عبد الصمد خويا

باحث في الجغرافية الطبيعية، المغرب.

khouyageographie2014@gmail.com

00212633821930

حسن علاوي

          باحث في علم الاجتماع، المغرب

all.hassan@yahoo.com

00212661523409

ملخص

أصبحت قضايا الماء في الوقت الراهن من أهم الانشغالات وأكبر الأولويات بالمناطق الجافة وشبه الجافة كما هو الحال بالواحات (مناطق الندرة)، ذلك أن نقص الموارد المائية وسوء تدبيرها واستغلالها إضافة إلى تدهور جودتها، من شأنه أن ينعكس سلبا على الظروف المعيشية والصحية للساكنة، ويهدد أحيانا حتى استقرارها بمناطق الخصاص المائي. وتعد واحة فركلة بحوض غريس إحدى هذه المجالات، حيث إن التحولات الاجتماعية والتقلبات المناخية التي تعرفها، وما صاحبها من تراجع في كمية التساقطات وطول فترات الجفاف، أفرزت أزمة مائية حادة، خاصة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بل استمرت هذه الوضعية حتى مطلع القرن الحالي، الشيء الذي فرض اعتماد أشكال وأنماط جديدة لتدبير الماء والتكيف مع التحديات الراهنة.

الكلمات المفتاحية: واحة فركلة، ندرة الماء، أشكال التكيف، الواحات.

Water issues in Farkala Oasis in south-eastern Morocco

Abdessamad khouya

Researcher in physical geography, Morocco

Hassan  Allawi

Researcher in sociology, Morocco

Abstract

Water issues have currently become one of the most crucial concerns and top priorities in arid and semi-arid regions, such as oases (areas characterized by water scarcity). The shortage of water resources, along with their mismanagement and exploitation, in addition to the deterioration of water quality, have the potential to adversely affect the living and health conditions of the population and at times even jeopardize their stability in water allocation zones. The Ferkla oasis in the Ghéris Basin is a case in point. Social transformations and climate fluctuations, accompanied by reduced precipitation and prolonged periods of drought, have triggered a severe water crisis, particularly since the 1980s and 1990s of the previous century. This situation has persisted into the early years of the current century, necessitating the adoption of new forms and strategies for water management and adaptation to the prevailing challenges.

Keywords: Ferkla Oasis, Water scarcity, Adaptation strategies, Oases.

 

مقدمة

يعتبر الماء أحد الموارد الطبيعية الأكثر تفاوتا من حيث التوزيع الجغرافي على الصعيد العالمي، ويقدر حجم المياه العذبة بحوالي 35 مليار كيلومتر مكعب، أي 2.5 في المائة من إجمالي حجم مياه الأرض البالغ 1.4 مليار كيلومتر مكعب. ولا يتجاوز المتاح من هذه المياه العذبة لاستخدامات البشر سوى 0.3 في المائة، أما الباقي فإما مجمد أو في جوف الأرض. لذلك، بدأت مجموعة من الدول على الصعيد الدولي بإدماج مفهوم البيئة في سياستها العمومية، كماأصبحت القضايا المتعلقة بالماء من أكثر المواضيع إثارة للنقاشات في مختلف المحافل الدولية، اعتبارا لكون 884 مليون شخص لا يتمتعون بسبل الوصول إلى مصادر مياه الشرب النقية، وفي المقابل أن حوالي 2.5 مليار شخص يفتقر إلى مرافق الصرف الصحي، مما جعل الحق في الماء كحق من حقوق الإنسان، لا يقل أهمية عن الحقوق الأخرى التي وردت في المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، على غرار الحق في الحياة والحق في الصحة والحق في بيئة سليمة والحق في السلامة الجسدية.

ويطرح مشكل قلة الماء بحدة في العديد من المناطق الجافة وشبه الجافة، كالمغرب العربي وبلدان الشرق الأوسط، باعتباره قوام الحياة وأساسها الرئيسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، كما أنه عماد كل حضارة وتنمية، إذ تتجلى خصوصية الماء في كونه أثمن شيء خلقه الله تعالى بعد البشر. وإذا كان الانسان قد استطاع في تفاعله مع الطبيعة أن يسخر جلها لخدمته ولأغراضه، واستطاع أيضا بفعل العلم أن يخترع كل ما هو في حاجة إليه، إلا أن حاجته من الماء لا يمكن أبدا تلبيتها بتركيب وتصنيع هذه المادة، أو بتعويضها بغيرها.

علاوة على ذلك، يشكل الماء موضوعا أنثروبولوجيا بامتياز، وهو بمثابة مرآة للمجتمع وقيمة اجتماعية تتربع على أقدس مقدسات مجتمع الواحة، ووعاء اجتماعيا وثقافيا ودينيا لعملية إنتاج الطقوس الزاخرة بدلالات القداسة)حمودا، 2021، ص99(.   كما يشكل في مجتمعات الندرة شرط الوجود والامتداد، إنه يختزل تاريخ المجال والإنسان. فملكية الماء في المغرب الواحي لا تقل أهمية عن ملكية الأرض، فبسببه نشأت في تاريخ المغرب القديم، العديد من الصراعات وما زالت)العطري، 2019، ص80(، هذه الأهمية القصوى للماء في المجتمع الواحي، تستوجب مزيدا من التنظيم، وفقا لمبادئ الشرع، والعرف، والقانون، التي تستند إليها الجماعة في تدبيرها للمشترك الحيوي، فمن خلال التشبع بالتنظيم الشرعي والعرفي لحقوق الماء، والمتمثلة في حق الشرب، وحق الشفعة، وحق المجرى، وحق العالية على السافلة، فضلا عما تراكم من أعراف وأحكام في إطار فقه النوازل تمكن المجتمع الواحي من إنتاج منظومة قانونية محلية تؤطر علاقة الأفراد والجماعات بالثروة المائية. والبحث باستمرار عن آليات وتعبيرات لتأمين شرط البقاء، في مواجهة مخاطر الندرة والهدر البيئي)العطري، 2021، ص 77(.

تنبع أهمية الورقة من تموضع واحة فركلة جغرافيا ضمن مجال صحراوي يعرف خصاصاً كبيراً في الموارد المائية، والذي تقوم عليه الحياة البشرية والطبيعية. وتتوخى رصد جوانب من المسألة المائية وأهميته بواحات تافيلالت عامة وفركلة بشكل خاص في سياق مهددات التقلبات المناخية على هذا المورد الحيوي، والوقوف عن دور الذاكرة المحلية من خلال الأمثال والأعراف والحكايات الشعبية المحلية في الحفاظ على الماء وبالتالي على ديمومة واستدامة المجال والمجتمع.

ولأن واحة فركلة في الجنوب الشرقي للمغرب تعاني من ندرة المياه والتي يعتمد عليها السكان بشكل كبير، وهذا يشكل تحديًا كبيرًا للاستدامة البيئية والتنمية المحلية. وبناءً على ذلك، تنبثق إشكالية رئيسة تتمثل في: هل تولي ساكنة واحة فركلة أهمية لعنصر الماء، وهل للذاكرة المحلية أثر إيجابي على لإستدامة الماء والبيئة بمناطق الواحات المغربية.

وللإشارة، تقعواحة فركلة مجاليّا بحوض غريس بالجنوب الشرقي للمغرب، على السفوح الجنوبية الشرقية للأطلس الكبير، تابعة إداريا لقيادة فركلة، دائرة تنجداد بإقليم الرشيدية، التابع لجهة درعة تافيلالت. تبعد بـ 78 كم عن مدينة الرشيدية مركز الإقليم. يحدّها من جهة الشرق جماعة ملاعب ومن الجنوب جماعة ألنيف، أما من الغرب فتحدها عمالة تنغير (الخريطة 1(.

تقدر مساحتها واحة فركلة بحوالي 930 كلم مربع. أي ما يعادل 2800 ألف هكتار، تنتشر الجبال على مساحة18450 هكتار، والتلال على 5145 ه ثم الهضاب على 73800 ه)بيان، 2021، ص56(.

مناخيا، تنتمي واحة فركلة إلى المناطق الجنوبية الشرقية للمغرب، ذات المناخ الصحراوي، حيث إن التساقطات لا تتعدى في جزء كبير 100 ملم سنويا، وهذا ما سيعقّد أكثر علاقة إنسان هذه المناطق بوسطه الطبيعي، خاصة علاقته بالموارد المائية التي تزيد قيمتها في مثل هذه الأوساط الجافة، خصوصا وأن حوض غريس عموما الذي تنتمي إليه الواحة، يتوفر على أراضي زراعية مهمة تفوق الموارد المائية المتاحة.

بشريا، استقرت بالمنطقة مجموعة من الأجناسالبشرية المختلفة، مما أكسبها فسيفساء عرقي ثقافي وتاريخي، بلغ عدد السكان بها حوالي 43999 حسب الإحصاء العام للسكان والسكني لسنة 2014 (8942 نسمة بالمركز الحضري تنجداد، 22722 نسمة بالجماعة القروية فركلة العليا، 12335 نسمة بالجماعة القروية فركلة السفلى)، بمعدل كثافة سكانية تقدر ب 43 ن / كم )خويا، 2022، ص22(.

         خريطة 1: موقع واحة فركلة في إطارها المحلي والإقليمي والوطني

المصدر: عمل شخصي باعتماد نظام المعلومات الجغرافية Arc Gis

أولا: جوانب من المسألة المائية وأهميته بواحات تافيلالت

حاول الفلاح الفيلالي دائما عبر التاريخ البحث عن سبل ووسائل تضمن له ممارسة نشاطه الزراعي بشكل مستمر، لذلك أصبح لزاما عليه أن يتقن استغلال الماء ويحسن تدبيره، لكونه الأساس في استمرارية الحياة. وقد تعددت طرق الاستفادة من المياه الجوفية فضلا عن المياه السطحية. هذه المياه يتم جلبها بواسطة مصدرين أساسيين)تاوشيخت، 2015، ص2(، يتمثل الأول في الجريان الموسمي لوادي زيز وغريس اللذين تحظيان بعدد كبير من المصادر الجغرافية والتاريخية، نظرا لأهميتهما في تاريخ تافيلالت التي تعد هبتهما)تملاين، 2015، ص32(، فهما يتغذيان من منابع جبال الأطلس الكبير ويخترقان الواحة من الغرب وفي الوسط والشرق. أما المصدر الثاني للمياه بتافيلالت، فهو جوفي يستمد مياهه من الفرشاة الباطنية التي تحتل مساحة شاسعة وتمثل منبعا لا ينضب بفعل تغذيته المستمرة بواسطة مياه الثلوج والأمطار والأنهار الجوفية، مما جعل تافيلالت منارة خضراء في وسط الصحراء)أمراني، 2015، ص10(.

ومن أجل الاستغلال المفيد لمياه الواديين، استطاع سكان تافيلالت، خلال العصور التاريخية المتلاحقة من إنجاز شبكة هيدروغرافية مهمة تتمثل في بناء عدة سدود صغيرة وسواقي ونافورات تقوم بتحويل هذه المياه نحو قنوات ذات اتجاهات متعددة وذات أهمية تخترق كل أطراف الواحة. أما بخصوص استغلال المياه الجوفية فيتم عبر وسيلتين تتعلق إحداهما بالخطارة، وهي عبارة عن قناة شبه جوفية تتخللها آبار ارتوازية، بحيث تقوم هذه القناة بنقل الماء من مكان مرتفع جوفي نحو مكان سطحي ومنخفض نسبيا.  أما الوسيلة الثانية، فتتمثل في الآبار التي يجلب منها الماء بواسطة الدلو أو أغرور )صورة 1(التي يصل عمقها ما بين 10 و20 متر بينما يصل عرضها حوالي متر ونصف.

صورة 1: مكونات النظام التقليدي “أغرور” لجلب المياه الجوفية بواحات الجنوب الشرقي

المصدر: عبد الصمد خويا، ” تدبير الموارد المائية بالمنظومات البيئية الواحية في ظل التغيرات المناخية والرهانات التنموية: واحة فركلة بحوض غريس نموذجا”: أطروحة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، 2022، ص 201.

يتبين من خلال ما سبق، أن الظروف البيئية والمناخية الصعبة التي تعرفها منطقة تافيلالت وواحة فركلة بشكل خاص، جعلت الساكنة مؤهلة أكثر لابتكار تقنيات استنباط المياه الجوفية لممارسة الأنشطة الزراعية دون الاعتماد فقط على مياه الفيضانات التي يغلب عليها طابع التذبذب والموسمية. كما حاول الإنسان إلى جانب ذلك – بهذه المناطق- تنظيم عملية توزيع الماء بين السكان، من خلال الاعتماد على عدة طرق كالنوبات المائية ثم الفردية كوحدة قياسية وهي مجموع ما يجري في ساقية خلال الليل والنهار)أخروش، 2003، ص141(.

ثانيا: جوانب أهمية الماء بواحة فركلة بالجنوب الشرقي للمغرب

شكلت محدودية الموارد المائية بمناطق الواحات المغربية عامة وفركلة بشكل خاص نتيجة الأزمات والكوارث الطبيعية المرتبطة بالتغيرات المناخية والتدخلات البشرية غير المعقلنة، دورا مهما في اهتمام الإنسان الواحي بهذا المورد الطبيعي، الذي يشكل شريان الحياة بهذه المناطق. علاوة على كونه يشكل مرآة عاكسة لانشغالات الساكنة المحلية للواحة)حمودا، 2021، ص84(، وهذا الاهتمام بعنصر الماء، يتضح في استحضاره في كل جوانب الحياة للإنسان المستقر بهذه المناطق من خلال الأمثال الشعبية والعادات والطقوس، وفي كل ما له علاقة في الحفاظ على تماسك القبائل وتحديد مكانة الفرد في الهرم الاجتماعي وغيرها.

  1. أهمية الماء لدى ساكنة فركلة من خلال الأمثال والحكايات الشعبية

تعزيز مكانة الماء الرمزية والمادية في المجتمع، لم يتضح فقط من بالاستناد إلى المنظومة القانونية في مستوى الشرع والعرف، بل تواصل وتعضد أيضا، عن طريق المتون الشعبية المفتوحة على الحكايات، والأمثال، والنوادر. التي تؤسس لنظام قيمي قوي التأثير، يسهم، بالفعل وبالقوة في بناء الوضعيات الثقافية والاجتماعية التي تعزز مكانة الماء في المخيال المجتمعي)العطري، 2019، ص81(.

وبواحة فركلة، يشكل التراث الشفوي من خلال الأمثال المحلية إحدى الوسائل للتعبير عن واقع ساكنة الواحات جراء الأزمات الطبيعية المرتبطة بتوالي فترات الجفاف وما يترتب عنه من خصاص مائي كبير، وما يشكله الماء من أهمية كبرى لاستمرارية واستدامة الواحات، كما أن الجمالية اللغوية لهذه الأمثال المحلية سهلت حفظها، مما ساهم في امتداد تاريخي لها وجعلها مصدرا من المصادر، التي يمكن الاعتماد عليها في دراسة عنصر الماء، ومن بين هذه الأمثال المحلية نجد:

  • أمان أخف تبنا ” )تيتاو، 2010، ص28(الماء هو الأساس الذي تبنى عليه كل الأمور، فلا قيمة للأرض مثلا بدون ماء.
  • أونامي إيكا ربي يامأمان ” )ازيدان، 2010، ص165(من منًّ عليه اللـه، فلينعم عليه بالماء.
  • أمان أ إيمان ” )بلقاسمي، 2010، ص37(يا ماء يا روح.
  • ديكات أنزار إفرح أمردون ” حين يسقط المطر تفرح الأراضي البورية والجرداء.

وبجوار واحة فركلة، في منطقة تودغى، حيث هشاشة المجال وندرة التساقطات المطرية، تصبح الحكاية مدخلا مساهمة بقوة في حماية الثروة المائية عن طريق استثمار آليات اللعنة والثواب)العطري، 2021، ص38(، حيث تقول الحكاية الأولى عن عين مائية في تودغى العليا، أن بها أفعى مباركة لا تمس بسوء إلا من غسل ثيابه أو رجليه في العين، أما من يريد الشرب فقط، فالأفعى لا تمسه بسوء، وتيسر له كثيرا من الأعمال في حياته، وبسبب الاعتقاد في وجود هده الأفعى، فإن تلك العين لا تستعمل إلا للشرب، ولا تتعرض بالمرة للتلوث.

وفي نفس السياق نستحضر حكاية رواها عبد الرحيم العطري، وهي حكاية السمك المقدس في عين توجد قريبا من مضايق تودغى، والتي يؤكد سكان المنطقة أن بها أسماكا مباركة، تظهر يوم الجمعة أساسا، وتحمل أقراطا في زعانفها، لا ينبغي أن تصطاد أو تؤكل، وبذلك يحذر من إيذائها، حيث يشير الكثيرون إلى سوء عاقبة المعتدين على الأسماك، وجودة مياه العين.

ومن جهة ثانية، كان الماء أيضا مصدر الفرح والابتهاج والإنشاد، خصوصا القصائد التي تم إنتاجها في المنطقة، والتي تتغنى بالماء والوسائل المستعملة في العلاقة مع الماء. وهو ما تؤكده قصيدة الخطارة مع أغرور )بوزكري، 2012، ص28(وهذه بعض أبياتها:

البرح الخطارة مع أغرور ادربوا

أجمل واقف بنتهم عالاخبار

العيب تالي قالت الخطارة ولا مايكونش

من تبعك فتراب الجنون تخليه أنت غدار

الملوخية اطلع رقيقة بالسموم

ماك مالح ما ينبت لفت ولا جزر

الخطارة قالت أنت فالأرض مخبية بالتمام

عينك فخوخ على طول الطريق كلك خطر

أحبل طويل من الخلا جيا

جنابك ماشمو ندا تسقي الحفار

على النوبة اضاربوا وتخاصموا الأقوام

شحال عداوة شعلتي ما بين الجار وجار

من خلال ما سبق، يتضح أن الذاكرة المحلية من خلال الأمثال والحكايات الشعبية المحلية ذات أهمية للحفاظ على الماء وبالتالي على ديمومة واستدامة المجال والمجتمع، حيث اعتبر الماء سر الوجود وخير النعم الربانية. وهنا يتضح ما ذهب إليه جورج بالا ندييه بالقول: “في مجتمعات الندرة هناك ثراء كبير(Geoge, 1981, p10)” ففضلا على ندرة الموارد الطبيعية، هناك ثراء في القيم والانشغالات الرمزية للمجتمع)العطري، 2019، ص83(. كما تبين لنا من خلال الحكايات السابقة، ذلك أن ما يهم منها هي المرامي والغايات، فبدل أن نتعب أنفسنا بحقيقة الأفعى المباركة والسمك المقدس، علينا أن ننتبه إلى غايات إنتاج الحكاية، والتي لا تبتعد عن أهداف حماية الماء من الضياع والتلوث، فالحكاية بهذا الشكل تصير حليفا استراتيجيا للتنمية.

  1. دور الأعراف والمعتقدات الدينية خلال فترات الجفاف وندرة المياه

فرض تتابع وتواتر فترات الجفاف، وما رافق ذلك من ندرة وخصاص في الموارد المائية بواحات الجنوب الشرقي للمغربي عامة، وواحة فركلة بشكل خاص، في تفنن وإبداع الإنسان لمجموعة من الطقوس وتمسكه وارتباطه بعدة معتقدات دينية، من أبرزها:

  • صلاة الاستسقاء

حين يعم الجفاف ويحبس المطر بكل ربوع البلاد، تدعو وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لأداء صلاة الاستسقاء بكل أرجاء المملكة، حيث بواحة فركلة يخرج الرجال والأطفال إلى المصلى أو إحدى البيادر من أجل التوسل إلى الله سبحانه وتعالى لإنزال المطر وإغاثة العباد، خلالها يحذر الخطيب الناس من أسباب القحط ويحذرهم أيضا من المعاصي التي قد تؤدي لانحباس المطر،كما يحث الرجال على ضرورة إحضار الصغار، نظرا لكونهم لم يبلغوا بعد سن الرشد، وبالتالي ما زالوا غير مؤهلين للمحاسبة الإلهية على ذنوبهم، وهذا من شأنه أن يدعم استجابة الله لدعاء صلاة الاستسقاء )أزيدان، 2010، ص2 .(يتأكد ذلك أيضا في الوضوء داخل مجال الصحراء، فالوضوء لا يصح إلا إذا كان بالقرب من شجرة، وبذلك يصير استعدادا للصلاة وسقيا محتملا لكائن حي، مما يمنحه واقعة البناء الديني والايكولوجي في الآن ذاته.

  • الصدقة:

تشكل الصدقة شكلا من أشكال العادات والتقاليد الموروثة أبا عن جد، والتي تقوم بها قبائل واحة فركلة كلما انحبس المطر وتراجع صبيب العيون والخطارات نتيجة حساسية النظام الواحي للتغيرات المناخية، فيتم القيام بطقوس معينة حيث يسهر الجميع على تنفيذها حتى تحقق الصدقة أهدافها.

كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فكلما شعر السكان بطول مدة الجفاف يتم التحضير لإقامة “الصدقة” وأول شيء يبدأ به سكان القبيلة حالة قصر تغفرت بفركلة السفلى للقيام بهذه العادة، جمع التبرعات من الأسر المكونة للقبيلة عينية )الدقيق، الخضر…( أو نقدية، ويتطوع عدد من الرجال والنساء معا للقيام بهذه المهمة، ليتم بعد ذلك شراء الأضحية وباقي المستلزمات للتحضير لهذه الوليمة الجماعية لساكنة الدوار ولعابري الطريق.

تقام هذه الصدقة في غالب الأحيان يوم الجمعة الذي يصادف يوم الراحة بالنسبة لأغلبية ساكنة الدوار، حيث يسودها جو من التسامح والإخاء والمحبة، فيظل الجميع يردد في المسجد أو في ساحات القصر كالنوادر عبارة “قدمنا لك وجه النبي يا ربي تعفو علينا…حنا متايبين ليك يا ربي تعفو علينا” وبعد الصلاة يقدم الطعام لكل الحاضرين. وبعد الانتهاء من الأكل يقوم فقيه القبيلة بالدعاء، حيث يتضرع إلى الله عز وجل بأن ينزل الغيث والرحمة، ويصاحب دعاء الفقيه خشوع الحاضرين ورفع الأيدي راجيا من الله نزول المطر. والغريب والملفت للنظر، وفي مناسبات عديدة كما جاء على لسان عدد من شيوخ المنطقة من خلال المقابلات الشفوية، أن بمجرد الانتهاء من الدعاء أو بعد وقت وجيز من انتهاء الدعاء يتم نزول المطر ويستجاب للدعاء.

  • طقوس عروسة المطر (تلغنجــــا)

ليس غريبا أن الثقافة المغربية بشكل عام، والواحية بشكل خاص، تتميز بالثراء الرمزي وتنوع لأشكال وأنماط العيش، وآليات التفاوض مع واقع الندرة، وواقع الندرة كواقع جيواجتماعي، يفرض الدخول في ممارسات للتفاوض مع هذا الواقع، والاستناد بالمرئي واللامرئي)العطري، 2021، ص150(.   في هذا الإطار نجد ساكنة واحة فركلة تمارس بعض الطقوس والتي تراجعت بشكل كبير، اللهم في مناطق قليلة ومعزولة، وذلك خلال مواسم الجفاف والخصاص في الموارد المائية، ومن بين هذه الطقوس ما يسمى عند عموم ساكنة المنطقة بـ “تلغنجا” أو “تسليت ن انزار” والتي يقابلها باللغة العربية عروسة المطر. والذي يعتبر طقسا من طقوس الاستمطار.     “تلغنجا” مشتقة من “أغنجا” الذي يعني الملعقة الخشبية الكبيرة المستعملة في تحريك الطعام أثناء الطهي وإفراغه في الصحن والذي يعتبر في الثقافة المحلية رمزا للخصوبة، وسميت عروسة المطر بـ “تلغنجا” نظرا لكون “أغنجا” يغطى بالملابس حتى يبدو على هيئة عروسة.

بعد إلباس المجسم الزي محلي للعروس وتزيينه بقلادات يقوم الجميع بالطواف في جميع أرجاء الدوار الذي ينتهي في الغالب عند الضريح أو المسجد، مرددين *تاغنجا تاغنجا، ياربي تعطينا الشتا، تاغنجا تاغنجا يارب عطينا الشتا، وا السبولة عطشانة رويها يا مولانا* كما يتم تردد هذه العبارات باللسان الأمازيغي ببعض قصور واحة فركلة على الشكل التالي:

  • أتنغنجا نفلاحن أسيدي ربـي*** كرد أنزار أتنغن توكاحف إغان أسيدي ربي
  • عروس المطر للفلاحين الله *** أنزل المطر حتى ينتشر الكلاء يا مولانا
  • السبولــــة عطشانـــــة *** غيتنا يا مولانا.
  • اكال، أقور وأكال، أربي سومغيتد *** نرد ساكماد إندغ غاس أنزار أيداغ دي إيروران
  • التراب، جف التراب، اسقينا يا رب***ذهبنا إلى الجهة الأخرى ولم يرجعنا إلا المطر
  • “إغر إربي أدﯖرأنزار *** هاتنغنجا”

من جهة ثانية، فما يؤكد عليه البعد الغرائبي في المعرفة الكولونيالية هو أن إدموند  دوتي أشار إلى أن الرحامنة مثلا يلجأون خلال الجفاف إلى شنق شريف أو مرابط بحبل إلى درجة الاختناق الوشيك، ثم يفرغون عليه الماء قبل فك الحبل من حول عنقه، وبعدها مباشرة يسقط المطر)العطري، 2021، ص150(.

  1. أهمية عنصر الماء من خلال تحديد ثمن الأرض

تلعب محدودية الموارد المائية بواحة فركلة، دورا مهما في تحديد المساحة المسقية، لذلك نجد أن الأراضي المسقية بواحة فركلة تكون مرتفعة الثمن مقارنة مع نظيرتها البورية، بل الأكثر من ذلك، فإنثمن الأرض الفلاحية يرتفع كلما اقتربنا من منبع ومصدر مياه الري، خاصة من مياه الخطارة التي تعتبر المصدر الرئيسي للمياه بعدد من قصور ودواوير المنطقة، بقصر تغفرت على سبيل الذكر يكون ثمن الأرض الفلاحية مرتفعا كلما اقتربنا من القطاع الزراعي الذي يسمى عند الساكنة المحلية ب”أكورام” حيث تعتبر هذه الأخيرة نقطة دخول مياه الخطارة، ليعرف تراجعا كلما ابتعدنا عن هذه الأخيرة، حيث يتطلب وصول الماء إلى  بعض القطاعات الزراعية، قطع مسافة طويلة قد تصل إلى 4 كلم وتستغرق وقتا كبيرا، تصل ما بين ساعة ونصف إلى ساعتين حسب ارتفاع أو انخفاض الصبيب، وبالتالي فإن ثمن هذه الأراضي يكون بسيطا حتى وإن تم بيعها مرفوقة بحصة مياه الري.

عموما، هناك عامل ارتباط قوي بين قرب الأرض من الماء وارتفاع ثمنها، كما تتضح أهمية الماء ودوره في تحديد ثمن الأرض انطلاقا أيضا من خلال ارتفاع أو انخفاض صبيب الخطارة، فكلما كان الصبيب مرتفعا صار ثمن الأرض غاليا. ومن هنا فالماء يلعب دورا أساسيا في تحديد ثمن الأرض بواحة فركلة. إلا أن هذه القاعدة العامة لا تكون صحيحة في بعض الحالات، حيث أنه مع طول فترات الجفاف وتراجع الموارد المائية ظهر التوسع والتطاول على هذه الأرض، والترخيص لعملية البناء، خصوصا إذا كانت هذه الأرض قريبة من الشبكة الطرقية الرئيسية فأصبحت مرتفعة الثمن ، وخير دليل على ذلك نذكر الأراضي الفلاحية الممتدة على طول الطريق السياحية الرابطة بين أيت معمر القديم وصولا إلى قصر أسرير عبر قصر تغفرت وتالالت وتايرزة.

  1. دور حصص الماء في تحديد مكانة الفرد داخل القبيلة

يكتسي الماء مكانة بارزة في الذاكرة المحلية لساكنة الواحة، وفي تحديد مكانة الفرد داخل الهرم الاجتماعي أيضا، فإذا كانت الأرض هي المحدد الأساسي للسلم الاجتماعي داخل المناطق المسقية التي تعرف وفرة في الموارد المائية في مقابل محدودية الأراضي الصالحة للزراعة، فإن ندرة وقلة الماء تجعل منه المتحكم الأساسي في التراتبية الاجتماعية داخل المجال الترابي لواحة فركلة، حيث تتميز هذه الأخيرة بوجود عناصر إثنية مختلفة، ففي قمة الهرم الاجتماعي نجد الشرفاء وأيت مرغاد وإكرامن ثم العوام أما في القاعدة نجد “إقبلين” أو ما يسمى بالحراطين، كل منهم إحتل المكانة التي هو عليها داخل الهرم الاجتماعي الواحي نظرا لامتلاكه حصة مائية أو افتقاره لها. فالسيد يصبح سيدا لأنه يملك حصة من الماء، والخماس في أسفل الهرم لأنه لا يملكها، وهو ما يجعل هذا الأخير يضطر للعمل في حقول السيد، لكن عدم ملكيته لحصة الماء يجعل أرضه بدون جدوى، اللهم في إطار الزراعة البورية الخاضعة للتقلبات المناخية والتي لا تكفيه لسد حاجياته، أو في إطار زراعة مسقية باستعمال تقنية أغرور، والتي تتطلب مجهودا كبيرا مقابل إنتاجية ضعيفة.

وفي إطار التراتبية الاجتماعية كما سبق ذكرها، نجد أن الشرفاء كانوا يحضون باحترام وتقدير الجميع لاعتقاد الساكنة الروحي بأنهم يتوفرون على ملكات تمكنهم من التوسط الإيجابي مع الله للاستجابة ثم هطول المطر، وهو ما جعلهم في رغد العيش، لكون الساكنة تخصص لهم نصيبا من المحصول تبركا بهم وطمعا في دعواتهم. كما أن للماء في تاريخ الواحة دور مهم في تحديد نصيب الفرد من الأراضي الجماعية التي يتم تقسيمها قصد الاستغلال، فكلما كانت الحصة المائية للفرد كبيرة، كلما انعكس ذلك على مساحة نصيبه من الأراضي الجماعية المقسمة قصد الاستغلال، وهكذا فالماء هو الذي يضمن لمالكيه استمرارهم في قمة الهرم الاجتماعي.

هذا الترتيب في الهرم الاجتماعي سيعرف تغيرا خصوصا خلال ثمانينيات القرن الماضي، حيث أن توالي فترات الجفاف بالمنطقة، وفتح باب الهجرة الخارجية جعل الحراطين (إقبلين) الذين كان معظمهم يشتغل في إطار “الخماسة” يستثمرون أموالهم في شراء الأراضي والمضخات المائية وبالتالي حفر الآبار والتحرر من عقدة امتلاك الماء.

  1. أهمية الماء بواحة فركلة من خلال اختيار الموضع والموقع

ارتبط إشعاع واحة فركلة بموضعها وموقعها الاستراتيجي الذي نشأت فيه دواويرها وقصورها لأول مرة، إذ يجمع بالأساس بين العنصر الطبوغرافي والذي يوافق غالبا سهل فركلة الذي يوفر تربة صالحة للزراعة، وعنصر المياه الذي يشكل عصب الحياة على طول جنبات المجاري المائية الرئيسية )واد فركلة، واد تنكرفة، واد السات(. كما أن الطبقات الجيولوجية الواقعة تحت موضع واحة فركلة وخاصة الفرشة القريبة من السطح جد غنية بفرشات مائية مهمة، بدليل الانتشار الواسع لتقنية الخطارات مند القديم بالمنطقة. والتي من المستحيل استمرارها واستدامتها ثم تغذيتها في غياب فرشة قريبة من السطح، رغم أن مياهها لم تكن كافية في تلك الفترات، بحجة لجوء السكان إلى بناء السدود التحولية لاستغلال مياه الفيض. وبالتالي فاختيار موضع وموقع واحة فركلة ينم عن حنكة وحسن اختيار، على التركيز على تواجد عنصر استمرارية الحياة وهو الماء طبعا. كما يعكس من ناحية ثانية، مدى تأقلم وتكيف الإنسان مع خصائص البيئة الجافة منذ القديم.

لكن وبدخول المستعمر إلى المنطقة، وشق الطريق الوطنية رقم 10 التي تربط بين مركز الإقليم الرشيدية ومدينة ورززات، تراجعت مكانة المراكز القروية، خاصة مركز أسرير الذي كان في فترات سابقة القلب النابض، من خلال احتوائه على سوق تجاري واحتكاره لمختلف الحرف والخدمات بالمنطقة ليحل مكانها مركز تنجداد الذي تطور بشكل كبير بعد الاستقلال. انطلاقا من هذا التاريخ، حيث بدأ هذا المركز في التوسع وأصبحت الساكنة تهاجر من القصر للاستقرار بالمركز الجديد وعلى طول الطريق الوطنيةرقم 10، خاصة في الوقت الذي عرفت فيه هذه المراكز القروية نقصا حادا في الخدمات العمومية (التعليم، الصحة…) والتجهيزات (الماء، الكهرباء، الطرق…)، كما زاد من حدة مشكل الهجرة نحو هذا المركز تشابك عدد من المخاطر الطبيعية، في مقدمتها: توالي فترات الجفاف، الفيضانات، التصحر…إلخ.

  1. الصراع والتضامن حول الماء وجهان لعملة واحدة

مند القديم، لم يكن صراع الإنسان داخل الواحات بسبب عوامل طبيعية فقط، من قبيل الجفاف، الندرة، التغيرات المناخية، الاستغلال غير المعقلن للماء في قطاع الري الذي لا زال يعتمد على السقي التقليدي على نطاق واسع، حماية التربة المهددة بزحف الرمال والتصحر ثم حماية الأراضي المهددة بفيضانات الأودية خلال بعض فترات السنة، بل يوازيه نزاع وصراع أهالي الواحة حول الثرة المائية وحول حيازتها ووضع اليد على نقطها ومصادرها الأساسية، مما جعل إشكالية الماء بواحة فركلة تكتسي طابعا خاص، مركب ومعقد. ويتأكد هذا الطرح  من خلال بعض العبارات التي تتردد على مسامعنا من قبيل “لواحد كيموت يا على بلادو يا على ولادو” وحين الحديث هنا على الأرض فهذا لا يعني أنه بمعزل عن الماء” ففي واحة ملاعب، لعل أبرز الصراعات والتي لا زالت ذاكرة شيوخ قبائل واحة ملاعب تحتفظ ببعض جزيئاتها، صراعات أيت عطا مع عرب الصباح، الذين كانوا مستقرين بواحة إكلي)آخروش، 2003، ص160(، والذي نجح أيت عطا في طردهم من هذه الواحة -ملاعب- بعد معارك طويلة، كذلك، معارك أيت عطا مع قبيلة “التواركة”، التي كانت تستقر بواحة تروك قبل أن يقوم أيت عطا بطردهم من هذه الواحة، بالإضافة إلى الصراعات الطويلة بين أيت عطا وأيت مرغاد حول الواحات)قسطاني، 1996، ص70(. كل هذا يبين الدور الذي لعبه الماء في حدوث الصراعات بين القبائل بالمنطقة.

بواحة فركلة، فإن تراجع مياه الأودية وطول فترات الجفاف قد ساهم في مناسبات عدة في صراعات حول الماء، والذي قد ينتهي أحيانا إلى وقوع حالات من الوفيات، هذا ما تأكده وثيقة تجديد الأمانبفركلة التي دعا إليها حفدة الشيخ علي بن يوسف سنة 1086 هـ / 1675م وجود صراعات ونزاعات فردية وجماعية حول الماء والأرض، هذا ما أرغم هؤلاء على عقد هذه الاتفاقية قصد إيقاف الصراعات ومعاقبة المعتدين) ازيدان، 2010، ص27(.

والجدير بالذكر أن هذا الصراع حول الماء بين القصور المجاورة وبين أفراد نفس القصر، لا زال إلى يومنا هذا حول مياه الفيض، فبقصر تغفرت أو كردمت مثلا، يشتد الصراع بين الساكنة التي تملك الأرض في عالية الساقية مع الساكنة التي توجد في السافلة، بالرغم من وجود نظام عرفي لتدبير هذه المياه، إما بسبب كون أصحاب العالية يقومون بحجز المياه كليا أو القيام بعملية السقي بشكل مستمر أثناء تكرار حملات الفيض في زمن قصير رغم أنهم لم يكونوا في حاجة للماء أو لأسباب أخرى متعددة.

من المستملحات التي يرددها سكان قصور أغبالو نكردوس، حسب الروايات الشفوية وهم معروفون بالصراع فيما بينهم على الأرض والماء بوجود سبب أو غيابه بعد هطول الأمطار وحمل واد تانكرفة “نوزناون الحق نون نينيغان” ومعنى ذلك “لقد أرسلنا لكم نصيبكم من الخصام والصراع” نظرا لكون مياه الفيض تسبب نزاعات بين الفلاحين.

ونظرا لهذه الاعتبارات، نجد أن الإنسان بواحة فركلة، كان حريصا على توثيق ملكية الماء، وكل ما له علاقة باستغلال الماء، لتفادي ما أمكن الصراعات والنزاعات التي قد تحدث بسببه. فمن خلال وثيقة محلية يتضح الحرص الشديد على توثيق شراء أهل تايرزة بفركلة السفلى لأرض بتاريخ 1246 هجرية لمرور ساقية تايرزة بها، وذلك حتى يتم استغلالها والاستفادة منها بشكل دائم مما دفعهم إلى توثيق ذلك عدليا)أمراني، 2015، ص14(.

ويتمثل الوجه الآخر لمظاهر التكامل والتضامن بين قبائل المنطقة فيما يخص مسألة الماء، في وجود اتفاقيات ومعاهدات شفوية لتنظيم العلاقات بين القصور، من بين هذه المعاهدات المعروفة بفركلة نجد معاهدة “تافركانت” وعقد اتفاقيات بين القصور حول حقوق الموارد المائية بشكل يرضي كل الأطراف تفاديا للصراع ومن أهم هذه الحقوق المكتسبة إزاء التضامن حول الماء )ازيدان، 2010، ص78(:

  • التخلي عن مبدأ أولوية العالية على السافلة: رغم وجود نظام عرفي يقر بأحقية العالية في الاستفادة من مياه الفيض إلا أنه أحيانا يتم التخلي عن هذا المبدأ لأسباب متعددة )مهدان، 2007، ص125(، منها ما هو تقني وهيدرولوجي أو اجتماعيوديني…إلخ.
  • وضع السدود التحويلية ومرور السواقي: حيث فرضت حتمية العوامل الطبيعية من طبوغرافية وهيدرولوجية…إلخ، تواجد علاقات التضامن بين سكان العالية والسافلة، والتي من مظاهرها، وضع سدود تحويلية وبالتالي مرور السواقي (سواقي مياه الفيض والخطارات) في العالية، نظرا لكون المشارات الفلاحية تكون عادة أكثر ارتفاعا من مستوى الوادي، ويتم ذلك أحيانا بالمقابل حيث تستفيد كل من ساكنة قصور تايرزة وتالالت بالجماعة القروية فركلة السفلى من أخذ مياه الشرب من خطارة تغفرت التي تعبر أراضيهم، كما يمكن أن يتم ذلك بدون مقابل، حيث ثم وضع سد تحويلي من طرف قبيلة تغفرت مثلا على أراضي تايرزة بالعالية بمنطقة “الشابورة” لتحويل جزء من مياه واد تانكرفة وبالتالي مرور ساقية الفيض على أراضي كل من قصر تالالت وقصر وتايرزة رغم عدم استفادة هذه الأخيرة من هذه التجهيزات الهيدروفلاحية.
  1. دور الماء في تقوية التماسك بين أفراد القبيلة والقبائل المجاورة

فرضت قلة الإمكانات المادية وندرة المياه بمناطق الواحات المغربية، وواحة فركلة بشكل خاص في فترات سابقة واهتمام الدولة بالمناطق الحضرية بالمقارنة مع المجالات الريفية والتعامل بمنطق المردودية حتى داخل نفس القطاع الواحد، خلق أشكال من التعاون وتكامل الجهود لما يتطلبه الوصول إلى الماء وتعبئتها وإيصالها إلى الحقول من تقنيات وأعمال جماعية، ومن هنا جاء اختيار قبائل واحة فركلة لمجموعة من التقنيات، أهمها تقنية الخطارات والسدود التحويلية وغيرها. وهي تقنيات يتطلب إنجازها تكاثف الجهود بين أفراد القبيلة، إذ يستحيل على الفرد إنجاز هذه التقنيات نظرا لضخامتها وتتطلب يدا عاملة كثيرة هذا ما يجعل الحصول على الماء في هذه المجالات، والحفاظ عليه أمرا مستحيلا، إلا في إطار جماعي متماسك، لضمان استدامته من خلال أعمال الصيانة المستمرة، التي تزيد بدورها في التحام القبيلة، مما يجعل من الماء الدافع إلى الالتحام القبلي والمحافظة عليه.

لوحة 1: جانب من التعاون بين أفراد القبيلة لتهيئة السواقي وتحويل الماء نحول الحقول

المصدر: معاينة ميدانية ( أكتوبر 2020)

  1. دور الماء في الخضوع للسلطة الروحية للأولياء حسب بعض الروايات الشفوية بالمنطقة

ارتباط بعض القبائل وخضوعهم للسلطة الروحية لأحد الأولياء بالمنطقة، يجد أحيانا تفسيره بالأساس بالماء، لاعتقاد القبيلة بامتلاكه البركة، والرغبة في استمرارية الماء تدفع القبائل إلى تقديم هبات سنوية من قبيل الأضاحي أو تقديم جزء من المحاصيل الزراعية، وأحيانا أخرى حصة من الماء لفائدة الوالي الصالح. فعلى سبيل المثال، فقد وقفت قبيلة واحة مروتشة، ما قدره 36 ساعة من مياه العين في كل 14 يوما لفائدة الوالي الصالح سيدي أحمد الهواري، وكذلك قبيلة واحة اكلي التي تخصص جزء من المحصول لفائدة نفس الوالي الصالح، مما يبرز المكانة التي حضي بها الماء بالنسبة للإنسان الواحي.

خاتمة

بسبب واقع الندرة التي تعرفه واحة فركلة، شكل الماء قضية يومية، من خلال اكتساب الأهالي ثقافة تدبير هامة، وحكامة رشيدة، ناتجة عن الخبرة في التعامل مع الإشكالات المتعلقة بالماء ونظامه وكل ما يتعلق ببناء السواقي والسدود التحويلية وأغرورن والخطارات وغير ذلك. والملاحظ من هذه التقنيات، أنه رغم بساطتها إلا أنها استطاعت أن تؤدي الغاية المتوخاة منها، كما تنم عن مستوى عال من البراعة والابتكار اللذين حتمتهما الظروف الطبيعية والمناخية القاسية بالمنطقة. كما أن هذا السياق أيضا، فرض الدخول في مشاريع جماعية لتحصين الحقوق والواجبات، لعل أبرزها تأسيس أشكال من التعاون وتكامل الجهود لما يتوافق مع متطلبات الوصول إلى الماء وتعبئته وإيصاله إلى الحقول، وهي تقنيات يقتضي إنجازها تكاثف الجهود بين أفراد القبيلة الواحدة، إذ يستحيل على الفرد إنجازها، نظرا لضخامتها وما تتطلبها من يد عاملة كثيرة.

ومن جهة ثانية، تبين أن للأعراف دورا هاما في قضايا الماء من خلال حسن ونجاعة ضبطه وتوزيعه بين ذوي الحقوق لتجنب الدخول في نزاعات وحروب من خلال مبدأ حفظ المصلحة العامة ورفع الضرر، كما يجب ألا ننسى دور المعتقد والحكاية، حيث يستأثر فيهما عنصر الماء بأهمية قصوى وما يواكبهما من ممارسات تجعل منه شيئا مقدسا كقدسية “ماء زمزم” الذي يتبرك به. هذا ما يجعل الحصول على الماء في مناطق الندرة والحفاظ عليه أمرا صعبا، إلا في إطار جماعي متماسك لضمان استدامته وبالتالي ضمان استقرار الإنسان والمحافظة على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة.

إلا أن التحولات الراهنة التي تعرفها المناطق الواحية خلال العقود الأخيرة، كما هو الشأن بالنسبة لباقي مناطق المعمور )التغيرات المناخية، النمو الديمغرافي السريع…( وما رافق ذلك من ارتفاع في طلب  الماء، جعلها تعرف نوعا من الانتقال من التدبير الاجتماعي إلى التدبير الفردي للموارد المائية وبروز أنماط وطرق جديدة لاستغلال الموارد المائية، والتي أثر معظمها على البيئة والمجتمع بمناطق الواحات.

المراجع

العربية

  • أخروش، مولاي الحسن. (2003). المجتمع القبلي ودور الزوايا بالحوض الأعلى والأوسط لوادي غريس من القرن 14 م إلى القرن 19 م. أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه. جامعة محمد بن عبد الله. فاس.
  • أزيدان، جمال. (2010). التدبير الاجتماعي للموارد المائية بواحة فركلة. بحث لنيل شهادة الماستر، جامعة القاضي عياض. مراكش.
  • أعفير، مصطفى، )2020(. “نشأة وتدبير خطر الفيضانات بالمناطق شبه الجافة: حالة واحة فركلة”، ورقة مقدمة في أشغال الندوة الدولية تقوية تكيف الأنظمة المائية في ظل التغيرات العامة من القياس الهيدرولوجي الى نماذج التدبير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة مولاي سليمان، بني ملال المغرب.
  • بلقاسمي، مصطفى. (2010). التدبير الاجتماعي للموارد المائية بواحات ملاعب. رسالة لنيل شهادة الماستر. جامعة القاضي عياض. مراكش.
  • بوزكري، فدوى. (2012). دور التراث في خدمة التنمية السياحية: منطقة تافيلالت نموذجا. بحث لنيل شهادة الاجازة المهنية، جامعة مولاي إسماعيل. الرشيدية.
  • بيان، عبد السلام. )2021(.التنظيمات التقليدية والحديثة بالواحات المغربية، واحة فركلة نموذجا، دراسة سوسيو أنتروبولوجية. أطروحة دكتوراه. جامعة ابن طفيل. القنيطرة.
  • تاوشيخت، لحسن. (2015). سجلماسة والماء، تاريخيا وأثريا. مجلة واحات المغرب، العدد الثاني.
  • تملاين، ابتسام. (2015). الانسان وعنصر الماء بواحات تافيلالت: التدبير والتمثلات. مجلة واحات المغرب، العدد الثاني.
  • حمودا، حنان. (2021). الماء وصناعة المقدس؛ دراسة أنتروبولوجية لبنيات المجتمع الواحي بالمغرب. أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه. جامعة محمد الخامس. الرباط.
  • خويا، عبد الصمد. (2021). الخطارة كتقنية للتكيف والتأقلم مع التغيرات المناخية بواحات تافيلالت: مجلة القضايا البيئية بالمغرب، التحديات وأساليب التدبير المستدام، العدد الثامن.
  • خويا، عبد الصمد. )2022(. تدبير الموارد المائية بالمنظومات البيئية الواحية في ظل التغيرات المناخية والرهانات التنموية: واحة فركلة بحوض غريس نموذجا. أطروحة دكتوراه في الجغرافية. جامعة سيدي محمد بن عبد الله. فاس.
  • العطري، عبد الرحيم. (2019). من ثراء الثقافة المغربية: الحكاية الشعبية و”تقديس” الماء في مجتمعات الندرة. مجلة الثقافة المغربية، العدد 38.
  • العطري، عبد الرحيم،(2021). تدبير ندرة المياه في المجالات القروية، قراءة في تجارب محلية بمنطقة الرحامنة، مجلة البيئة والتنمية المستديمة أدوار جديدة واعدة للعلوم الاجتماعية، العدد 8.
  • لمراني، علوي محمد، (1999). قضايا الماء في بلاد المغرب الأقصى من خلال كتب النوازل الفقهية “المعيار للونشريسي كنموذج”، الماء في تاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق جامعة الحسن الثاني، سلسلة الندوات رقم 11.
  • مهدان، امحمد. (2007). الماء والتنظيم الاجتماعي: دراسة سوسيولوجية لأشكال التدبير الاجتماعي للسقي بواحة تودغى. أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه. جامعة الحسن الثاني. المحمدية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *