بقلم : أ.د. محمد عبد الرحمن يونس

أستاذ الأدب الحديث ونقده ، نائب رئيس جامعة أبن رشد ، هولندا.

أكتب حتى أحقق حالا من الفرح و الانسجام الداخلي، و حتى أنعتق من جحافل الهموم و الفواجع و المواجع تجاوزا لأزمنة سوداء لا خير ولاحق ولا عدل فيها، وصولا إلى زمان أكثر عدلا ونبلا و إنسانية، وقد يأتي هذا الزمان، وقد لا يأتي، وقد يتأخر، وقد يلغى، لكني أكتب، فالكتابة هي بذرة الأمل و التفاؤل التي قد تنمو،  وقد تموت، لكنها تظل الفعل الجمالي المعرفي القادر على التجاوز و التخطي.

أكتب لكي أعبّر عن هموم البسطاء و الفقراء و المهمّشين المستلبين الذين لم تمنحهم الحياة سيوفا ولا رماحا، و لا أشرعة، و لا طعاما ولا شرابا، أكتب لهؤلاء الغرباء المظلومين الذين هجّرتهم سلطات أوطانهم غصبا، و نفتهم و طردتهم، و هم أبرياء لا ذنوب لهم. أكتب لكي أخدش هذا الغلاف الخارجي الأفّاق الأشر الكاذب الذي يغلّف مدننا العربية، و يحولها إلى جثّة تنهشها الخنازير و الكلاب و الأثرياء الذين يرمون نصف موائدهم للقطط المدللة التي استوردوها بأعلى الأثمان، الذين يتلاعبون بالأموال على موائد القمار وعربداتها، بينما أبناء مجتمعاتهم يتضورون جوعا وهموما ومآسي تنهد لوقعها الجبال الرواسي. أكتب حتى أعبّر عن مساحات الغباء و الحياء الزائف الذي تتقنع به مجتمعاتنا الآثمة. أكتب عن هؤلاء الذين قتلت فيه مجتمعاتهم حسهم الإنساني، و همّشت فيهم أحلامهم و طموحاتهم، و سخرت من وجودهم الإنساني،و بنياتهم المعرفية. أكتب لهؤلاء الذين لا يكتب أحد لهم، و لا يسمح لهم بأن يرفعوا أصواتهم و يقولوا: تبا لكل أشكال الفساد والوضاعة في مجتمعاتنا المعاصرة.

أكتب حتى أشير ترميزا سيميائيا إلى صور المجتمع المزرية،و إلى جحافل الفساد التي تغطي معظم علاقات المدن وقيمها، و إلى مظاهر حياة الفاسدين و المرتشين و مصاصي دماء الشعوب. أكتب حتى أكشف القناع الكاذب الذي تتجمل به النساء و الرجال معا، و عندما يُكشف هذا القناع تبدو الصور القبيحة، بكل فجاجتها وفجائعيتها و بذاءتها و قبحها في آن. أكتب حتى أشكّل  من اللغة طاقة جديدة ، وتعبيرا جديدا يجعل المتلقي أكثر تأمّلا في أبعاد اللغة، و في أوضاع المجتمع الإنساني المزرية. أكتب حتى أدين الجامعات العربية الفاسدة الغارقة في الظلام، و حتى أدين ما يقوم به بعض مدرائها وعمداء كلياتها و بعض أساتذتها من تجاوز للقوانين، وممارسة الفساد و الرشاوى، و سرقة أبحاث غيرهم والترقي بها إلى درجات علمية أعلى . أكتب حتى أشير إلى منظومة الفساد أنّى كانت، وأنّى ارتحلت. أكتب محبة وانحناء للشرفاء و النبلاء الذين لم تتلوث أياديهم بعد، على الرغم من مكل مغريات الفساد و جحافله ، والترويج له. أكتب أملا في بناء مجتمع مدني تحكمه دولة القانون والعدالة و الحرية و المساواة، لا دولة الطوائف و العشائر و القبائل و العنف و السطوة و المال المنهوب الحرام من جيوب الذين لا راية لهم، و لا صوت لهم .

عندما أكتب نصا إبداعيا، سواء أكان قصة قصيرة أم رواية، أم بحثا أكاديميا، فإني لا أفترض أن قارئا معينا، بثقافة معينة، أو أفق معين، سيقرأ هذا النص أو لا يقرأه. فالكتابة حالة جمالية تستنفر شرطا إنسانيا ومعرفيا، يشكّله الكاتب من مجموع الخبرات المعرفية، والخلفيات المعرفية التي تشكل حقلا مرجعيا يفيد الكاتب منه، ويوظّفه حين كتابته، وهي لا تعني أننا يجب أن نستحضر قارئا مسبقا، نراعي ثقافته وخبرته المعرفية وحبه للمعرفة وشغفه بها، وتعلقه بها. ثم ليس بالتأكيد أن يصل النص المكتوب إلى كل شرائح القراء في العالم العربي، ويراعي اهتماماتهم المعرفية، وخبراتهم القرائية، فالكاتب ليس باستطاعته أن يعرف ماذا يغري القارئ، وماذا يجعل هذا القارئ أو ذاك يبتعد عن النص المكتوب، وينفر منه. وبالنسبة لي، لا أرى أن النص الذي يكثر قراؤه أكثر أهمية من نص عدد قرائه قليل، القضية ليست بالكم أبدا، إنما القضية تتحدد بمدى اهتمام هذا القارئ، وقدراته، واهتماماته المعرفية والعلمية. ومن الملاحظ أن فعل الكتابة في عالمنا العربي، يقل تأثيره في تفكير الناس واهتماماتهم، وبالتالي فإن فعل القراءة هو محدود أيضا. لقد تراجعت الثقافة النبيلة والإنسانية والمعرفية في عالمنا العربي، وحلّت محلها ثقافة الاستهلاك الرخيصة والسلعة، وثقافة الجنس والأبراج، والثقافة الاستهلاكية السريعة التي لا تسهم في نمو طاقات العقل وتزيد في أفقه التخيلي والمعرفي. ثقافة التسلية السريعة هي الأكثر رواجا في عالمنا العربي، بينما الثقافة الجادة الرصينة تتراجع يوميا. إن اهتمامات القارئ العربي المعاصر ليست نفسها التي كانت قبل خمسين سنة أو ستين سنة. وعلى الرغم من اتساع منافذ المعرفة في عالمنا العربي واتساع حقولها، إلا أن الأميّة لا تزال تضرب بقوة وشراسة بنية العالم العربي، فهناك كما تشير الإحصائيات المعاصرة أكثر من مائة مليون أميّ في عالمنا العربي، زد على ذلك أميّة خريجي الجامعة نفسها، فبعد أن يتخرج كثير من الطلاب العرب لا يقرأون بحثا واحدا، أو لا يكتبون، وكأن القراءة صارت في عالمنا العربي غاية وظيفية، هدفها في المقام الأول الحصول على الشهادة الجامعية، وليست غاية حضارية ومعرفية هدفها الإسهام في نمو العقل وزيادة قدراته، والتأكيد على دوره في بناء حضارة الأمة ورقيها، ولم تسهم جامعاتنا العربية المعاصرة، على الرغم من اتساعها وشساعتها، وتعقّد هيكلها الإداري والتعليمي في زيادة فعل القراءة الصحيحة، وتكريس دورها في وجود قارئ متميز، مؤمن بالثقافة كقيمة جمالية عليا، وبنية مهمة من بنى المعرفة في عالمنا العربي، لقد شكلت بعض الجامعات العربية سدا منيعا ضد فعل القراءة، لأنها كرست ثقافة الاستبداد والتسلط، والفردية الضيقة المتزمتة، كل ذلك بفعل استبداد القائمين على جامعاتنا العربية، استبدادا لا حدود له. إن مدير هذه الجامعة أو تلك أو عميد هذه الكلية أو تلك، يظن نفسه أنه العقل الأول في هذه الجامعة أو تلك  الجامعة الأخرى، ويحارب كل من يختلفون معه، وبالتالي يعادي كل من يختلفون معه في الفهم والتأويل والرؤية، فإذا كانت جامعاتنا تلغي الآخر، فكيف لها أن تبني عقل الآخر بناء معرفيا.

إن جامعاتنا المعاصرة تهمّش كل المبدعين والعقلاء والمثقفين، وتخلق جيلا مهزوما متسلقا، جيلا غير قادر أن يقول: لا لبنية الاستبداد التي تكرسها، فالطالب يخاف من الرسوب في المادة إن هو قرأ قراءة مغايرة لقراءة أستاذه، والأستاذ الجامعي يخاف قطع رزقه ورزق أطفاله إن قرأ قراءة مغايرة لفكر العميد أو رئيس الجامعة المستبد .

 لقد رفع بعض رؤساء الجامعات العربية أنفسهم غرورا وعجرفة وصلفا مخجلا. إذ أقفلوا أبوابهم أمام المراجعين، واستمرأوا إيذاء العاملين في جامعاتهم، ووضعوا حجّابا عليهم، وصمّوا آذانهم أمام أي فعل معرفي وإبداعي وإنساني. فبدلا من أن تكون جامعاتنا حقلا لتكريس فعل القراءة الحرة والتفكير الحر البعيد عن الإرهاب، أسهمت في إلغاء هذا الفعل وتقزيم دوره، فبات الطلاب ينفرون من القراءة ودورها الحضاري والمعرفي. لقد قلّ فعل القراءة في عالمنا العربي، والدليل على ذلك، نحن أمة زادت على 600 مليون نسمة (ستمائة مليون نسمة)، وما يزال الناشرون يطبعون من كتب أهم  مفكريها ما لا يتجاوز خمسة آلاف نسخة، وتبقى هذه النسخ أكثر من خمس سنوات حتى تباع. بينما في الغرب الأوربي يطبع من الكتاب الواحد في طبعته الأولى أكثر من مليوني نسخة. فتخيل هذا السبق الحضاري بيننا وبينهم. لقد تراجع فعل القراءة وفعل الكتابة في عالمنا العربي تراجعا مذهلا، وتراجع فعل دور النشر المعرفي، وصارت طباعة الكتب أمرا صعبا ومرهقا ماديا بالنسبة للكتاب، فهناك مئات المخطوطات الفكرية والإبداعية والنقدية في العالم العربي لم تر النور حتى الآن، بفعل صعوبة النشر. فأي فعل للقراءة في ظل الأمية المتفشية في عالمنا العربي، وأي فعل لها طالما لا تجد الكتب المهمة طريقا للنشر، وأي فعل لها حين لا يصل الكتاب العربي إلى المواطن العربي، فعلى سبيل المثال لا يصل الكتاب الليبي المتميز، أو غيره من الكتب العربية إلى دول الوطن العربي الأخرى. إذ تتجول كثيرا من مكتبات العالم العربي ولا تجد الكتاب الذي تبحث عنه، وهكذا تكرست القطيعة المعرفية بين دول العالم العربي مثلها مثل القطيعة السياسية.

 إن افتراض قارئ مهتم نكتب له في عالمنا العربي عملية ليست سهلة أبدا، فنحن لا نعرف اهتمامات هذا القارئ أو ذاك، والكتابة في أحيان كثيرة لا تفترض قارئا معينا، أو عددا من القراء. إني مستعد أن أكتب نصا حتى ولو قرأه عشرة قرّاء فقط. الكتابة هي انبثاق معرفي وفكري، تسهم في رقي المجتمع وازدهاره، وإن لم تجد قارئا مناسبا في وقت ما فستجده في وقت آخر.

إن ّاستحضار القارئ عند الكتابة يبدو مثل استحضار الرقيب على النصوص الأدبية في المؤسسات الثقافية العربية. وعندما تتقيد الكتابة بقارئ معين تصبح غاية وظيفية، قبل أن تكون فعلا جماليا مغيرا ومغايرا في الآن نفسه، ومن هنا فإني أكتب نصوصا متحررة من التأطيرات الجاهزة، والمسبقة الصنع، ولا أجبر نفسي على الكتابة عندما لا أجد الرغبة في ذلك، بل إن الكتابة هي التي تدفعني لأن أكتب عندما تحضر، وعندما أجدها بعيدة عني لا أقسر نفسي على ممارستها. وأيضا لا أقسر نفسي على افتراض كاتب ما، بخصوصية معرفية ما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *