م.د. محمد كاظم عجيل

العراق / وزارة التربية / المديرية العامة للتربية في محافظة ذي قار

البريد الإلكتروني : mkadm1184@gmail.com

رقم الموبايل : +964 7831875102

الملخص :

    يهتم هذا البحث بتتبُّع جذور ظاهرة التنبؤ بالغيب بأشكالها ووسائلها المختلفة عند عدد من الأمم السابقة ، وبيان أبعاد ذلك في المجتمع العربي في العصور القديمة ، مع تركيز الجهود على بواعث تفشِّي هذه الظاهرة في البيئة الأندلسية ، والبحث عن تجلِّياتها في الشعر الأندلسي ، عبر استعراض مواقف عدد من الشعراء سواء كانت رافضة لهذه الظاهرة ، أم تلك التي جنحت نحو التنبؤ بأحداث المستقبل ، فهناك عدد من الشعراء الأندلسيين أعلنوا رفضهم الأعمال المرتبطة بالغيب ولا سيما موقفهم الرافض للتنجيم ، فيما مارس شعراء آخرون التنجيم واشتهروا به ، وقد وثَّق عدد منهم ذلك في أشعارهم ، فيما اعتمد شعراء آخرون على الفراسة والقراءة الدقيقة للأحداث . فضلاً عن ذلك فقد كان الشعر المغنى وسيلة تعبيرية عملت على بث رسائل خاصة تضمَّنت شيئاً من التنبؤ بمصير عدد من القائمين على الشأن السياسي ، وقد تجلَّى ذلك في عصر الطوائف . فيما  شكَّلت الأشياء اللاشعورية نافذة من نوافذ التنبؤ بالغيب . وقد تم دراسة ذلك في مبحثين ، اهتم المبحث الأول بدراسة ( المسار التاريخي للتنبؤ بالغيب عبر العصور ) . فيما اختصَّ المبحث الثاني بالوقوف على أبرز مظاهر ( التنبؤ بالغيب في الأندلس ) التي جاءت بأساليب وممارسات مُتنوِّعة تمثَّلت بـ ( التنجيم ، والغناء ، والفراسة والقراءة الواعية للأحداث ، والأشياء اللاشعورية ) .

الكلمات المفتاحية : التنبؤ بالغيب ، الشعر الأندلسي ، التنجيم  ، الغناء ، الفراسة .

 

The Phenomenon of Predicting the Presence and its integrations into Andalusian Poetry

Lecturer Dr Mohammed Kadhum Ajeel

Ministry of Education in Iraq, Head Directorate of Education in Thee Qar Province

                                      

Abstract::

     This research is concerned with tracing the Phenomenon of Predicting the unseen in its various forms and means in several previous nations, and an explanation of the dimensions of that in Arab Society in ancient times, with the focus of efforts on the causes of the spread of this phenomenon in the Andalusian environment and the search For its manifestation in Andalusian Poetry, there is number practised of Andalusian poets who declared their rejection of astrology while others practiced astrology and become famous for it. In addition to that, the suny poetry was an expressive means that worked to broadcast special messages that included some predictions about the fate of a number of those in charge of political affairs, and this was evident in the era of sects. The first topic concerned itself with studying the historical path of predicting the unseen through the ages, while the second topic concerned itself with the prediction of the unseen in Andalusia in various forms and means.

   Keywords: Prediction of the unseen, Andalusian Poetry, Astrology, Singing, Physiognomy.                                                                                  

 

مشكلة البحث :

     تعد ظاهرة التنبؤ بالغيب من الظواهر الاجتماعية الشائعة في معظم الأمم والشعوب قديماً وحديثاً ، بفعل تأثير مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية ، لذلك فهي تشكِّل جزءاً من ثقافة الشعوب ، ودراستها يجعلنا نقف على جانب كبير من المعتقدات والتقاليد الاجتماعية التي شائعة في العصور القديمة ، فضلاً عن إلقاء الضوء على الطريقة التي كانت تتَّبعها السلطات الحاكمة آنذاك في إدارة الشأن السياسي ، ومعرفة الكيفية التي يتم عبرها التعامل مع الأحداث ولا سيما في أوقات الأزمات ، ودرء الأخطار الداخلية والخارجية .

أهمية البحث :

إنَّ من أهم ما يثير الانتباه في ظاهرة التنبؤ بالغيب هو مدى الاهتمام الكبير الذي كانت توليه السلطات الحاكمة سابقاً لمعرفة ما سيحصل من أحداث في المستقبل ، ومن ذلك تقريب المُنجِّمين والاعتناء بهم ، واتِّخاذهم وسيلة يتم عبرها استقراء الأخطار المحتملة ، من أجل الاستعداد لها ومعالجتها ، فضلاً عن بث الأمل ولا سيما في الأوقات التي تسبق الدخول في المعارك . وهذا ما تجلَّى في بلاد الأندلس التي كانت تمثِّل ميداناً لتنامي الأعمال المُتعلِّقة بالتنبؤ بالغيب بأشكاله المختلفة ، نتيجة لوقوعها تحت تأثير بعض المؤثرات الخارجية والداخلية ، وقد حفظت لنا كتب التراث الأندلسي جانباً من تلك الأعمال والممارسات .

أهداف البحث :

     بعد الاطِّلاع على كتب التاريخ والأدب والتراجم والطبقات التي اهتمَّت بجمع التراث الأندلسي وجدنا أنَّ بلاد الأندلس لم تكن بمنأى عن ممارسة التنبؤ بالغيب ، إذ شهدت انتشار هذه الظاهرة ، وكانت هناك دوافع كثيرة قادت الأندلسيين إلى الاهتمام بها ، لعل من أبرزها عوامل الخوف والقلق الناتجة عن كثرة الصراعات والفتن ، سواء ما كانت تشعر به السلطات الحاكمة آنذاك وهي تواجه الخطر الخارجي ، أم ما يتعلَّق بالانقسام والصراع الداخلي ، وانعكاس ذلك على أبناء المجتمع  . الأمر الذي حفَّزنا إلى دراسة جوانب التنبؤ بالغيب المختلفة في الأندلس ، وتتبُّع ما ورد من ذلك في أشعار بعض الشعراء الأندلسيين .

منهج البحث :

لقد تركَّزت جهود الباحث على تتبُّع ظاهرة التنبؤ بالغيب ، والبحث عن جذورها ، والوقوف عند أبرز مظاهرها في البيئة الأندلسية ، ورصد أبرز تجلَّياتها في الشعر الأندلسي . وتم اختيار المنهج التحليلي ليكون الأداة النقدية في قراءة الروايات التاريخية والنصوص الشعرية الأندلسية التي يغلب عليها طابع التنبؤ بأحداث المستقبل .

هيكلية البحث :

لقد تم تقسيم البحث على مبحثين هما :

المبحث الأول ( المسار التاريخي للتنبؤ بالغيب عبر العصور ) .

المبحث الثاني ( التنبؤ بالغيب في الأندلس ) . وقُسِّم على فقرات هي :

1- التنجيم.

2- الغناء.

3- الفراسة والقراءة الواعية للأحداث .

4- الأشياء اللاشعورية .

المقدمة : 

إنَّ لظاهرة التنبؤ بالغيب بواعث كثيرة ، يأتي في مقدمتها الهروب من الواقع المؤلم في حالات كثيرة ، بحثاً عن أشياء جديدة تعمل على التخفيف من آثاره الضاغطة ، وتمنح الإنسان السعادة والاطمئنان ، وتعيد له الثقة بنفسه وبقدراته الذاتية ، وتقوِّي إرادته ، وتشد من أزره . وفي حالات أخرى يكون عامل الاستعجال وعدم الانتظار دافعاً نحو الولوج إلى عالم الغيب ، فيقع عدد من الناس تحت تأثير الرغبة المُلحَّة التي تقودهم في بعض الأحيان إلى معرفة ما سيحدث لهم في المستقبل من تغييرات وفي مختلف مجالات الحياة . لذلك فالتنبؤ بالغيب فعالية إنسانية تكون عبر التوجُّه نحو المستقبل ، بحثاً فيما خبأته الأقدار من أحداث ، يطمح كثير من الناس أن تكون سعيدة ، وتدعو إلى التفاؤل والأمل ، من أجل إعادة التوازن إلى الحياة ، وتحقيق الاستقرار النفسي . وفي مواقف كثيرة يلجأ بعض الأشخاص إلى التنبؤ ، ويتشبَّث بنتائجه ؛ لأنَّه يجد فيه الفضاء القادر على استيعاب طموحاته وأفكاره ورؤاه ، حينما لا يجد في الواقع المعيش ما يلبِّي رغباته ، فيضطر إلى البحث عن فضاء ملائم يحقِّق له آماله وتطلعاته ، فيجد مبتغاه في المستقبل ، فيقوم بالبحث عمَّن يرشده لذلك ، ويفتح له الآفاق التي قد تكون ضاقت أمامه بفعل زحمة الحياة ، وقلَّة الفرص المتاحة ، والمنافسة والصراع مع الآخرين . فيعمل على ملاحقة المُشتَغِلين بالتنبؤ لعلَّهم يسهمون في تحقيق ما يصبو إليه ، فيعيش على وقع تنبؤاتهم في أجواء حالمة مفعمة بالأمل والتفاؤل إذا سمع ما يسرُّه ، ويعمد إلى الانكفاء إذا جاءت عملية التنبؤ على عكس ما يشتهيه ، ويطمح إليه . وقد تكون الغاية من التنبؤ حب الاطِّلاع ، وفك طلاسم المجهول ، بحثاً عن الإثارة والتشويق ، وكسر الرتابة والجمود ، وإبعاد الملل والضجر ، في ظل أحداث يعيشها الإنسان قد تكون مُكرَّرة ، فتجعله يشعر بالإحباط والضيق ، فيعمل على مغادرة حالة الانكماش والسكون ، وإزالة رواسبها العالقة . فيما تكون عملية استشراف المستقبل ، والتنبؤ بما يحصل فيه ميداناً لاستعراض المهارات والقدرات في قراءة الأحداث ، واستخلاص الحلول ، وربط ما يحصل لبعض الأشخاص بناء على معطيات الواقع .

المبحث الأول / المسار التاريخي للتنبؤ بالغيب عبر العصور :  

يعد التنبؤ بالغيب ظاهرة قديمة ضربت أطنابها في أعماق التاريخ ، فكانت ممارسة إنسانية شائعة ومتداولة في أمكنة وأزمنة مختلفة ، إذ عرفتها معظم الأمم السابقة . فقد حملت الأساطير القديمة الرومانية والإغريقية اعتقاداً قديماً آمنت سائر الشعوب به ، متمثِّلاً بالتكهُّن بالغيب بين بني البشر ، ومعرفة ما يخفيه المستقبل من أحداث ، وهو ملكة خاصة اقتصرت على بعض الناس ، ولم تكن متاحة أمام الجميع . وقد عُدَّ في المعتقدات القديمة أنَّ قدرة من يملكونها تدنو من قدرة الآلهة دنواً ملحوظاً . ومارسها الآشوريون ، إذ مكَّنتهم سعة السهول التي سكنوا على أديمها ، ومنظر السموات المكشوفة التي تمتد على مد البصر  من أن يلاحظوا مسالك الكواكب ، ويرقبوا حركتها ، فنقلوا إلى الأجيال التي تلتهم ما تحمله حركات الكواكب من دلالات على حظوظ الناس . وهو الأمر الذي سار عليه الكلدانيون ، فاستغلُّوا مشاهداتهم لحركة الكواكب في إقامة علم يمكِّنهم من التنبؤ بحظوظ الناس ، ومعرفة المصير الذي قُدِّر لهم . فيما كان يعتقد بعض سكان آسيا من ( الكيليكيين ، والبيسيديين ، والبامفليين ) اعتقاداً لا يقبل الشك أنَّ المستقبل تكشفه أغاريد الطيور ، وحركاتها في الجو . أمَّا الإغريق ، فقد كانوا لا يقومون بأيَّة هجرة حتى يستشيروا الكاهنة ( بيثيا ) ، أو يتلقَّوا الوحي من ( دودونا ) أو ( جوبتر آمون ) . ولم يدخلوا الحرب قبل أن يلتمسوا نصح الآلهة أولاً ( شيشرون ، 1946 : 35 – 36 ) . وكان قسس الفرس هم أهل العيافة ، وأصحاب التنبؤ بالغيب ، وكانوا يجتمعون في المعبد للعبادة والتشاور . فيما لم يكن في وسع امرئ أن يتولَّى الحكم إلا إذا عرف عمل الكهَّان نظرياً وعملياً . وكان الكلدانيون في سوريا قد عُرِفوا بحدة الذهن ، فكانوا على معرفة تامة بعلم الهيئة . وكان أهل أتروريا كذلك ينمازون بالبراعة في ملاحظة الصواعق ، وتأويل معانيها ، ومعرفة المغزى الذي يحمله كل رمز ، وما ينطوي عليه كل نذير زاجر ( شيشرون ، 1946 : 96 – 97 ) . والأمر يطول في استعراض اهتمام الأمم القديمة بالغيب ، وبيان الممارسات والأنشطة التي قاموا بها في هذا المجال ، بما لا يترك مجالاَ للشك أنَّ عوامل سياسية واجتماعية ودينية مختلفة كانت باعثاً من بواعث التنبؤ بالغيب ، مثل البيئة الطبيعية ، وما تشتمل عليه من سماء وكواكب وأرض وطيور ورعد وبرق وغير ذلك ، فعوامل عدم الاستقرار والخوف من المجهول ، كان لها الأثر البالغ في التوجُّه نحو قراءة ما يخبئه المستقبل ، فضلاً عن ذلك فإنَّ بعض الممارسات المرتبطة بالتنبُّؤ كانت تجري في المعابد فيتم فيها استغلال الأجواء العبادية من أجل تحقيق غايات مُعيَّنة ، منها فرض الهيمنة على أبناء المجتمع ، وإخضاعهم للسلطة الحاكمة .

ولم يكن المجتمع العربي في العصور التي سبقت ظهور الإسلام بمنأى عن ذلك ، إذ ازدهر التنبؤ بالغيب في تلك الحقبة ، فظهرت فئة تدَّعي التنبؤ ، ومعرفة الأشياء الغيبية ، وهم الكهَّان ، الذين كانوا يمثِّلون سلطة دينية واجتماعية ، انطلاقاً من النظرة الاعتقادية السائدة آنذاك ، وهي أنَّ لكل كاهن رئياً من الجن ، يأتيه بأخبار السماء . لذلك كانوا يوهمون الناس بامتلاكهم قوة خارقة ، تمكِّنهم من استكناه خفايا المستقبل ، وكشف الغيب ، وتأويل الرؤيا . وكان سبيلهم في التعبير عن تلك القوة الغامضة استخدام أساليب خاصة موحية ، يُترَك فيها الأمر للاحتمالات أن تفعل فعلها في نفس المتلقي . وقد صاغوا تنبؤاتهم في قوالب فنية عُرِفت باسم ( سجع الكهان ) ، فعمدوا إلى تضمينه العبارات المبهمة المعماة ، وتشكيل الجمل الغامضة ، ابتعاداً عن الحرج ( إبراهيم ، 2003: 161 – 162 ) .

أمَّا بعد ظهور الدين الإسلامي ، فقد وقفت الشريعة الإسلامية موقفاً حازماً من قضايا الغيب ، إذ جعلت الأمور الغيبية بيد الله سبحانه وتعالى ، وقد ورد ذلك في آيات قرآنية متعددة مُتمثِّلةً بقوله تعالى : (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ )) ( آل عمران : 179 ) . وقوله تعالى : (( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )) ( الأنعام : 59 ) . وقوله تعالى : (( قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) ( الأعراف : 188 ). وقوله تعالى : (( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )) ( يونس : 20 ) . وقوله تعالى : (( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ )) ( النمل : 65 ) . وقوله تعالى : ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) ( الجن : 26 ) . وهنا لا نريد أن نخوض في مسألة الغيب ؛ لأنها كانت وما زالت مثار جدل ، وموضع خلاف بين علماء المسلمين ، فمنهم من رفضها رفضاً قاطعاً ، وجعل الغيب بيد الله جلَّ وعلا . ومنهم من يرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يطلع من يختاره من عباده على أمور الغيب . لكنَّهم اتَّفقوا على تحريم التنجيم القائم على السحر والشعوذة والكذب ، مستندين في ذلك إلى أقوال النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو يحذِّر من التنجيم في أحاديث متعددة ، منها ما جاء في قوله : (( مَا اقْتَبَسَ رَجُلٌ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ إِلَّا اقْتَبَسَ بِهَا شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ مَا زَادَ زَادَ )) ( ابن حنبل، 1999 : 3 / 454 ) .

إلا أنَّ ذلك لم يقضِ على ظاهرة التنبؤ بالغيب بشكل نهائي ، فقد ذكرت كتب التاريخ روايات كثيرة تشير إلى تسلُّل التنجيم إلى قصور الخلفاء والولاة والقادة في العصرين الأموي والعباسي ، وكان له أثر كبير في تدبير الشؤون السياسية والاجتماعية وغيرها . والشواهد على ذلك كثيرة منها ما نقله المؤرخون من أنَّ الخليفة الأموي ( عبد الملك بن مروان ) كان يصحب معه المُنجِّمين في معاركه ، ويستمع لتنبؤاتهم . فيما كان ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) يهتم بالتنجيم ، فقد استدعى مُنجِّماً قبل وفاته ، وأخبره بقرب موته . أمَّا خلفاء بني العباس فكانوا يولون المُنجِّمين أهمية كبيرة ، ومثال ذلك ( أبو جعفر المنصور ) فقد عمل على تقريب المُنجِّمين واستشارتهم في أموره ، وكان يصحب معه المُنجِّم ( نوبخت الفارسي ) وابنه ( أبا سهل ) ( الطويل ، 1945 : 132 – 133 ) ، وقد سار بعده عدد من الخلفاء العباسيين على هذا المسار ، والأخبار في ذلك كثيرة ومتنوِّعة . الأمر يؤكد مدى استغلال الماسكين بالسلطة في العصرين الأموي والعباسي للتنجيم ، واتِّخاذه وسيلة تهدف إلى رصد الأخطار المحتملة ، لكي يتم العمل على معالجتها ، والقضاء عليها . وكذلك البحث عن التنبؤات السارة التي تجلب الفرح ، وترفع من الحالة المعنوية ولا سيما في المواقف التي تسبق الدخول في المعارك .

وعلى الرغم من أنَّ أفعال التنبؤ بالغيب – ولا سيما التنجيم – قد أخذت مساحة من الانتشار في العصرين الأموي والعباسي ، إلا أنَّها جُوبِهت بالرفض في مواقف عدد من الشعراء الذين وقفوا بالضد من أفعال المُنجِّمين ، وقد تجلَّى ذلك في أشعارهم التي جاءت صدى لتوجُّهاتهم وأفكارهم ، وشواهد ذلك كثيرة ، نذكر منها على سبيل المثال ما قاله الخليل بن أحمد :

أبلغـــــا عنِّي المنجِّــــــمَ أنِّــــي        كـــافرٌ بالذي قضتهُ الكواكبْ

 شاهدٌ أنَّ من تكهَّنَ أو نجَّ        مَ زارٍ على المقاديرِ كـــــــاذبْ

 عالمٌ أنَّ ما يكونُ وما كــــــا       نَ قضاءٌ من المهيمنِ واجـــبْ

( القرطبي ، (د.ت) : ق2 / 116 ) . وما قاله الشاعر أبو تمام الطائي :

   والعلمُ في شُهَبِ الأرمـــــــــــــاحِ لامعةٌ      بينَ الخميسينِ لا في السبعةِ الشُّهُبِ

 يقضونَ بالأمرِ عنها وهي غــــــــــافلةٌ      ما كـــــــــــــانَ في فلكٍ منها وفي قُطُبِ

( القرطبي ، (د.ت) : ق2 / 116 ) . وما قاله أبو الطيب المتنبي :

فتبَّاً لدينِ عبيدِ النُّجومِ       ومن يَدَّعــي أنَّها تعقلُ

( القرطبي ، (د.ت) : ق2 / 116 ) . وهناك مواقف كثيرة لشعراء آخرين تسير بهذا الاتجاه المعارض للتنجيم ، لكن الأمر لا يقتصر على الشعراء فحسب ، وإنَّما كان لعدد من علماء الدين والمفكرين والفلاسفة وغيرهم آراء رافضة ، لا يسمح المقام لذكرها هنا ، وسنقوم في صفحات البحث القادمة بدراسة ظاهرة التنبؤ بالغيب في بلاد الأندلس ، والوقوف عند أبرز العوامل التي أدَّت إلى ظهورها وانتشارها .

المبحث الثاني / التنبؤ بالغيب في الأندلس :

     ممَّا لا شك فيه أنَّ أغلب الأمم والشعوب قد عرفت ظاهرة التنبؤ بالغيب ، وتمَّ تعلُّمها وممارستها على نطاق واسع ، سواء كان ذلك عبر التنجيم بأشكاله وأساليبه المختلفة أم الفراسة والقراءة الواعية للأحداث ، وبمرور الوقت أصبحت هذه الأفعال حالة اعتقادية مألوفة شكَّلت جزءاً من ثقافة الشعوب . وبما أنَّ لكل أمة ظروفها التي تدفعها إلى التوجُّه نحو التنبؤ بما يخفيه المستقبل من أحداث ، فإننا سنقوم في هذه الدراسة ببيان طبيعة التجربة الأندلسية في ممارسة التنبؤ بالغيب ، والوقوف عند الدوافع التي قادت الأندلسيين إلى الاهتمام بهذه الظاهرة ، وتتبُّع تجلِّياتها على المستويين السياسي والاجتماعي عبر محاور متعدِّدة منها ( التنجيم ، والغناء ، والفراسة والقراءة الواعية للأحداث ، والأشياء اللاشعورية ).

أولاً / التنجيم :          

لقد كانت بلاد الأندلس مناخاً ملائماً لازدهار التنبؤ بالغيب بأشكاله المختلفة ، ولا سيما التنجيم إذ شهد رواجاً كبيراً ، وزاد الاهتمام به ، الأمر الذي جعل عدداً من النابهين والشعراء يتسابقون إلى دراسة علم النجوم ومعرفة مواقع الكواكب وحركتها ، من أجل الحصول على مكان لهم في قصور السلطات الحاكمة آنذاك . وعلى الرغم من بروز اتجاه ناقم على ممارسات المُنجمِّين وأفعالهم التنبؤية ، إلا أنَّ ذلك لم يكن له تأثير كبير في إيقاف مظاهر التنبؤ بالغيب المُتمثِّلة بالتنجيم ، وخير من مثَّل الاتجاه الرافض الشاعر ابن عبد ربَّه الأندلسي ، الذي أبدى انزعاجه وامتعاضه من عمل المنجِّمين ، ويتجلَّى ذلك في قوله : (( دخلت على الوزير جهور بن الضيف ، وكان القحط قد ألح ، والغيث قد احتبس واغتمَّ الناس لذلك ، وتحدَّث المُنجِّمون بتأخُّر الغيث مدة طويلة ، فوجدت عنده ابن عزرا المُنجِّم وجماعةً من أصحابه ، وقد أقاموا الطالع وعدلوا ، وقضوا بتأخير الماء شهراً . فقلت للوزير : إنَّ هذا من أمور الله المُغيَّبة ، وأرجو أن يكذِّبهم الله بفضله ، ثم خرجت عنه وأتيت داري ، فجاء أول الليل والسماء قد تغيَّمت ، ونمتُ ساعة ، فما أيقظني إلا نزول الماء ، فقمت وقرَّبت منِّي المصباح ، ودعوت بالدواة والقلم ، فما رفعت يدي حتى نسخت هذه الأبيات ، ثم صابحت بها الوزير ، فسرَّ بها واستحسنها ، وهي :

مــــــــا قــــــــــــــــــــــــــــدَّرَ اللهُ هو الغالبُ         ليسَ الذي يحسبُهُ الحاســـــــــــــــــبُ

قد صدَّقَ اللهُ رجـــــــــــــــــــــــاءِ الوَرى          ومـــــــــــــــــــا رجـــــــــــــاءٌ عندَهُ خائــــــبُ

وأنزلَ الغيـــــــــــــــــثَ علـى راغــــــــــبٍ          رحمــــــــــتَهُ إذ قنـــــــــطَ الراغـــــــــــــــــــبُ

قلْ لابنِ عـــــزرا السخيفِ الحجا          زَرَى عليكَ الكوكــــــــــــبُ الثاقــــــبُ

ما يعلمُ الشاهـــــــــــــــــدُ من حُكمِنا          كيفَ بأمرٍ حُكــــــــــــــــــمُـــهُ غائــــــــــبُ

وقـــــــــــــــــــلْ لعــــــــــــبَّاسٍ وأشـــــــــــــــياعِهِ          كيفَ ترى قولَكُـــــــــــمْ الكـــــــــــــاذبُ

خــــــــــــانكم كيوانُ فــــــــــــي قــــــــــوسِهِ          وغَرَّكم فـــــــــــي لـــــــــونهِ الكــــــــــــــــاتبُ

فكلُّكُمْ يكــــــــــــــــــــــــــذْبُ في عِلْمِهِ           وعلمكُمْ فـــــــــــي أصلِهِ كــــــــــــــــاذبُ

مــــــــــــــــــــا أنتمُ شــــــيءٌ ولا عِلْمُكُمْ           قد ضَعُفَ المطلوبُ والطالـــــــــــبُ

تُغالُبونَ اللهَ فـــــــــــــــي حُكْــــــــــــــــــــــــمِهِ          واللهُ لا يغلـــــــــــــــــــــبُهُ غـــــــــــــــــــــــــــــالبُ

محبوبٌ الحَـــــــبْرُ الذي مالَــــــــــــــــــهُ          في فهـــــــــمِهِ نِدٌّ ولا صاحـــــــــــــــــــــــبُ

قـــــــــــــــــــــــــــــد أشهدَ اللهَ على نفسِهِ          بأنَّهُ مــــــــــــــــــــــــــن جهلِكُمْ تائــــــــــــــــبُ))

( ابن عبد ربه ، 1979 : 30 – 31 ) . وهنا ضمَّن ابن عبد ربه رؤيته الناقمة على التنجيم ، فخطابه الشعري يشتمل على نزعة حجاجية هدفها إقناع الآخرين بسوء أفعال المُنجِّمين ، فعمل على عرض حججه العقلية والنقلية التي عبَّرت عن ذات غاضبة أثارها ما يقوم به المُنجِّمون من أعمال تخالف العقل وتعاليم الدين الحنيف . وقد وظَّف أسلوب السخرية بهدف تعريف أبناء المجتمع بقبح ممارسات المُنجِّمين ، وحثِّهم على الابتعاد عنهم ، وعدم التصديق بما يطلقونه من تنبؤات .

وقد تكرَّر موقف ابن عبد ربَّه الرافض للتنجيم في موضع آخر ، إذ رأى فيه إفكاً وكذباً على الله تعالى ، لذلك عمد إلى تعرية أفعال المُنجِّمين ، وبيان عجزهم وضعفهم أمام قدرة الله جلَّ وعلا في تدبير شؤون الخلق ، بقوله :

فــــــــــأينَ الزِّيــــــــــــــجُ والقانو            نُ والأركندُ والكـــــــــمَّـــــــــــــــهْ

وأينَ السِّـــــــــــــــــنْدُ هِنْدُ البا           طلُ الجدولُ هــــــــــــل ثَمَّهْ

سِوى الإفْكِ علــــــــــى اللهِ            تعالــــــــــــــــى مُنْشِرُ الرِّمَّــــــــــــهْ

إذا كانَ أخــــــــــــــــــو النَّجْمِ            يرى الغَيْبَ بمـــــــــــــا ضَمَّهْ

فَلِمْ ذا َيطْلُـــــــــــــــبُ الرِّزْقَ            طِلابَ العاجِـــــــــــــــزِ الهِمَّهْ

وهذي الأرضُ قد وارتْ            كُنُوزاً عـــــــــــــــــــــــــــــــدَّةً جَمَّهْ

فلا واللهِ مــــــــــــــــــــــــــــــا لِلَّهِ            خَلْقٌ يحــــــــــــتوي عِلْمَــــــــــهْ

( ابن عبد ربه ، 1979 : 158 – 159 ) . وهناك أصوات أخرى أعلنت عن موقفها الرافض لممارسات المُنجِّمين ، ومن ذلك ما ذكره ابن عبد البر النمري القرطبي بقوله : (( أنشدني عباس بن يحيى بن قزمان لعمه عيسى بن قزمان :

هذا بإذنِ اللهِ مــــــــــــــــــــــــــــــــا شاءَ قدَّرَهُ        وليسَ فيمـــــــــــــــــا قضى كيوانُ والقمرُ

تقيه أنجـــــــــــــــــــــــمه صرف الزمان فلا        يأتي عليه ولا يفني لــــــــــــــــــــــــــــــــــه عمر

  هيهات ذلكَ أمـــــــــــــــــــرٌ لا يطاقُ ولــ        ــكنَّ الفتى ينتهي حيثُ انتهى القدرُ

  لو كانَ عندَ النُّجومِ السابحاتِ بما        يجري على الخلقِ مـــن أبنائِهم خبرُ

لـــــم يحتللْ بذراهُــــــــــــــــمْ ريبُ حادثةٍ        بل كــــــــــــــانَ يُنجيهمُ الإنذارُ والحذرُ

    ما كـــــــــــــــانَ ينجلُ منهم عالـــمٌ ولداً         في ساعةٍ مـــــــــــــــا بها نحسٌ ولا كدرُ))

( القرطبي ، (د.ت) : ق2 / 120 ) . وقال ابن ليون التجيبي :

 خلِّ المُنجِّمَ يهذي فـــــــــــــــــي غوايتِهِ        واقصدْ إلى اللهِ ربِّ النَّجمِ والفلكِ

لو كانَ للنَّجمِ حكمٌ لـم تجدْ أحداً        يخالفُ النَّجمَ إلا انهدَّ فـــــــــي دركِ

( بهنام ، 2013 : 253 ) . لكن ما ذكره ابن عبد ربَّه وغيره من الشعراء الأندلسيين لا يعني أنَّ التنبؤ بالغيب القائم على التنجيم قد خفت ضوؤه في الأندلس ، بل على العكس من ذلك ، فقد ازدهر ازدهاراً كبيراً ، ومرد ذلك إلى العناية التي أولتها السلطة الأموية للتنجيم في الأندلس ، إذ عملت على تقريب المُنجِّمين ، ومنحتهم قدراً كبيراً من الرعاية والاهتمام ، فكان الأمراء والخلفاء الأمويون في الأندلس يبحثون عن النابهين والأذكياء الذين بإمكانهم قراءة الأحداث ، وفهم ما يدور ، وما يمكن حدوثه ، وصولاً إلى استخلاص التنبُّؤات الصحيحة ، من أجل التهيُّؤ وأخذ الحيطة والحذر ، وتلافي الأخطار المحتملة في أغلب الحالات . وقد كان كثير من أفعال السلطة آنذاك وتوجُّهاتها وقراراتها مرهوناً بما يقوله المنجِّمون . لذلك شكَّل ذلك عملاً إغرائياً ، وفرصة ثمينة للباحثين عن الشهرة والأموال والمنزلة الرفيعة ، والعمل بالقرب من أصحاب القرار السياسي ، فاشرأبَّت لها الأعناق ، وتاقت إليها النفوس ، إذ لم يتردَّد عدد من الأندلسيين في اقتحام ميدان التنجيم ، وعرض بضاعتهم أمام أمراء الأندلس وخلفائها وملوكها .

أمَّا فيما يتعلَّق بالعوامل التي كانت وراء لجوء السلطة الأموية في الأندلس إلى منح التنبؤ بالغيب هذه المساحة الكبيرة من الاهتمام ، فبعضها يعود إلى طبيعة البيئة التي عاشها العرب المهاجرون من أوطانهم ، واستيطانهم في بيئة تختلف عن بيئتهم في جوانب مختلفة ( اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية ) ، وهي لم تكن على وئام معهم ، إذ كانت مليئة بالأخطار والتحديات في أحيان كثيرة ، ممَّا ولَّد شعوراً بالقلق والخوف ، ظلَّ مخيماً عليهم لعصور طويلة . وقد كان أصحاب السلطة الأموية يعون حجم التحديات ، وصعوبة الظروف المحيطة بدولتهم الناشئة ، فأظهروا إصراراً كبيراً على البقاء والصمود ومواجهة التهديدات ، مستندين في ذلك على ما يملكونه من إرث سياسي وإيديولوجي وثقافي امتدَّ لعقود في إدارة الدولة الإسلامية في المشرق ، فعملوا على استيحاء تجارب أجدادهم ، والإفادة منها في بناء دولة قوية قادرة على الوقوف بوجه الصعاب ، فأثبتوا جدارتهم في بسط نفوذهم على بلاد الأندلس ، ولم يتردَّدوا في استخدام مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة في معالجة المواقف الصعبة ، ودفع الأذى ، وتصفية الخصوم والمناوئين . لذلك فإنَّ عملية استشراف المستقبل ، وسبر أغواره ، وكشف ما يشتمل عليه من أحداث ، كانت من الأشياء التي تأتي ضمن محاولاتهم الرامية إلى تقوية عزيمتهم وإصرارهم ، ودفع غوائل الأشرار ، في سبيل تثبيت أركان دولتهم ، وتعظيم شأنها ، وحمايتها من التآكل والانهيار . فعوَّلوا كثيراً على المُنجِّمين في معالجة الأخطار المحدقة بهم في تلك الأوقات ، التي كانت تهدِّد الوجود العربي والإسلامي في الأندلس ، الأمر الذي جعل من التنبؤ وسيلة ذات أبعاد سياسية ، هدفها تحقيق مكاسب وإنجازات سياسية وعسكرية ، والمحافظة عليها قدر الإمكان . ويبدو أنَّ ما قام به الأمويون في الأندلس من اهتمام كبير بالتنجيم أصبح عرفاً سائداً في العصور اللاحقة . وتحوَّل الأمر إلى ممارسة شائعة في الفكر السياسي الأندلسي ، ليشكِّل جزءاً من ثقافة الماسكين بزمام السلطة السياسية الحاكمة .

ومن تجليات اهتمام القائمين على السلطة بالتنجيم في عصور الحكم الأموي في الأندلس ما ذُكِر عن الأمير الأموي ( هشام بن عبد الرحمن ) ، فقد منح التنجيم عناية خاصة ، وتمثَّل ذلك بإحضار المُنجِّمين ، وإجبارهم على ممارسة عملهم واصطياد التنبؤات المناسبة ، وهنا نورد ما قاله المقري : (( ولمَّا ولي هشام أشخص المنجم المعروف بالضبي من وطنه الجزيرة الخضراء إلى قرطبة ، وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقاً وإصابة ، فلمَّا أتاه خلا به وقال له : يا ضبي ، لست أشك أنّه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم يدّع تجديد النظر فيه ، فأنشدك الله إلا ما نبأتنا بم أظهر لك فيه ، فلجلج وقال : أعفني أيُّها الأمير ، فإنِّي ألممت به ، ولم أحقّق النظر فيه لجلالته في نفسي ، فقال له : قد أجَّلتك لذلك ، فتفرَّغ للنظر فيما بقي عليك منه ، ثمّ أحضره بعد أيّام ، فقال : إنَّ الذي سألتك عنه جدّ منِّي ، مع أنِّي والله ما أثق بحقيقته ، إذ كان من غيب الله الذي استأثر به ، ولكنِّي أحبُّ أن أسمع ما عندك فيه ، فالنفس طلعة ، وألزمه الصّلة أو العقوبة )) ( التلمساني ، 1968 : 1 / 334 – 335 ) . وبعد أن رضخ المُنجِّم للضغوط التي مارسها الأمير هشام عليه قام بالإعلان عن تنبؤاته للمرحلة القادمة من حياة الأمير ، إذ قال : (( أعلم أيُّها الأمير أنّه سوف يستقر ملكك ، سعيداً جدّك ، قاهراً لمن عاداك ، إلا أنَّ مدّتك فيه فيما دل عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها ، فأطرق ساعة ثمّ رفع رأسه وقال : يا ضبي ما أخوفني أن يكون النذير كلَّمني بلسانك ، والله لو أنَّ هذه المدّة كانت في سجدة لله تعالى لقلّت طاعةً له ، ووصله وخلع عليه ، وزهد في الدنيا ، والتزم أفعال البرّ )) ( التلمساني ، 1968 : 1 / 335 ) . والخبر السابق يبيِّن مدى تأثير المُنجِّمين في الحياة السياسية ، وقدرتهم على ممارسة دورهم في تغيير أفكار السلطة وأفعالها .

ومن الذين مارسوا التنجيم في بلاد الأندلس ، وبرعوا فيه الشاعر ( عباس بن فرناس التاكرني ) ، فقد ذكر ابن حيان (( أنَّه نجَّم في عصر الحكم الربضي ، ووصفه بأنه حكيم الأندلس الزائد على جماعتهم بكثرة الأدوات والفنون . وهو مولى بني أمية ، وبيته في برابر تاكرنا . وكان فيلسوفاً حاذقاً ، وشاعراً مفلقاً ، مع علم التنجيم )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 333 ) .

أمَّا عبد الله بن الشمر بن نمير القرطبي ، فقد كان له حضور واسع وتأثير كبير في عالم التنجيم في الأندلس ، وذاع صيته كثيراً ، فقد (( جعله الحجاري رئيس المُنجِّمين بالأندلس ، إلى ما حباه الله به من حسن الخلال ، التي بأقلِّها يبلغ الكمال )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 127 ) . فقد كان يتمتَّع بصفات وعلوم ومعارف مختلفة ، قام باستثمارها في تحقيق أهدافه وطموحاته ، فنقلت الروايات (( أنَّه كان نسيج وحده مجموعاً له من الخصال النبيلة ما فرَّق في عمر من جميع التعاليم والأدب والشعر والنثر . وكان لطيفاً حلواً يغلب على قلب من شاهده )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 124 – 125 ) . وقد أبدى مهارة كبيرة في عرض بضاعته المتمثلة بالتنجيم كلَّما سنحت الفرصة أمامه ، بحثاً عن الجاه والمال ولا سيما في حضرة الأمير عبد الرحمن بن الحكم ، وقد كان قريباً منه في عهد والده الحكم ، و(( لمَّا صار الأمر إليه وفى له ونادمه )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 125 ) . والشواهد على أفعاله في التنجيم كثيرة ، فقد أورد عدد من المؤرخين أخباراً عدة ذكروا فيها ما قام به المُنجِّم ابن الشمر ، منها (( أنَّه كان قد بشَّر عبد الرحمن بأنَّ الأمر سيصير إليه من جهة التنجيم ، فلمَّا كان ذلك أحسن جزاءه ، وأجرى عليه رزقاً للشعر ورزقاً للتنجيم )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 125 ) . وقد استغلَّ ابن الشمر شغف الأمير عبد الرحمن بالتنجيم ، فعمل جاهداً على أن يكون مقدماً على غيره من المُنجِّمين ، وإبعاد المنافسين له ، فضلاً عن تجميل صورة التنجيم ، بوصفه عملاً لابد منه ، ولا يمكن الاستغناء عنه مهما كانت الظروف ، والعمل على إقناع الأمير بقيمة عمله ، إذ لم يتردد في استعراض قدراته ومعرفته بقضايا التنجيم ، من أجل أن لا يفقد دوره وموقعه بالقرب من السلطة الحاكمة ، فيذكر المؤرخون أنَّ عبد الرحمن بن الحكم (( وغض يوماً من علم المُنجِّمين ، وقال : إنَّه مخرقة ورجم بالغيب ، فأراد ابن الشمر أن يقيم له برهاناً على صحته : بأن قال للأمير ، اختبر في مقامك بما شئت؟ فقال : إن أنبأتني على أي باب من أبواب هذا المجلس أخرج في قيامي صدقت بعلمك ، فكتب ابن الشمر في ورقة مختومة ما اقتضى له الطالع ، ودعا الأمير من فتح له باباً محدثاً في غارب المجلس الذي يلي مقعده ، ثم خرج منه وترك الخروج من أبواب المجلس الأربعة وفتح الورقة ، فوجد فيها ما فعله الأمير، فتعجب ، ووصله )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 126 ) . وفي حادثة أخرى نقل ابن حيان ما تنبأ به ابن الشمر بعد أن أخبره الأمير عبد الرحمن بنواياه في دخول إحدى المعارك ، فيروي قائلاً : (( ونزل بفحص السرادق أعلى قرطبة وقد قفل من غزاة مزمعاً على الدخول إلى قرطبة صبيحة غده في تعبئة كاملة ، فقال له ابن الشمر : لتعلم أنَّك مغلوب على ذلك ، ولا بد لك الليلة من المبيت في قصرك ، فقال : والله لأدخلنه ، فقال : والله لتدخلنه مكرهاً ، ولأكوننَّ في هيئتي شبهك في طريقك إليه ، وسوف ترى . فغضب ووكل به ، وكان ذلك اليوم مشمساً صائفاً ، فما هو إلا أن دنا المساء ، فانهمل من المطر وهبَّ من الريح ما ضجَّ له الناس ، وتداعوا للدخول لقرطبة ، ولم يجد الأمير بداً من مبادرة قصره ، وركب في نفر من خاصته ، وابن الشمر إلى جانبه يسايره ، فوطئت دابة ابن الشمر مسماراً فلم تنهض ، فأمر له بفرس من جنائبه بسرجه ولجامه ، فركبه ، وشكا نفوذ الماء لغفارته التي كان يتوقاه بها ووصله إلى جسده ، فأمر له الأمير بممطر خز من مماطره ، وقنزعة من قنازعه ، صُبَّا عليه ، فاستوى والأمير في لبوسه ، ومضى يسايره . فلمَّا نزل قال له : يا مولاي كيف رأيت قولي؟ فقال : انطلق بما عليك وتحتك ، والصلة لاحقة بك )) ( المغربي ، (د.ت) : 1 / 126 – 127 ) .

ومن المُنجِّمين الذين كانوا يسيرون في ركاب السلطة الأموية في الأندلس ، ويحظون بعطائها المُنجِّم الشاعر ( مروان بن غزوان ) ، فيُروَى أنَّه (( كان متصلاً بعبد الرحمن الأوسط ، وخرج في بعض سفراته ، فبشَّره بالسلامة ، وافتتاح ثلاثة معاقل من بلاد العدو ، فكان ذلك ، وأعطاه ألف دينار )) ( المغربي ، (د.ت) : 2 / 22 ) .

ويعد الشاعر يحيى بن حكم الغزال من منجِّمي الأندلس البارزين في ذلك الوقت ، فينقل المقري أنَّه كان (( حكيم الأندلس ، وشاعرها ، وعرّافها )) ( التلمساني ، 1968 : 2 / 254 ) . وكان قد عاصر خمسة من أمراء بني أمية في الأندلس ، وهم ( عبد الرحمن الداخل ، وهشام بن عبد الرحمن ، والحكم بن هشام ، وعبد الرحمن بن الحكم ، ومحمد بن عبد الرحمن ) ، إلا أنَّ نجمه قد بزغ في عهد ( الحكم بن هشام ، وعبد الرحمن بن الحكم ، ومحمد بن عبد الرحمن ) . وكان مهتماً بدراسة النجوم والكواكب ، وهناك مواقف كثيرة أفصح فيها الغزال عن مهارته ، وقدرته على التنبؤ بمستقبل بعض الأشخاص ، فتذكر الأخبار (( أنَّ الغزال أنذر بهُلك نصر الخصي هذا من طريق النجم قبل وقوعه بمدة ، فقال :

قُـــــــــــــــــــــــــلْ للفتى نصـــــــــــرَ أبي الفتحِ          إنَّ المقاتلَ حـــــــــــــــــــــــــــــــــلَّ بالنَّطــــــــــــــــحِ

وأراهُ قهـــــــــــــقــــــــــــرَ فيه ثم مضــــــــــــــــــــــى         قُــــدمـــــــــــاً ومُدَّبِراً إلــــــــــــــــــــــــى الرُّمــــــــــــحِ

وأرى النُّحوسَ لـــــــــــــــــــــــهُ مساعـــــــــــــــدةً         فــــــــــانظُـــــــرْ لنفسكَ واقْبَلَنْ نُصــــــــحي

ووجـــــــــــــــــدتُ ذلكَ إذ حسبتُ لــــــــــهُ         ممَّا يدلُّ علـــــــــــــــــــــــــى غَـــــــــــــــــلا القمحِ

ونزولِ أمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ لا أفــــــــــــوهُ بهِ         لو كــــــــــــــــــــــــــانَ يبلغُ بي إلـــــــــــــى الرِّبحِ

وإذا رأيـــــــــتَ البدرَ فــــــــــــــــــــي بُلَـــــــــــعٍ         نزلَ القضـــــــــــــــــــــــــــــــاءُ بأبـــــــــــــرحِ البَرْحِ

يا رُبَّ طـــــــــــــــــالعـــــــــــــــــةِ العشاءِ أتَتْ           بخــــــــــــــــلافِ ذاكَ طوالــــــــــــــــــعُ الصُّبحِ

  ولــــــــربَّ رافـــــــــــــلـــــــــــــــــــــــــةٍ عَشِيَّتُهــــــــــــا         في الوشي أضحتْ وهي في المِسْحِ

 تبكي على مــــــــن كــــــــــــــــــــانَ يُكرمها          نحـَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء بين نوادبٍ نُـــــــــــحِّ))

( الغزال ، 1993 : 44 ) .

أمَّا في عصر الخلافة الأموية في الأندلس فقد سار عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر على خطى أسلافهما من أمراء الأندلس في إيلاء عناية كبيرة بالتنجيم ، فتذكر الروايات (( وممَّا يلحق بهذا النشاط العلمي كثرة الأطباء وعلماء التنجيم ، الذين تجمَّعوا حول الناصر والمستنصر )) ( عباس ، 1960 : 47 ) .

ولم ينقطع التنجيم في المدة التي تلت الخلافة الأموية وما تلاها في عهد الفتنة التي عصفت ببلاد الأندلس ، وقد نقلت كتب التراث خبراً يتضمَّن ما تنبأ به المُنجمِّ في عهد الحكم المستنصر ( أحمد بن فارس ) بعد ولادة ( الملك المظفر ) ، إذ يقول : (( لم يولد بالأندلس مولود أسعد منه على أبيه وعلى نفسه وعلى حاشيته ، نعم! وعلى أهل الأندلس طراً ، وعلى أرضها طراً ، فضلاً عن ناسها ، وأنَّها لا تزال كذلك حال حياته ، وإذا هلك فما أراها إلا بالضد )) ( ابن الأبَّار ، 1985 : 1 / 270 ) . وقد تحقَّق ما جاء به ابن فارس المُنجِّم ، وأكَّد ابن الأبَّار ذلك بقوله : (( فأمَّا أبو مروان عبد الملك المظفر منهم ، فقام بالدولة مقام أبيه ، وأغنى في غزو العدو ، إلا أن مدته لم تطل . وبلغت الأندلس في أيامه نهاية الكمال ، وكان على أهلها أسعد مولود )) ( ابن الأبَّار ، 1985 : 1 / 269 – 270 ) .

وفي عهد المنصور بن أبي عامر أظهر الحزم والشدة تجاه بعض العلوم والممارسات ، ومنها التنجيم ، فيذكر المؤرخون أنَّه كان (( أشد الناس في التغير على من علم عنده شيء من الفلسفة والجدل في الاعتقاد ، والتكلم في شيء من قضايا النجوم وأدلتها ، والاستخفاف بشيء من أمور الشريعة . وأحرق ما كان في خزائن الحكم من كتب الدَّهريَّة والفلاسفة ، بمحضر كبار العلماء )) ( المراكشي ، 1980 : 2 / 291 – 292 ) . ويذكر المراكشي ما أوقعه المنصور بأحد المُنجِّمين بقوله : (( وممَّن أوقع به المنصور في مثل هذه المعاني المُنكَرة : محمد بن أبي جمعة ؛ بلغه عنه قول من الإرجاف في القطع على انقراض دولته ؛ فقطع لسانه ، ثم قتله وصلبه ؛ فخرست ألسن جميعهم لذلك )) ( المراكشي ، 1980 : 2 / 291 – 292 ) .

أمَّا في عصر الطوائف فقد عاشت الأندلس حالة من الاضطرابات والانقسامات ، بفعل الأخطار الخارجية التي كانت تهدد الوجود العربي والإسلامي ، فضلاً عن الصراعات الداخلية ، والفتن التي ألمَّت بها ، وقد ألقى ذلك بظلاله على الحياة الاجتماعية ، فما أن تهدأ الأجواء ويعم الاستقرار حتى تعلو أصوات الحرب ، الأمر الذي ينذر بقدوم الويلات والنكبات والكوارث ، التي تركت الأسى والحزن يخيِّم على أبناء المجتمع الأندلسي في حالات كثيرة ، وفي ظل تلك الظروف الخانقة لجأ بعض الناس إلى البحث عن وسائل تعيد لهم الأمل ، وتشعرهم بالأمان . فضلاً عن ذلك فإنَّ الصراع على السلطة والتنافس السياسي قد جعل من التنجيم سوقاً رائجة ، فزاد الاهتمام بالمُنجِّمين ، وتم الاستماع إلى تنبؤاتهم حتى أصبحت الفيصل في كثير من المواقف ولا سيما في الأوقات التي تسبق الدخول في المعارك ، وكشف الخطر الذي يهدِّد السلطة ، من أجل الاستعداد له ، والتخفيف من آثاره المحتملة ، مثلما حدث مع المعتمد بن عبَّاد ، فقد كان يستعين كثيراً بمنجِّمه المعروف أبي بكر الخولاني ، ويذكر ابن بسَّام في ذخيرته ذلك يقوله : (( حينما كانت جيوش المسلمين بالأندلس مع حليفهم يوسف بن تاشفين تستعد لخوض معركة الزلَّاقة ، أمر المعتمد منجِّمه أبا بكر بن يحيى الخولاني بأخذ طالع الوقت والنظر فيه ، فوجده أوفق طالع ، فكتب المعتمد إلى يوسف بهذه الأبيات :

غــــــــــــــــزوٌ عليكَ مـــــــــــباركٌ          في طيِّه الفتحُ القريـــــــــــبْ

  للهِ ســـــــــيــــــــــــفُـــــــــــــــــــــكَ إنَّه          سُخـــطٌ على دينِ الصَّليبْ

    لا بدَّ مــــــــــــــن يومٍ يكـــــــــــو          نُ لـــــــــــــــــه أخٌ يومَ القَلِيبْ ))

( ملك إشبيلية ، 2000 : 53 ) . أمَّا إذا جاءت الأمور بالضد ممَّا يخبر به الخولاني ، فإنَّ المعتمد يعمد إلى زجره وتوبيخه ، ومن ذلك حينما دخل عليه المُلثَّمون ، فخاطب منجِّمه أبا بكر الخولاني قائلاً :

أرَمِــــــــدْتَ أم بنجُومِكَ الرَّمدُ؟        قد عـــــــــــــــــــادَ ضدَّا كلُّ ما تَعِدُ

هــــــــــــــل في حسابِكَ ما تُؤمِّلُهُ         أم قـــــــــــــــــد تَصَرَّمَ عندكَ الأمَدُ

قد كنتَ تَهِمسُ إذْ تُخاطبُني         وتخـــــــــطُّ كَرهاً إنْ عَصَتْكَ يَدُ

فالآن لا عـــــــينٌ ولا أثــــــــــــــــــــــــرٌ          أتُراكَ غيَّـــــبَ شخصَكَ البلدُ

وتراكَ بالعذراءِ فـــــــي عُـــــــرُسٍ          أم إذ كذبتَ سَطَا بكَ الأسَدُ

المُلْكُ لا يَبقى على أحـــــــــدٍ          والموتُ لا يَبقى علــــى أحــــــدُ

( ملك إشبيلية ، 2000 : 87 ) . وتذكر الروايات أنَّ التنبؤ بالغيب قد امتد إلى عصر الموحدين ، فمؤسس الدولة الموحدية ( محمد بن تومرت ) كان كثير الاهتمام بالتنجيم وغيره من الأفعال والممارسات التنبؤية ، ومن ذلك ما ذكره أحد المؤرخين ، إذ ينقل أنَّه خرج في أحد الأيام (( متوجهاً إلى المغرب فنزل بضيعة يقال لها ملالة على فرسخ من بجاية وبها لقيه عبد المؤمن بن علي وهو إذ ذاك متوجه إلى المشرق في طلب العلم ، فلمَّا رآه محمد بن تُومَرت عرفه بالعلامات التي كانت عنده ، وكان ابن تومرت هذا أوحد عصره في علم خط الرمل ، مع أنَّه وقع بالمشرق على ملاحم من عمل المُنجِّمين وجُفور من بعض خزائن خلفاء بني العباس ؛ أوصله إلى ذلك كله فرط اعتنائه بهذا الشأن ، وما كان يحدِّث به نفسه )) ( المراكشي ، 2006 : 137 ) . وبذلك نجد أنَّ الطموحات السياسية كانت تضغط على عدد كبير من الراغبين بالوصول إلى السلطة ، فتدفعهم إلى التشبُّث بأي وسيلة كانت من أجل بلوغ الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها ، ومن ذلك التنبؤ بالغيب .

ثانياً / الغناء :

يبدو أنَّ الغناء في الأندلس لم يكن مقتصراً على التسلية والطرب فحسب ، وإنَّما كان يتأثَّر بما يجري على الساحة السياسية من أحداث وتطورات ، فقد ذكرت كتب التراث الأندلسي أخباراً تظهر دور بعض المُغنِّين في ميدان التنبؤ بالغيب ، وقراءة بعض أحداث المستقبل ، وكشف ما يحمله من تحولات في الشأن السياسي ، ولا سيما التنبؤ بمصير عدد من ملوك عصر الطوائف ، ومن ذلك ما جرى مع ملك طليطلة المأمون بن ذي النون حينما بنى قصراً كبيراً وجميلاً ، فتذكر الأخبار أنَّه (( أتقنه إلى الغاية ، وأنفق عليه أموالاً طائلة ، وصنع في وسطه بحيرة ، وصنع في وسط البحيرة قبّة من زجاج ملوَّن منقوش بالذهب ، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون ، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطاً بها ويتّصل بعضه ببعض ، فكانت قبة الزجاج في غلالة ممَّا سكب خلف الزجاج لا يفتر من الجري ، والمأمون قاعد فيها لا يمسُّه من الماء شيء ولا يصله ، وتوقد في الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب ، وبينما هو فيها مع جواريه ذات ليلة إذ سمع منشداً ينشد :

أتبني بناءَ الخــــــــــــــــــالدينَ وإنَّما          بقاؤكَ فيها لـــــــــو علمتَ قليلُ

لقد كـانَ في ظلِّ الأراكِ كفايةً           لمن كُـــــــــــلَّ يومٍ يقتضيه رحيلُ

فنغَّص عليه حاله ، وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أظن أنَّ الأجل قد قرب ، فلم يلبث بعدها غير شهر وتُوفِّي ، ولم يجلس في تلك القبّة بعدها ، وذلك سنة 467هـ )) ( التلمساني ، 1968 : 1 / 528 – 529 ) .

وفي مواقف أخرى أوردت المصادر التاريخية أخباراً تشير إلى استماع ملوك بني عبَّاد للغناء ، وتفاعلهم مع ما يسمعونه من تنبؤات يذكرها بعض المُغنِّين ، ولا سيما إذ كان الأمر يتعلَّق بزوال ملكهم ، لذلك فإنَّ خوفهم من المستقبل المجهول ، وما يحمله من أخطار قد شكَّل عامل إرباك وقلق لهم ، فما أن يسمعوا أحداً يتنبَّأ بمصيرهم ، أو يشير إلى شيء يذكِّرهم بنهايتهم من باب التطيُّر ، فإنَّهم لا يتأخرون في إظهار الحزن والأسى ، ومن ذلك ما أورده المؤرخون عن المعتضد بن عبَّاد ، فـعندما (( تصرَّمت أيامه ، وتدانى حمامه استحضر مُغنِّياً يغنِّيه ليجعل ما يبدأ به فألاً ، وكان المُغنِّي السوسي ، فأول شعر قاله :

نطوي المنازلَ علماً أن ستطوينا         فشَعْشعِيها بمـــاءِ المُزْنِ واسقينا

فمات بعد خمسة أيام ، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات )) ( التلمساني ، 1968 : 4 / 96 ) .

أمَّا المعتمد بن عباد فقد شهد في أيام حكمه الأخيرة حالة من الاضطراب والتشتُّت والقلق ، إذ عبثت به التنبؤات ، وزادت من تأزُّمه النفسي ، وأصبح لا يطيق سماع ما يشير إلى زوال ملكه . لذلك لم يتردِّد في ممارسة العنف والإيذاء الجسدي بحق من يتنبَّأ بخلاف ما يريده ، وهنا أوردت كتب التراث الأندلسي أنَّ أمير المرابطين (( يوسف بن تاشفين أهدى إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة ، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس ، وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأنَّ سلطان الملثمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم ، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك ، فخرج بها إلى قصر الزاهر على نهر إشبيلية ، وقعد على الراح ، فخطر بفكرها أن غنَّت عندما انتشى هذه الأبيات :

حملوا قلوبَ الأسْدِ بينَ ضلوعِهم         ولَــــــــــــوَوا عمائمَهمْ على الأقمارِ

وتَقلَّدوا يومَ الوغـــــــــــــــــــــــــــــــــى هِنْديَّةً         أمضى إذا انتُضِيَتْ مــــن الأقدارِ

إن خَوَّفُوكَ لقيتَ كــــــــــــــــــــــــلَّ كريهةٍ          أو أمَّنوك حللتَ دارَ قَــــــــــــــــــــــــــرارِ

فوقع في قلبه أنَّها عرَّضت بساداتها ، فلم يملك غضبه ، ورمى بها في النهر ، فهلكت )) ( التلمساني ، 1968 : 4 / 275 – 276 ) . وقد ترك ما قالته المغنية أثراً كبيراً في الواقع السياسي في مدينة إشبيلية آنذاك ، (( فقدَّر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقاً للجارية في قولها :

إن خوَّفُوكَ لقيتَ كلَّ كريهةٍ

وحصره جيوش لمتونة الملثمين حتى أخذوه قهراً ، وسيق إلى أمير المسلمين )) ( التلمساني ، 1968 : 4 / 275 – 276 ) .

وقد تكرَّر هذا المشهد المأساوي مع الرشيد بن المعتمد ، إذ لم يعد قادراً على احتواء الموقف بعد سماع ما قاله أحد المُغنِّين ، فتذكر المصادر التاريخية ما قاله ابن اللبانة : (( كنت بين يدي الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه ، فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة 483هـ ، فتفجَّع وتلهَّف ، واسترجع وتأسَّف ، وذكر قصر غرناطة فدعونا لقصره بالدوام ، ولملكه بتراخي الأيام ، وأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء ، فغنَّى :

يا دارَ مَيَّةِ بالعَلْياءِ فــــــــــــالسَّندِ         أقْوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأمدِ

فاستحالت مسرَّته ، وتجهَّمت أسرَّته ، وأمر بالغناء من ستارته ، فغنَّى :

إن شئت أن لا ترى صبراً لمصطبرٍ      فانظرْ علـــى أيِّ حالٍ أصبحَ الطَّلَلِ

فتأكَّد تطيُّره ، واشتدَّ اربداد وجهه وتغيُّره ، وأمر مُغنِّية أخرى من سراريه بالغناء ، فغنَّت :

يا لهفَ نفسي علــــــــــــــــــــــــــى مالٍ أفرِّقُهُ       على المُقلِّينَ من أهــــــــــــــــــــلِ المروءاتِ

أنَّ اعتذاري إلى مــــــــــــــــن جـاء يسألني       ما لست أملك من إحدى المصيبات

قال : فتلافيت الحال بأن قلت :

محـــــــــــــــــلُّ مكرمـــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ لا هُــدَّ مبناهُ        وشَمْــــــــــــلُ مــــــــــــــــــــــــــأثرةٍ لا شتَّـــتَ اللهُ

البيتُ كالبيتِ لكـــــــــــــــــن زادَ ذا شرفـــــــــــاً        أنَّ الرشيدَ مـــــــــــع المُعتَّـــــدِ ركــــــــــــــــــــناهُ

ثاوٍ على أنجــــــــــــــــــــــــــمِ الجوزاءِ مقـــــــــعدُهُ        وراحـــــــــــــــــــلٌ في سبيلِ السَّعدِ مَسراهُ

حتمٌ على الملكِ أن يقوى وقد وصلَتْ        بالشَّرقِ والغربِ يُمْــــــــــناهُ ويُسْــــــــــــــــراهُ

بأسٌ توقَّــــــــــــــــــــــــــــــدَ فاحمرَّتْ لواحِـــــــــظُهُ         ونائلٌ شــبَّ فـــــــــــــاخضرَّتْ عــــــــــــذاراهُ

فلعمري لقد بسطت من نفسه ، وأعادت عليه بعض أنسه ، على أنِّي وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي “البيت كالبيت” . وأمر إثر ذلك أبا بكر بالغناء ، فغنَّى :

ولمَّا قضينا من منىً كلَّ حاجةٍ            ولــــم يَبْقَ إلا أن تُزَمَّ الرَّكـــــائبُ

فأيقنا أنَّ هذا التطير ، يعقبه التغير )) ( التلمساني ، 1968 : 4 / 94 – 96 ) .

وبذلك عكس الغناء طبيعة الأوضاع السياسية المضطربة في عدد من المدن الأندلسية ، ولا سيما مدينة إشبيلية ، وكشف عن مدى الأثر النفسي المؤلم الذي خيَّم على ملوك بني عبَّاد ، فألقى بظلاله على أدائهم ، إذ لم يتمكَّنوا من إخفاء قلقهم وخوفهم من الأخطار التي كانت محيطة بهم ، الأمر الذي أفقدهم السيطرة على ردود أفعالهم ، فغلب عليها الطابع الانفعالي حينما أثارهم المُغنُّون .

ثالثاً / الفراسة والقراءة الواعية للأحداث :

لقد منح الله جلَّ وعلا عدداً من الأشخاص مواهب وقدرات عقلية معيَّنة تجعلهم أكثر فطنة وذكاء من غيرهم ، الأمر الذي مكَّنهم من قراءة ما يدور حولهم من أحداث ، والبحث عن ارتباطها بالمستقبل ، ومدى تأثيرها في تشكُّل أحداثه ، وخير شاهد على ذلك ما حصل مع الأمير عبد الرحمن الداخل في أحد المواقف ، فقد كان دقيقاً في عرض تصوراته لواقع السلطة والحكم الأموي في بلاد الأندلس في عصره وفي قادم الأيام ، فقد نقل المؤرخون ذلك : (( ولمَّا استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنَّه قال : لولا أنا ما توصَّل لهذا الملك ، ولكان منه أبعد من العيوق ، وأنَّ آخر قال : سعده أعانه لا عقله وتدبيره ، فحرَّكه ذلك إلى أن قال :

لا يُلْــــــــــفُ ممتنٌّ علينا قــــــــــــــــــــــــائلٌ          لولايَ مــــــــــــــــــا ملكَ الأنامَ الداخلُ

سَعْدي وحَزْمــــــــــي والمُهنَّدُ والقَـــــنا          ومَقادرٌ بلغَــــتْ وحـــــــــــــــــــــــالٌ حائلُ

إنَّ الملوكَ مــــــــــــع الزَّمانِ كواكبٌ           نجمٌ يطالعُنا ونجـــــــــــــــــــــــــمٌ آفـــــــــــــلُ

والحزمُ كلُّ الحـــــــــــزمِ أن لا يغفلوا           أيرومُ تدبيرَ البريِّةِ غـــافــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلُ

ويقولُ قـــــــــــــــــــــومٌ سعــــــدَهُ لا عقلَهُ           خيرُ السَّعادةِ مــــــــــــــــا حماها العاقلُ

أبني أميَّة قـــــــــــــــد جبرْنا صدعَكُم            بالغربِ رغــــــــــــــــــــــماً والسُّعودُ قبائلُ

   مــــــا دامَ مــــــــــــــن نسلي إمامٌ قائمٌ           فالملكُ فيكــــــــــــم ثابـــــتٌ متواصـــــــلُ))

( التلمساني ، 1968 : 3 / 42 – 43 ) . فالنص الشعري السابق كشف عن مدى وعي عبد الرحمن الداخل وفطنته في مواجهة الأحداث المحيطة به ، وقدرته على معالجة المواقف التي يمكن أن يكون لها تأثير على زعزعة أركان سلطته ، التي أراد لها أن تدوم طويلاً في بلاد الأندلس ، سواء في عهده أم في عهد من يأتي بعده من أبنائه وأحفاده . لذلك تنبَّأ بتواصل الحكم الأموي واستمراره ، وربط الأمر بمدى الالتزام بنصائحه ونهجه ، واستيحاء تجاربه في التعامل مع الأحداث ، التي من أبرزها إظهار الحزم وعدم الغفلة والتهاون مع العابثين ومثيري الفتن . وقد تحقَّق ما قاله ، واستمرَّ الأمويون في السلطة لعقود كثيرة رغم الصعاب والفتن والتهديدات الخارجية .

أمَّا الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر فقد كانت له رؤية خاصة للمستقبل ، فهو يعتقد أنَّ البناء الشامخ وحده من يخلِّد الإنسان ، لذلك سخَّر جهوده من أجل بناء مدينة الزهراء ، وقد منحها كثيراً من وقته وأمواله ، غير مبالٍ بما يقوله الآخرون ، وهنا تذكر الروايات : (( وكان منذر ابن سعيد قاضي الناصر وخطيبه كثيراً ما يُقرِّعه فيما أسرف فيه من مبانيه ، ويعظه ، ودخل عليه يوماً وهو مكب على البنيان ، فوعظه ، فأنشده الناصر قوله وهو عالي الطبقة :

هممُ الملوكِ إذا أرادوا ذكــــــــــــــرَها      من بعدهــــــــــــــــــمْ فبألسنِ البُنيانِ

أو ما ترى الهرمينِ قــــد بَقِيا وكمْ       مُلْكٍ مَحَاهُ حـــــــــــــــــــــادثُ الأزمانِ

     إنَّ البناءَ إذا تَعاظَــــــــــــــــــــــــــــــمَ شأنُهُ       أضحى يدلُّ علـــــى عظيمِ الشانِ ))

( المغربي ، (د.ت) : 1 ، 179 – 180 ) . فالخليفة الأموي جعل همَّه مُوجَّهاً نحو تشييد بناء يكون شاهداً على عظمته ، من أجل أن يخلد اسمه على مر الأجيال ، فهو يعتقد أنَّ لغة البنيان هي من لها السطوة والهيمنة ، ولا يمكن لأي لغة أخرى أن تدانيها ، فوجهة نظرة كانت تتمحور حول فكرة الخلود ، التي يرى فيها أنَّ الجسد فانٍ والبناء باقٍ ، يخلِّد صاحبه على مر العصور ، مستدلَّاً على ذلك بخلود الهرم وشموخه رغم تعاقب الملوك الذين أفناهم الدهر وبقي البناء شاهداً على إنجازاتهم .

فيما كان للشاعر ( ابن الأبَّار البلنسي ) موقف من أحداث عصره ، إذ كان يشعر بالضيق والحزن في تونس ، نظراً لاضطراب الأوضاع السياسية آنذاك ، وكثرة الحسَّاد والمناوئين الذين أوغروا صدور الحكام الحفصيين حقداً عليه ، فأعلن عن عزمه على الرحيل عن بلاد تونس ، فكتب نصاً شعرياً عبَّر فيه عن استيائه وتبرُّمه من البقاء فيها ، وقد ضمَّنه رؤيته التنبؤية بما سيحدث فيها ، إذ يقول :

وإمَّا رأيــــــــــتَ الرُّسُومَ امَّحَتْ         ولم يُرْعَ حَــــــــقٌّ لذي مَطْلَبِ

فَخُذْ في التَّرحُّلِ عــن تُونُسٍ          وفـــــــــارقْ مَغَانِيها واذْهَــــــــــــــبِ

 فَسَوفَ تَكُــــــــــــــــونُ بِهَا فِتْنَةٌ           تُضِيفُ البَرِيء إلـــى المُذْنِبِ

( البلنسي ، 1999 : 453 ) . وهنا يكشف النص عن حالة من عدم الاستقرار قد وصل إليها الشاعر ، وشعوره بالتشظي الذاتي في ظل غياب العدالة ، وعدم الاهتمام بالحقوق وضياعها ، وهو بذلك يوجه نقداً للسلطة الحاكمة ؛ بسبب الإهمال وعدم الاستماع من أصحاب المطالب ، الأمر الذي ألقى بظلاله السلبية على الشاعر ، الذي لم يحتمل الواقع المعيش ، فأعلن عن موقفه الرافض ، وأظهر نقمته على المكان / تونس ، عبر تتابع أفعال الأمر ( خذ ، وفارق ، واذهب ) ، التي مثَّلت علامات دالة على مدى ضجر الشاعر ، وتأزمه النفسي ، وشعوره بعدم الرضا ، بعد أن تبدَّدت آماله ، وتمزَّقت وشائج الوئام والانسجام مع المكان ، على الرغم من جماله ، لكن ضيق الحالة النفسية ، وتداعياتها المؤلمة أجبره على التفكير بمغادرة تونس ؛ لأنَّه كان يشعر بأنَّ إهمال السلطة لأبناء المجتمع ، وظلمها لهم ، سيؤدي إلى حدوث فتن مدمِّرة تأتي على المذنب والبريء على حد سواء .

رابعاً / الأشياء اللاشعورية :

     لا يمكن لنا أن نتجاهل الأشياء اللاشعورية بأي حال من الأحوال ، فارتباطها كبير بما نقوم به من أفعال وممارسات ، فتظهر آثارها جلية في بعض التصرُّفات ، فهي (( مستودع الآمال والآلام والرغبات المكبوتة )) ( العيسوي ، (د.ت) : 43 ) ، الأمر الذي يجعلها تتجلَّى في بعض الحالات على شكل تنبُّؤات بما سيحصل لنا في المستقبل ، ومن ذلك ما نسمعه بين اليقظة والمنام من أصوات قد تكون ذات دلالة معينة ، أو ما نراه في المنام ، ومثال هذا الأمر ما حدث مع الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر ، إذ (( حُكِيَ عن بعض الأمويين أنَّه قال لمَّا كمُل بنيان الزهراء وسكنها عبد الرحمن الناصر أخذه في بعض لياليه أرَقٌ وغلب عليه قلق ، فجعل يطوف على مبانيها ويصعد على علاليَّها ولا يستقر به مكان إلى أن صار في أعلى علية مشرفة على الجبل والبطحاء والليل ، فاستلقى على ظهره في فرشها ، فإذا بهاتف يقول :

يا صاحبَ القصرِ العظيمِ الذُّرى          اسمَعْ إلــــــــــــــــــــــــى وعظي بحرفَيْنِ

يوشِكُ أن تُنقَلُ منهُ إلــــــــــــــــــــــــــــــــــــى         أهــــــــــــــــــويَّةٍ فــــــــــــــــــي ضيقِ شِبْرَينِ

فاستوى جالساً وقال مجيباً له :

لــو دامتِ الدُّنيا لمن قبلنا          لدامـــــــــــــــــتِ الدُّنيا لاثنينِ

   أعني سليمــــانَ وذاكَ الذي          سدَّ علــــــــــى يأجوجَ بابينِ ))

( عبد البديع ، 1955 : 301 – 302 ) . ويبدو هنا أنَّ ما جاء في الخبر السابق يؤكد قوة الأشياء اللاشعورية في تنبيهنا على بعض الأمور التي قد نغفل عنها ، بفعل زحمة الحياة ، والانشغال بها ، وقد كان للهاتف الذي سمعه الخليفة الناصر تأثير كبير في إيقاظه من غفلته بعد أن اتَّبع أهواءه ، وأذعن لرغباته في بناء مدينة الزهراء ، فكان لابد من وخزة تعيد له صوابه ، وتذكره بمصيره ، ورحيله عن الدنيا ، وقد تجلَّى أثر ذلك في خطابه الشعري ، الذي جاء مليئاً بدلالات الحكمة والموعظة ، تجلَّت في تأكيد الرؤية الرامية إلى عدم الركون إلى الدنيا ، فكل شيء فيها زائل ، ولا يمكن لها أن تدوم على حال . والاتعاظ من العظماء الذين كان لهم ملك كبير ، ولا سيما النبي سليمان ( عليه السلام ) ، وذو القرنين .

وممَّا لا شك فيه أنَّ ما يراه الإنسان في المنام في كثير من الحالات له ارتباط وثيق بما سيحدث له في اليقظة ، فقد يكون نذيراً بأحداث المستقبل ، وهذا الأمر قد يكون سارَّاً في بعض الحالات ، وحزيناً في حالات أخرى ، لذلك يلجأ عدد من الناس إلى تأويل رؤياهم لعلَّها تحمل الخير لهم ، الأمر الذي شجَّع بعض العلماء إلى تعلُّم القضايا المرتبطة بتفسير المنامات . ومن تمظهرات التنبؤ عبر المنام ما ذكره ابن بشكوال في كتاب ( الصلة ) ، إذ أورد مناماً تضمَّن تنبؤاً بنهاية حياة أبي عمر الطلمنكي ، فيذكر قائلاً : (( أخبرني أبو القاسم إسماعيل بن عيسى بن محمد الحجاري عن أبيه قال : خرج علينا أبو عمر الطلمنكي يوماً ونحن نقرأ عليه فقال : اقرؤوا وأكثروا فإنِّي لا أتجاوز هذا العام . فقلنا له : ولِمَ ؟ يرحمك الله ! فقال : رأيت البارحة في منامي منشداً ينشدني :

اغتنمـــــوا البرَّ بشيخٍ ثوى       ترحمُــــــــهُ السُّوقةُ والصِّيدُ

قد ختمَ العمرَ بعيدٍ مضى        ليسَ لهُ من بَعـْـــــــدِهِ عيدُ

قال : فتوفي في ذلك العام )) ( ابن بشكوال ، 1989 : 1 / 84 – 85 ) .

لقد حمل المنام أبعاداً تنبؤية ارتبطت بمصير أبي عمر الطلمنكي ، إذ أشارت أحداثه إلى قرب رحيله عن الدنيا ، فأذعن لما رآه في منامه ؛ لأنَّه وجد فيه ما يسرُّه بعظم الشأن وسمو المنزلة ، وقد تجلَّى أثر ذلك في النص الشعري الذي ورد في المنام ، إذ جسَّد حالة من الاطمئنان النفسي التي تشكَّلت بعد التبشير بدلالات الفيض الإلهي المُتمثِّلة بالرحمة والثواب والجزاء الحسن .    

الخاتمة :

    وممَّا سبق ذكره يتَّضح أنَّ الأعمال والممارسات المتعلقة بالتنبؤ بالغيب كان لها صدى واسع في أروقة السلطات الحاكمة في بلاد الأندلس آنذاك ، حتى أصبحت ظاهرة تثير الانتباه ، وتستدعي التوقف عندها ، ودراسة بواعثها ، ومعرفة أشكالها ، وبيان مدى تأثيرها اجتماعياً وسياسياً . فتعلُّم التنبؤ بالغيب وممارسته كان شائعاً في عدد من عصور الأندلس ، ولا سيما في عصور الحكم الأموي ، إذ شهد التنجيم رواجاً كبيراً ، وقد تجلَّى ذلك عبر قيام أغلب أمراء بني أمية وخلفائهم بتقريب المُنجِّمين ، ومنحهم قدراً واسعاً من العناية والاهتمام ، الأمر الذي حفَّز كثيراً من النابهين إلى اقتحام ميدان التنجيم ، بحثاً عن الشهرة والأموال . إلا أنَّ هذا الأمر شهد تراجعاً في بعض الأوقات ، إذ تم محاربة ظاهرة التنجيم ، وكان ذلك في عهد المنصور بن أبي عامر ، لكن هنالك عوامل مختلفة قادت إلى عودة التنجيم في بعض المدن الأندلسية ، منها تنامي ظاهرة التنافس والصراع الداخلي ، والشعور بالأخطار الخارجية ، ففي مدينة إشبيلية أولى ملوك بني عبَّاد اهتماماً بالمُنجِّمين ، وتم الاعتماد على ما يطلقونه من تنبؤات . ولم يقف الأمر عند عصور الحكم الأموي والطوائف ، بل امتدَّ لعصور الأندلس الأخرى .

وقد عثرنا على أخبار كثيرة تضمَّنت رؤى تنبؤيَّة قيلت في مواقف مختلفة ، غلب على أكثرها البعد السياسي ، إذ كان يجري بعضها بمباركة السلطة الحاكمة وفي عصور مختلفة . وبعضها الآخر كان مُوجَّهاً ضدَّها ، الأمر الذي جعل من تعامل القائمين على السلطة مع ما يصدر من المُنجمِّين محكوماً بطبيعة تنبؤاتهم ، ومدى انسجامها أو مخالفتها لتوجُّهاتهم السياسية ، فحينما تكون الأمور متوافقة مع مصالحهم وأهدافهم السياسية فإنَّهم يظهرون الفرح والرضا ، ويسارعون إلى إغداق الأموال على المُنجِّمين ، أمَّا إذا عارضت التنبؤات ما يصبون إلى تحقيقه ، وعكَّرت صفو بالهم فإنَّهم لا يتردَّدون في إظهار غضبهم وحزنهم ، فيعمدون إلى توبيخ المُنجِّمين ومعاقبتهم جسدياً ، وقد يصل الأمر إلى قتلهم .

وكشفت لنا الدراسة دور الشعراء في قضايا التنبؤ بالغيب ، فقد كانت لهم مواقف مختلفة في هذا المجال وردت بعضها في أشعارهم ، منها ما كان رافضاً لهذه الظاهرة ، ومنها ما حمل أبعاداً تنبؤية ، فهناك عدد من الشعراء الأندلسيين أعلنوا عن رفضهم التام للأعمال المرتبطة بالغيب ولا سيما موقفهم الناقم على التنجيم ، ومنهم ( ابن عبد ربَّه ، وعيسى بن قزمان ، وسعيد بن العاص المرواني ، وابن ليون التجيبي ) ، فيما مارس شعراء آخرون التنجيم واشتهروا به ، ومن أبرزهم ( عباس بن فرناس ، ويحيى بن حكم الغزال ، وعبد الله بن الشمر ) وغيرهم ، وقد وثَّق بعضهم في أشعاره جوانب من رؤاه التنبؤية .

فضلاً عن ذلك فقد كان الشعر المُغنَّى وسيلة تعبيرية عملت على بث رسائل خاصة تضمَّنت شيئاً من التنبؤ بمصير عدد من القائمين على الشأن السياسي ، بهدف إيصالها إلى الآخر المقصود بالخطاب ، وقد تجلَّى ذلك في عصر الطوائف ، ولا سيما ما حدث مع ( المعتضد بن عبَّاد ، وابن ذي النون ، والمعتمد بن عبَّاد ، والرشيد بن المعتمد ) .

وقد اعتمد شعراء آخرون على الفراسة والقراءة الدقيقة للأحداث ، منهم من كان في دائرة السلطة ومن أبرزهم ( عبد الرحمن الداخل ، وعبد الرحمن الناصر ) ، ومنهم من عمل مع السلطة واكتوى بنارها وهو ( ابن الأبَّار البلنسي ) .

فيما كانت القضايا اللاشعورية حاضرة في فضاء للتنبؤ ، ولا سيما ما يسمعه المرء سواء في اللحظات التي تكون بين اليقظة والمنام أم ما يراه في منامه بوصفه واحة تعبيرية تعكس مدى الارتباط بين عالمي اليقظة والمنام ، فما يراه الرائي في منامه يتكئ في كثير من جوانبه على ما يتردَّد في عالم اليقظة من أحداث .

المصادر والمراجع :

  • القرآن الكريم
  • إبراهيم ، عبد الله ، 2003 ، النثر الجاهلي حضور النبوءة وهيمنة المحمول الديني ، بحث منشور ، المجلة الجامعة ، ع5 .
  • ابن الأبَّار ، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي ( ت 658 هـ ) ، 1985 ، الحلة السيراء ، تحقيق : حسين مؤنس ، دار المعارف ، ط2 .
  • ابن بشكوال ، 1989 ، الصلة ، تحقيق : إبراهيم الإبياري ، دار الكتاب المصري – القاهرة ، دار الكتاب اللبناني – بيروت ، ط1 .
  • ابن حنبل ، أحمد ، 1999 ، مسند الإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخرون ، مؤسسة الرسالة ، ط2 .
  • ابن عبد ربه ، 1979 ، ديوانه ، تحقيق : د. محمد رضوان الداية ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط1 .
  • البلنسي ، أبو عبد الله محمد بن الأبَّار القضاعي ، 1999 ، ديوان ابن الأبَّار ، تحقيق : عبد السلام الهرَّاس ، مطبعة فضالة – المغرب ، (د.ط) .
  • بهنام ، أ.د. هدى شوكت ، 2013 ، دواوين شعرية لشعراء أندلسيين ( أبي جعفر بن الأبَّار – أبي عامر مسلمة – أبي بكر بن القوطية – ابن ليون التجيبي ) ، دار غيداء للنشر والتوزيع ، ط1 .
  • التلمساني ، أحمد بن محمد المقري ، 1968 ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، تحقيق : د. إحسان عباس ، دار صادر – بيروت ، (د.ط) .
  • شيشرون ، فيلسوف الرومان وخطيبهم ، (د.ت) ، علم الغيب في العالم القديم ، ترجمة : د. توفيق الطويل ، مكتبة الآداب بالجماميز ، مطبعة الاعتماد بمصر ، (د.ط) .
  • الطويل ، د. توفيق ، 1945 ، التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام ، دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي وشركاه ، (د.ط) .
  • عباس ، إحسان ، 1960 ، تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة ، دار الثقافة ، بيروت ، ط1 .
  • عبد البديع ، د. لطفي ، 1955 ، قطعة من كتاب فرحة الأنفس لابن غالب عن كُور الأندلس ومدنها بعد الأربعمائة ، مجلة معهد المخطوطات العربية ، المجلد الأول ، الجزء الأول ، مايو .
  • العيسوي ، د. عبد الرحمن ، أصول البحث السيكولوجي علمياً ومهنياً ، (د.ت) ، دار الراتب الجامعية ، بيروت – لبنان ، (د.ط) .
  • الغزال ، يحيى بن حكم ، 1993 ، ديوانه ، تحقيق : د. محمد رضوان الداية ، دار الفكر المعاصر – بيروت ، دار الفكر – دمشق ، ط1 .
  • القرطبي ، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري ( ت 463 هـ ) ، (د.ت) ، بهجة المجالس وأنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس ، تحقيق : محمد مرسي الخولي ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، (د.ط) .
  • المراكشي ، ابن عذاري ، 1980 ، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ، تحقيق : ج.س. كولان – إ. ليفي بروفنساني ، دار الثقافة ، بيروت – لبنان ، ط2 .
  • المراكشي ، أبو محمد عبد الواحد بن علي ، 2006 ، المعجب في تلخيص أخبار المغرب ، تحقيق : د. صلاح الدين الهوَّاري ، المكتبة العصرية ، صيدا – بيروت ، ط1 .
  • المغربي ، ابن سعيد، (د.ت)، المغرب في حلى المغرب ، تحقيق : د. شوقي ضيف ، دار المعارف ، ط4 .
  • ملك إشبيلية ، المعتمد بن عبَّاد ، 2000م ، ديوانه ، جمعه وحقَّقه: د. حامد عبد المجيد ، د. أحمد أحمد بدوي ، راجعه : طه حسين ، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة ، ط3 .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *