أ.د. جنان قحطان فرحان

أستاذ الأدب الأندلسي ، جامعة بغداد ، كلية التربية للبنات ، العراق .

فيديريكو غارسيا لوركا(( ١٨٩٧ – ١٩٣٦ م ))

   من أهم الشعراء الإسبان في القرن العشرين ،نشر دواوين شعرية عدة فضلا عن بعض المسرحيات، عاش في مدريد منذ عام ١٩١٩م ،ولعل من اشهر مؤلفاته ديوانه ( الأغاني الغجرية) ،خلال الحرب الأهلية في إسبانيا، أُعتقل لوركا وأُعدم على يد القوات الفاشية المؤيدة للطاغية فرانسيسكو فرانكو ،وكان عمره انذاك (38) عاما ،لحظة إعدام الشاعر لوركا رميا بالرصاص كان يصرخ مخاطبا زوجته ماريانا قائلا :

ما الإنسان بدون حرية يا ماريانا

أخبريني ،كيف أُحبك إذا لم أكن حرا ؟

فهل استطيع اهدائك قلبي إذا لم يكن ملكي ؟

   مثّل في أعماله الشهرية الأندلس القديمة وإسبانيا الحديثة ،واصفا إياها بالنيلوفر ،والازهار الفاتنة ،والفجيعة وماحلّ بغرناطة  وقرطبة ،واشبيلية ،تلك المدن التي كانت متألقة  في النهار وفي الليل ،كرهه الفاشيون لأنه قاد الناس الى الحقيقة والى الجمال.

المدهش في قصائد لوركا أنها تستطيع أن تتجاوز حواجز الزمن واللغة على حد سواء لتثير اعجابنا وتطرب أسماعنا،ففي شعره نلحظ الابداع الفني وقد تجسد بأبهى صوره الشعرية ،ذلك الابداع الشعري الفريد الذي انماز به لوركا عن غيره من شعراء عصره ،تتجلى قدرته الفذة بتوظيف صور شعرية واستعارات لطيفة تحلق في آفاق الخيال الرحب ، ولقد كان لوركا يحب إنشاد شعره،لأنه يعتقد أن الشعر بحاجة الى ناقل ..الى كائن حي، وهذا ماذكره في احدى مقالاته ،ويرى أيضا أن فقدان الشعور ليس اكثر أنواع الفقدان مأساوية ،وإنما فقدان القدرة على تخيل أن الوضع الحالي من الممكن أن يتغير هو الأكثر مأساوية .

يقول معلقا على مأساة سقوط الأندلس: (( لقد ضاعت حضارةٌ رائعةٌ ،لانظير لها ،ضاع الشعر ،ضاعت علوم الفلك ،ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة لامثيل لها لكل ذلك أجمع. ))

كان لوركا ذا دم أندلسي، فليس غريبا أن نتامل تجربته الشعرية ،إذ عُدّ في الأوساط رمزا ثوريا للشاعر المعاصر عبر ارتباطه الوثيق بهموم وطنه والعالم من جهة ،والانفتاح والتجديد من جهة أخرى.

من روائع كلامهنرصد نثرا بليغا جدا ، حين زار مدينة غرناطة مع زوجته ، رأى سائلا ضريرا ،فقال لزوجته : أجزلي له العطاء إذ لا توجد حسرة أعمق وأوجع من أن يكون الإنسان أعمى في غرناطة .

لقد ظهرت مدن إسبانيا في اعمال لوركا الشعرية فيها مسحة حزن، ومرارة، وألم ،وانطواء على طبيعتها الخاصة قائلا:

قرطبة

بعيدة ووحيدة

…………

الحسرات وحدها تجدف في مياه غرناطة .

كذلك يفصح عن غربته الروحية وعن توجعه في وطنه الحبيب القريب الى نفسه كثيرا من قصيدة اليد المستحيلة  قائلا::

لا أتمنى أكثر من يد

يد جريحة لو أمكن

لا اتمنى غير يد

ولو قضيت ألف ليلة بلا مضجع

ستكون حمامة إلى قلبي مشدودة

ستكون حارسة في ليل عبوري

كل شيء مضى وانقضى

كل ماتبقى توّرد بلا اسم

كوكب متكامل

ماتبقى شيء آخر ،ريح حزينة

بينما تفر  الاوراق أسرابا

شاعرنا يستشعر الرغبة بالمواساة ،ويتمنى الاستقرار .

كثيرا ماترد العيون رمزا ،لاضاعة لوركا هويته ،والعيون تظهر بصورة مؤلمة لتذكره بالخلاص المفقود ،قائلا::

عيون لا أجرؤ على لقياها في الحلم

في مملكة حلم الموت

انها لاتظهر

العيون ليست هنا

في وادي النجوم المحتضرة هذا

في هذا الوادي الأجوف

هذا الفك المحطم لممالكنا الضائعة .

نراه يبحث عن هويته بالتضرع إلى عيني طفولته .

وله من قصيدة غزالة الحب الطارئ ::

لم يكن أحد يدرك عطر الماغنوليا

لم يكن أحد يعرف أنك تعذبين

طائر حب بين أسنانك

الماغنوليا …كبيرة الأزهار من فصيلة تشبه النيلوفر كثيرا تزهر بكثرة ،لها رائحة ممتعة للغاية ،نجدها ايضا في معنى مقارب سبقه إليه عبد الجليل بن وهبون المرسي الأندلسي قائلا::

   وبركة تزهو بنيلوفر

                                      نسيمه يشبه ريح الحبيب

   حتى إذا الليل دنا وقته

                                  ومالت الشمس لعين المغيب

  أطبق جفنيه على إلفه

                                  وغاص في الماء حذار الرقيب

شبه اوراق الزهر هنا بالاجفان ،ولهذه الازهار خصوصية عند شعراء الاندلس ،ولاسيما شعراء الغزل ،هذه الازهار تنبت في الماء العذب من تلقاء نفسها ،وتزداد تفتحا كلما ازداد علو الشمس ،وحين يأتي الغروب ،تأخذ الاوراق بالانضمام حتى تغطس في الماء ،والعجيب أن طائرا جميلا صغيرا يتدانى منها عند مهبط الشمس فتضم أوراقها عليه ،وتغيب به في الماء ،وتظل كذلك طوال الليل ،فإذا حلّ الصباح طفت الزهرة على وجه  الماء ،وتفتحت أوراقها، وانطلق منها الطائر الذي غمرته بالحنان الليل كله  فالشاعر يعاني من حاضر محروم فالصورة هنا كناية عن الحرمان العاطفي ، لذلك وجد الشاعر في مشهد هذه الزهرة مايجسد حالته العاطفية ،بيد أن هذا الاحتواء العاطفي الطارئ هو بمثابة تعذيب له حين شبه اوراق الزهرة بالاسنان  ،لقوله ::

لم يدرك أحد أنك تعذبين

طائر حب بين أسنانك

أجمل ما قيل في لوركا ،قول بدر شاكر السياب ::

غارسيه لوركا

في قلبه تنور

النار فيه تطعم الجياع

والماء من جحيمه يفور

طوفانه يطهر الأرض من الشرور

ومقلتاه تنسجان من لظى شراع

تجمعان به من مغازل المطر

خيوطه ومن عيون تقدح الشرر

لاتمام الفائدة تنظر المراجع الاتية ::

* لوركا ، فيدريكو حارثيا ، لوركا الديوان الكامل  ،ترجمة / خليفة محمد التليسي .

*دوران ، مانويل ، (1980) لوركا ،مجموعة مقالات نقدية   ،ترجمها وقدم لها د.عناد غزوان اسماعيل ،د.جعفر صادق الخليلي ،منشورات وزارة الثقافة والإعلام- الجمهورية العراقية ، سلسة الكتب المترجمة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *