د.نادية شارف

قسم اللغة والأدب العربي – كلية الآداب واللغات– جامعة أبي بكر بلقايد تلمسان  – الجزائر

sabrineleterature@gmail.com

00213774893289

الملخص :

جدليةُ الصّوت والمعنى قائمة على وجود أصوات مكوِّنة للكلمة وبالتّالي لها دور في إبراز المعنى، وذلك في إطار تأليف مجموع أصوات الكلمة المفردة، كما تتحقق الدّلالة الصوتية كذلك من مجموع تأليف كلمات الجملة وطريقة أدائها الصّوتي.

وعلى الرّغم من الاختلاف والتباين الذي ظهر بين العديد من الباحثين والمختصين حول نظرية الصّوت والمعنى، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى أهَلّ الإنسان وأعطاه القدرات الخاصّة، فألهَمَهُ لكي ينطِقَ، ويُنْشِئَ لغة، وبهذه القدرة استطاع الإنسان الأوّل أن يضع كلماته وجمله الأولى، بالإصغاء والملاحظة والتقليد لما يوجد حوله في الكون، فتقدّم الإنسانُ وارتقى في التفكير واتّسع نطاق الحياة الاجتماعية، وتعدّدت حاجاته، إذ بدأها بمحاكاة الأصوات للتعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكي، أو عمّا يلازمه ويصاحبُه من حالات وشؤون، إلى وضع كلمات جديدة بالتواطؤ والاصطلاح.

وعليه فإنّ مسألة الصّوت والدلالة أرّقت العديد من علماء اللغة العربية، وفلاسفتها، والفلاسفة اليونان، وعلماء اللغة الغربيين والباحثين في هذه المسألة، وإذا تمعنّا في الفكر اللغوي الغربي نجد فكرة العلاقة بين الصوت والمعنى موجودة لدى اللّغويين فمنهم من ينتصرون لها معتمدين على العقل والمنطق ومنهم من يُنكِرونها.

الكلمات المفتاحية: اللغة العربية، الصوت اللغوي، المعنى، علماء الغرب، العقل والمنطق.

Western scholar’s dialectic of sound and meaning

Nadia Charef

Arabic Language and Literature Departement –Faculty of Literature and Languages – Abi Bakr Belkaid University  –  Algeria 

Abstract

The dialectic of sound and meaning is based on the presence of sounds from the word and thus plays a role in highlighting the meaning as part of the composition of the sum of the sounds of the single word, The vocal connotation is also verified by the sum of the sentence words and how they are performed. and despite the difference that has been shown between many researchers and specialists about sound theory and meaning, God was sworn by human beings and gave him special abilities, inspiring him to pronounce, and create language, with this ability, the first man was able to set his words and sentences by listening, observing and imitating what’s around him in the universe, the progress of man, the rise in thinking, the expansion of social life and the multiple needs of man began to emulate the voices to express the thing that comes from him, or the associated situation and matters to create new words of complicity.

The question of voice and connotation has therefore eluded many Arabic scholars, philosophers, Greek philosophers, linguists and researchers in this matter. And if we look at Western linguistic thought, the idea of the relationship between voice and meaning exists in linguists, who are winning it, dependent on reason and logic and those who deny it ;  

Keywords: Arabic language, The second linguistic, The meaning, western scholars, reason and logic.

مقدمة :

للصّوت دور بارز مهما كانت صفته في التّمييز بين دلالة الأبنية، حيث شغلت مسألة الرّبط بين الصّوت ومدلوله حيّزا كبيرا في كتابات العلماء والمفكرين والفلاسفة القدامى، ولم يستطيعوا حسمها، بل وصلت ثناياها إلى كتب المحدثين.

وقد حظيت الدّلالة الصّوتية بالدّراسة من قبل العلماء، تلخّصت آراؤهم بين مؤيّد لوجود علاقة طبيعيّة بين الصّوت ومدلوله، وبين رافض لوجود مثل تلك العلاقة، فهذه الأخيرة بين الصّوت والدّلالة هي من أشدّ مباحث الّلغة تعقيدا، وهي مرتبطة بمسألة أخرى أكثر تعقيدا، ألا وهي مسألة نشأة الّلغة؛ حيث إنّ علماء الفلسفة والّلغة ذهبوا إلى أنّ اللّغة هي محاكاة للطّبيعة، ووضعوا أسسا لنظرية العلاقة بين الدّال والمدلول، وقد ذهب في هذا الرّأي اللغوي”ابن جنّي” وتوصّل إلى أنّ الأصوات مجتمعة تحاكي أصوات الطّبيعة وأحداثها، وهذا المذهب جعل الباب مفتوحا على مصراعيه للبحث والتّدقيق،  فقد انتقلت الدّراسة إلى أنّ المعنى يتّفق مع جرس الحرف المختار، وكأنّ هناك اختيارا مقصودا للصّوت ليؤدّيَ المعنى المغاير لما يؤدّيه الصّوت الآخر، وذلك اعتمادا على مخرج الصّوت وصفته.

شُغِل الفكر الإنساني –  منذ بواكيره –  بالبحث في مسألة نشأة الّلغة، وقام على افتراضات نظريّة عجزت عن كشف النّقاب عن أوليّة الّلغة، فنشب خلاف قديم حول هذا الموضوع، ولم يُحسم أمره إلى يومنا هذا، وترتّب عليه خلاف آخر حول موضوع نال قسطا وافرا من عناية العلماء والمفكّرين من ميادين مختلفة في القديم والحديث –  وهو كما ذكرنا –  موضوع العلاقة بين الدّال ومدلوله.

ولا شكّ أنّ مسألة هذه العلاقة دقيقة، وذات اتجاهات متشعّبة، وبالمقابل نجد النّظرية الاعتباطية، والّتي تنفي العلاقة بين ماهية الصّوت وبين دلالته، وهي تقف على طرفي نقيض مع نظرية المحاكاة، الّتي ترى أنّ الصّوت يحاكي الطّبيعة، أو بعبارة أخرى أنّ أصوات الكلمة تكون نتيجة تقليد مباشر لأصوات طبيعيّة صادرة عن الإنسان أو الحيوان، أو الأشياء.

مشكلة البحث:

تعدّ هذه الدراسة الصوتية من الدراسات التي حظيت أهمية بالغة في مؤلفات علماء اللغة سواء العرب منهم أم الغرب، وذلك لما يترتّب من أمور لها علاقة بالأصوات اللغوية كالصرف والنحو الدلالة وغيرها.. وعليه كانت الإشكالية المطروحة تحدد نمط البحث والدراسة ونصل بها إلى نتائج في غاية الأهمية والإفادة.

  • هل هناك حقا وجود علاقة بين الصوت اللغوي بوصفه منطوق والمعنى الذي يصل إلى الأذهان ويُفهم؟
  • ما المعايير التي اعتمدها علماء اللغة في إثبات هذه العلاقة؟
  • هل هذه العلاقة اعتباطية أم اصطلاحية؟
  • هل كل الأمثلة اللغوية التي ساقها العلماء تنطبق عليها هذه النظرية؟

في ظل هذه التساؤلات المطروحة سنحاول الإجابة عنها في متن البحث انطلاقا من أهداف البحث.

أهداف البحث:

إنّ البحث يهدف إلى إبراز العلاقة القائمة بين الصوت اللغوي المنطوق والمعنى الذي يصل إلى فهم الإنسان، وتثمين دراسات علماء اللغة القدامى والمحدثين اعتمادا على معطيات قدموها والتي اعتمدوا فيها على العقل والمنطق.

فرضيات البحث:

انطلاقا من التساؤلات المطروحة يمكن أن نبنيَ فرضيات قد نتوصل إليها في متن البحث.

  • توجد علاقة قائمة بين الصوت اللغوي ومعناه الذي يصل إلى فهم المتلقي.
  • وضع علماء اللغة مجموعات من المصطلحات والمفردات تشترك في بعض الأصوات لها نفس المفهوم مثلا الحب، الحزن، الصلابة والشدة، ..
  • رأى علماء اللغة أن العلاقة الموجودة بين الصوت اللغوي ومعناه اصطلاحية بتواطؤ البشر.
  • لا يمكن أن تكون كلّ المفردات تنطبق عليها هذه النظرية ولا توجد في كل اللغات .

منهج البحث:

ونظرا لطبيعة الموضوع، فإنّه يقتضي المنهج الوصفي التحليلي بغية تحقيق الأهداف السّالفة الذّكر.

  1. المعنى أو الدلالة في الدراسات العربية القديمة:

كان للّغويين العرب القدامى الأثر البيّن في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدّلالة بالمفهوم الاصطلاحي الحديث، وذلك من خلال مختلف الآراء الّتي جاؤوا بها، والمؤلّفات الّتي تركوا آثارهم فيها لمن خَلَفَهُم من بعدهم من النّحاة والدّارسين لهذا العلم والّذين استفادوا منها، وتأثروا بما جاء فيها.

ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ منهج بحث الدّلالة عند علماء العربيّة قديما انحصر في دراسة القرآن الكريم والّلغة العربية، وقد أسهم فيه كلّ من المفسّرين، والبلاغيين، والأصوليين، إضافة إلى الّلغويين، حيث نتج عن تلاقح هذه العلوم وعيٌ دلاليٌّ لدى علماء الّلغة القدامى، وهو ما أدّى إلى إثراء مجالات البحث الدّلاليّ.

وتعدّ الأعمال الّلغوية المبكّرة عند العرب من مباحث الدّلالة مثل: «تسجيل معاني الغريب في القرآن الكريم، ومثل الحديث عن مجاز القرآن، ومثل التّأليف في الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، وإنتاج المعاجم الموضوعية ومعاجم الألفاظ، وحتى ضبط المصحف بالشّكل يعدّ في حقيقته عملا دلاليّا؛ لأنّ تغيير الضّبط يؤدّي إلى تغيير وظيفة الكلمة، وبالتّالي إلى تغيير المعنى.» (عمر، 1998م، صفحة 20)، ثم لحقتها مرحلة تأليف الرّسائل الّلغوية في العربيّة، ومع تقدّم البحث الّلغوي عند العرب تطوّر البحث الدّلالي واتّخذ اتّجاهات عديدة ومتنوّعة. وهكذا نجد حدود هذا العلم قد رسمت وظهرت في الموروث الّلغوي العربّي بشكل يتّفق مع الدّرس الّلغوي الحديث منذ زمن بعيد، ويشهد على ذلك التّراث العربيّ الّذي يزخر بذخيرة كبيرة في هذا المجال من الدّراسات الّلغوية، والمتأمّل للمكتبة العربيّة يُدرك غناها بكتب الّلغة.إلّا أنّ اللسانيين المحدثين رأوا أنّ علم الدلالة هو علم المعنى (عزوز، 2001م، صفحة 183) ،أمّا مفهوم المعنى ذاته فهو ممّا تشعّبت فيه آراء العلماء على مختلف انتماءاتهم العلميّة، وميدان هذا العلم الكلمة المفردة، والعبارة، والجملة (التركيب) (عمر، علم الدلالة، 1998م، صفحة 11).

نذكر من العلماء الذين اهتموا بهذا العلم الإنجليزييْن “أوجدن (C.K.Orgdan) وريتشاردز (L. A. Richards)  الّلذان أصدرا كتابهما “معنى المعنى” عام 1923 – طوّروا نظرياته ووضعوا أصوله، ووضّحوا معالمه وتبيّنوا صلته بالعلوم الأخرى، فغدا علما قائما بذاته له مناهجه ونظرياته بعد أن كان ضمن العلوم الأخرى (معاتقي، 2015م، صفحة 10). فإذا أراد الدّارسون المحدثون البحث عن نظرية دلاليّة في مجال البحث الّلغوي في الفكر العربيّ، فإنّهم ملزمون باستقراء الفكر الّلغوي لتراثنا العربيّ، وتمحيصه، وغربلته على مستوى الأسس المعرفيّة الّتي انبَنى عليها، وليتمكّنوا من ربط الفكر الّلغوي العربيّ القديم بمختلف النّظريات الّلغوية الحديثة وتكييف هذه الأخيرة مع خصائص الّلغة، في إطارها العلميّ المنهجي ستؤدّي حتما إلى ميلاد نظرية لغوية عربية قادرة على  تقديم التّفسير الكافي لمستويات الدّراسة اللّغوية الصّوتية والتّركيبية والدّلالية (معاتقي، 2015م، صفحة 12).

كي نصل إلى حقيقة وجود علاقة قائمة بين الصوت والمعنى لابدّ أن نُعرِّج على نظرية نشأة اللغة والتي أخذت حيزا كبيرا من فكر اللغويين سواء العرب أم الغرب.

  • نشأة اللغة:

اللّغة هي الوسيلة الوحيدة لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها، وتطوّرها، والّتي ينقل المرء خلالها إلى الآخرين المعاني والأفكار الّتي تدور في رأسه وهي عبارة عن أصوات ملفوظة مرتّبة يفهم السّامع المراد منها ويختل الفهم إذا تغيّر ذلك التّرتيب، حيث ذكر بعضهم إنّها “ظاهرة فكريّة عضويّة خاصّة بالإنسان دون غيره من الكائنات الحيّة، فهي إذن صفة مميزة للجنس البشري.” (جعفر، 1971م، صفحة 57) ، في حين يذهب محمّد عبد العزيز إلى أنّ الّلغة: «هي نظام الأصوات المنطوقة، له قواعد تحكم مستوياته المختلفة، الصّوتية والصّرفية والنّحوية، وتعمل هذه الأنظمة في انسجام ظاهر مترابط وثيق، ولهذا فهي نظام الأنظمة.» (العزيز، 1983م، صفحة 98)، أو كما قال أحمد مختار عمر:«هي نظام من الرّموز الصّوتية.» (عمر، علم الدلالة، 1998م، صفحة 6).

نشير هنا إلى أنّ اللّغة مجموعة من الألفاظ والكلمات والرّموز والتّجريدات والتّعبيرات الّتي تسمّى الأشياء والأفكار والقيم الّتي تتّصل بالثّقافة كونها نتاج ثقافة معيّنة، وهي الّتي تقرّر إلى حدّ كبير محتوى الفكر الإنسانيّ، إذ تتحدّد مشاركة الفرد في ثقافة مجتمعه، بالقياس إلى مجموعة الكلمات الّتي يستخدمها، فهو يتحدّث بلغة ثقافة جماعية، ويفكّر مثلما تفكر جماعته ويتّبع ذلك أنّ سبل السّلوك السّياسي والإطار الثّقافي والعمليات الاجتماعية التي تمارسها الجماعة تنعكس على لغتها المستخدمة فيمكن تسميتها باجتماعية اللّغة بمعنى أنّ اللّغة هي نتيجة ممارسة أفراد المجتمع لها من خلال التعبير عن الحالات الشعورية والظروف والاحتياجات.. .

إلاّ أنّ العلماء قد اختلفوا في نظرتهم لنشأة اللّغة، وانقسموا إلى عدد من الفرق والاتّجاهات، كلّ يؤيّد ما ذهبوا إليه من حجج وبراهين، فبرزت عدّة نظريات تبحث في نشأة الّلغة  وكتبوا في هذا الموضوع، وذكروا نظرية الإلهام، حيث أوحى الله إلى الإنسان الأوّل وأوقفه على أسماء الأشياء بعد أن علّمه النّطق،  ونظرية التواضع والاصطلاح،وليس لهذه النّظرية أيّ سند عقلي أو نقلي أو تاريخي بل إنّ ما تقرّره يتعارض مع النّواميس العامّة الّتي تسير عليها النّظم الاجتماعية، وعهدنا بهذه النّظم أنّها لا تُخْلَقُ خَلْقًا بل تتكوّن بالتّدريج من تلقاء نفسها، إضافة إلى ذلك فالتّواضع على التّسمية يتوقّف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون ، فإمّا أن تكون اللّغة إلهاما من الله سبحانه وتعالى، وإمّا أن تكون من الإنسان على أساس أنّ أصل اللّغة هو تواضع واصطلاح، أو أن تكون محاكاة لأصوات الطّبيعة، وتذهب إلى أنّ أصل اللّغة محاكاة أصوات الطّبيعة كأصوات الحيوانات، وأصوات مظاهر الطّبيعة والّتي تُحدِثُها الأفعال عند وقوعها، ثمّ تطوّرت الألفاظ الدّالة على المحاكاة، وارتقت بفعل ارتقاء العقلية الإنسانية وتقدّم الحضارات.

تُبنى هذه النّظرية على مدى تأثّر الإنسان في النّطق بألفاظ البيئة الّتي تحيط به، فازدادت أهمّيته في الحديث، وسَدَّ فراغا كبيرا في اللّغة الصّوتية. (أولمان و ترجمة بشر، 1973م، صفحة 88)

وعلى الرّغم من حالات التّباين الّتي ظهرت في النّظريات آنفة الذّكر إلّا أنّ هناك فريقا من دارسي اللّغة في الغرب قد اتّجهوا إلى أنّ التّفكير الصّوتي المحض له الدّور الفعّال والأساس في نشأة اللّغة وكانت لهم في هذا الاتّجاه أربعة آراء:

الرّأي الأوّل: وهو الّذي يذهب إلى أنّ كلمات اللّغات الإنسانيّة قد جاء من الأصوات الطّبيعية.

الرأي الثــّاني: يذهب القائلون فيه إلى أنّ بداية استخدام الإنسان لجهازه الصّوتي بصورة أوّلية عن طريق التأوّهات والشّهقات التلقائية الانبعاثيّة الّتي صدرت من الإنسان بصورة غريزيّة وهو يعبّر عن فرح أو ألم أو عن أحاسيسه  المختلفة. (الطائي و ماريو، صفحة 208. 38)، إنّ هذا الرّأي يُرجع نشأة اللّغة الإنسانيّة إلى أمر ذاتيّ، أي إنّه يعتدّ بالشّعور الإنسانيّ، نابع من الوجدان، والحاجة إلى التّعبير عمّا يَخْتَلِجُ بصدر الإنسان من أحاسيس وانفعالات شعورية.

الرأي الثالث: وهو الّذي يرى أنّ هناك صلة حتمية بين المؤثّرات الخارجية الّتي يدركها الإنسان من خلال الأحداث والحوادث والأشياء الّتي يتأثّر بها وإصدارها للأصوات الّتي تعبّر عن تلك المؤثّرات، إذ إنّ الأصوات الصّادرة من الإنسان ما هي إلا صدى تلك المؤثّرات وبينهما صلة وثيقة.

إلاّ أنّ هذا الرّأي قد وُجِّه إليه النّقد، كونه مبنيا على أسرار غامضة وأسس غير مدركة، ولهذا فهي نظرية ناقصة وغامضة، لا يتبين منشأ الكلمات الكثيرة الّتي لا يمكن ردّها إلى أصوات انفعالية، وأمّا عن غموضها كونها لا تشرح لنا السّر في أنّ تلك الأصوات الساذجة الانفعالية تحوّلت إلى ألفاظ وأصوات مقطعية. (خرما و عجاج، 1988م، صفحة 19).

الرّأي الرابع: وهو الرأي  الّذي يمثل القائلين أنّ الأصوات لم تصدر من الإنسان وهو منفرد، فإنّما تصدر الأصوات من خلال تواجده وتفاعله مع عدد من أفراد مجتمعه؛ لأنّ الأصوات الّتي يطلقها الإنسان بتفاعلها، وإدراكها من الآخرين تتولّد مفردات يمكن التّفاهم بها بين الأفراد وبهذا يكتسب الإنسان لغته من المجتمع الّذي يعيش فيه. (يوسف، 1988م، صفحة 276). فالإنسان المنفرد إذا أراد أن يقوم وحده بعمل ما دون وجود من يتواجد معه فإنّ الأصوات الّتي تصدر عنه لا يكون لها معنى سوى التّعبير عن الجهد المبذول منه مثلا.

ومن هذه الرّؤية تعدّ اللّغة أساس الحضارة البشرية، وتمثل الوسيلة الرّئيسة الّتي تتواصل بها الأجيال، وعن طريقها تنتقل الخبرات والمعارف والمنجزات الحضارية بصورها المختلفة، وهذا ما ذهب إليه الباحثون والمختصّون في البحث عن نشأة الّلغة منذ ظهورها إلى العصر الحديث، ودراسة اللّغة والتّطوّر اللّغويّ أمر مستمرّ كونه يمثّل موضوعا حيويا من موضوعات البحث والدراسة في اهتمامات  اللّغة، والنّظريات القائمة على هذه الدّراسات تخضع لقواعد علمية واضحة المعالم.

  • الصوت والمعنى عند الغرب:

تشير الدّراسات الحديثة إلى أنّ جماعة من الفلاسفة والمناطقة واللّغويين في مختلف اللّغات عالجت فكرة العلاقة بين الصّوت والدّلالة. فقد درسها فلاسفة اليونان، وساءلوا أنفسهم عن طبيعة العلاقة بين أصوات الكلمة ومدلولها، وعمّا إذا كانت هذه العلاقة تتضمن شيئا بين تلك الأصوات، وما تدلّ عليه الكلمات من أمور ندركها بالحواس والعقول أو أنّ الأمر لا يعدو مجرّد المصادفة (أنيس، 1978م، صفحة 125)، فمن ناحية ذهب كثير من فلاسفة اليونان إلى أنّ الّلفظ يكتسب دلالته بطريقة طبيعية، وذهبوا إلى أنّ المناسبة بين اللّفظ ومدلوله ضرورية، وأنّ الأسماء بأصواتها تستطيع أن ترسم جواهر الأشياء، وأن تنطق بماهيّاتها وأعيانها. ويرى (أفلاطون)  “Plato  (347 ق.م)، وجود علاقة وثيقة بين الكلمات ومدلولاتها تدركها العقول (جطل، 1995م، صفحة 11)، ومن ناحية ثانية، رفض أرسطو  Aristotle  (322 ق.م)  فكرة أستاذه أفلاطون، ورأى أنّ الصّلة بين الّلفظ ومدلوله لا تعدو أن تكون اصطلاحية عرفية تواضع عليها النّاس. (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، صفحة 21)، وقد أوضح آراءه عن الّلغة وظواهرها في مقالات تحت عنوان “الشعر والخطابة”، وبيّن فيها عرفيّة الصّلة بين الّلفظ ومدلوله. (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، صفحة 63)، فألفاظ الّلغة عند أرسطو ليست متماثلة عند جميع أبناء الجنس البشري، وإنمّا يعتريها الاختلاف، وقصده في ذلك أصوات الكلام واختلافها بين لغة وأخرى من لغات الأمم، أمّا المعاني المكنونة في النّفس فهي الانفعالات والعواطف والأفكار وهي واحدة عند جميع البشر، ومتماثلة تماثلا لا اختلاف فيه. (المصري، ماي 2016، صفحة 12).

أمّا سقراط Socrates(399 ق.م)، فقد حاول التّوفيق بين الرّأي القائل بوجود العلاقة الطبيعية بين الكلمة ومدلولها، وبين الرّأي القائل بوجود العلاقة الاصطلاحية بينهما، وذهب إلى أنّ الخوض في هذه المسألة فيه مشقّة، وأنّ هناك نوعا من الأسماء تدلّ وتشهد على أنّها لم تتمّ اعتباطا، وأنّ لها أصلا من الطّبيعة. (جطل، 1995م، صفحة 11) وفي هذا الصدد يقول إبراهيم أنيس:« إنّ “سقراط” كان يمنّي النّفس بتلك الّلغة المثالية الّتي تربط بين ألفاظها ومدلولاتها ربطا طبيعيا ذاتيا، كتلك الألفاظ المشتقة من أصوات الطّبيعة من حفيف وخرير وزفير وغيرها.» (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، صفحة 63).

ويمكن  القول إنّ مفهوم الّلغة عند فلاسفة اليونان حمل أفكارا مختلفة ومتباينة حول الفهم العام لمعنى الّلغة، ولم يكن البحث في الّلغة بحثا مستقلا عن المذهب الفلسفي، بل كان من أجل الوصول إلى ترسيخ ما تهدف إليه مذاهبهم الفلسفية في كثير من الأحيان، فالّلغة أهمّ وسيلة في إيصال الأفكار للآخرين، فكان أجدر بهم الاهتمام بالّلغة ودراستها من قريب ومن بعيد لتحقيق الغاية المرجوة، وهذا لا يعني إنكار تلك الجهود وبدايات البحث الّلغوي، وإخراجه من صمته المطبق، إلاّ أنّ الوقوف عند تلك الأفكار والرّكون إليها من دون النّظر في ما تلاها من بحوث ودراسات سيكون الإطار الّلغوي أفقر معها من حيث المحتوى، فالمفهوم العام لمعنى الّلغة لا يُستَدل عليه اعتباطا إنّما يحتاج إلى جهد متواصل وإلى فترة طويلة من البحث المعمّق، لذا فإنّ معنى الّلغة كان يبرُزُ في كل مرّة أفضل من  سابقتها، ويحمل دلالات واضحة وعميقةوهذا ما لجأ إليه فلاسفة اليونان عندما عجزوا عن إثبات الصّلة بين الّلفظ ومدلوله في بعض الألفاظ، حيث افترضوا أنّ الصّلة الطّبيعية كانت واضحة وسهلة التّفسير في بدء نشأتها، ثمّ تطوّرت الألفاظ ولم يعد من اليسير أن نتبيّن بوضوح تلك الصّلة أو نجد لها تعليلا أو تفسيرا.

لم يقتصر البحث في فكرة العلاقة بين الصّوت والدّلالة عند الفلاسفة ، بل كان لها حظ ونصيب وافر في دراسات المحدثين، فقد تناولها بالبحث والدّراسة عدد من علماء الّلغة الغربيّين، وكان لهم فيها آراء متباينة.

إذا تمعّنا في الفكر الّلغوي الغربي نجد فكرة العلاقة بين الصّوت والدّلالة تتردّد لدى الكثير من الّلغويين، فقد ظلّ الدّارسون في الجامعات الأوروبية ينتصرون لفكرة الصّلة العقلية بين الأصوات والمدلولات حتّى أواسط القرن التّاسع عشر الميلادي، فالّلغوي المشهور “همبلت” Humboldt(ت 1835 هـــ) يقول: «اتّخذت الّلغة للتّعبير عن الأشياء طريق الأصوات الّتي توحي إلى الآذان بنفسها أو بمقارنتها بغيرها، أثرا مماثلا لذلك الّذي توحيه تلك الأشياء إلى العقول.» (أنيس، من أسرار اللغة، 1978م، صفحة 143)، وبعبارة أخرى، إنّ الّلغة تدلّ على الأشياء بالأصوات الّتي –  تارة بنفسها، وتارة أخرى بالمقارنة مع غيرها –  تترك انطباعا في الأذن مماثلا للتّأثير الذي تتركه الأشياء على العقل (مجاهد، 1985م، صفحة 221)، وهذا يعني أن اللغات بوجه عام –  في رأي همبلت –  تُؤثر التّعبير عن الأشياء بواسطة ألفاظ  أثرها في الآذان يشبه أثر تلك الأشياء في الأذهان على أنّ (همبلت) حين افتقد تلك الصّلة في معظم كلمات الّلغة، ووجدها غامضة، ادّعى الصّلة بين أصوات الكلمات ومدلولاتها قد أصابها بعض التّطوّر واختفت مع توالي الأيام (أنيس، من أسرار اللغة، 1978م، صفحة 144)، ويقول: «إنّ هذه الرّمزية أو المناسبة الطبيعية تظهر في الألفاظ ولكنها في وقت ما تبدو غامضة.» (مجاهد، 1985م، صفحة 221).

ولمـّا كان (همبلت) من أنصار المناسبة الطّبيعية بين الألفاظ والمدلولات فقد لقي معارضة من الّلغوي المشهور (مادفيج)  Madvig  (ت 1842 م) الّذي برهن على فساد هذه الفكرة بأن أورد مئات من كلمات الفصيلة الهندية الأوروبية، تناظر في معناها تلك الكلمات الّتي استدلّ بها (همبلت) وتخالفها في الأصوات (أنيس، من أسرار اللغة، 1978م، صفحة 144)، يقول (مادفيج): «إنّنا لو قارنّا أربع كلمات ممّا استشهد به (همبلت) سيبدو لنا خطؤه الفادح.» (مجاهد، 1985م، صفحة 222)، ويؤكد (نيروب)  Nyrop في معالجته هذه المسألة، اعتراض (مادفيج)، بحجة أنّ:«الاسم نفسه يمكن أن يدلّ على موضوعات متنوّعة، والموضوع نفسه يمكن أن يشار إليه بأسماء مختلفة، وأنّ دلالة الكلمات دائمة التغيّر.» (مجاهد، 1985م، صفحة 222).

ويفهم من كلام (نيروب) أنّ فكرة الصّلة بين الأصوات والمدلولات ليست مطّردة، والأدلّة على ذلك تنحصر في أمور ثلاث:

  • الأول: أنّ الكلمة الواحدة في الّلغة الواحدة قد تعبّر عن عدّة معانٍ، وهو ما يعرف بالمشترك الّلفظي.
  • الثاني: أنّ المعنى الواحد قد يعبّر عنه بعدّة كلمات مختلفة الأصوات، وهو ما يسمّى بالتّرادف.
  • الثالث: أنّ الأصوات وكذا المدلولات تخضع للتّطور المستمرّ على توالي الأيّام، فقد تتطوّر الأصوات وتبقى الدّلالات سائدة، كما قد تتغيّر الدّلالات وتظلّ الأصوات على حالها.

ويتوّلى (جسبرسن)Jespersen  الدّفاع عن (همبلت) فيقول: «مع أنّه من بين الكلمات الّتي أوردها (همبلت) ما هو مشكوك فيه، فإنّ ذلك لا يؤثّر على الحقيقة الّتي يناضل من أجلها، وهي أنّ شيئا مثل المناسبة الطّبيعية موجودة في بعض الكلمات.» (مجاهد، 1985م، صفحة 222).

ثمّ يؤكّد (جسبرسن) الفكرة نفسها  بقوله: «يكاد يستحيل علينا أن نثبت المناسبة الطّبيعية بين الدّلالة والصّوت وكل الكلمات، وفي كل الّلغات، في كل الأوقات، ولكن بعض الأصوات أيضا في بعض الحالات يكون رمزا لمعناها، وإن لم يكن في كلّ الكلمات.» (مجاهد، 1985م، صفحة 222)

يبدو أنّ (جسبرسن) كان ممّن ينتصرون لأصحاب المناسبة بين الألفاظ ومدلولاتها، غير أنّه حذّر من المغالاة فيها، إذ لا يرى أنّ هذه الظّاهرة لا تكاد تطّرد في لغة من الّلغات.

ويقدّم (جسبرسن) أمثلة للنّواحي الّتي يُلحظ فيها وثوق الصّلة بين الألفاظ ومدلولاتها، منها على سبيل المثال: الّتي تعدّ بمثابة الصدى لأصوات الطّبيعة، وهو ما يسمّى بـــ (الأونوماتوبيا)  Onomatopoeia، والألفاظ الّتي ترتبط بدلالاتها في بعض الحالات النّفسية، كالكلمات الّتي تعبّر عن مشاعر الغضب أو النّفور أو الكره (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، الصفحات 68-70)، والألفاظ الّتي تشبه ما عندنا في العربية من أمثال: الحفيف، والخرير، والزّفير، والصّهيل، والهزيم، والعواء، والزّئير إلى غير ذلك من كلمات استمدّت ألفاظها من الأصوات الكونيّة ، وأصوات الحيوانات. (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، صفحة 69)

ويختم (جسبرسن) كلامه الّذي يبيّنه في فصل بعنوان: “رمزية الألفاظ” بقوله: «إنّ كلمات الّلغات تزداد مع الأيّام إيحاء للدّلالات، وتكتسب الألفاظ بمرور الزّمن قدرا أكبر من تلك الرّمزية، ويتنبّؤ من أجل هذا بتلك النبوءة المتفائلة الّتي كان يحلم بها بعض فلاسفة اليونان من أنّه سيأتي اليوم الّذي تصبح فيه الصّلة بين الألفاظ ودلالاتها أكثر وضوحا وأوثق ربطا ممّا عرف أجدادنا.» (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، صفحة 70).

أمّا (فيرث)  Firth عميد المدرسة الّلغوية الإنجليزية فقد أشار في كتابه “دراسات في علم الّلغة” إلى ظاهرة سمّاها “الوظيفة الفوناسثيتيكية للأصوات”Phonaesthetic Function (القادر، 2002م، صفحة 92)، ويعني بها:«ما يلمح بوضوح من وجود علاقات تظهر بين الكلمات الّتي تبدأ بحرفين متجانسين أو أكثر، وبين بعض الملامح العامّة المميّزة  لبعض السياقات الّلغوية.» (مجاهد، 1985م، صفحة 230).

وراح (فيرث) يضرب أمثلة لإثبات صدق دعواه، منها على سبيل المثال، الكلمات الّتي تبدأ بحرفي St  وهي:

  • Stack: كدّس.
  • Stain: وصمة، لطمة.
  • Stand: ركيزة.
  • Stare: حملق.
  • Stay دعامة، سند.
  • Stem: منع، عارض.
  • Stick: سند بِعودٍ.
  • Siff: شديد، صلب.
  • Still: ساكن.
  • Stock: عمود، ساق.
  • Stub: شجرة.
  • Stud: إسطبل خيل.
  • Stump: تحدّى، أعاق (مجاهد، 1985م، صفحة 230).

وأقرب شيء يمكن تصوره هنا يجب أن يتوافر فيه الطّول والثّبات والصّلابة، ويبدو (فيرث) في هذا محاكيا طريقة ابن جنّي الّتي تتصوّر لتقاليب الجذر معنى جامعا، غير أنّ (فيرث) يحس بحذر شديد اتجاه العلاقة بين هذه الألفاظ وما تدلّ عليه، فهي إذن ملاحظات عابرة تحتاج إلى اختبارها والتّحقق منها حتّى تكتسب صفة الفرض العلمي. (مجاهد، 1985م، صفحة 230) وذهب (فيرث) إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أنّ الحركة الصّوتية القصيرة  (i)  تدلّ على صغر الحجم، أو قلّة الكميّة، وساق مجموعة من الشّواهد منها:

  • Pigmy: قزم.
  • Bit: جزء صغير.
  • Whit: ذرة.
  • Little: قليل.
  • Kid: صغير.
  • Slim: رشيق. (القادر، 2002م، صفحة 93)

وهذا في الواقع مماثل لما ذهب إليه بعض الّلغويين العرب من أنّ الكسرة (صوت المدّ القصير)، والياء (صوت المدّ الطّويل) يؤشّران القلّة والصّغر فالياء علامة التّصغير، والكسرة علامة التّأنيث. (القادر، 2002م، صفحة 93).

وأمّا (ستيفن أولمان)  S. Ullmannكان بين المعارضة لفكرة مناسبة الأصوات لدلالاتها وإثباتها، حيث ذكر ألفاظا يبدو لأصواتها قوّة في التّعبير عن مدلولاتها مثل: (قَهْقَهَ)، فهي –  كما يقول –  كلمة معبّرة ووصفية إلى حدّ ما بالصّيغة نفسها، والأصوات فيها دليل من دلائل المعنى، وفي استطاعة الأجنبي الّذي لا يعرف مدلول هذه الكلمة أن يخمّن هذا المدلول تخمينا دقيقا بوسائل صوتية. (أولمان و ترجمة كمال، دور الكلمة في اللغة، صفحة 72)

ويبدو (أولمان) من خلال هذا النّص غير منكر للعلاقة بين الأصوات ودلالاتها إنكارا تامّا، بل يراها متحقّقة في ألفاظ كثيرة، والدّليل على ذلك أنّه يذكر شواهد شعرية ومسرحية لكتاب تمكّنوا – في رأيه -من توظيف الكلمات للإيحاء بالمعاني ولمحاكاة الأحداث. (مجاهد، 1985م، صفحة 232)

لعلّ العلماء الغربيّين كانت لهم نظرتهم في إثبات مناسبة الأصوات للمعاني، وبعضهم من وجدنا فكره وتصوّره عند علماء الّلغة العرب القدامى إلاّ أنّ البعض الآخر يوضّح وجود هذه المناسبة الطبيعية بين الدّلالة والصّوت لكن ليس في كلّ الألفاظ ولا في كلّ الّلغات.

ومن الغربيين الّذين يتصدّوا لمسألة العلاقة بين الصّوت والدّلالة، الّلغوي الأمريكي (ويتني)  Whitney  (ت 1894م)، حيث رفض أن تكون هناك علاقة طبيعية بين الصّوت والمدلول بل هي في رأيه اعتباطية؛ يقول:«إنّ الدّلالة Signتُربَط بالمفهوم الّذي تدلّ عليه بالاصطلاح  Conventional، والارتباط بينهما ذهنيّ فقط، ولو كان الارتباط طبيعيا  Natural  أو داخليا  Internal  أو لازما  Necessary  لوجب أن يتّبع كلّ تغيّر في المفهوم تغيّر في الدّليل.» (مجاهد، 1985م، صفحة 222).

 وفي أوائل القرن العشرين ترجع كفّة معارضي الّلفظ ودلالته وذلك على يدي الّلغوي السويسري (فرديناند دي سوسير)  F. De Saussure  (ت 1913م) الّذي يعدّ من أشهر معارضي هذه الفكرة، فوقف موقفا لمنطق أو نظام مطّرد، حيث يقول بصريح العبارة: «إنّ الرّابط الّذي يجمع بين الدّال والمدلول رابط اعتباطي.» (سوسير و القرمادي، 1985م، صفحة 111)، ويذكر أيضا: «إنّ الدّليل الّلغوي اعتباطي، وهكذا فإنّ المقصود الذّهني (أخت) لا تربطه أيّ علاقة داخلية بتتابع الأصوات التّالية: الهمز والضمة، والخاء والتّاء والتّنوين الّذي يقوم له دالا ومن الممكن أن تمثّله أيـّة مجموعة أخرى من الأصوات.» (سوسير و القرمادي، 1985م، صفحة 112).

يقول إبراهيم أنيس عمّا قاله دي سوسير:«إلاّ أنّنا لا نعدم قبوله لوجود علاقة طبيعية بين الّلفظ ومدلوله في حالة تسمية الأشياء بحكايات أصواتها، أي صدى أصوات الطّبيعة، ويقرّر أنّها من القلّة في الّلغات بحيث لا يصحّ أن نتّخذ منها أساسا لظاهرة لغوية مطّردة أو شبيهة بالمطّردة.» (أنيس، دلالة الألفاظ، 1976م، صفحة 71).

ويرى “سوسير” أنّ العلاقة المتشكّلة من الدّال والمدلول متلازمة ويستدعي كلّ طرف الآخر، فالعلاقة من حيث الوجود تلازمية، ومن حيث الشّكل قائمة، لكن من حيث العلاقة الّتي تؤدّي إلى وجود دلالة، اعتباطية ، وقد سار على هذا كلّ من (هياكوَا) و(سَابْيِير) و(روبَرت هول)، فيرى “هياكوَا” أنّه لا يوجد هناك ارتباط ضروري ولازم بين الرّمز وما يرمز إليه، ويرى “هول” أنّ معنى كلّ صيغة لغوية اعتباطية تماما، وليس هناك أيّ ارتباط ضمني ولا أيّة علاقة تلازمية بين أي صوت لغويّ وما يدلّ عليه. (مجاهد، 1985م، صفحة 78)، ويقول “سابيير”إنّ الكلمات الّتي تبدو تقليدا للطبّيعية ليست بأيّ معنى من المعاني أصواتا طبيعية ينتجها الإنسان بصورة غريزية أو تلقائية، إنّها من خلق العقل الإنساني ومن تخيّله، كأيّ شيء آخر في الّلغة». (مجاهد، 1985م، صفحة 225)

يوضّح كلّ من هؤلاء الّلغويين الغربييّن أنّه لا توجد علاقة بين التّجمع الصّوتي البنيوي وما يدلّ عليه، وأنّ العلاقة اعتباطية، وما تعارف واصطلح عليه الإنسان إمّا بصورة غريزية، أو تلقائية، فلا وجود لعلاقة بين الألفاظ والمعاني.

الخاتمة

 اخلصُ إلى جملة من النتائج، أهمها إجمالاً:

النتائج

النتائج التي وتوصلنا لها :

إنّ مسألة ردّ معاني آلاف الألفاظ إلى عدد محدود من أصوات اللغة المعينة (الّتي تشكّل النّظام الصّوتي للغة) لا يمكن أن تفسّر فيه فكرة العلاقة بين الصّوت والدّلالة، بل إنّ ذلك يزيد في غموض المشكلة، ثمّ إنّ الأصوات لا تحمل معان في ذاتها –  كما هو معلوم –  بمعنى إنّ الصّوت المفرد لا قيمة له مستقلا عن غيره من الأصوات، فالتّشكيل الصّوتي أو البنية الصّوتية للّفظ، أي ترتيب أصواته على نحو معيّن هو الّذي يمنح الّلفظ دلالته، أو على الأقل يوحي بدلالته، ورؤية الأمر أنّ الدّلالة الصّوتية، وإن أسهم الصّوت بشكل واسع في مدّ محتوياتها، إلاّ أنّ التّتابع الصّوتي وتنوّعاته داخل تيار الكلام يوجهان بنيتها، وهي تخضع لما يمنحها المتكلّم من قدرة وحركة داخل الترّكيب.

أنكر الّلغويون الغربيون فكرة العلاقة بين الأصوات ودلالاتها، ولم يشيروا في الغالب إلّا إلى مظهر واحد من مظاهرها، وهو دلالة حكاية الأصوات المسموعة، وقد نسي هؤلاء، مسألة الاختلاف الكبير بين طبيعة الّلغات الأخرى.

المصادر:

1.إبراهيم إسماعيل المصري. (ماي 2016). مفهوم اللغة بين فلاسفة اليونان والعالِم العربي ابن جنّي. مجلة القدس العربي.

2. إبراهيم أنيس. (1976م). دلالة الألفاظ. مصر: مكتبة الأنجلو مصرية.

3.إبراهيم أنيس. (1978م). من أسرار اللغة. مصر: مكتبة الأنجلو مصرية.

4. أحمد عزوز. (2001م). نشأة الدراسة الدلالية العربية وتطوّرها، سوريا. دمشق.

5. أحمد مختار عمر. (1998م). علم الدلالة. ط5. القاهرة: مكتبة لسان العرب.

6. عبد الجليل عبد القادر. (2002م). علم اللسانيات الحديثة. عمان: دار صفاء.

7. جمعة سيد يوسف. (1988م). الدراسات النفسية للغة في علم النفس. القاهرة: دار آتون للطباعة والنشر.

8. حاتم علي الطائي، و باي ماريو. نشأة اللغة وأهميتها نقلا عن لغات البشر.

9. ستيفن أولمان، ترجمة كمال بشر. (1973م). دور الكلمة في اللغة. مصر،  القاهرة.

: مكتبة الشباب.

10. عبد الجليل عبد القادر. (2002م). علم اللسانيات الحديثة. عمان: دار صفاء.

11. عبد الكريم مجاهد. (1985م). الدلالة اللغوية عند العرب. دار الضياء.

12. فرديناند سوسير، تعريب صالح القرمادي. (1985م). دروس في الألسنية العامة. الدار العربية للكتاب.

13. محمد عبد العزيز. (1983م). مدخل إلى علم اللغة. القاهرة.

14. مصطفى جطل. (1995م). العلاقة بين الدال والمدلول. (جامعة حلب، المحرر) مجلة بحوث ، عدد 28.

15. نادية معاتقي. (2015م). إسهام الدارسين العرب المحدثين في إرساء علم الدلالة . تيزي وزو الجزائر.

16. نايف خرما، و علي عجاج. (1988م). اللغات الأجنبية تعليمها وتعلّمها. الكويت: سلسلة عالم المعرفة.

17. نوري جعفر. (1971م). اللغة والفكر. الرباط: مكتبة التومي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *