الباحث/ محمد بن علال الرياحي

 كلية الآداب والعلوم الإنسانية شعيب الدكالي – الجديدة

وزارة التربية الوطنية – المغرب-

     Riahi17081986@gmail.com

     00212622089307

الملخص

لا يحتاج الواحد منا إلى الكثير من الفطنة ليتنبه إلى أن لكل عصر طرقه الخاصة التي يعبر بها عن رؤيته للعالم من حوله، والتي تتشكل وفق شروط الحياة في تلك المرحلة. كما لا يحتاج المرء إلى الكثير من التفكير والتنقيب ليقر أننا نعيش عصر الصورة بدون منازع؛ فالحقيقة التي لا مراء (لا شك) فيها، هي أننا نعيش داخل كون غير متناه من الصور المتدفقة علينا بلا انقطاع، إلى حد صار من المستحيل أن نفكر من دون صور، أو نتصور حياتنا بدون أن تقع أعيننا على صورة أو لوحة أو ملصق، أو على فيديو أو على شريط سينمائي.. لا سيما في خضم التطور الهائل لوسائل العرض باختلاف أنواعها، ولتكنولوجيا التواصل والاتصال، التي اقتحمت البيوت، واخترقت النفوس، حتى ليكاد يكون لكل امرئ منا عالمان: عالم واقعي وعالم افتراضي يوازيه.

والواقع أن هذا التدفق المهول للصور في عصرنا، قد أدى إلى استلاب الفكر وتسطيح الوعي، وخمول العقل وركونه للكسل، وللجاهزية التي تتيحها علاقة التشابه بين دال الصورة ومدلوله، مما كرس وهم الصورة على حد تعبير رولان بارت؛ فهجرت الكتب، ومالت النفوس إلى المواضيع الضحلة(البسيطة جدا). مما أدى إلى ضمور (تراجع واختفاء) الأعمال الفنية؛ شعرا ومسرحا ورواية… وإلى انحسار قاعدة متلقيها ومحدوديتها كما ونوعا، فصارت الصورة سببا في تكريس التفاهة والابتدال.

يترتب عن كل هذا، أن ندقق النظر في الصورة لا بوصفها استنساخا فجا للواقع، وإنما باعتبارها نسقا لغويا يوازي النسق اللغوي اللفظي، وكونا احتشدت نظمه الخاصة بكثير من المعاني، وألوان متنوعة من صيغ الجمال. وبمعنى من المعاني يتحول النسق البصري إلى علامة داخل كون سيميوطيقي تتولى السيرورات ( عمليات) التأويلية الحفر في إوالياته. يلزم عن هذا التصور أن تعيد الفنون بناء نفسها وفق استراتيجيات هذا الحامل المعرفي الجديد، وأن تطور من جمالياتها باستثمار إمكانياته. إن الرهان -هاهنا- هو مقاومة السفاهة بالفن، والسطحية بالوعي العميق، من أجل إحلال قيم المعرفة والجمال مكان الكسل المعرفي، والارتقاء بالواقع عن طريق الارتقاء بالذوق الفردي والجماعي، وتنمية الفكر الإبداعي والنقدي.

في هذا السياق، تنصب السينما نفسها باعتبارها ذروة الأشكال صُوَرِية (نسبة إلى صور)، وبوصفها فنا مهيمنا يشتمل على فنون القول، وعلى فنون السرد، وعلى فنون العرض، وعلى الموسيقى والطرب..فضلا عن كونها تمكن من تصريف المعارف والقيم العلمية، ومن ممارسة التفكير والتعبير عن مواقفنا تجاه العالم حولنا. ولما كانت بالأساس وليدة الاختراع آلة السينماتوغراف، فقد اكتسبت القدرة على مسايرة الثورات التكنولوجية واستثمار المخترعات في صناعة المؤثرات، وابتداع عوالم خيالية لا علاقة لها بالواقع.

الكلمات المفاتيح:الصورة- النسق البصري- بناء المعنى – المعنى التقريري- المعنى الضمني- السينما – الفكر

The era of the image from the crudeness of perception to the depth of thinking; “Cinema” The Complete Face

      RIAHI MOHAMMED

Faculty of Letters and Human Sciences Choaib Doukkali

Abstract:

One of us does not need much acumen to be aware that hate change has its ways of expressing its vision of the world around him, which are formed according to the conditions of life at that stage. One also does not need much thought and excavation to admit that we are living in the age of the image without dispute. The fact there is (no doubt) is that we live inside an infinite universe of images flowing on us without interruption, to the extent that it is impossible to think without pictures or to imagine our lives without falling on a picture, painting, or poster, on a video or a movie. Especially amid the tremendous development of the means of presentation of all kinds, and to communicate and to the technology of communication, which broke into homes and penetrated souls, so that almost every one of us has two worlds: a real-world and a virtual world parallel.

This huge flow of images in our time has led to the dispossession of thought, the flattening of consciousness, the lethargy of reason and its abandonment of laziness, and the readings offered by the similarity between the Dal and its meaning of the image, which perpetuated the illusion of the image, in the words of Roland BarttesWhichled to atrophy (retreat and disappearance) of works of art; poetry, theatre, novel… Until the base of its recipients receded and limited quantity and quality, the image became a reason for perpetuating insignificance and innovation.

All this entails that we scrutinise the image not as a rude reproduction of reality, but as a linguistic linear parallel to the verbal-linguistic pattern and that its systems have rallied with many meanings and various colours of beauty formulas. In a sense, the visual system turns into a sign within a semiotic universe that interpretive processes in its vicinity. About this perception, the arts need to rebuild themselves art, and superficiality with deep awareness, replace cognitive laziness with the values of knowledge and beauty, improve reality by elevating individual and collective taste, and develop creative and critical thought.

In this context, cinema itself is based as the pinnacle of the form (relative to images), and as a dominant art that includes the arts of saying, narrative arts, performing arts, music and singing. In addition to enabling the conjugation of scientific knowledge and values, practising thinking and expressing our attitudes towards the world around us. The result of the invention was the cinematograph machine, which gained the ability to keep pace with technological revolutions, invest female inventions in the manufacture of influences, and create imaginary worlds that have nothing to do with reality.

 

مقدمة

حين نتصفح شبكة الأنترنيت؛ المواقع، برامج التواصل الاجتماعي، اليوتوب، الأنستغرام، الفيس بوك، وكثير من الجرائد الإلكترونية، نلاحظ أن نجاح الصفحة أو الموقع أو القناة رهين بعدد المشاهدات، وحين نتأمل في وحدة القياس هذه، نعلم أننا تحولنا إلى براديغم النسق البصري، وأننا انتقلنا من الصورة كترف يؤثث الجدران، إلى الصورة كأساس للفكر. وأننا لم نعد في الحاجة إلى الكثير من التفكير حتى نوقن بأننا نعيش عصر الصورة بدون منازع؛ فالحقيقة التي لا مراء فيها، هي أننا نعيش داخل كون غير متناه من الصور المتدفقة علينا بلا انقطاع، إلى حد صار من المستحيل أن نفكر من دون صور، أو نتصور حياتنا بدون أن تقع أعيننا على صورة أو لوحة أو ملصق، أو على مقطع من فيديو أو على شريط سينمائي.. خاصةأن التطور الهائل لوسائل العرض باختلاف أنواعها، ولتكنولوجيا التواصل والاتصال، ساهم بشكل كبير في فتح دروب إلى بيوت كانت مغلقة، واقتحام النفوس المؤصدة، إلى حد صار فيه أمر العيش في عالمين مختلفين؛ عالم واقعي وعالم افتراضي، أمرا عاديا يقبل به معظم الناس.

والواقع أن هذا التدفق المهول للصور في عصرنا، قد أدى إلى استلاب الفكر وتسطيح الوعي، وخمول العقل وركونه للكسل وللجاهزية التي تتيحها علاقة التشابه بين دال الصورة ومدلوله، مما كرس وهم الصورة على حد تعبير رولان بارت؛ فهجرت الكتب، ومالت النفوس إلى المواضيع الضحلة الصفيقة. الأمر الذي أدى بدوره إلى ضمور الأعمال الفنية؛ شعرا ومسرحا ورواية… وإلى انحسار قاعدة متلقيها، أو اقتصارها على نخبة معينة محدودة كما ونوعا، فصارت الصورة – عن قصد وعن غير قصد- سببا في تكريس الفوارق الاجتماعية وآلية لإعادة الإنتاج.

لم يعد مقبولا اليوم،أن نتعامل مع عالم الصورة بسذاجة، وأن نتلقاها بوصفها استنساخا فجا للواقع، وإنما باعتبارها نسقا لغويا يوازي النسق اللغوي اللفظي، وكونا احتشدت نظمه الخاصة بكثير من المعاني، وألوان متنوعة من صيغ الجمال. وبمعنى من المعاني يتحول النسق البصري إلى علامة داخل كون سيميوطيقي تتولى السيرورات التأويلية الغوص في عوالم المعنى المخبوءة في الصور التي ترد علينا.

ولما كان واقع الحال يؤكد تراجع الوسيط المكتوب أمام الوسيط البصري، ويقر بأن التطور التكنولوجي ساهم في انفجار عصر الصورة، وسهل الولوج إليه؛ إنتاجا، ونشرا، وتلق..مما جعل عالم الصور ميدانا للصراع بين التافه والقَيِّم، وبين توجيه الرأي العام والتلاعب به، وبناء الوعي الجمعي وتأسيس الفكر النقدي. من أجل ذلك، صارت عودة المثقف إلى الفضاء ليمارس دوره في مقارعة آفات الفكر والثقافة أمرا ملحا، بل صار لزاما على الفنون أن تعيد بناء نفسها وفق استراتيجيات هذا الحامل المعرفي الجديد، وأن تطور من جمالياتها باستثمار إمكانياته. إن الرهان -هاهنا- هو مقاومة السفاهة بالفن، والسطحية بالوعي العميق، من أجل إحلال قيم المعرفة والجمال مكان الكسل المعرفي، والارتقاء بالواقع عن طريق الارتقاء بالذوق الفردي والجماعي، وتنمية الفكر الإبداعي والنقدي.

إشكالية البحث

وبناء على ما تقدم، يتحدد الإشكال المركزي في تصورنا في راهنية الفكر والفن في خضم الهيمنة التي صار يفرضها الوسيط البصري في عصرنا، والذي نفصل في معالجته عبر الأسئلة الآتية:

  • متى تعمل الصورة على تسطيح الوعي؟ وكيف يمكن الانتقال من فجاجة الإدراك إلى عمق المعاني الكامنة وراء التشابه بين الصورة وموضوعها؟
  • كيف يمكنللفكر والفنون أن يتكيفا مع هذا الوسيط لتحفظ وجودها وتمارس دورها؟ وما نوع الصورة التي يمكنها أن تستوعب الفنون والعلوم على حد سواء؟

أهمية البحثوأهدافه

تكمن أهمية هذا البحث في تطرقهلموضوع الصورة باعتبارها حاملا معرفيا وفنيا الأكثر انتشارا في عصرنا الحالي، يوازي اللغات الملفوظة، بل يوحد العالم ضمن لغة بصرية يفهمها الجميع.  كما يحاول هذا البحث فيطرق التعامل مع هذا الوسيط، وتوظيفه في تعميق الفكر، ونشر الوعي والقيم الفنية والعلمية، وذلك عن طريق فهم استراتيجيات القراءة والتلقي.

فرضيات البحث

ينطلق هذا البحث من فرضيتين اثنتين: أن الصورة وسيط تواصلي وحامل للأفكار والفنون، يمارس سلطته على العقول بتأرجحه بين لعبتي التجلي والخفاء، والتقرير والإضمار. لذلك يحتاج التعامل معه إلى وعيسيميائي من أجل الانتقال من سطحية المعنى الجاهز إلى التأول وتعميق التفكير. وأن السينما فن وعلم يستوعب العلوم والآداب والفنون، لكن بطرق خاصة تنسجم والوسيط البصري

المنهج المعتمد

من أجل تحقيق هذا المبتغى من هذه الورقة البحثية، نتوسل بسيميولوجيارولان بارت وسيلة لتفكيك العلاقة بين الصورة والفكر من جهة، وبالمنهج السيميائي عموما لبيان كيفية التعامل مع الصورة وتوظيفها من جهة أخرى. على أننا ننفتح الوصف والتحليل والمقارنة لتوضيح أشكال وأنماط المصاهرة بين السينما والفنون الأخرى.

المبحث الأول: ما الصورة؟

تطرح قضية تعريف الصورة إشكالات عدة، ترجع في أساسها إلى تعدد المجالات التي تعاطت مع الصورة كظاهرة أو كوسيلة، مما جعل التعاريف متنوعة بتنوع الخلفيات النظرية، ومختلفة باختلاف المعايير المعتمدة للدراسة والتصنيف. لذلك يبدو أن أفضل طريق نلتمسه في هذا المضمار هو العودة إلى أصول المفهوم.إذ يقول الله تعالى في سورة الحشر: [هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى]( القرآن الكريم، الحشر، الآية 24)، ويقول في سورة آل عمران: [هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم]( القرآن الكريم، آل عمران، الآية 6)، وفي سورة التغابن “خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم]( القرآن الكريم، التغابن،الآية 3). تعود الألفاظ (المصور- يصوركم- صور -صوركم) إلى الجذر اللغوي (ص-و-ر)، حيث يُقال: صوّر الشيء تصويراً، أي جعل له شكلاً معلوماً، والصورة الشكل،والهيئة،والحقيقة، والصفة. والمعنى في الآيات أن الله تفرد بخلق الأشياء وجعل لهاهيئاتها وصفاتها المميزة المفردة. وصور الشيء: جَعَلَلَهُ صورة رسمه، وجَسَّمَهُ. ومُصَوِّرٌ مَاهِرٌ يُصَوِّرُ فِي الْجِدَارِ تَصَاوِيرَ كَأَنَّهَا خَارِجَةٌ وَلَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ، وصور المنظر، أي أَخَذَ لَهُ صُورَةً بِآلَةِ التَّصْوِيرِ أَوْ رَسَمَهُ عَلَى الوَرَقِ بِالقَلَمِ أَوِ الفُرْشَاةِ، وصور الأمور كما رآها وصفها وصفا دقيقا (قاموس المعاني الإلكتروني)، وفي لسان العرب َتَصَوَّرْتُ الشَّيْءَ: تَوَهَّمْتُ صُورَتَهُ فَتَصَوَّرَ لِي. وَالتَّصَاوِيرُ: التَّمَاثِيلُ.

وتعني كلمة صورة (image) التي تمتد بجذورها إلى الكلمة اليونانية (icon) ، وإلى (Imago) اللاتينية، التشابه والمحاكاة، و” لقد لعبت هذه الكلمة دلالتها دورا مهما في فلسفة أفلاطون، وكذلك في تأسيس كثير من أنظمة التمثيل والتمثل (représentation) للأفكار والنشاطات في الغرب”(شاكر حميد، 2005، ص 17).  أما قاموس (le robert) فيشير إلى إعادة إنتاج بصرية لشيء في الواقع (Reproduction visuelle d’un objet réel)، وهي انعكاس الشيء كرؤية صورته على المرآة، كما أنها الرسم، والمخطط، والرمز المادي الممثل لأمر مجرد.. ويضيف قاموس (Larousse) إلى التعاريف السابقة، بعض التفاصيل كتحديد وسيلتي التصوير والعرض، إضافة إلى بعض التسميات التي تأخذ مشروعيتها من مجال اشتغالها.

وانطلاقا مما سبق، يتبين أن لمصطلح الصورة معان تتراوح بين المحاكاة والتشابه، وإعادة إنتاج الواقع، أو نسخه، وبين الخلق والإبداع، ونحترز في موضوع الخلق بين قدرة الله المصور الذي صور فأحسن التصوير؛ وهي الكمال المطلق، وبين عمل البشر باعتباره سعيا إلى درجة من مدارج المثالية، لذلك نسميه إبداعا. وعلى هذا الأساس تدخل تحت هذا المسمى – الصورة- الرسومات واللوحات، والصور الفوتوغرافية، والرموز، وكل الصور التي تحيل على واقع أو تلك التي تبتدع واقعا كما في فيلم ” Avatar”، فضلا عن الصورة الذهنية نفسها. ولا يهم فيما تقدم الوسيلة المستخدمة في التصوير، فقد تكون فرشاة رسم، أو آلة تصوير، أو كاميرا، أو حاسوبا.. كما لا تهمنا الواجهة التي تعرض عليها أكانت ببعدين أم بثلاثة أبعاد.

ولعلنا حين ندقق في معنى “تصورت الشيء: أي توهمت صورته”، وصفة ” visuelle ” في تعريف (le robert)، نخلص إلى أن ثمة صنفين كبيرين للصورة، وهما: الصورة الذهنية، والصورة التي نراها باعتبارها تحققا ماديا، أو قل الصورة الداخلية والصورة الخارجية.

فأما الصورة الذهنية، فنقصد بها الصورة التي ترتسم في ذهن الإنسان حول موضوع ما، إنها تَمَثُّلٌ يبنيه العقل من خلال عمليات التفكيك وإعادة بناء الخبرات والتجارب التي اختبرها، سواء بطريقة مباشرة أم من غير مباشرتها. ولا تقتصر الصورة الذهنية على تَمَثُّلِ الواقع فحسب، بل تشمل بناء الممكن والافتراضي، كما تشمل مجموعة من العمليات العقلية كالتذكر والتخيل والإبداع.. فليس من الضرورة أن تكون تابعة للمنبهات الخارجية – أي كل ما تدركه الحواس الخمس- أو استنساخا للموضوع الخارجي، إذ يمكن أن تكون الصورة الذهنية (الفكرة) أصلا يتحول بيد الفنان (الرسام السريالي/ السيناريست) إلى صور مرئية (شاكر عبد الحميد، 2005، 21-20). باختصار، تشير الصورة الذهنية إلى “وحدة بناء الذهن الإنساني ووسيلته الوحيدة لتعرف الأشياء، وتوجيه السلوك أو تحديده بالنسبة إليه” (نعيم اليافي، 1982، ص42-43)[1].

وأما الصور المرئية، فيدخل في بابها كل انعكاس لموضوع ما على سطح ما، يكون بمثابة تمثيل له في حالتي الغياب والحضور على حد سواء. فهي اللوحة والجدارية، والملصق والصور الفوتوغرافية، والفيديو والعروض السينمائية.. وقد احتفظنا بهذا المسمى”الصورة المرئية” على إطلاقها لسببين: الأول أن أنواع الصور متعددة يصعب حصرها ودراستها في مقال أو بحث واحد، لتعدد مجالات توظيفها، واختلاف معايير تصنيفا. والسبب الثاني، ينسجم ومقصدنا في هذه الورقة، إذ لا نروم الاستفاضة في الأنواع، بقدر ما نتغيا الإمساك بالأساسيات التي تمكننا من التعاطي مع مختلف أنواع الصور مهما كان مجالها أو طبيعتها، أو وسيلتها.

والحقيق بالذكر، أن العلاقة بين الصورتين أعلاه، تشبه إلى حد كبير علاقة الدال بالمدلول في الدليل اللساني، فالصورة المرئية بمثابة دال والصورة الذهنية بمثابة مدلولها، غير أن العلاقة بينهما ليست اعتباطية بالمعنى اللساني، إنما نجدها معللة بالمشابهة والتجاور والاقتضاء.. لكن هل تكتفي الصورة بالإحالة المباشرة على موضوعها عملا بمقتضى هذه العلاقات؟ الإجابة قطعا لا، فخلف الإحالة المباشرة على الموضوع، تضمر الصورة معان خفية ورسائل مستبطنة، لا يمكن التوصل إليها إلا بواسطة سيرورة من التأويل، ولعلنا بهذا الإقرار نتفق ضمنيا مع مقاربة رولان بارت (ROLAND BARTHES) حين جعل للصورة بعدين متلازمين: تقريري، وتضميني. وعلى إثرهما يتوزع مجتمع الصورة إلى فئتين؛ فئة سطحية يتوقف عندها المعنى في حدود علاقة المشابهة بين الصورة وموضوعها، وفئة سيميائية تنفذ إلى المعاني المضمرة عبر سيرورة التأويل.

عادة ما ينظر إلى الصورة بوصفها خطابا تناظريا لا يحتاج إلى تسنين، فالعلاقة بين الشيء وصورته واضحة معللة بمنطق التشابه أو التجاور، وغالبا ما تكون هذه نهاية رحلة إنتاج المعنى عند معظم الأغرار وهم كثر، أو أن يدا خفية سعت لإيقاف رحلاتهم عند هذا المستوى؛ التقريري. يقول رولان بارت : ” لا تتميز الصورة عن مرجعها (مما تمثله)، أي إنها لا تتميز على الأقل مباشرة بالنسبة إلى كل الناس (وهذا ما تفعله أي صورة أخرى، تربكها منذ البداية وضعية الشكل الذي يظهر الموضوع فيه): إن رؤية الدال الصوري ليس أمرا مستحيلا (فالمهنيون يفعلون ذلك)، ولكن هذا يتطلب فعلا ثانيا من أفعال المعرفة أو من التفكير”ROLAND) BARTHES, 1980, P :16).

لذلك، فإن أول ما يجب أن نقنع به أنفسنا هو: أن لا وجود -في عصرنا- لصورة تعكس موضوعها دونما أن تمارس شيئا من لعبة الإظهار والإخفاء، وأن المتحكم في هذا الوسيط التواصلي والمعرفي والفني، يستطيع التحكم في الأفراد والجماعات، عبر توجيه ثقافاتهم ووجداناتهم وعقلياتهم، من خلال أشكال متنوعة من الصور، المتحركة منها والثابتة، والدعائية منها والتجارية والتربوية.. والواقعية التي تعكس واقعيا معينا، أو تلك التي تبتدع عوالم متخيلة. فخلف كل صورة معنيان: معنى تقريري سطحي، ومعنى ضمني يتوصل إليه بالممارسة التأويلية والفعل السيميائي (Barthes Roland, 1961.P :128).

يترتب عن هذا، أننا نفتح أبواب أسئلة حارقة تضعنا أمام شبكة من الاحتمالات، أكثر مما تتسع هذه الورقة للإجابة عنها، ولعلنا نقتصر في هذا المقام على أهمها، وهي:

  • أ تحتمل كل الصور الدلالتين: التقريرية والتضمينية؟ بمعنى ألا توجد صورة بريئة تقف عند حدود التشابه بين الشيء وتمثيله؟
  • ما آليات قراءة الصورة؟ كيف ينتقل المتلقي من الدلالة المباشرة التقريرية إلى الدلالة المتأولة وإنتاج المعنى الضمني؟
  • كيف يمكن محاربة توظيف الصورة في تسطيح الوعي، وتمكين المتلقي من آليات التعامل مع الصور باعتبارها مجالا للتدافع الفكري، وميدانا للتجاذبات الثقافية والإيديولوجية والفنية؟

المبحث الثاني: الصورة وإنتاج المعنى؛ من السطحية إلى تعميق الوعي

تجري عملية قراءة الصورة حسب رولان بارت على مرحلتين:

في المرحلة الأولى يحدد المشاهد علاقة الصورة بموضوعها، بناء على منطق التناظر بين الدال (الصورة) والمدلول (موضوعها)؛ صحيح، أن عددا من العمليات الاختزالية تكون قد طالت الموضوع قبل أن يتجسد على الصورة إلا أنها لا تمس جوهره ولا تحوله، فالمشاهد في هذه الحالة يشاهد الصورة وهو مقتنع بدرجة التطابق الحرفي بينها وبين الواقع المصور، يقول بارت: ” هناك بالتأكيد بعض الاختزال: في الحجم، وفي المنظور وفي اللون. لكن هذا الاختزال لا يعد أبدا تحويلا (بالمعنى الرياضي). ومن أجل الانتقال من الواقع إلى صورته، ما من ضرورة تحتم تجزيء هذا الواقع إلى عناصر، وتشكيل من هذه العناصر علامات تختلف من حيث مادتها عن الشيء الذي تقدمه للقراءة”(Barthes Roland, 1961.P :128). تغني درجة التشابه المثالي بين الدال البصري ومدلوله عن حاجة المشاهد إلى الربط بينهما، أو إلى سنن يتوسل به للوصول إلى المعنى، فهو معطى جاهز للجميع، ويؤدي الرسالة التقريرية أو المعنى التقريري.

في المرحلة الثانية، يكون على المشاهد أن يرتقي بتلقيه للصورة (ولا يهم مجالها: التشكيل، السينما، التصوير…)، فخلف الرسالة التقريرية يكمن معنى ضمني (connoté)، حيث يتحدد الدال  انطلاقا من طريقة المعالجة ، التي يتحكم فيها المصوِّر ( السينمائي، الصحفي، التشكيلي..)، وحيث يكون المدلول ذا طابع جمالي أو إيديولوجي يوجه إلى ثقافة محددة، وإلى مجتمع معلوم؛ فما من صورة يمكن وسمها بالموضوعية، مهما بلغت حرفيتها في تمثيل الواقع، إذ ثمة دائما رسالة ضمنية مرمزة تنتظر الكشف عنها من طريق الألوان، والأشكال، والحركات، والخطوط…وعناصر أخرى تدخل في تأثيث الصور.

تبدأ عملية تسطيح الوعي وتطبيعه، حين تقوي الصورة من إيهامها بالواقعية، عبر زيادة درجة التشابه بينها وبين موضوعها أو الواقع الذي تشير إليه، مما يدفع الجمهور المتلقي إلى قبولها كما لو أنها حقيقة موضوعية غير قابلة للتجزيء، وأنها لا تحتاج إلى تسنين. فينشأ الوهم أو ما يسميه بارت بالأسطورة، ” كان منطلق هذا التفكير في الغالب الأعم الشعور بنفاذ الصبر أمام “الطبيعي” الذي تلبسه الصحف والفن والحس المشترك باستمرار لباسا مضحكا من الواقع، واقعا حتى يكون ذاك الذي نعيشه (..). بدت لي فكرة الأسطورة منذ البداية شارحة لهذه البديهيات الكاذبة”(رولان بارت، د.ت، ص: 7).

بناء على ذلك، فإن عملية تسطيح الوعي تنشأ عن زيادة عناصر الموثوقية لزيادة مصداقية الواقع الممثل في الصورة، وإيقاف سيرورة التأويل في حدود المعنى الجاهز؛ أي المعنى التقريري. في هذا السياق، يجتهد صناع الصورة في تقديم الأفكار وتفسير المواقف بطريقة مجانية عبر بثها في الصورة دون الحاجة إلى دفع المتلقي إلى وضع الأسئلة السابرة للمعنى الخفي ” فالتظاهر يحطم التخيل”، ولعل أهم مثال يمكن الاستدلال به في هذا المساق، ما يدخل في باب الصورة الإشهارية ” وهذا أمر بديهي، فالغاية من الدعاية الإشهارية، هي الربح، ولا يشكل الاحتفاء بالإنسان والعالم المخملي الجميل الذي يعد به الإشهار سوى وسائل غير مباشرة للبيع وترويج البضائع. (..) وهذا ما يتضح بناء على الإرسالية الإشهارية ذاتها، فهي تستند إلى ازدواجية في الدليل تجعل المنتوج يتأرجح بين مظهر مادي هو موضوع الاقتناء وهدف الإشهار، وبين الكون القيمي الذي يختزنه هذا المنتوج ويعد رمزا له”( سعيد بنكراد، 2006، ص 6-7)، إن الأمر أشبه بالتضليل والتلاعب بالعقول عن طريق وضع أسس تداول الصور والمعلومات، التي تصوغ معتقداتنا ومواقفنا، وتحدد سلوكنا، فباستخدام الأساطير، التي تفسر وتبرر الشروط السائدة للوجود، بل وتضفي عليها طابعا مثاليا، يضمن المضللون التحكم في الوعي الجماعي، الذي يتضح أن التحكم في الصورة أحد أهم وسائله.

تقدم سيمولوجيا بارت تفسيرا للأمثلة المقدمة أعلاه، إذ ينظر إلى الصورة عامة والفوتوغرافية خاصة، باعتبارها نسقا علاماتيا أوليا يضم الدال (الصورة نفسها) والمدلول (الموضوع الممثل)، تجمع بينهما علاقة يمكن التوصل إليها بسهولة، وهي الدعوة لاقتناء المنتج بوصفها رمزا على الواقع الحالم الذي تشير إليه الصورة الإشهارية (الانتعاش والسعادة بعد شرب مشروب غازي/ الجاذبية بفضل عطر معين…)، بالمقابل ثمة نسق علاماتي ثان ينبني على النسق الأول لتوليد معان خفية(Barthes Roland,1964, P : 45)، تكون بمثابة الوعي العميق مقابل الوعي السطحي الضحل(رولان بارت، د.ت، ص: 238-239-240).

إن ما نراه اليوم، من صور تغزو عالمنا الحقيقي والعالم الافتراضي، ينذر بأزمة المعنى، وأزمة القيم، وأزمة التفكير، ويكرس ثقافة اللاواقع، مما ينعكس سلبا على الجيل المعاصر والأجيال القادمة، “فلكي نقنع الجماهير ينبغي أولا أن نفهم عواطفهم الجياشة، وأن نتظاهر بأننا نشاطرهم إياها ثم نحاول بعدئذ أن نغيرها عن طريق إثارة بعض الصور المحرضة بواسطة الربط غير المنطقي أو البدائي بين الأشياء”(غوستاف لو بون، 1991، ص: 124). فإذا كان هذا منطق صناع السطحية، فإن المثقف كيفما كان تخصصه، ملزم بممارسة دوره العضوي في محاربة هذا التوجه، بأن يستوعب خصوصيات هذا الوسيط، ويكَيِّف فنه وعلمه وفق آليات اشتغال النسق البصري.  فنحن اليوم؛ فنانون، ومفكرون، ومعلمون، وعلماء، بالغون، ذوو الضمائر.. مطالبون أكثر مما سبق، بأداء الرسالة الإنسانية ومواجهة هذا الاجتياح الكبير لنظم التفاهة ومحاربة الصفاقة والضحالة، الذي يراد لنا الإيمان به وقبوله.

بعدما تقرر لدينا، أننا في الحاجة إلى التفكير بالصورة، فإنه من لزوم ما يلزم، أن نؤسس لوعي نفاذ يتزود به المبدع والمتلقي على حد سواء، ويستعين به في التعامل مع الوسيط البصري، باعتباره نسقا تواصليا يحمل المعرفة والجمال على حد سواء. فما آليات اشتغال هذا النسق؟

يستدعي التواصل بالصورة، بما هو عملية بث للرسائل – بمضامين معرفية أو فنية –  معرفة بطبيعتهاوبمسارها، بدءا بإدراكها كنسخة للشيء الذي تشير إليه، وبوصفها تمثيلا مجردا من كل إبهام معتمدةعلى علاقة التشابه بين الدال والمدلول؛ حيث تكون إحالة الدال على المدلول إحالة مباشرة دون وسيط. وانتهاء بالمعنى المضمر الذي يمكن التوصل إليه عبر مساءلة النسق الثقافي والسياق المنتج للصورة. ذلك أن الصورة مهما عملت على توثيق الواقع بصدق، فإنها لا تمنحنا تمثيلا محايدا للمعطى الموضوعي المنفصل عن الممارسة الإنسانية، فالوقائع البصرية لغة مسننة حمَّلها الاستعمال الإنساني قيما دلالية من أجل التواصل. وعليه فإن الدلالة التي يمكن استنباطها واستقراؤها من العلامات البصرية هي في الأصل وليدة لتسنين ثقافي واصطلاح مجتمعي (حنون مبارك، 1987، ص:41)، ولا توحي بمضمون كائن في ذاتها، وهذا ما يسمى باعتباطية النسق البصري، وهي مختلفة عن اعتباطية الدليل اللساني؛ أي تلك التي تقوم على التوافق الاجتماعي الخالص.

ومن ثمة، يكون إدراك الصورة وسبر مكوناتها انطلاقا مما تشير إليه من موضوعات، نقطة انطلاق للعملية التدليلية، تتم في ضوئها عملية الإمساك باللغة المسننة في الصورة ومن تم إوالياتها، فإدراكنا للأشياء لا يكتمل إلا بمقابلتها بما اختزنته الذاكرة مسبقا كنموذج إدراكي أو سنن للتعرف، ومرجع لمعرفة أولية تساعد الذات على فك تسنينات الصورة وربطها بالتجربة المعيشة. وتنتهي عملية الإدراك بتصنيف كل مكون من مكونات الصورة بناء على نماذج معرفية (موجودات، ألوان، أشكال..) وإعطاء كل وحدة دالة معنى مباشرا. لتنطلق بعدئذ، العملية التأويلية بالبحث في صورة الصورة داخل النسق الثقافي الذي تحيا فيه، والذي يحملها بالأحكام والقيم والأفكار الإيديولوجية..؛ فما نفهمه من الصورة ليس الكائن أو العضو أو الشكل الذي تمثله، وإنما الرسائل المستبطنة لها، التي نسجت بأياد تتحكم في لعبة المعنى، وببراغماتية تستهدف تحقيق غايات ومقاصد معينة. مما يجعل من الصورة خطابا يحتاج الكشف عن بنيته اللغوية، ونسقه الدلالي من خلال مساءلة ثقافية للبعد الأيقوني والبعد التشكيلي المضمنين فيه.

غالبا، ما ينصب اهتمام المشاهدين للصورة على تعرف الأشياء التي تعرضها، بل إن منهم من يربط مضمونها بهذه الأشياء، في حين أن الصورة تركيب يجمع بين ما ينتمي إلى البعد الأيقوني وبين ما ينتمي إلى البعد التشكيلي؛ من خطوط، وألوان، وتأطير، وتوزيع للمساحة، ومنظور، وزوايا التصوير.. وأن إنتاج المعنى مرتهن بالتفاعل القائم بين البعدين المختلفين من حيث الطبيعة، والمتكاملين من حيث تفعيل الواحد منهما لمعطيات الآخر. ثم إن فهمنا للبعد الأيقوني لا يجب أن يقتصر على تعرف الموضوعات من حيث هي مقولات أنطولوجية، وإنما في تحين التواضعات التي أعطت معنى وظيفيا لذاك العضو، وشحنت تلك الجارحة بتلك الدلالة (سعيد بنكراد، 2012)، وربطت لونا ما بإحساس معين. إننا والحالة هذه، نرى بالعيون الثقافية التي نحيا فيها وبها، فهي التي تحدد لكل عنصر في الصورة سلسلة من السياقات التي يتكرر فيها والدلالة المتعلقة بها في كل سياق.

وعلى الجملة، إن النسق البصري نظام تواصلي لا يقل أهمية عن اللغة اللفظية، وهو وسيط يمكن الاتكاء عليه في تمرير الرسائل العلنية والمضمرة، ولعل ما نراه في الواقع من سطوة للصورة على مناحي حياتنا اليومية؛ في بيوتنا وفي حاراتنا وشوارعنا وفي مقرات عملنا، في هواتفنا وعلى صفحات الانترنيت وعلى شاشات العرض والتلفزة.. يقابل هذا المد، تراجع كمي في عدد القراء ومرتادي المكتبات، وتقهقر مكانة الكتاب لدى أغلب المتلقين أو اقتصاره على فئة مخصوصة محدودة كما ونوعا. مما يجعل أمر تكييف المعارف والفنون وفق الوسيط البصري الذي صار لغة العصر الأكثر شيوعا وضبطا وقبولا من لدن الجميع، لا سيما أن يتجاوز الاختلاف اللغوي بين أفراد المعمور. كما يتحتم علينا – في نظرنا- الانتقال من التفكير في الصورة إلى التفكير بالصورة، تحصينا لذواتنا والنشء من بعدنا من التلاعب والتضليل الذي يمارسه علينا وهم الموضوعية والحيادية فيها، بالتمكين من آليات اشتغالها – أي الصورة- حتى لا تمارس علينا سطوتها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن للعلوم والفنون أن تفكر وتعبر بالصورة؟

 المبحث الثالث : السينما؛ الوجه المكتمل للصورة، حيث الفن والعلم.

مرت البشرية على مستوى الوسائط بثلاث ثورات غيرت ملامحها وشكلت مستقبلها، وهي: عصر الكتابة والشفاهة، تميز فيه الرواة والكهان، وبرز فيه الشعر والخطابة، ثم عصر الطباعة الذي جعل انتشار الكتاب موسعا توسعت بفضله دائرة القراء والمثقفين، وفيه تسيَّدَتْ فنون السرد من قصة ورواية، ثم جاء عصر الصورة وتكنولوجيا الاتصال الذي نعيشه ونحياه. و” كل واحد من هذه العصور يرسم وسطا حياتيا وفكريا له ترابطاته الداخلية الضيقة ونظاما بيئيا للرؤية، ومن ثمة أفق انتظار معين للنظر، ونحن نعرف أن لا واحد من هذه العصور الوسائطية يطرد الآخر، وكيف أنها تَتَناضَد وتتداخل الواحد في الآخر. إنها هيمنات متتالية تتناوب على السطوة”( ريجيس دوبري، ترجمة فريد الزاهي، د.ت، ص:166)، على أننا نفهم من الهيمنة والسطوة، القدرة على التحكم في الوسيط السابق، واستدماجه في اللاحق. ومن ثمة، فكوننا في عصر الصورة معناه، أن الصورة اليوم صارت مهيمنة على المكتوب، والمسموع، وأن النسق البصري مهيمن على النسق اللفظي، وأن الفنون البصرية تهيمن على ما سواها من الفنون الأخرى. لكن ما نوع الصورة أو الفن الذي ينطبق عليه شرط الهيمنة هذا؟

يلزم عن هذا، أن الصورة الثابتة لا يمكن أن ترقى إلى أن تكون الفن المهيمن المسيطر على فنون القول وفنون العرض، وعلى الفنون السردية، وعلى العلوم… في حين نجد الصورة المتحركة تستجيب إلى متطلبات الهيمنة، إذ تستطيع القبض على الزمان والمكان في حالتهما السكونية والحركية، وحيث يمكنها أن تضم الوسيط اللفظي مكتوبا أو مسموعا، ومن حيث قدرتها على توظيف الموسيقى،والرقص، والعروض المسرحية، والبهلوانية.. غير أن الصورة المتحركة على إطلاقها، لا تفي بالغرض حين ننشد الفن والعلم في الآن ذاته، مما يضيق دائرتنا فتنحصر في الصورة السينمائية والفن السينمائي باعتبارهما “الوجه المكتمل للصورة، المتسيد على الفنون” ولعل تسميتها بالفن السابع دليل يكرس هذه الهيمنة ” والفن السائد هو فن الفنون أي ذلك الذي يملك القدرة على إدماج أو تشكيل الفنون الأخرى على صورته. إنه الفن المتصل أفضل بالتطور العلمي والتقنيات الرفيعة؛ ذلك الذي يحقق الوحدة الوثيقة بين المتعاصرين بالتركيب بين معاني أكثر وبفتح المجال الفيزيقي للإحساسات الممكنة إلى حده الأقصى؛ وذلك المنسجم أفضل انسجام مع المجال الوسائطي المحيط وبالأخص مع وسائل نقلها”(ريجيس دوبري، د.ت، ص:200).

  • السينما والأنواع السردية

يقول جيل دولوز إن ” ما أسميه أفكارا هي الصور التي تمنع إمكانية التفكير، ومن حين إلى آخر تتنوع طبيعة الصور التي هي غير منفصلة عن الأدوات التقنية: الألوان والخطوط بالنسبة للرسم، والأصوات في الموسيقى، والوصف اللغوي في الرواية، والصور المتحركة بالنسبة للسينما…إلخ، وفي كل الحالات لا تنفصل الأفكار عن الصور لكونها محايثة بشكل كامل للصور هناك لقاءات بين السينما والفنون الأخرى، بل ويمكنهم أن يتوصلوا إلى أفكار متشابهة” (Gilles Deleuze,1975-1995, 194).

يظهر من خلال هذه القولة أن دولوز يعتبر الإبداع أفقا مشتركا بين مجموعة من الفنون، ذلك أنه ينطلق من نفس المصدر وهو الفكر، وتكمن القوة الإبداعية في تعبير كل فن عن هذه الأفكار بما يتيحه مجال اشتغاله، فللتشكيل أدوات تعبيرية خاصة به،وللموسيقى أدواتها وتقنياتها، والأمر نفسه مع الرواية التي تحمِّل أفكارها في قوالب لغوية معتمدة على الإمكانات اللغوية بلاغة وتركيبا، وكذلك السينما التي تتغيا عن طريق الوسيط البصري – خاصة الصورة الحركة – التعبير عن عالم الأفكار.

إن أبسط ملاحظة يمكن أن يتوصل إليها المتتبع لفني الرواية والسينما هي كونهما يشتركان في فعل الحكي فكلاهما ينبنيان على بنية الحكاية، لكنهما وفي الوقت نفسه مختلفان، من حيث صياغتهما لحكايتهما، فالسينما تحاول إخراج الصورة الذهنية عن طريق تجسيدها في لقطات تكون الفيلم، في حين تبني الرواية صرح الحكاية باستعمال اللغة.

ولئن كان الاختلاف في الوسيط بين الأنواع السردية ( قصة، رواية، سيرة، رحلة..) وبين السينما مؤكدا، فإن استنادهما على بنية الحكاية وعلى المفاهيم السردية أمر مؤكد أيضا، فالأفلام السينمائية والتلفزية تبني قصتها على أحداث تحركها شخصيات في زمان ومكان معينين، كما يمكنها أن تستعمل مفاهيم كالسارد بتنوعاته، وأنظمة سرد متعددة بمفارقاتها الزمنية، وزوايا نظر أو سردية، وتدبيرا معينا للعلاقة بين زماني القصة والسرد. ولعل أوضح الأمثلة للشهادة على استيعاب السينما للفنون السردية، ما نلفيه من عمليات الاقتباس أو أفلمة العديد من الأعمال الروائية والقصصية، كاشتغال الكثير من المخرجين على روايات نجيب محفوظ وروايات غسان كنفاني، وأعمال إحسان عبد القدوس وعلاء الأسواني…إضافة إلى اشتغال السينما العالمية على أعمال روائية كـــ” أليس في بلاد العجائب” و” موبي ديك” ورواية “البؤساء” وغيرها…دون أن ننكر أن  الفضل الكبير يعود للكثير من الأعمال السينمائية التي  ساهمت في تسليط الضوء على الأعمال الروائية التي انبثقت عنها وأخرجتها من ظلمة الرف إلى أضواء الشهرة، ولنا أن نذكر سلسلة أفلام “هاري بوتر” المقتبسة عن روايات جوان رولينغ (Joanne Rowling)، فيلمي ” بداية ونهاية” و”اللص والكلاب” المقتبسين عن روايتي نجيب محفوظ بالعنوانين نفسيهما والقائمة في هذا السياق طويلة لا يكفي المقام للتفصيل فيها. كما لا تتوقف حدود التآخي بين الفنين عند استفادة السينما من فن السرد المكتوب، بل صرنا اليوم نشهد تأثر الرواية بطريقة السرد الفيلمي، خاصة في الوصف التفصيلي كأننا إزاء حركة معاينة لكاميرا وهي تمسح عناصر التركيب المشهدي من ديكور وإكسسوارات وشخصيات.. فقد استفادت الرواية العربية الجديدة من الفنون السمعية – البصرية، وبخاصة الفن السينمائي إذ وظفت بعض تقنياته لتشكيل نسقها السردي والتخييلي وإغناء جمالياتها الخاصة ” ويتجلى ذلك- بالنسبة للرواية- في توظيف أساليب القطع والوصل والمونتاج (المونتاج تقنية للجمع بين مقاطع متناقضة ومتنافرة لتكون في النهاية بنية متناسقة). هذا فضلا عن الإلصاق/ الكولاج الذي تسرب إلى الحقل الروائي ليؤسس معرفة متنامية مؤسسة على أشكال حداثية تصوغ الواقع صياغة سينمائية”(حسن لشكر، 1431هـ، ص: 13-14)، فتحولت الرواية إلى كتابة بالصورة، وصرنا نشعر أثناء قراءتها بأننا أمام عدسة كاميرا وهي تترصد كلالتفاصيل فتسجلها؛ صورة وصوتا وديكورا، كأننا أمام كتابة سينارية جاهزة للإخراج والتصوير.

 

  • السينما وفنون العرض

أسمي فنون العرض كلا من المسرح، والرقص، والتشكيل بشتى أنواعه ومدارسه، وهي فنون تجد لنفسها سبيلا ميسرا إلى الشاشة السينمائية، وتدخلها من أوسع أبوابها. فأما التشكيل فيدخل إلى السينما من بياب صناعة الديكور، وتصميم الفضاء والتنسيق بين الألوان والأنوار، فحين نشاهد فيلم ” عيادة كاليجاري” فإننا نشاهد لوحات سوريالية تؤثث الإطار، ثم إن اللغة السينمائية تنبني في شقها الكبير على التأطير والخطوط والأشكال. وأما المسرح فيعتمد شأنه شأن السينما على صناعة الديكور والمكياج والأضواء بما يناسب الجو العام للقصة، إضافة إلى أن الأساس فيه هو أداء الممثل وهو عنصر أصيل في السينما، بل إن السينما وليدة المسرح، وأن العديد من المخرجين والممثلين مروا إلى السينما من طريق المسرح. صحيح أن هنالك اختلافات جوهرية بين العرض المسرحي والعرض السينمائي، لكنها وعلى الرغم من ذلك، لا تنفي أن بين الفنين أواصر مشتركة يصعب قطعها(جوادة بشارة ” السينماالممسرحة والمسرح المؤفلم، بريخت نموذجا” (صحيفة المثقف العدد 4253 بتاريخ28-04-2018). وأما الرقص باعتباره أداء جسديا يكون في الغالب مصحوبا بموسيقى تعزف، فنجده متجذرا فيما يعرف بالأفلام الغنائية كفيلم ” حلم الفتيات dream girls” الذي رُشح لثماني جوائز أوسكار فاز باثنتين منها، نال جائزة الغولدن غلوب لأفضل فيلم موسيقي عام2007، وجائزة أوسكار لأفضل خلط أصوات جائزة ستالايت لأفضل صوت وطرح العديد من الأغاني الجميلة اشهرها Fake YourWay To The Top, Love You I Do, I Wantyou Baby, Family, One Night Only، والجدير بالذكر أن الفيلم مقتبس عن كوميديا غنائية بالعنوان نفسه(ينظر موقع Wikipédia)، وقبله فيلم “westside story ” برصيد عشر جوائز أوسكار. ويكفي أن نشير في هذا المساق أن نذكر بأن الرقص والغناء أهم ما يميز سينما بوليود.

  • السينما والشعر

يصعب على الكثيرين تخيل علاقة بينة واضحة بين السينما والشعر بالمعنى الدقيق أسوةبعلاقة والسينما والتشكيل، بين السينما والموسيقى، بين السينما والسرد.. لكنه أمر لا يمنع من وجود هذه العلاقة، والتي نشير إليها من خلال مستويين: مستوى أول يكون الشعر حاضرا في السينما بمعناه الحرفي، مجسدا في قصائد تلقى وتسمع، أو تغنى. ومستوى ثان يكون الشعر حاضرا باعتباره “شعرية” أي نوعا خاصا من الكتابة التي تعتمد الانزياح والتكثيف والمجاز والكناية، مما يجعل من الظاهرة أفقا مشتركا تتوحد فيه الكتابة الشعرية والكتابة السينمائية.

فأما المستوى الأول، فيمكن أن يحل في السينما كحوار يدور بين الشخصيات. ونتذكر في هذا السياق العديد من المسلسلات العربية التي تناولت حياة أعلام شعرية، كمسلسل “أبو الطيب المتنبي” الذي يعرض حياته ومناظراته الشعرية، ومسلسل ” الإمام الشافعي”، والأمثلة من هذا القبيل عديدة، كما يمكن أن نجد الشعر في السينما باعتباره خلفية موسيقي بمثابة تعليق على مشاهد معينة، ونمثل لهذا التوظيف بتغني المعتقلين في فيلم ” الغرفة السوداء” كنوع من المواساة لينسوا آلام التعذيب، وبتغني رابعة في فيلم “رابعة العدوية” بقصيدة ” حانة الأقدار” للشاعر الطاهر أبو فاشا نستمتع بمطلعها:

حانة الأقدار عربدت فيها لياليها ودار النور والهوى صاح

هذه الأزهار كيف تسقيها وساقيها بها مخمور كيف يا صاح؟

سألت عن الحب أهل الهوى

سقاة الدموع ندامى الجوى

فقالوا حنانك من شجوه

ومن جده بك أو لهوه

ومن كدر الليل أو صفوه

سل الطير إن شئت عن شدوه

ففى شدوه لمسات الهوى

وبرح الحنين وشرح الجوى

وأما المستوى الثاني، فيستمد مشروعيته من الكتابة السينمائية نفسها، من حيث هي كتابة لها بناؤها وتركيبها وأسلوبها وبلاغتها وتلفظها، فهي تشبه اللغات الطبيعية في استنادها على المفردات، والتراكيب في حيثإن “المونتاج هو اللغة التي يتحدث بها المخرج إلى جمهوره، واللقطة تمثل كلمته ومجموع اللقطات يمثل الجملة، والمتتاليةالمشهدية تتألف من الصور كما تتألف الجملة من الكلمات”Metz Christian, 1964,66))، وبهذا تقترب هذه الكتابةمن اللغة الشعرية، لا سيما أن الصورة – كما سبق أم أكدنا- تمفصل بين الصورة بالمعنى الحرفي (l’image) والصورة بالمعنى المجازي (la figure).وإذ ذاك تستحيل بعض الصور أو اللقطات إلى مجازات واستعارات وكنايات كالتي نجدها في الشعر واللغة أصلا. ولا نغالي حين نقول إن أساس البناء النظري لمونتاج الاجتذابات” لسريجي ايزنشتاين هو شعر الهايكو ومسرح كابوكي ” كما أن بصيرة أيزنشتاين في مادة الفيلم ولدها مسرح الكابوكي، كذلك كانت دراسته لشعر هايكو هي التي قادته ظاهريا إلى فهمه للمونتاج”(ج. دادلي أندرو، ص 56)، إذ يعمل شعر الهايكو على تسديل سلسلة قصيرة من إدراكات الحس فيدفع المتلقي إلى خلق معناها الموحد محدثا أثرا سيكولوجيا دقيقا أو ما سميناه في البداية بالصورة الذهنية. ومن الأمثلة التي يعتد المخرج بها:

“غراب وحيد

على فرع لا أوراق عليه

في أمسية الخريف.

“كل جملة من هذه القصيدة يمكن أن ينظر إليها كجاذبية ومجموع الجمل هو المونتاج. يأتي اصطدام الجاذبيات من سطر إلى سطر بتأثير سيكولوجي موحد وهو ما يميز هايكو والمونتاج”(ج. دادلي أندرو، 1987، ص57).

يصير مفهوم الشعرية لحظة تعبيرية يوظف فيها الفيلم اللقطة أو اللقطات توظيفا مجازيا، ولحظة تعبيرية يعذل عن التصوير الخطي المألوف، فيأتي بصورة أو لقطة-لقطات مكثفة تعمق رسالة الفيلم من خلال إلقاء الضوء على حدث ما أو إضاءة بعض أبعاد الشخصيات وجوانب من حيواتها. يزكي هذا الطرح مشهد الإضراب من فيلم “مدرعة بوتمكين” لسيرجي أيزنشتاين، وفيلم “القربان (The Sacrifice)” لتاكوفسكي شاعر السينما، حيث الشعرية لا ترتبط بمجال أدبي مخصوص ولا بالقصيدة على وجه التحديد، فهي بشكل موسع تهم الفنون قاطبة، تتجاوز الشعر إلى السينما والموسيقى والرقص وكل أنظمة العلامة.

نضيف إلى ما سبق، من إمكانات التعالق بين الشعر والسينما، ما صارت إليه تطورات القصيدة العربية من جنوح إلى مكون السردي، فصرنا إلى قصيدة قصة، خاصة مع انفتاحها على استثمار الأسطورة والملاحم مطايا سردية شعرية بحيث يحس المتلقي وهو يمارس فعل القراءة المحايثكمن يشاهد مقطعا سينمائيا أو كمن يقرأ سيناريو معد للتصوير ولعل قصيدة ” مقابلة خاصة مع ابن نوح” لأمل دنقل تفي بالغرض لتمثل- من باب التمثيل لا الحصر- لهذا النوع من الشعر الذي يسهل إخراجه فيلما أو مقطعا منه(أمل دنقل، 1987، ص393-396):

جاء طوفانُ نوحْ!
المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً
تفرُّ العصافيرُ،
والماءُ يعلو.
على دَرَجاتِ البيوتِ
الحوانيتِ
مَبْنى البريدِ
البنوكِ

التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين)
المعابدِ
أجْوِلةِ القَمْح

مستشفياتِ الولادةِ
بوابةِ السِّجنِ
دارِ الولايةِ
أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.

العصافيرُ تجلو..
رويداً..
رويدا..
ويطفو الإوز على الماء،
يطفو الأثاثُ..
ولُعبةُ طفل..
وشَهقةُ أمٍ حَزينه
الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!

 

 

 

  • السينما والعلوم الحقة

ارتبطت ولادة السينما بالعلم والتطور التكنولوجي، فما كان بإمكان الإنسان أن يقبض على الزمن أثناء تدفقه، قبل أن يخترع الأخوان لوميير للسينماتوغراف ويعرضا حركة القطار، ثم طورت السينما من أدواتها فأدخلت الصوت، والألوان، وتحكمت في الإضاءة، ثم انتقلت إلى عصر الرقمنة الذي أتاح للمخرجين طرقا مختلفة للتعبير. في البداية كانت العروض السينمائية تسجيلية محضة تصور واقعا، ثم ما فتئت مع جورج ميليه تأخذ مسارا فنيا إبداعيا وضربا من الخيال العلمي خاصة في فيلم ” السفر إلى القمر”، وعلى منواله ابتدع مخرجون طرقا للتعبير مثل جريفيتوكوليشوف وأورسن ويلز، بل وصارت مع سيرجي أيزنشتاين وسيلة بصرية لتوليد المفاهيم.. هكذا جمعت السينما بين العلم والفن، بين الخيال والتقنية، إذ كان التطور التكنولوجي مناصرا للسينمائي من أجل استكشاف آفاق إبداعية وفلسفية، جعلته ينتقل من الواقع إلى الخيال، ومن المعقول إلى اللامعقول والفانتازيا، كما كان الخيال السينمائي محفزا من أجل تطوير الآلة أو اختراعها..

لقد تنوعت المواضيع التي تناولتها السينما، فاحتشدت ضمن هذا الفن معارف متنوعة، منها ما يتصل بالعلوم الإنسانية، ومنها ما يتصل بشكل دقيق بعلم من العلوم الحقة. فأما العلوم الإنسانية فكثيرا ما نصادف أفلاما تتناول ظواهر ومفاهيم من علم الاجتماع أو علم النفس أو الفلسفة، أو التاريخ، بطريقة جزئية وهو أمر يتكرر في أغلب الأفلام إن لم نقل كلها، أو بطريقة تجعل الفيلم برمته يناقش ظاهرة محددة من إحدى العلوم التي ذكرنا. يقدم فيلم ” the platform” نموذجا للأفلام التي بنيت على مفاهيم علم الاجتماع من قبيل الصراعات الطبقية، وأثر الطبقة الاجتماعية على السلوك الاجتماعي للإنسان، كما يقدم فيلم ” A dangerousmethod” مثالا على الأفلام التي تناقش قضية التحليل النفسي بسرده قصة اختلاف طرق العلاج بين سيغموند فرويد وكارل يانغ، بل يمثل الفيلم مستودع معلومات حول نظرية التحليل النفسي، والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، أما التاريخ فنمثل له بأفلام مثل فيلم “الرسالة” وأفلام المقاومة كفيلم “عمر المختار”، وعدد من الأفلام الوثائقية التي أعادت تمثيل التاريخ كسلسلة أفلام ” الحرب العالمية الثانية” التي تعرض على قناة “national géographic”.

وأما العلوم الحقة، فقد تشربتها السينما عن طريق الأفلام الوثائقية، ولعلنا ببسيط الإشارة نلفي عددا كبيرا من الوثائقيات التي تناولت مواضيع علمية من علوم متنوعة، كالجيولوجيا خاصة ما يتعلق بالزلازل، والمستحاثات والأركيولوجيا.. ومن علوم الحياة والأرض فكثيرة هي الوثائقيات التي صورت الحياة البرية والبحرية وعالم الحشرات والنباتات.. كما حللت أخرى حياتنا انطلاقا من مفاهيم فيزيائية من قبيل الكتلة والسرعة، والاحتكاك، ناهيك عن مواضيع عن البرمجيات تصلح لتكون مواد تعليمية. غير أن الفيلم الوثائقي ليس الطريق الوحيد الذي تسلكه العلوم الحقة إلى السينما، فثمة أفلام روائية بنت فكرتها على معطيات علمية، وصاغتها في طابع سردي تمتزج فيه الفكرة العلمية بالخيال، ونذكر من هذه الأفلام  فيلم ” الرجل البرق” حيث البطل يتميز بسرعة خارقة، وحيث يتم بناء هذه الميزة انطلاقا من نظريات فيزيائية تتعلق بالحركة والسرعة والزمن، كما يحلو لنا أن نستشهد في هذا المقام بمسلسل كرتوني “dr stone ” حيث يجند البطل معارفه في الكيمياء والفيزياء والمنطق وعلوم مختلفة، لإعادة العالم إلى تطوره بعدما أصابته كارثة أعادته إلى العصور الحجرية.

والجدير بالذكر، أن السينما تنفتح على العلم لا من حيث مواضيعها فحسب، بل تستفيد منه في مجال تقنيات التصوير، وفي مجال المؤثرات الصوتية، وفي صناعة أنظمة المحاكاة الحركية، وقد أثبتت قدرتها على تطويع عدد من المخترعات التي بدأت في مجالات غير الفنية، فتوظفها لأغراض جمالية. وحديثنا هذا ينصرف على تقنية الهولوغرام أو التصوير المجسم للأشياء، حيث تتم إعادة إنشاء صورة ثلاثية الأبعاد بفضل حزم ضوئية تتقاطع موجاتها لتجسد أبعاد الجسم المراد تصويره وتمثيله. ومن الصور الثلاثية الأبعاد انتقلت السينما إلى تقنية (4D) التي تمكن مشاهديها من أدق التفاصيل التي يشتمل عليها المشهد، وبشكل أوضح من تقنيات العرض (FHD)بأربع مرات مع مزايا أخرى تتعلق بخلق أجواء مصاحبة للفيلم كتحريك المقاعد، وإضافة مؤثرات أخرى كالرياح مع تقنية (5D).

خاتمة

لم تكن هذه الصفحات إلا غيضا من فيض، مما يثيره موضوع الصورة في عصرنا، وما يحمله من إشكالات معرفية والمنهجية، ارتبطت بالكيف الذي يجب أن يأخذه تعاملنا مع الصور؛ إنتاجا واستقبالا، وإدراكا وفهما وتأويلا، ومن حيث هي قيم تصدر عن وعي وقصدية في مقابل الصور العفوية التي لا تحركها غاية ما أو تلك التي تصدر عن اللاوعي. لم يكن في بالنا ونحن نتلمس خطونا في هذا الميدان أن نقدم حقائق قطعية، لكننا وفي الآن ذاته حاولنا بناء نموذج يمكن أن نقاوم به فائض الصورة الذي يجتاحنا كل يوم ولحظة، لا سيما أنها – أي الصورة- صارت مطية تستغلها السياسات والإيديولوجيات والأجهزة الإعلامية لتحقيق مآربها، بل صارت عنصرا حاسما فيما يعرفه العالم من صراعات اقتصادية وديبلوماسية وعسكرية، فقد كان  الرئيس جورج بوش يعي ما يقول،حين صرح بعد أحداث الحادي عشر شتنبر قائلا:” نحتاج إلى خيال سينمائي لنقول الحرب أعلنت على الولايات المتحدة الأمريكية من داخلها”(جمال يرزق “القيم السياسية والثقافية المنقولة عبر الصورة السينمائية” (مجلة البحوث والعلوم الإنسانية، العدد 05 ،01-05-2010، ص 395).

ولعل تصريحا بهذا النوع وبهذه القيمة، يزكي طرح رولان بارت، حين تناول الصورة الفوتوغرافية والصورة عامة بنوع من الحيطة والحذر، فنبه إلى ضرورة تجاوز وهم الصورة والتحرر من سطوة التشابه القائم بين الصورة وما تمثله، والغوص في عوالمها للكشف عن المعاني الضمنية، فالتقريرية أسطورة يراد لها أن تصير إليها الأفهام، فيصير الوعي بعدها سطحيا. فإذا كان الواقع يشهد بسطوة الصورة على حيواتنا بسبب انتشارها الواسع، وتواصلها مع الجميع دون الحاجة إلى معرفة مسبقة، بسبب مجانية المعنى الأول فيها، فقد قلصت من القاعدة الجماهيرية للكتاب، وتحولت قراءة الكتب عملا نخبويا.. وإذا كان الأمر كما وصف بارت بخصوص أسطورة الصورة، فإن من لزوم ما يلزم أن تحارب النخب المثقفة تسطيح الوعي الذي تمارسه الصورة، بتصريف المعارف والفنون والقيم الأخلاقية والجمالية عبرها. لذلك فلابد من ركوب الفن السينمائي باعتباره مجمعا للفنون والعلوم والتكنولوجيا، وحيث يجد الفنانون والعلماء من خلاله الطريق الميسر الذي يجمع بين المعرفة والمتعة ومجالا للذة البصرية، خاصة أنها تحاور الإنسان رغباته وأحاسيسه، وعيه وتفكير في الآن ذاته.

المراجع

  • القرآن الكريم.
  • أندرو ج. دادلي، نظريات الفيلم الكبرى، ترجمة جرجس فؤاد الرشيدي، مراجعة هاشم النحاس، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
  • بارت رولان ، غرفة التظهير حاشية على التصوير، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى الطبعة الأولى 2017.
  • بارت رولان، أسطوريات، ترجمة توفيق قريرة، منشورات الجمل (ب.ت)
  • بنكراد سعيد ، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2012
  • بنكراد سعيد ، سيميائيات الصورة الإشهارية؛ الإشهار والتمثلات الثقافية، إفريقيا الشرق 2006.
  • دنفل أمل، الأعمال الكاملة، مربولي القاهرة، الطبعة 1407ه- 1987م.
  • دوبري ريجيس، حياة الصورة ومتها، ترجمة فريد الزاهي، افريقيا الشرق (ب.ت).
  • عبد الحميد شاكر، عصر الصورة السلبيات والإيجابيات، عالم المعرفة العدد 311 يناير 2005.
  • لشكر حسن، الرواية العربية والفنون السمعية البصرية، سلسلة كتاب المجلة العربية، الرياض المملكة العربية السعودية 1431هـ.
  • لو بون غوستاف، سيكولوجية الجماهير، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي الطبعة الأولى 1991.
  • مبارك حنون، درس في السيميائيات، دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 1987.
  • اليافي نعيم ، مقدمة لدراسة الصورة الفنية، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي -دمشق 1982.
  • يرزق جمال “القيم السياسية والثقافية المنقولة عبر الصورة السينمائية” مجلة البحوث والعلوم الإنسانية، العدد 05 بتاريخ 01-05-2010.
  • Barthes Roland. Le message photographique. In : Communications, 1, 1961
  • Barthes Roland. Rhétorique de l’image. In: Communications, 4, 1964. Recherches sémiologiques
  • Metz Christian. Le cinéma : langue ou langage ? In: Communications, 4, 1964. Recherches sémiologiques.
  • https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%
  • https://dictionnaire.lerobert.com/definition/image
  • https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/image
  • https://fr.wikipedia.org/wiki/Dreamgirls

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *