّقافي العربي. المغرب.
  • جحفة، عبد الجبّار.( 2000) .مدخل إلى الدّلالة الحديثة.  دار توبقال. الدّار البيضاء. 
  • الحميداني، حميد. بنية النّص السّردي من منظور النّقد الأدبي.  2003م . ط 3. المركز الثّقافي العربي، المغرب.
  • الزناد، الأزهر. (2010). نظريات لسانية عرفنية، ط1، دار محمّد علي للنشر، تونس.
  • زيتوني، لطيف.  معجم مصطلحات نقد الرّواية، عربي، انجليزي، فرنسي، ط .1مكتبة لبنان، لبنان.
  • سارتر، جون بول: ما الأدب؟ تر محمّد غنيمي هلال، نهضة مصر. مصر.
  • سرميليان ،ليون. (2012) . “بناء المشهد الرّوائي” .  مجلّة الوحدات السّردية للخطاب، تر فاضل ثامر، ط1 . منشوات آراس، العراق. 
  • حميداني، سمير.(2005م).  النّص وتفاعل المتلقي في الخطاب الأدبي عند المعري، منشورات إتّحاد الكتّاب العرب . دمشق. 
  • قطب ، سيّد. التّصوير الفنّي في القرآن الكريم، ط3 . دار الشّروق . لبنان.
  • لايكوف، جورج و جونسون،  مارك. (2009م) . الاستعارات التّي نحيا بها .  تر عبد المجيد جحفة.  دار توبقال للنشر.
  • ابن منظور. – لسان العرب، م 3،  دار صادر، بيروت للطباعة والنشر والتّوزيع.

            – لسان العرب، م7،  دار صادر، بيروت للطباعة والنشر والتّوزيع

  • يقطين، سعيد. – (2007م) . قال الرّاوي، البنيات الحكائية في السّيرة الشّعبية،  ط1 .المركز الثّقافي العربي . المغرب.

                 – (1997م) . الكلام والخبر( مقدّمة للسّرد العربي) .  ط1 .المركز الثّقافي العربي .  المغرب.

  • يونس،  محمّد عبد الرّحمن. (2016) .  ذكريات ومواجع على ضفاف عدن . ط1 . مقاربات للنّشر والتّوزيع والصّناعات الثّقافية . المغرب.

Gérard, Genette. (1972) .Figures 3,La seuil, Pari,    


 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *