الباحث/ جمال بوراصي

طالب باحث بسلك الدكتوراه

مختبر البحث : الإنسان والمجتمعات والقيم

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل

jamal.bourassi@uit.ac.ma

00212667199992

البروفيسور/ مولاي التهامي باديدي

أستاذ التعليم العالي

مختبر البحث : الإنسان والمجتمعات والقيم

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية،جامعة ابن طفيل

 badidimoulay.touhami @uit.ac.ma

00212677512140

الملخص

تتطور العلوم الإنسانية بشكل مستمر في محاولة منها لتقديم إجابات عن الصعوبات التي يصادفها الانسان في حياته. فهي بذلك تهتم به كذات مفكرة قادرة على اتخاذ القرار بشكل مبني على الاختيار في مجتمع تحكمه ضوابط العيش المشترك. إن المهمة النبيلة التي تقوم بها العلوم الإنسانية بشكل عام وعلم النفس بشكل خاص من أجل مساعدة الإنسان على تحقيق الذات، تظل من أبرز أوجه النضج العلمي الذي حققته البشرية. ومن بين أشكال هذا النضج، نجد الاهتمام المتزايد بذوي الاحتياجات الخاصة باعتبارها حالات مختلفة تستدعي تكييفات على مستوى بينات المجتمع المادية والفكرية، وليس كحالات مرضية/باطولوجية تتطلب تنفيذ مفردات برامج علاجية يتم بناؤها من طرف تخصصات طبية وشبه طبية. تقدم العلوم المعرفية من خلال تفسيراتها لكيفية تشكل المعرفة لدى الأفراد، إمكانيات متعددة يمكن استثمارها في نهج أساليب تدخلية تقوم على فهم قدرات ذوي الاحتياجات الخاصة كمدخل يعزز تقدير الذات لديها، بخلاف التركيز على جوانب النقص لديها.

تعتبر المقاربة العلاجية التي تعتمد على تحليل السلوك التطبيقي (ABA) من أهم البرامج التدخلية المساعدة على التقليل من حدة اضطراب طيف التوحد في البلدان العربية. تقوم هذه المقاربة على استراتيجية تحليل السلوك (Schéma A-B-C)، والتي تنطلق من البحث عن السابق (Antécédant) المؤثر في السلوك (Behavior)لفهم الاستجابة (Consequence) المحصل عليها بهدف تعديله. تم بناء هذا النموذج التحليلي انطلاقا من سلوكية سكينر (Burrhus Frederic Skinner) التي ترى على أن السلوكات والتصرفات قابلة للتعديل بعد فهمها وتحليلها وذلك باعتماد آليتي التعزيز والعقاب. من بين أهم الانتقادات الموجهة للمدرسة السلوكية أنها لا تهتم بالفرد كذات فاعلة قادرة على الاختيار والانتقاء للقيام بسلوكات مرغوب فيها تلبي احتياجاته وميولاته في شكل تجارب شخصية تميزه عن باقي الأفراد.

تروم هذه الورقة البحثيةمناقشة مدى أخلاقية مقاربة تحليل السلوك التطبيقي فيالتعامل مع الطفل التوحدي كذات غير فاعلة، سلبية وغير قادرة على اتخاذ القرار، وذلك من خلال المقارنة بين أهم التدخلات العلاجية المعتمدة دوليا وذلك عبر تحليل مضمونها وقياس مدى اهتمامها أو تغييبها للذات التوحدية كذات قادرة على التفاعل الإيجابي مع مكونات البيئة المحيطة.

الكلمات المفتاحية: العلوم المعرفية؛ تحليل السلوك التطبيقي؛ اضطراب طيف التوحد؛ البيئة؛ التجربة الشخصية.

Shaping the development of autistic children through an applied behavior analysis program: Goals and ethics of intervention

Researcher/Jamal Bourassi

Doctoral research student

Professor Moulay Touhami Badidi

Professor of higher education

Research Laboratory: Humans, Societies and Values

Faculty of Humanities and Social Sciences, Ibn Tofail University

 

Abstract

The human sciences are continually evolving in their attempt to provide answers to the difficulties that people face in their lives. They are concerned with man as a thinking individual capable of making decisions based on choice in a society governed by common standards of living. The noble task of the human sciences in general, and psychology, is to help man realize his full potential, and it remains one of humanity’s most remarkable scientific achievements. One aspect of this maturity is the growing interest in people with special needs, who are seen as special cases requiring adaptations to the material and intellectual data of society, rather than as pathological cases requiring the implementation of therapeutic protocols devised by medical and paramedical specialists. The cognitive sciences, through their explanations of how knowledge is formed in individuals, offer multiple possibilities that can be exploited in an interventionist approach aimed at understanding the abilities of people with special needs as an entry point for boosting their self-esteem, over and above the focus on their deficits.

The therapeutic approach based on Applied Behavior Analysis (ABA) is one of the most critical intervention protocols for reducing the severity of autism spectrum disorders in Arab countries. This approach is based on the strategy of behavioural analysis (A-B-C schema), which seeks to identify the antecedent that influences behaviorto understand the resulting consequence and modify it. This analytical model was developed based onBurrhus Frederic Skinner’s behaviourism, which considers that behaviour can be changed once it has been understood and analyzed using the mechanisms of reinforcement and punishment. Among the main criticisms levelled at the behaviourist school is its lack of interest in the individual as an actor capable of making choices and selecting desirable behaviours that meet his needs and preferences in the form of personal experiences that distinguish him from other individuals.

This article aims to discuss the ethics of the behavioural analysis approach applied in the treatment of the autistic child as a non-active, negative individual incapable of making decisions, by comparing it with the leading internationally recognized therapeutic interventions, analyzing their content, and measuring their degree of interest in or neglect of the autistic identity as an actor capable of interacting positively with the elements of the surrounding environment.

Keywords: cognitive sciences, applied behavioural analysis, autism spectrum disorders, environment, subjective experience.

مقدمة

منذ أن وصف ليو كانر (1894-1981) سنة 1940 التوحد باعتباره اضطرابا نمائيا عصبيا له أعراض محددة يصعب مواجهتها علاجيا، أصبح من الممكن اليوم الحديث عن سبل علاجية تدخلية ذات طبيعة سلوكية أو معرفية أو هما معا(Lucchelli & Maleval, 2018). فالعلوم المعرفية في وقتنا الراهن، أصبحت تهتم بالانحرافات التي يشهدها النمو لدى الفرد بشكل عام،كما تهتم أيضا بتلك التي يعرفها التعلم خلال هندسة التعلمات في المؤسسات التعليمية. عموما، لا تثير اضطرابات التعلم انتباه عموم الناس في معظم المجتمعات، غير أن اضطرابات النمو وما تظهره من صعوبات لدى الأفراد على مستوى التكيف مع البيئة المحيطة تطرح مشاكل لدى الأسر التي تأوي حالة من هذه الاضطرابات. من بين هذه الاضطرابات نجد اضطراب طيف التوحد الذي يشكل تحد للأسر وللمجتمع، وهذا الأمر يظهر خلال القيام بدورهما في التنشئة الاجتماعية التي تنطلق عادة من نقل أبسط أشكال التصرف المرتبطة بالأكل واللباس واللغة الاستقبالية والطلبات إلى التربية على القيم بمختلف مجالاتها ومستوياتها، ناهيك عن تنمية وتطوير الكفايات المعرفية والتواصلية الاجتماعية والوجدانية في شكل قدرات تمنح للفرد حدا أدنى من الاستقلالية في تدبير شؤونه اليومية.

تتطلب هذه الاضطرابات تدخلات علاجية تبنى على تشخيصات يقوم بها الأخصائيون بعد تسجيل مجموعة من الأعراض،والتي تعبر عادة عن انحراف النمو عن مساره المعهود أو الطبيعي(Amy, 2008). هذه التشخيصات الطبية أو شبه الطبية تتم من خلال تمرير عدة روائز تم إعدادها لقياس مدى حضور مهارات محددة أو غيابها بشكل كلي أو جزئي لدى الطفل. الحصول على معدلات أو درجات من خلال المؤشرات المتضمنة في هذه الروائز تمكن الأخصائي من تحديد شدة الاضطراب بدقة (خفيف، متوسط، عميق)، وهذا الأمر يتيح له إمكانية تحديد الأولويات التي يجب أخذها في الاعتبار خلال إعداد البرنامج العلاجي/التدخلي.

بعد تشخيص الحالة ذات اضطراب طيف التوحد وتحديد شدته، يتم اللجوء إلى تقنيات علاجية بمثابة أدوات وآليات يتسلح بها المتدخل للتقليل من حدة وشدة الاضطراب. وهنا تشكل طريقة تحليل السلوك التطبيقي (ABA) إحدى هذه الأدوات المساعدة على فهم السلوكات المراد تعديلها أو تشكيلها لدى الفرد الذي يظهر انحرافات سلوكية أو غياب سلوكات أساسية للتواصل والتكيف مع مكونات البيئة. فهي تقوم على رصد السلوك ثم تحليله عبر الخطاطة (ABC)، أي لفهم السلوك (Behavior) يجب البحث في سوابق هذا السلوك (Antécédant) من أجل التحكم في نواتجه (Conséquence). بهذا الشكل تركز هذه الطريقة على السلوك وليس على الطفل وتلخص مهارات الفرد التي تسمح له بتحقيق الذات والاندماج بيسر داخل المجتمع في سلوكات يجب تعديلها أو تشكيلها خلال سيرورة نمو الطفل(Gilmer, 2016).

إشكالية الورقة البحثية

يمثل النمو في علم النفس جملة من التغيرات التي تطرأ على السيرورات الذهنية والجانب الحركي والعاطفي الوجداني(Saïas et al., 2010) ، فالنمو يتميز بشموليته تتأثر فيه جوانبه ببعضها البعض. هذا الأمر يفرض بشكل أو بآخر التعامل معه بنوع من الوعي والحيطة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالقيام بتدخلات نبتغي من ورائها مساعدة الطفل ذي اضطراب طيف التوحد. إن إغراق الطفل في السلوكاتالنمطية/التكرارية ودخوله في نوبات من البكاء والصراخ كميكانيزمات دفاعية حيال شعوره بتهديد محتمل(« Détruire l’objet pour ne pas le perdre », 2017)، لا يحتاج إلى صرامة المعالج بقدر ما يحتاج إلى فهم الطفل كذات لها قدرات ومهارات يتفاعل من خلالها مع البيئة لمحيطة به. إناعتبار الطفل عنصرا ثانويا في سيرورة التدخل العلاجي يثير عدة تساؤلات على مستوى أخلاقيات التدخل، فتشكيل السلوك وفق نموذج ABA لا يأخذ في الاعتبار قدرات الطفل ورغباته أو ميولاته، فهو ينظر إلى السلوك التكراري/النمطي مثلا على أنه سلوك غير مرغوب فيه يجب الحد منه عبر تشكيل سلوكات جديدة أو تعديل أخرى لترقى إلى ما يرغب فيه المعالج. تم تشكيل هذه الطريقة انطلاقا من الإطار النظري لسلوكية سكينر التي تلخص كفايات وقدرات الأفراد في جملة من السلوكات التي يمكن تطويرها وترسيخها أو الحد منها وإطفاؤها عبر آليتي التعزيز والعقاب. غاية هذا النموذج هي تقديم مساعدات تكيفية تيسر اندماج الطفل التوحدي مع عناصر البيئة المحيطة، فهي تقوم بذلك إما عن طريق تعديل سلوك “مضطرب” أو تشكيل سلوك “مرغوب”.مقارنة مع طريقة TEACCH التي تستحضر الوظائف المعرفية وتعمل على تنميتها لدى الطفل التوحدي، فهل يمكن الجزم إذن بمحدودية طريقة ABA على مستوى غاية التدخل العلاجي المتمثل في تيسير اندماج الطفل التوحدي في بيئته؟

أهمية الورقة البحثية

تهتم السيكولوجيا الحديثة بالفرد كذات فاعلة غير سلبية لها ميولاتها ورغباتها وتعمل على تشكيل هويتها التي تتميز بها عن الآخر، وذلك من خلال تطوير مهارات تواصلية اجتماعية وقدرات معرفية وعاطفية وجدانية، لذلك تم الاهتمام بنماذج تدخلية تراعي هذه المهارات والقدرات وتأخذ في الاعتبار ذات الطفل كذات فاعلة يمكن مساعدته على تحقيق سيرورة نمو متوازنة مقارنة بأقرانه “الأسوياء”.

في هذه الورقة البحثية سنحاول مناقشة مدى أخلاقية المتدخل في بناء وتصريف البرامج العلاجية الخاصة باضطراب طيف التوحد التي تعتمد طريقة ABA، ثم سنتعرف على مميزات طريقة TEACCH على مستوى الاهتمام بالطفل التوحدي كذات لها قدرات يمكن تعزيزها خلال سيرورة التدخل العلاجي. كما تتجلى أهمية هذا البحث في القيام بمقارنة بين برنامجين تدخليين لفائدة الطفل التوحدي، حيث سنعمل على تقديم أسس كل منهما وتبرير الغايات المراد تحقيقها من وراء توظيف كل طريقة على حدة، هذا إلى جانب البحث في مدى أخلاقية توصيف البرنامج التدخلي الخاص بكل واحد منها. عموما يمكن تركيز أهمية هذا الورقة البحثيةفي كونهاتسعى إلى إثارة انتباه الباحث الأكاديمي في الدراسات النفسية إلى ضرورة القيام بالدراسات النقدية للبرامج العلاجية التدخلية، ثم الدعوة إلىفتح نقاش علمي حول دواعي تبني برامج علاجية تدخلية دون أخرى.

أهداف الورقة البحثية

إذا كانت غايات التدخل في مختلف النماذج العلاجية هي مصاحبة الطفل التوحدي نحو تحقيق نمو شمولي متوازن مساعد على الاندماج بيسر في المجتمع(Chamak, 2015)، فهذه الورقة البحثية تسير في اتجاه طرح تساؤلات حول مدى نجاعة اختيارات المتدخل في سيرورة الخدمات العلاجية لفائدة الطفل التوحدي. فالجزم بنجاعة برنامج علاجي تدخلي على حساب برنامج علاجي آخر لا يجب إرجاعه فقط إلى النتائج التي نحققها آنيا، بل يتطلب الأمر دراسة وقع النتائج المحصل عليها على المدى البعيد ومدى تحقيق شمولية النمو. من بين أهداف هذه الورقة البحثية إخراج اختيارات المتدخل في سيرورة العلاج النفسي إلى منطقة النقاش العلمي، وذلك من أجل إذكاء الوعي بهذه الاختيارات ودعوة الباحث في سيكولوجيا الإعاقة إلى الدراسة النقدية للبرامج العلاجية المعتمدة.

حدود الورقة البحثية

حدود هذه الورقة البحثية تتجلى في الاقتصار على المقارنة بين برنامجين تدخليين: أحدهما يقوم على تعديل السلوك والآخر يهتم بتنمية الوظائف المعرفية والسيرورة النمائية لدى الفرد، ويرجع ذلك إلى تعدد الطرق التدخلية الأخرى مثل طريقة DENVERوBEI. يرجع اختيارنا للطريقتين ABAوTEACCH إلى كونها يستعملان بقوة في مجال تقديم الخدمات العلاجية لفائدة ذوي اضطراب طيف التوحد(Wacjman, 2016).

المنهج المستخدم

إن سعينا وراء المقارنة بين طريقتين لبناء البرامج العلاجية التدخلية لفائدة ذوي اضطراب طيف التوحد، وذلك على مستوى الغايات منها ومناقشة أخلاقية التدخل من طرف المعالج النفسي، يفرض علينا وصف وتحليل الطريقتين معا، ومقارنتهما فيما يتعلق بالضوابط التي تؤطرهما وتؤسس لاختيارات المتدخلين في المراكز المتخصصة أو المؤسسات التعليمية التي توفر عروضا تربوية ذات طابع إدماجي ودمجي. هذا إلى جانب تفسير الاختلافات بينهما، مع تقييم مدى نجاعة اختيار طريقة دون أخرى في ظل ما تورفه كل منهما من إمكانات مساعدة على إكساب الطفل التوحدي حدا أدنى من الاستقلالية والكفايات التواصلية المساعدة على تحقيق التفاعلات الاجتماعية، والتي يتطلبها اندماج الفرد بيسر داخل مجتمع تحكمه إكراهات إثبات الذات. بهذا الشكل يوفر لنا المنهج الوصفي التحليلي إمكانية قراءة ومقارنة النموذجين معا، مع تفسير الاختلافات والقيام بتقييمات تنفتح عليها أبحاث علمية أخرى تتحقق من مدى جدوى هذه التفسيرات والتقييمات.

الدراسات السابقة

    الدراسة الأولى: قام بهذه الدراسة كل من Kevin Callahan وآخرون سنة 2010 من أجل المقارنة بين الطريقتين ABA وTEACCH باعتماد صدق المحك بالمقياس الاجتماعي IDEAL، وتم نشر هذه الدراسة في المجلة الرقميةSpringer Science AND Business Media حيث تم التوصل إلى كون أن الهوة الكبيرة التي يتم تسجيلها بين نتائج البحث العلمي والتطبيق الميداني لهذه النتائج راجع إلى غياب الطرق العلاجية الشاملة التي تحقق توازنا في النمو لدى ذوي اضطراب طيف التوحد. كما أن ضعف وهشاشة الفئة المستهدفة يؤدي إلى استمالتها بيسر إما إيديولوجيا أو من خلال افتتانها بقوة النتائج عبر اعتماد آليات التسويق الفعالة التي تجذب انتباه المستهلك (العاملين في مجال التدخل العلاجي لفائدة ذوي اضطراب طيف التوحد)(Callahan et al., 2010). كما أشارت الدراسة إلى أنه ليس هناك دلالة إحصائية لاحترام النموذجين (ABA وTEACCH)للشمولية التي يجب أن يحظى بها البرنامج العلاجي. بالإضافة إلى أن المدرسون الذين يشرفون على أقسام تضم قصورات “إعاقات” مختلفة ومنها اضطراب طيف التوحد، يميلون إلى اختيار نموذج TEACCH دون تبرير واضحلهذا الاختيار، هذا إلى جانب كونالمتدخلون الذين لم يتلقوا تكوينا متينا حول التوحد، يميلون إلى اختيار نموذج ABA. أشارت الدراسة إلى أن طريقة TEACCH تلح على ضرورة الفصل بين الإشراط الفاعل كتقنية يقوم عليها العلاج السلوكي، وأهداف التربية الخاصة التي تعمل على تصميم برنامج علاجي يقوم على تفريد الأنشطة المحققة للتفاعل الإيجابي بين الطفل والمعالج النفسي.

    الدراسة الثانية: قام بهذه الدراسة كل من مونيكا مازا (Monica Mazza) وآخرون سنة 2021 من أجل المقارنة بين ثلاث نماذج علاجية وهي:ABA وTEACCHوBEI. أنجزت الدراسة على عينة 94 مراهق ومراهقة (ABA: 31؛ TEACCH: 37؛ BEI: 26). والهدف منها هو دراسة مفعول اعتماد برنامج محدد على مستوى الوظائف التكيفية لدى المراهق التوحدي على المدى البعيد، حيث تبين أن البرامج الثلاث حققت نتائج جيدة على مستوى كفاية اللغة الاستقبالية وكفاية العمل بالقواعد الاجتماعية، في حين أوضحت النتائج على أن الكفاية التواصلية وكفاية إدارة الشؤون المنزلية كانت جيدة مع البرنامجين التدخليين TEACCH وBEI مقارنة بالبرنامج العلاجي ABA الذي أظهر فشلا واضحا في تطوير وتنمية هذه الكفايات (Mazza et al., 2021).

متن الورقة البحثية

تقديم طريقة تحليل السلوك التطبيقي ABA:

التعريف:حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM5، يعتبر اضطراب طيف التوحد اضطرابا للنمو، حيث يرتبط باضطرابات على مستوى التفاعلات والتواصل الاجتماعي، إلى جانب حضور السلوكات والاهتمامات النمطية والمتكررة(Bonnet-Brilhault, 2017). فالتفاعل الاجتماعي كمهارة يتطلبها تكيف الفرد مع مكونات البيئة تظل غائبة لدى الطفل ذي اضطراب طيف التوحد، حيث لا يظهر اهتماما بالآخرين ويغير نظراته ويتجنب التواصل والاتصال البصري معهم. كما يعاني من فهم الرموز الاجتماعية من قبيل الإيماءات مثلا، إلى جانب ميوله نحو العزلة وعدم مشاركة الآخرين فيما يقوم به من أنشطة ترفيهية. تركز طريقة ABA على تقديم خدمات علاجية تهدف إلى التقليل من حدة وشدة حضور الأعراض السالفة الذكر،والتي تحول دون تكيف مرن مع الوسط الذي يعيش فيه الطفل التوحدي.

تعبر هذه الطريقة عن مجموعة من الاستراتيجيات المستمدة من مبادئ المدرسة السلوكية خصوصا مع الإشراط الفاعل للباحث سكينر، ويتم تطبيقها بشكل منهجي من أجل الارتقاء بالسلوكات ذات الأهمية الاجتماعية. تهدف هذه الطريقة إلى زيادة السلوكات الملائمة وترسيخها لدى الطفل التوحدي، ثم التقليل من السلوكات غير الملائمة والسير نحو إطفائها وتعلم واكتساب مهارات وسلوكات جديدة(Goussot et al., 2012).

تنطلق طريقةABA من فكرة القابلية للتعلم لجميع السلوكات المراد تشكيلها لدى الطفل، لذلك وضعت استراتيجية تقوم على تحليل السلوك وفق خطاطة ABC، بحيث يرمز الرمز A إلى سابق السلوك الذي يعتبر بمثابة مثير للسلوك، ويرمز الرمز B إلى السلوك موضوع التحليل والذي يشترط قابلية الملاحظة، أما الرمز C فيشير إلى النتيجة. فرواد هذه الطريقة يؤكدون على أن تكرار الخطاطة سيؤدي بشكل حتمي إلى تعلم السلوك دون استحضار متغيرات أخرى مثل السياق والظروف التي يجري فيها التعلم بشكل عام. ومن أجل الاحتفاظ بالتعلمات التي تم تحقيقها، تقوم الطريقة بتوظيف آلية التعزيز، ومن أجل إطفائه توظف آلية العقاب(Gilmer, 2016). يتوفر هذا النموذج على أشكال متعددة من التعزيز مثل الأكل والمعززات الترفيهية واللمسية والمعززات الاجتماعية من قبيل الابتسامة والدغدغة والتشجيع، فهذا النموذج يشترط تقديم المعزز بشكل فوري وآني ليكون لصيقا بالسلوك المراد تشكيله، كما يجب احترام مقدار وكمية لمعزز تفاديا لحدوث الإشباع. خلال سيرورة الخدمات العلاجية، تنادي طريقة ABA بضرورة تغيير وتنويع المعززات كل أسبوع وكلما أمكن ذلك، وذلك حفاظا على قوتها ودرجة تأثيرها في ترسيخ السلوكات المراد تعديلها أو تشكيلها لدى الطفل. وقصد نقل القوة المعززة من الأشياء إلى المعززات الاجتماعية، تنصح بربط المادية منها مع المعززات الاجتماعية المعنوية من قبيل التشجيع والدغدغة.

مهمة المعالج:يقوم المعالج بتطبيق اختبار التفضيلات خلال الجلسات العلاجية الأولى من أجل تحديد المعززات وترتيبها حسب الأفضلية لدى الطفل التوحدي. تم تنظيم هذاالاختبار في مجالات رئيسية: المعززات البصرية، المعززات السمعية، المعززات اللمسية والمعززات الحركية بالإضافة إلى معززات الأكل، يتم تقديم المعززات إما في بيئة منظمة يتحكم فيها المعالج أو في بيئة طبيعية تشبه المرافق المعتادة لدى الطفل. بعد تحديد المعززات التي يفضلها الطفل، يقوم المعالج بتوظيفها من أجل إجراء الاقتران معه، بحيث يعمل على تقوية جسور الثقة بينه وبين الطفل قصد الشروع في تنفيذ مفردات البرنامج العلاجي(Bourgueil, 2018). فالقاعدة هنا تكمن في كون أن حصول الطفل على المعزز لن يتم إلا عبر المعالج. تجرى عملية الاقتران باتباع مجموعة من الخطوات التي يجب احترامها بنوع من الصرامة، بحيث يقوم المعالج في البداية بالتحكم في الوصول إلى المعززات التي لا يجب أن تكون في متناول الطفل، ثم خلق التحفيز عبر قيام المعالج بألعاب يستعمل فيها المعزز على نحو يثير اهتمام الطفل من أجل انتظار سلوك الاقتراب كشرط أساسي لتقديم المعزز بشكل آني وفوري ثم التفاعل مع الطفل بإيجابية عن طريق اللعب. ومن أجل تقوية هذا الاقتران والحفاظ على ديمومته يطلب من المعالج إعادته مرات عديدة.

من أجل الشروع في تنفيذ البرنامج العلاجي يجب على المعالج التأكد من مدى تعاون الطفل، ومن أجل تحقيق ذلك ينتقل إلى الاشتغال على الضبط الإرشادي التعليمي الذي ييسر فهم التعليمات وتنفيذها في إطار محكم ينتهي دائما بحصول الطفل على المعزز.

الانتقادات الموجهة لطريقة ABA:خلال النظر في الكتابات العلمية حول هذه الطريقة نجد على أن الباحثين يوجهون لها عددا من الانتقادات، والتي تتجلى في اهتمامها بمحو السلوكات وتعديلها دون أدنى اعتبار للذات الإنسانية. كما أن انطلاق المدرسة السلوكية من نتائج لتجارب تم إجراؤها على الحيوانات قصد تعميمها على الانسان يجعلها في مرمى سهام الانتقادات الموجهة إليها قصد الحفاظ على شروط الكرامة الإنسانية. كما تشير الأبحاث إلى أن محدودية الموارد البشرية المؤهلة للعمل بهذه الطريقة لا تساهم في توفير العدد الكافي من المعالجين داخل مراكز التربية الخاصة (Granger-Sarrazin, 2013). هذا بالإضافة إلى تسجيل تخوفات حول الصيغة الآلية للتعلمات والسلوكات في غياب تام لاستقلالية التفكير وأخذ المبادرة من طرف الطفل الذي يعاني من اضطراب طيف التوحد. كما أن تكثيف الأنشطة والإكثار من الساعات اليومية الخاصة بالعلاج قد يحول دون تطوير الكفايات التواصلية المرتبطة بالتفاعلات الاجتماعية في بيئة طبيعية تأخذ في الاعتبار عناصر السياق، وذلك بهدف إعطاء معنى للمهارات والقدرات التي يتم تطويرها. إن تأكيد هذا النموذج العلاجي على ضرورة انخراط الأسرة في السيرورة العلاجية قد لا يضمن النتائج الإيجابية دائما، حيث يلعب المستوى التعليمي للأسر متغيرا حاسما في نجاعة البرامج العلاجية التكميلية التي تكلف الأسر بتنفيذ مفرداتها، كما يمكن للتوجيهات المركبة /غير البسيطة أن تشكل عائقا أمام فهم الأسر لما ينبغي القيام به تحديدا، الأمر الذي يجعل من هذا النموذج صعب التطبيق داخل الأوساط الهشة. يطرح اعتماد هذا النموذج على خطاطة تحليل السلوك التطبيقي (ABC) صعوبات لدى الممارسين في مجال التدخل العلاجي، حيث يتطلب الأمر دقة عالية من التركيز والانتباه من أجل التوظيف السليم لشبكة رصد سوابق السلوكات، وإعطاء معنى لها قصد تقديم تأويلات مناسبة لها، والتي من شأنها المساعدة على تحديد مكامن الخلل في السلوك المراد تعديله.

تقديم طريقة علاج وتعليم الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد أو صعوبات التواصل TEACCH

التعريف: تهتم هذه الطريقة بالتعليم المهيكل، حيث تستهدف النمو بشكل شمولي. تم تطوير طريقة TEACCHسنة1964 في الولايات المتحدة الأمريكية على يد إيريك شوبلر(1927-2008)، ولم تأخذ طابع الطريقة العلاجية لفائدة ذوي اضطراب طيف التوحد إلا بعد سنة 1972، حيث أصبحت تشكلنموذجا شاملا يهتم بالتشخيص وتكوين العاملين في المجال بالإضافة إلى البحث العلمي وتربية ذوي اضطراب طيف التوحد(Amy, 2008). وفي سنة 1993 أسندت إدارة هذا البرنامج إلى كراي مسيبوف. ومن أجل إعمال هذه الطريقة، يجب التركيز إكلينيكيا على التوصيف الدقيق لاضطراب طيف التوحد مع الانتقاء الأمثل لبطاريات التشخيص المعتمدة، ثم بناء برنامج علاجي يستهدف القدرات والمهارات التكيفية من قبيل التواصل والتنشئة الاجتماعية والاستقلالية، إلى جانب إقحام الأسر في سيرورة العلاج كشركاء أساسيين في ذلك(Mukau Ebwel & Roeyers, 2013). أما بخصوص التربية والتعليم، فهي تدعو إلى هيكلتهما عبر برمجة صارمة تأخذ في الاعتبار مجموعة من المدخلات اللازمة لتحقيق أهداف تكيفية. لذلك تعتبر هذه الطريقة مقاربة إيجابية لكونها تعترف بالطفل التوحدي كذات لها قدرات ومهارات تميزه عن الآخرين، فهي مقاربة نمائية لا تهتم بالسلوكات فقط، بل تتعدى ذلك إلى الاهتمام بالسيرورات المعرفية لدى الفرد.

التعليم المهيكل في طريقة TEACCH

التنظيم المادي: يتعلق الأمر بإنشاء أمكنة متناسقة ومنظمة، بحيث يتواجد الطفل التوحدي في فضاء محدود العناصر يسمح بفهم أفضل للأنشطة المراد الاشتغال عليها، بهذا الشكل يسمح بالتركيز بشكل أكبر لكونه يكون محدود المنبهات التي قد تشوش عليه وثير لديه الرغبة والميول نحو القيام بأنشطة غير التي تم التخطيط لها مسبقا. كما يتم استهداف استقلالية الطفل لجعلها ذات قصد معين حينما يتواجد أمام جملة من الاختيارات المتاحة(Layeb, 2022).

تنظيم واستعمال الزمن: عادة ما يتم العمل بإيقاعين زمنيين مختلفين، أحدهما ينظم الاشتغال العام الذي يهم جميع المستفيدين داخل نفس الفضاء التربوي، وآخر خاص بكل حالة توحدية على حدة. ولتيسير التعامل معها، في الغالب ما يتم تشكيلها بالأشياء والصور، فهي تسمح للطفل التوحدي بتوقع النشاط الموالي وتوقع المدة الزمنية الخاصة بكل نشاط(Liratni et al., 2014).

العمل الفردي (تفريد العمل): يراعى خلال العمل الفردي إطلاع الطفل التوحدي على طبيعة العمل الذي يجب القيام به، وعدد الأنشطة المبرمجة ثم النتائج المرتقب تحقيقها خلال الجلسات العلاجية.

التنظيم البصري:يتعلق الأمر بالوضوح البصري الذي تقتضيه الأنشطة المنظمة، بحيث تراعى طبيعة المعلومات والتعليمات التي يتم تقديمها من أجل تحقيق الفهم.

الأنشطة الاعتيادية (الروتين):يجب أن تكون منسجمة فيما بينها ومرنة تسمح بالانتقال من نشاط أو طقس اعتيادي إلى آخر بيسر، بحيث تتميز بدرجة من الصعوبة تمكن من تطوير القدرات وتنمية المهارات المساعدة على حل المشكلات المرتبطة بالتكيف. وتقترح طريقة TEACCH على الطفل اتباع مجموعة من القواعد من أجل التمتع بالأنشطة الترفيهية بعد الانتهاء من الأنشطة موضوع التدريب والتعليم(Cappe et al., 2016).

طرق التعليم والتدريس: تتميز أساليب التعليم بكونها تقوم على وضوح التعليمات والتوجيهات بشكل يحقق الفهم لدى الطفل ذي اضطراب طيف التوحد(Layeb, 2022). كما تمكن المساعدات الجسدية والصوتية والبصرية التي يقدمها المعالج الطفل على تحقيق الفهم والانخراط بإيجابية في الأنشطة، ونظرا لافتقار الطفل ذي اضطراب طيف التوحد إلى القدرات المرتبطة بالرضى عن النفس وتقدير مجهودات الآخرين، يطلب من المعالج تعزيز التعلمات التي يحققها الطفل تفاديا لانطفائها.

الانتقادات الموجهة لنموذج TEACCH: صنفته الهيئة العليا للصحة في فرنسا (HAS) في الدرجة الثالثة مقارنة بنماذج أخرى مثل ABA، حيث ترى على أنه لا يحقق المستوى المطلوب من الموثوقية والقابلية للأجرأة. في حين يرى الباحث رايموندمونينديز (RamónMenéndez) أن المعايير المعتمدة في تصيف هذه النماذج العلاجية لا تستند إلى أسس علمية، بل هي مجرد مواقف أخلاقية تعبر عن المناخ الإيديولوجي العام الذي يسود داخل مجتمع معين، حيث يبرر وجهة نظره على أن تبني إيريكشوبلر لطريقة TEACCH تأتي في إطار ضرورة إشراك الأسر في السيرورات العلاجية، وذلك بهدف عدم تحميلهم مسؤولية إصابة الطفل بالتوحد كما تذهب إلى ذلك بعض الفرضيات التي تقر باحتمالية حضور الأسباب الوراثية، أو فرضيات التحليل النفسي التي ترجع أسباب اضطراب طيف التوحد إلى تدهور العلاقات الأسرية بين الوالدين (Menendez, 2012).

عموما، توفر طريقة TEACCHمجموعة من الخدمات العلاجية الموجهة لمساعدة الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد وأسرهم من أجل تيسير اندماجهم في المجتمع وذلك عبر إكسابهم مهارات وقدرات تمكنهم من تحقيق ذلك. تلح هذه الطريقة على ضرورة العمل بتوجيهاتها مدى الحياة، فهي لا تجزم بانتهاء برنامج تدريبي معين بقدر ما تؤمن بسيرورة غير منقطعة من التداريب والتعليمات التي تمكن من تحصيل وترصيد المهارات والقدرات التي يتم تعلمها. تنطلق هذه الطريقة من فكرة مفادها أن تصميم وبناء البرامج العلاجية يجب أن يستثمر نقاط القوة والمهارات التي يمتلكها الطفل التوحدي قصد استهداف الاحتياجات التي تمكن من تحقيق الاستقلالية قدر الإمكان. بالرغم من كون أن جذور هذه الطريقة ترجع إلى مبادئ السلوكية، غير أنها تأخذ في الاعتبار خصوصيات الأفراد المستهدفين بالخدمات العلاجية، فهي لا ترجع اضطراب طيف التوحد إلى مشاكل على مستوى السلوكات فقط، بل تتعدى ذلك إلى ضرورة الاهتمام بالجوانب الإدراكية والفهم، لذلك فإن أغلب الاستراتيجيات التي توظفها الطريقة لا تنصب على السلوك مباشرة، بل تهتم بالأسباب الكامنة وراء ظهور هذا السلوك.

تدعو طريقة TEACCH إلى تفريد البرامج العلاجية وعدم توسيع دائرة استفادة مجموعة من المصابين من نفس الأنشطة ذات الطابع العلاجي، وذلك على اعتبار أنه رغم التقارب الذي قد يتم تسجيله خلال الجلسات التشخيصية، فإن الأسباب الكامنة وراء السلوكات المضطربة قد تكون متباينة ومتعددة. بهذا الشكل تكون الطريقة قادرة على استهداف مستويات معينة من صعوبات التواصل والتنظيم والفهم والتعميم والتفاعل مع الآخر، وذلك عبر نهج أساليب علاجية فردية وتفريدية، فهي مهيكلة بشكل شمولي تأخذ في الاعتبار مكونات وعناصر البيئة المحيطة، بمعنى آخر تكون سياقية تهتم بإدراج عناصر البيئة في سيرورة العلاج. إن التدريس المنظم الذي تقوم عليه الطريقة من خلال تنظيم البيئة المادية وضبط الجدولة الزمنية وسبل وأشكال العمل، تمكن المعالج من حصر التوقعات والرفع من مستوى الفعالية خلال التدخلات العلاجية(Vallade, 2015). تستحضر الطريقة بذلك المهارات التي يتميز بها الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد وتسمح لهم باستعمالها بشكل مستقل يحقق تطورها وتنميتها داخل بيئة طبيعية تأخذ السياق بعين الاعتبار.

المناقشة

يعد موضوع علاج اضطراب طيف التوحد من المواضيع التي اهتم بها الباحثين في علم النفس منذ ما يقرب ستة عقود من الزمن، حيث كان ليو كانر يعتقد في البداية على أنه عبارة عن مجموعة من الأعراض التي تحضر لدى جميع المصابين به، وأن أمر التدخل العلاجي مستبعد جدا لكون أن المشكل له طابع نمائي لا يمكن اقتحامه. غير أن الاهتمام المتزايد بهذه الأعراض مكن الباحثين من وضع بعض الاستراتيجيات المساعدة على التقليل من حدة عدد من السلوكات المعيقة لاندماج الطفل مع الوسط الذي يحيط به.

بعد ذلك تم تطوير هذه الاستراتيجيات بشكل جدي، ليتم الانتقال إلى التفكير في إمكانية التكفل بالطفل ذي اضطراب طيف التوحد عبر برامج علاجية تستهدف تعديل وتشكيل السلوكات اللازمة للتكيف وتحقيق حد أدنى من الاندماج. أصبح مفهوم الاكتشاف والتعقب المبكرين يثيران اهتمام الباحثين على اعتبار أنهما يلعبان دورا مهما في نجاعة التدخل العلاجي، لذلك تؤكد الهيئة العليا للصحة في فرنسا مثلا على ضرورة التشخيص المبكر لاضطراب طيف التوحد من أجل التحكم في شدة ودرجة الاضطراب التي يظهرها هذا التشخيص.

بعد القيام بالتشخيص وتحديد شدة الاضطراب، يتم المرور إلى بناء وتصميم برامج علاجية تأخذ في الاعتبار الأولويات التي أبان عنها التشخيص. بناء هذه البرامج يستند إلى نماذج وطرق علاجية من قبيل تحليل السلوك التطبيقي ABA أو طريقة علاج وتعليم الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد أو صعوبات التواصلTEACCH أو نماذج أخرى. فهذه النماذج تقدم للمعالج عددا من الاستراتيجيات التي يجب تطبيقها بنوع من الصرامة من أجل إكساب الطفل ذي اضطراب طيف التوحد مجموعة من القدرات والمهارات الكفيلة بتحقيق دمجه داخل بيئته على مدى الحياة، حيث تؤكد مونيكا مازا في الدراسة التي قامت بها رفقة زملائها على أن علاج التوحد يجب أن يستحضر وجود إمكانيات متعددة تقدمها النماذج العلاجية تتميز بالموثوقية والشمولية، ولا يجب الاقتصار على نموذج علاجي معين دون آخر(Mazza et al., 2021). تختلف هذه البرامج التدخلية على مستوى الأطر النظرية التي استمدت منها فلسفتها العلاجية، فطريقة ABA تستند إلى نتائج المدرسة السلوكية التي تعتبر أن السلوك قابل للتعلم او التعديل أو الإطفاء في حالة احترام مجموعة من القواعد الخاصة بتحليل السلوك وفهمه، كما أن تطبيقاتها العلاجية وإن كانت واعدة كما يذهب إلى ذلك أنصار هذا النموذج، إلا أنها غالبا ما لا تسمح بتطوير كفايات التعلم الأكاديمية(Baron & Makdissi, 2018). في حين تستند طريقة TEACCH إلى نتائج الدراسات التي تهتم بالنمو والسيرورات التي ينهجها لبلوغ درجة من النضج المعرفي والحركي والعاطفي والعلائقي الاجتماعي.

عدم إجماع الباحثين في سيكولوجيا الإعاقة حول مفهوم التوحد أو اضطراب طيف التوحد، يرجع إلى اختلافات في التوصيفات التي تعطى بناء على ملاحظة مجموعة من الأعراض، أما التفسيرات فدائما ما يخشى هؤلاء الباحثين من تقديمها، لذلك لم يتم الحسم في وصف اضطراب طيف التوحد، فهل هو إعاقة أو مرض عقلي ذهني أم اضطراب نمائي عصبي؟ في حين يعرفه الباحث لورونمونترون (Laurent MOTTRON) والمجموعة التي يشرف عليها في مونتريال على أنه متغير إنساني، أو بتعبير آخر هو ذكاء مختلف(Mottron, 2010). ويبرر الباحث لورونمونترون وجهة نظره بكون إلى أن النتائج التي يتحصل عليها الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد دائما ما ترتبط بنوع التشخيص الذي تم اعتماده، بحيث أن النتائج التي تم تسجيلها باستعمال روائز ويكسلرWechsler مثلا تختلف عن النتائج التي تم تسجيلها باستعمال روائز رافنRaven الخاصة بقياس الذكاء المرن. لذلك فالروائز المعتمدة في التشخيصات لا تتعدى كونها مجرد أدوات تم بناؤها لا تعكس بالضرورة واقع الاضطراب، فهي قابلة للانتقاد بنفس الشكل الذي تقبل به التعديل والتصويب.

يشكل الإيمان المفرط من طرف المعالج النفسيبالأدوات التشخيصية والنماذج والطرق العلاجية عائقا أمام مرونة الانتقال بين الاستراتيجيات المقترحة داخل هذه النماذج التدخلية، كما أن صرامة بعض الاستراتيجيات التي تقترحها بعض الطرائق مثل طريقة ABA لا تأخذ في الاعتبار اختلاف ذكاء الطفل المستهدف بالعلاج ولا تهتم بالسيرورات والنهج الذي يوظفه من أجل حل المشكلات التي تواجهه في حياته اليومية. إن الإقرار بنمطية الاستراتيجيات يحد من قبول اختلافات على مستوى التفكير ومعالجة المعلومات والتصرفات التي قد تظهر كميكانيزمات دفاعية تعبر عن رفض الطفل التوحدي لعناصر معينة داخل سياق محدد. في حين تتميز طريقة TEACCH بكونها تهتم بالنمو وتسعى إلى تيسير المهام التي تساهم في استكماله في أحسن الظروف، كما تراعي القدرات ونقاط القوة التي يتمتع بها الطفل التوحدي، بحيث تنطلق منها من أجل بلورة برامج تدخلية تستهدف توظيف وتنمية هذه القدرات من أجل تحقيق التكيف مع عناصر البيئة المحيطة به.

خاتمة

يعتبر الاطلاع على مجال الخدمات العلاجية المقدمة لفائدة الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد باختلاف طرقها ونهوجها، أحد المواضيع التي لا تثير اهتمام المعالج الذي تلقى تكوينا نظريا وتطبيقيا وفق نموذج علاجي معين، بحيث يؤدي الإغراق في التقنية وتملك المهارات المرتبطة بهذا النموذج أحد العوائق والموانع التي تحول دون تطوير الكفايات التدخلية لديه. فإيمانه المطلق بجدوى الاستراتيجيات التي يقدم عبرها خدماته تؤدي به إلى العمل بالصرامة المفرطة التي لا تراعي حدود قدرات المستهدف في العملية العلاجية. في حين أصبحت الموسوعية في مجال التدخل العلاجي أمرا مرغوبا تساعد المعالج على توسيع المدارك وتطوير المهارات والتحقق من مدى أخلاقية بعض الأساليب التي يتم الاشتغال بها معالتغييب التام لقدرات الطفل ذي اضطراب التوحد، إلى جانب عدم الوعي بالإمكانات التي تتيحها ظروف التدخلات العلاجية وعدم الإلمام بما قد يتيحه سياق العمل من فرص النجاح في المهام الموكولة للطفل المستهدف بالعلاج النفسي.

الاقتراحات والتوصيات

إن كانت النتائج التي تحققها النماذج العلاجية سواء ذات الأساس السلوكي أو ذات الأساس النمائي المعرفي متقاربة على مستوى بعض القدرات والمهارات التكيفية، فإن الجزم بنجاعة بنموذج علاجي تدخلي معين وشموليته مقارنة بنموذج علاجي آخر لا يزال في حاجة إلى القيام بالمزيد من الدراسات العلمية، حيث أبانت دراسة Kevin Callahan السالفة الذكر حول اعتماد طريقة ABA أو طريقة TEACCH عن تباينات بين الممارسين على مستوى مجالات تعلمية محددة، غير أن أخلاقيات التدخل قد تكون متدنية مع اعتماد طريقة ABA مقارنة بطريقة TEACCH. لذلك نوصي الممارسين في مجال الخدمات العلاجية المقدمة لأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد بضرورة:

–      قيام الباحثين في سيكولوجيا الإعاقة بأبحاث علمية حول نجاعة البرامج العلاجية التدخلية؛

–      الدراسة النقدية للبرامج العلاجية التدخلية المعمول بها حاليا من أجل تجويد الخدمات التي تقترحها؛

–      الاطلاع على مختلف النماذج العلاجية من أجل بلورة تصور واضح حول المهام الموكولة إليه؛

–      تنويع أساليب العمل وذلك من خلال توظيف استراتيجيات مختلفة مستمدة من نماذج علاجية مختلفة؛

–      احترام الطفل ذي اضطراب طيف التوحد كذات إنسانية مختلفة تتمتع بقدرات وبذكاء مختلفين؛

–      التكوين المستمر في مجال سيكولوجيا الإعاقة والاستفادة من نتائج أحدث البحوث العلمية؛

–      الانتظام في مجموعات متخصصة في الخدمات العلاجية من أجل ترصيد ونقل التجارب الناجحة في مجال التدخلات العلاجية؛

–      التفكير في وضع إطار مرجعي دولي ينظم ويؤطر عمل المتدخلين في الخدمات العلاجية المقدمة لفائدة الأطفال والمراهقين والراشدين ذوي اضطراب طيف التوحد، وذلك تفاديا للبس الذي يحدث أحيانا للمتدخل حول مدى أخلاقية وقانونية بعض الإجراءات التي توصي بها بعض النماذج العلاجية مثل ABA مثلا، بالإضافة إلى تمكين هؤلاء المتدخلين من أدوات علاجية مناسبة تيسر مهامهم(Mottron, 2010).

–      المساعدة في إجراء بحوث علمية حول مدى نجاعة برامج تدريبية تستهدف تنمية وتطوير كفايات التكيف لدى الطفل ذي اضطراب طيف التوحد.

 

لائحة المراجع المعتمدة

  1. Amy, M.-D. (2008). Comment comprendre et soigner la personne autiste. Perspectives Psy, 47.
  2. Baron, M.-P., & Makdissi, H. (2018). L’intervention en lecture interactive pour favoriser le développement du discours narratif : Exemple d’intervention auprès d’une enfant concernée par le TSA. La nouvelle revue de l’adaptation et de la scolarisation, N° 83-84(3), 131. https://doi.org/10.3917/nresi.083.0131
  3. Bonnet-Brilhault, F. (2017). L’autisme : Un trouble neurodéveloppemental précoce. Archives de Pédiatrie, 24(4), 384‑390. https://doi.org/10.1016/j.arcped.2017.01.014
  4. Bourgueil, O. (2018). L’accompagnement des personnes avec autisme grâce à l’Aba. Le Journal des psychologues, 353(1), 30. https://doi.org/10.3917/jdp.353.0030
  5. Callahan, K., Shukla-Mehta, S., Magee, S., & Wie, M. (2010). ABA Versus TEACCH: The Case for Defining and Validating Comprehensive Treatment Models in Autism. Journal of Autism and Developmental Disorders, 40(1), 74‑88. https://doi.org/10.1007/s10803-009-0834-0
  6. Cappe, É., Smock, N., & Boujut, É. (2016). Scolarisation des enfants ayant un trouble du spectre de l’autisme et expérience des enseignants : Sentiment d’auto-efficacité, stress perçu et soutien social perçu. L’Évolution Psychiatrique, 81(1), 73‑91. https://doi.org/10.1016/j.evopsy.2015.05.006
  7. Chamak, B. (2015). Interventions en autisme : Évaluations et questionnement. Neuropsychiatrie de l’Enfance et de l’Adolescence, 63(5), 297‑301. https://doi.org/10.1016/j.neurenf.2015.01.002
  8. Détruire l’objet pour ne pas le perdre : (2017). Le Carnet PSY, N° 206(3), 30‑34. https://doi.org/10.3917/lcp.206.0030
  9. Gilmer, É. (2016). Succès et limites. L’école des parents, N° 619(2), 43. https://doi.org/10.3917/epar.619.0043
  10. Goussot, T., Auxiette, C., & Chambres, P. (2012). Réussir la prise en charge des parents d’enfants autistes pour réussir la prise en charge de leur enfant. Annales Médico-psychologiques, revue psychiatrique, 170(7), 456‑460. https://doi.org/10.1016/j.amp.2010.11.021
  11. Granger-Sarrazin, C. (2013). La prise en charge des enfants autistes en France : L’expérience des familles. Laennec, 61(4), 26. https://doi.org/10.3917/lae.134.0026
  12. Layeb, S. (2022). La perception de la transition architecturale chez l’enfant avec autisme. Revue française de pédagogie, 214, 53‑69. https://doi.org/10.4000/rfp.11302
  13. Liratni, M., Blanchet, C., & Pry, R. (2014). Intérêt des groupes d’entraînement aux habiletés sociales dans la prise en charge de l’autisme avec retard mental modéré. Archives de Pédiatrie, 21(1), 20‑26. https://doi.org/10.1016/j.arcped.2013.10.021
  14. Lucchelli, J. P., & Maleval, J.-C. (2018). Autisme : Convergences et divergences. Lecture de deux modalites de prise en charge. Information psychiatrique, 94.
  15. Mazza, M., Pino, M. C., Vagnetti, R., Filocamo, A., Attanasio, M., Calvarese, A., & Valenti, M. (2021). Intensive intervention for adolescents with autism spectrum disorder : Comparison of three rehabilitation treatments. International Journal of Psychiatry in Clinical Practice, 25(1), 28‑36. https://doi.org/10.1080/13651501.2020.1800042
  16. Menendez, R. (2012). L’autisme : Vers une science au service de l’idéologie ? Psychanalyse, 24(2), 51. https://doi.org/10.3917/psy.024.0051
  17. Mottron, L. (2010). Que fait-on de l’intelligence autistique ?: Enfance, N° 1(1), 45‑57. https://doi.org/10.3917/enf1.101.0045
  18. Mukau Ebwel, J., & Roeyers, H. (2013). Approche psychoéducative transculturelle en faveur des enfants avec autisme : Une étude clinique à Kinshasa, rdc :Enfances & Psy, N° 59(2), 182‑192. https://doi.org/10.3917/ep.059.0182
  19. Saïas, T., Tereno, S., Pintaux, E., Bouchouchi, A., Hoisnard, G., Simon-Vernier, E., Milliex, M., Legge, A., Désir, S., Glaude, C., Hauchecorne, A., Ménard, C., Thomas, A., Hok, V., Tissier, J., & Greacen, T. (2010). Le développement précoce de l’enfant : Évolutions et révolutions : Devenir, Vol. 22(2), 175‑185. https://doi.org/10.3917/dev.102.0175
  20. Vallade, F. (2015). Autisme : L’écran des évidences éducatives: Éducation et sociétés, n° 36(2), 35‑49. https://doi.org/10.3917/es.036.0035
  21. Wacjman, C. (2016). Le grand imbroglio de l’autisme : Quel diagnostic pour quelle prise en charge ? psychologie clinique, 42, 137‑151. https://doi.org/10.1051/psyc/201642137

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *