بروفيسور/أبكر عبدالبنات آدم إبراهيم

مدير جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم الاسبق- السودان

الأمين العام المساعد لاتحاد الجامعات الأفروأسيوية- السودان

abaker2012@live.

+249912610599

الملخص

تناولت الدراسة أثر العولمة التي تقودها بعض الدوائر والمؤسسات الغربية على الهوية الثقافية الإسلامية، والتي تهدف للنيل من سمات الحضارة الإسلامية التي تحقق على أيدي العلماء العرب والمسلمين إبان فترة القرون الوسطى، والتي على إثرها ظهرت النهضة العلمية التي شهدتها المنطقة. كذلك هدفت الدراسة إلى إمكانية معرفة مقدرات العقل العربي أو المسلم في استيعاب مفهوم الهوية الإسلامية، والمحافظة على كينونة المجتمع بكل أطيافه. وقد خلصت الدراسة إلى أن الغرب الأوروبي ليس له الرغبة الحقيقية في معرفة الإنتاج العلمي للعرب والمسلمين؛ والوقوف على العوامل الموضوعية والمنطقية لخصائص الهوية الإسلامية التي ساهمت في إثراء التفكير الناقد السليم في الدعوة إلى قبول الآخر، والمحافظة على الوحدة الوطنية في مواجهة كل عوامل الضعف والوهن الذي تعيشه الأمة اليوم. استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي والاستنباطي للكشف عن خطورة العولمة في المحافظة على الهوية الثقافية.

الكلمات المفتاحية: العولمة- الهوية- الثقافية- التغريب- الاستلاب – التنوع.

 

Globalization and its impact on the Islamic cultural identity

“A descriptive and analytical study”

Prof/ Abaker Abdelbanant Adam Ibrahim

Former Vice-chancellor of the University of the Holy Quran and Taseel of Sciences – Sudan

Assistant Secretary General of the Association of Afro-Asian Universities – Sudan

 

Abstract

The study examined the impact of globalization driven by certain Western circles and institutions on Islamic cultural identity, to undermine the characteristics of Islamic civilization achieved by Arab and Muslim scholars during the Middle Ages, which led to the emergence of the scientific renaissance in the region. The study also aimed to understand the capabilities of the Arab or Muslim mind in grasping the concept of Islamic identity and preserving the integrity of society in all its facets. The study concluded that Western Europe does not have a genuine desire to understand the scientific contributions of Arabs and Muslims, nor to explore the objective and logical factors of Islamic identity traits that have contributed to enriching sound critical thinking in promoting acceptance of the other and preserving national unity in the face of all factors of weakness and vulnerability that the nation is experiencing today. The researcher used a descriptive analytical and deductive approach to reveal the dangers of globalization in preserving cultural identity.

Keywords: globalization, identity, cultural, alienation, assimilation, diversity.

 

مقدمة

العولمة حركة تاريخية مستمرة مع استمرار المجتمعات البشرية، وتشكل في تكوينها مجموعة من النظم السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية، التي تقارب اندماج وانصهار العالم مع بعضها البعض، وفق تطور وسائل التواصل والاتصال الاجتماعي، مع مراعاة طبيعة القوة التي تكتنفها الدولة المعنية لتطوير ذاتها. فالعالم يواجه اليوم العديد من التحديات منها التحدي الاستعماري والعلماني والرأسمالي والشيوعي والتبشيري والتنصيري، ومن أخطر التحديات في هذا المضمار هي العولمة الثقافية Globalization Cultural. ولعل ظاهرة العولمة من الظواهر الحديثة التي تواثقت ظهورها مع التقدم العلمي والتكنولوجي والمعرفي بعد تكامل أجزائها من خلال قيام الثورة الصناعية وتكالب الاستعمار الأوروبي على العالم النامي؛ وقد بدأت سطوتها مع تطور الدراسات الاستشراقية وتياراتها المختلفة في الساحة الدولية، وظهور ما يعرف بالتعددية القطبية الواحدة. أما اليوم فقد ظلت مفهوم العولمة بالغة الدلالة والتعقيد في كثير من مسارات الحياة. وبالرغم من خطورة هذه الظاهرة وشموليتها في كافة مناحي الحياة، إلا إننا في حاجة لمعرفة أثر هذه الظاهرة في الهوية الثقافية الإسلامية؛ حتى نتمكن من تجاوز تعقيداتها الفكرية والثقافية، وضرورة الكشف عن مخاطرها الجمة حتى نستطيع أن نبتعد عن موضع الخطر الآني والمستقبلي.

مشكلة الدراسة: بالرغم من التقدم العلمي في بناء جسور التعايش بين الأمم إلا أن الأوساط الغربية كثيراً ما يسعى إلى التنكيل بأهمية الهوية الثقافية للإسلام والمسلمين في كثير من أحايين، الأمر الذي دفع بعض العرب والمسلمين إلى تشويه صورة الحضارة الإسلامية” المستغربين”.

أهمية الدراسة: تكمن أهمية الدراسة في محاولة إلقاء الضوء على الفلسفة التي تقوم عليها العولمة في هدم الهوية الثقافية للمسلمين من خلال الدراسات الاستشراقية نحو العالم الإسلامي.

اهداف الدراسة: تهدف الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:

  1. الوقوف على معرفة أثر العولمة على الهوية الإسلامية.
  2. الكشف عن خطورة نظريات العولمة حول الفكر الإسلامي المعاصر.
  3. بيان أن للعولمة دور فاعل في إسقاط العلاقة بين الحضارة الإسلامية والغربية.

منهج الدراسة: استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي وأحياناً الاستنباطي لمعرفة دور العولمة في المحافظة على كينونة الثقافة الإسلامية.

المبحث الأول: قراءة في مفهوم العولمة: العولمة Globalization مصطلح يُعبّر عن ظواهر إنسانية قديمة بمنظور جديد، على اعتبار أن العالم هو بمثابة قرية إلكترونيّة صغيرة(كوكبة) تترابط أجزاؤها عبر الأقمار الصناعيّة والاتصالات الفضائيّة، والقنوات التلفزيونيّة، وقنوات التواصل الاجتماعي. وقد ورد عند علماء التاريخ أنّ أصلها وبداياتها تعود إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي أي بدأت مع بداية الاستعمار الغربي لآسيا وأوروبا والأمريكيتين، ثمّ تطورت مع تطور النظام الاقتصادي الحديث في أوروبا، الأمر الذي أدى إلى ظهور نظام عالمي معقد اتصف بالعالميّة؛ ثمّ أُطلق عليه اسم العولمة. وقد رأى آخرون أن العولمة تقوم على أربع عمليات أساسيّة وهي المنافسة الكبيرة بين القوى العالميّة العظمى، وانتشار عولمة الإنتاج والانتاجية، وتبادل السلع، والابتكار والإبداع التكنولوجي، والتحديث المستمرّ(محزون2000: 23).

العَوْلَمة لُغةً: تُعرَّف العولمة  Globalizationلغة بأنها مصدر الفعل عَوْلَم، وهي حريّة انتقال المعلومات، وتدفق رؤوس الأموال، والأفكار المختلفة، والتكنولوجيا، والمنتجات والسلع وغيرها.

أما العَوْلَمة اصطلاحاً: اختلفت الآراء حول تعريف العَوْلَمة، وذلك بسبب غُموض مفهومها، فأصبح لكل تعريفه الخاص بهم، إلى أنْ تمّ تقسيم التَعريفات جميعها إلى ثلاثة أنواع رئيسيَّة هي: ظاهرة اقتصاديَّة، وثورة تكنولوجيَّة، وثقافية واجتماعية، فالغالبية منهم يستخدمون مفهوم العَوْلمة للإشارة إلى عوْلَمة الحياة الاقتصادية، وتحويلها إلى اقتصاد عالَمي. ويرى زروق(1989م:4) أن العولمة هي بمثابة القرية الكونية Universal Village التي يعتبر فيها العالم مترابطاً عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، وتعتمد على بعضها البعض اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً، حيث لم يصلح أن يكون الإنسان ممزقاً بين عالمين منفصلين تحكمه قوانين الطبيعة Natural laws، والثاني تحكمه قوانين الخليقة Creation laws. وبشكل عام يمكن القول إنّ العولمة هي نظام عالمي قائم على العقل الإلكتروني والثورة المعلوماتيّة التي تقوم بدورها على الإبداع التقني اللامحدود دون وضع أيّ اعتبار للأنظمة والقيم والثقافات، والحدود الجغرافيّة، والسياسيّة. وبعبارة أخرى، العولمة تُعني الانتقال بالمعارف والعلوم من المجال الوطني أو القومي إلى المجال العالمي أو الانتقال من مفهوم الدولة القطرية إلى مفهوم الدولة العالمية.

المبحث الثاني: مفهوم الثقافة والهوية: يعتمد هذا المبحث على مطلبين: مفهوم الثقافة، مفهوم الهوية الثقافية.

المطلب الأول: مفهوم الثقافة: الثقافة لغةً تعني الفطنة والنشاط والحذق، وثقف الرمُح أي ساواه وعدله (الخطيب1984م:32). فالثقافة من أكثر المصطلحات استخداماً في الحياة المعاصرة، فإن استخدام هذا المصطلح(Culture) في اللغات الأوروبية تجعله يقابل حالة اجتماعية شعبية أكثر منها حالة فردية، فتطلق الثقافة على جماعة أو مجتمع بشري معين، بغض النظر عن مدى تطوره العلمي أو مستوى حضارته وعمرانه. وعلى هذه الشاكلة، تختلف مفهوم الثقافة عند العرب باعتبار ان هناك فرق بين المثقف والمتحضر. فالمثقف هو الذي يتعدى إحساسه الذاتي للإحساس بالآخر، أما المتحضر هو الذي يسلك سلوكا يلائم البيئة الذي يعيش فيها، ولكي يكون الإنسان متحضراً لابد أن يكون مثقفاً. وبمعنى آخر، الثقافة هي الحذق والتمكن، وثقف الرمح أي قومّه وسواه، ويستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناَ من العلوم والفنون والآداب، فالثقافة هي إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات الحياة؛ فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة زاد معدل الوعي الثقافي لديه، وأصبح عنصراً فاعلاً بناءً في المجتمع وهكذا.

أما الثقافة اصطلاحاً، أختلف العلماء في تفسير الثقافة؛ فمنهم من يرى بأنها تُعني الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والقانون والعُرف وما يكتسبه الفرد من مجتمعه. وهنالك من يروى أن الثقافة تمثل طرق الحياة المختلفة من سبل كسب العيش والحياة الروحية والفكرية التي تساهم في ترقية وتطوير الإنسانية. كما عرفت في إحدى مؤتمرات اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة) بأنها” جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها”(عليان1401هـ:3). وتتكون الثقافة من العموميات والتي تتضمن اللغة والدين والمعتقدات والقيم الاجتماعية من العادات والتقاليد والأذواق، أما الخصوصيات فهي الظواهر التي تقل فيها مشاركة الأفراد كالمهن الأساسية. وخلاصة القول، فالغرب الأوروبي يستخدم مصطلح الهوية الثقافية في الإطارين المادي والروحي للوصول إلى المجتمعات الفقيرة والضعيفة، فبدأ في دراسة مقومات الثقافة الإسلامية، لتحقيق مبتغاه في التبشير والتنصير على السواء.

 المطلب الثاني: مفهوم الهوية لغةً واصطلاحاً: لغة تطلق على حقيقة الشيء؛ وتميزه عن غيره من الأشياء، وتسمى وحدة الذات (مدكور،1403هـ:208).

أما اصطلاحاً: هي حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره، فهي ما يوصف به من صفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية. فالهوية بهذا المفهوم هي عبارة عن مجموعة من القيم والسلوك، والتي تكون مرجعيتها الاعتقاد الديني أو هذا بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية والفكرية والسياسية، وبعبارة أخرى هي:” تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافة”. لذلك يرى الباحث أن الهوية يطلق على معانٍ ثلاثة هي: التشخيص، والشخص نفسه، والوجود الخارجي.

فالهوية الثقافية هي مجموعة من السمات الروحية والفكرية والقومية التي تميز جماعة عن أخرى، وبل شاملة لطرائق الحياة كالعادات والتقاليد والمعتقدات والآداب والقيم والبعد التاريخي باعتباره عامل جوهري في مفهوم الثقافة. لذا يُعرّف الهوية الثقافية من جهتين: أولاً: خارجية؛ بدأت مع ظهور العولمة، وما تمثله من محاولة لتنظيم أو إعداد نظام عالمي جديد بكل ما يترتب عليه من هذا النظام من إيجابيات أو سلبيات.

ثانياً داخلية؛ وتتمثل في المقاربات العلمية والموضوعية التي تتعلق ببيئة الفرد.

فالهوية الثقافية لا تكتمل إلا إذا كانت مرجعيتها وجود الوطن والأمة والدولة بوصفها التجسيد القانوني للوحدة الوطنية، فكلما يمس قوة الأمة يمس الهوية الثقافية. ولعل أبرز ما يجسد تأثير العولمة على ثقافات المجتمعات الأخرى هو الانتشار الواسع والكبير لكثير من الشركات العالمية في العالم الثالث؛ والتي تعتبر رمز الإمبريالية والرأسمالية الاشتراكية.

المبحث الثالث: أثر العولمة على الهوية الإسلامية: يرى العديد من الفلاسفة والكُتّاب أن العولمة الثقافية هي بمثابة دعوة الشعوب المختلفة للترابط وفق المنظور الغربي الديمقراطي أو الرأسمالي. وفي هذا يشير “جان بيترس” إلى أن العولمة الثقافية تنحصر في التهجين بالموروثات الغربية سواء في العادات أو التقاليد، بحجة أنه من الممكن الكشف عن الاختلاط الثقافي عبر القارات والأقاليم من خلال قراءة التاريخ القديم أو الحديث(زروق،1998:14). فالإشارة هنا إلى الممارسات الدينية واللغة والثقافة كمحركات فكرية أو أيدولوجية غربية صنعها الاستعمار الأوروبي للبلدان النامية(أسيا وأفريقيا). وخير مثال لذلك، التجربة الهندية التي ظهرت تأثيرها الثقافية بشكل أكثر فذاذة طوال تاريخها الطويل، وعلى ضوء تلك السياسات سعى المستعمر إلى إيجاد موطئ قدم جديد في الدول شرق الأوسطية؛ بحجة التغيير لما هو أفضل، واكتساب مناطق نفوذ جديدة للهيمنة والسيطرة، وذلك باستخدام وسائل تكنولوجية حديثة للتعريف بالثقافة الغربية ومقوماتها والتي منها الحداثة والذكاء الاصطناعي. ولتحقيق تلك الغايات والأهداف شجعت الغرب على إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات وأقسام باسم الدراسات الإسلامية، أو الدراسات الشرقية للبحث عن مقومات الثقافة الإسلامية وحضارتها(Serno,1970:176). وقد حفلت الكتابات العربية والأجنبية بالكثير من البحوث والدراسات التي تناول موضوع الهوية الثقافية، التي كثيراً ما تتسم بالشمولية في تكوينها بناءً على متغيرات جيومرفولوجية وعوامل أنثروبولوجية، ولا سيما المتغيرات المجتمعية التي طرأت في فترات زمنية متلاحقة، والتي تشكل طبيعة الوعي البشري في ظرفيه الزماني والمكاني.

وقد دخل مفهوم الهوية إلى الفكر العربي في نهاية القرن التاسع عشر؛ وبداية القرن العشرين، فقد سعى الغرب الأوروبي لإيجاد مترجمات جديدة لمعرفة مفاهيم الهوية من خلال إثراء الدراسات الاستشراقية في الجامعات الشرق أوسطية، وهيمنة المستشرقين على المصطلحات الفكرية المعاصرة التي تتحدث عن تاريخ الثقافة الإسلامية، ودور علماء المسلمين في الإسهام في البحث العلمي، خاصة عندما ادرك الباحثين العرب أهمية الهوية الثقافية متأثرين في بعلاقات الهيمنة الغربية المفروضة عليهم حيث بدأوا يبحثون عن مضامين هويتهم في الوقت الذي بدأ الغرب في تدويل قضايا الهوية عبر مستعمراتهم المنتشرة في دول العالم الثالث بدافع الاستعمار والاستلاب الثقافي(أبو عنزة،2011:44). فالهوية الثقافية هي إحساس الفرد بأهمية الذات؛ في ظل التعاون مع الجماعة، كما أنها نتيجة الوعي الذاتي وأحقيته في ممارسة حقه الطبيعي في الحياة الثقافية والفكرية، في ظل معرفة نسبه ووطنه، كل هذه البيانات تشكل جزء من انتماءاته الشخصية. وعلى ذلك تكون الهوية حية عندما يشعر الإنسان بأنه هو الفرد والجماعة والمجتمع على سواء له حقوق وعليه واجبات. وبالرغم من تلك الميزات التي تمتاز بها الثقافة الإسلامية لم يمنع الغرب في السعي وراء استلاب الهوية العربية والإسلامية، خاصة عندما أدرك أن الناس في هذه البلدان لا يعرفون تقييم أنفسهم تقييماً صحيحاً، فهم منقسمون إلى إيدي سبأ كل يريد لنفسه العلو والتعالي، ولا يدركون قيمة واعتصموا بحل الله جميعاً، أو كونوا عباد الله إخوانا. فالغرب في كلياته هو عبارة عن جرثومة يحيط كل من هو غافل في المحافظة على موروثه الثقافي والفكري، فالعقلاء هم الذين يضعون الدواء اللازم للخروج من هذه المعضلة، وغير الدواء هو المطالبة بحق المواطنة، والتحرر من قيود المستعمر. عليه، تقوم هوية كل أمة عن ما يميزها عن غيرها من الأمم كدينها ولغتها وقوميتها وتراثها، ومعرفة المنتوج الحضاري بل هي نوع من مستوى التفكير وفضاءاته ممثلة في السلوك الاجتماعي الجمعي والإبداعي والابتكاري؛ المؤسس على تلبية خاصية الأداء؛ والانجاز المهني الفردي من خلال تطوير القدرة الذاتية للمجتمعات، والشعور بالوحدة الوطنية الذي يحقق المصالح العليا للجميع. وترتبط العولمة بالهوية الثقافية من خلال نشر الهوية الغربية، وقد ظهر ذلك جليّاً في وسائط الإعلام المختلفة في شكل رسائل أو أفلام أو مسلسلات أو حوارات أو مناظرات أو نقاشات أو في عقد المؤتمرات والورش، وفي صناعة المناهج وغيرها. ومن خلال تلك السياقات، فإن مفهوم الهوية يتضمن درجة عالية من التعقيد والصعوبة، فهوية الإنسان المسلم تعني الإيمان بعقيدة هذه الأمة، والحفاظ على مقومات الدين الإسلامي التي تقوم أركانها على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأقوال السلف الصالح، فالهوية تعني الانتماء الكامل، بكل أبعاده المادية والمعنوية، ولا تختصر على الانتماء القبلي أو الجهوي أو الجغرافي، بقدرما هي مفهوم ذات جذور تتناول قيم اجتماعية وثقافية متنوعة، والاعتزاز والتمسك بها، والشعور بالاستقلالية الفردية والجماعية، والقيام بحق الرسالة في البلاغ والتبليغ والشهادة.

وقد سعى الغرب في اعتبار العولمة الفكرية والثقافية بمثابة مشروع استشراقي شامل لصياغة التراث والآثار الإسلامي التي تُغطِّي مُعظم جوانب النّشاط الإنسانيّ في العالم الثالث، وتستمد العَوْلمة الثَّقافية خصوصيتها من تَطوُّر الأفكار والقِيَم والسُّلوك، ومن خلال انفتاح الثَّقافات العالَمية، وتأثُّرها على الواقع الاجتماعي، وما نشاهده اليوم من الانفتاح يمثل محل السؤال فلم يحدُث له مثيل في أي فترة من فترات تّاريخ البشرية. فالعَوْلمة الثَّقافية تعني نقل التعزيزات الشخصية للإنسان من البيئة المحلية إلى المحيط العالمي، بهدف زيادة التفاعل بين مكونات المجتمعات البشرية، وفق المنظومة الغربية، وإلى سيطرة الثَّقافات الأوروبية على حساب الثقافة الإسلامية، ونشر قِيَمها وعاداتها وتقاليدها. فلم تقتصر العولمة على البعد المادي للثقافة الإسلامية فقط؛ بل تعدت ذلك إلى هيمنة الثقافة الغربية عبر ممارسة التنصير المادي والاجتماعي والثقافي مستفيداً من الكوارث الطبيعية والتخلف العلمي والمعرفي الذي يحاك بالعالم الثالث، والاهتمام بالعادات والتقاليد والقيم الغربية؛ على اعتبار أن الثقافة الإسلامية غير مواكبة للحداثة. لذا لا تعترف العولمة بالحدود الجغرافية لأي بلد، بل جعلت من العالم كوكبة صغيرة لها ارتباط ثقافي بين المجتمعات والأعراق المختلفة، وبمعنى آخر هو استلاب للأفكار والعادات وتأويلها بحكم الواقع الغربي، مما جعل الكثير من الشعوب والقوميات يعترفون بالثقافة الغربية لأنها تتحدث عن الحداثة، وجعل الفكر الإسلامي قديم لا يواكب التطور المنظور، ولا يدركون أن العمليات الانتقالية الثقافية بين المجتمعات تختلف من حيث جغرافية الزمان والمكان، ومن درجة التأثير والتأثر. لذا يرى كثير من علماء الاجتماع أن نظرية الهيمنة الثقافية والإعلامية على الدول النامية يشكل جزء من التكالب الغربي على الإسلام والمسلمين، ومن هذا المنطلق نستطيع القول بأن الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية والجمعيات التبشيرية والتنصيرية كلٌ في موقعة يسعى إلى تغلغل في المجتمعات الإسلامية لزرع بذور الفتنة الثقافية للهوية الإسلامي؛ وإيجاد موطئ قدم للسيطرة والهيمنة الفكرية للمحافظة على الأمن الخارجي في المنطقة، وهذا ما نلاحظه في الوزارات الخارجية للدول الغربية، هذا بالإضافة للمؤتمرات التبشيرية والتنصيرية التي تعقد في أنحاء العالم والتي تعرض فيها كل ما يخطر من بال المشاركين في هيمنة الثقافة الغربية على المجتمعات الإسلامية، فالعولمة الثقافية هي بمثابة توحيد أشكال التعبير الثقافي في جميع أنحاء العالم، والدعوة نحو التجانس والتواؤم الذي يجعل التجربة الإنسانية في كل مكان شبيه بالثقافة الغربية.

وبالرغم من أن العالم اليوم يتنسم بالتقدم التكنولوجي والعلمي والمعرفي الذي لعب دوراً مهماً في تكييف الثورة المعلوماتية والإعلامية من خلال إحداث تدفق المعلومات(الغزو الفكري والثقافي) إلا أنها تشكل عقبة في طريق زيادة الوعي المعرفي في كثير من الأحايين وخاصة الأطفال مما حدا إلى تشويه صورة الهوية العربية من خلال استخدام وسائل حديثة في تصوير بعض المقدسات الإسلامية. وعلى ذلك فإن استخدام تلك الوسائط الإعلامية للإبداع والابتكار فقد باتت تشكل أحد عوامل التحدي الفكري والثقافي في كل البلدان العربية بعصرها؛ مخترقاً كل الموروثات التربوية والتعليمية، الأمر الذي أدى إلى تغيير القيم السلوكية لدى المرأة والطفل العربي. وقد يحتاج الطفل العربي إلى تكنولوجيا مغايرة يعالج بها مشكلاته الثقافية واللغوية، أو بناء قيم لا تخرج عن الأصالة العربية والإسلامية.

عليه، سعى الغرب للاهتمام بالإعلام لفرض سيادته قيمه ومفاهيم الدَّولة القومية، وللعَوْلمة الإعلامية دور كبير في تغطية الأخبار العالَميَّة من خلال الفضاءات والقنوات الإذاعية والتلفزيونية، عبر موجات طويلة ومتوسطة وقصيرة. أما اليوم تطور فكرة عولمة الإعلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أصبح للإعلام دور كبير وفاعل في المُجتمعات العربية والإسلامية، خاصة في نقل الأحداث والأخبار. فالعولمة في مفهومها التكنولوجي تعني سرعة الاستئثار باستخدام الوسائط التكنولوجية الحديثة التي تتميز بالسرعة على نقل الأحداث التي تحقق الأهداف المعلنة وغير المعلنة، مع سهولة الوصول عند الجمهور المستهدف، وذلك من خلال شراء الأدوات التكنولوجية بصورة تلقائية، أو فرض استخدامها في الأغراض التي تحقق المصالح الغربية. وفي خضم هذا التطور اكتسبت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة أهمية ومكانة كبرى في ثورة الاتصالات المعلوماتية التي لا تقل مكانة عن أهمية اختراع الطباعة، والثورة الصناعية في القرون التي خلت. وعلى ضوء تلك المعطيات ظهرت آثار تكنولوجيا الاتصالات الحديثة ودورها في تقديم المعلومات من خلال استراتيجية كل دولة في بناء علاقاتها الدولية ثم تطورت هذه الفكرة داخل منظومة وأروقة المنظمات الدولية التي تتحدث عن كيفية صياغة إنسان العالم الثالث في ضوء تطور مفهوم النظام العالمي الجديد (Andrew,2007:190). وبالرغم من التباين الواضح في مفهوم الإعلام الدولي على مستوى المؤسسات الدولية إلاَّ أنَّ ممارسته في الإطار الدولي بغية مسايرة العالمية، يحتاج إلى التغيرات الثقافية والفكرية التي تطرأ في المجتمعات الغربية في سبيل الوصول إلى عصر يمكن ان يستوعب فيها المجتمعات التغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية فكانت عصر التنوير (1600-1800)، أمّا اليوم فإننا في أمس الحاجة لمعرفة كيف يحدث التفاعل والتفاهم من خلال التغيرات الأساسية التي طرأت على الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسة والتجارة والتربوية وغيرها هذا بالإضافة إلى التغيرات في مفاهيم البيئة المجتمعية. وقد لعبت المؤسسات الإعلامية المختلفة دوراً كبيراً في صناعة وصياغة الرسائل الإعلامية التي توافق حاجة الدول الغربية، والمساس بحق الدول النامية دون أساس منطقي. لذلك يقوم الإعلام الدولي على أساس النظرية التبعية الغربية التي تفترض المشاكل وتحللها دون اعتبار لحقوق السيادة الوطنية. كما تعمل النظرية التبعية على تحليل العلاقات بين الدول المتقدمة والدول النامية على أساس إشباع حاجات الدول المتقدمة عن طريق السيطرة والسلطة واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية. ومن المهم الإشارة هنا أيضاً إلى أن هذه الوسائل لها تأثيرات دولية على المناخ الإعلامي داخل وخارج حدودها الوطنية، وبالتالي من الضروري بمكان فهم تاريخ تطور النظام العالمي الجديد للمعلومات والإعلام. وفي هذا؛ يشكل يقوم الاستلاب العقلي على الآتي:

* دراسة وتحليل الإطار التاريخي للمجتمعات التي تقطن في بقعة واحدة، أو معرفة مدى المواءمة بين الرسالة الإعلامية المرسلة والمستقبلة، وهنا يتطلب معرفة بيئة، وثقافة المتلقي وعلاقاتها بالمجتمع.

* معرفة دور القوى السياسية السائدة في المجتمع العربي، والعوامل التي تكرس ثقافة التخلف والأمية والعنصرية في المنطقة الواحدة.

فالتحيز إلى القوى الأكثر فاعلية، أو الذي يلعب دوراً محورياً في المجتمع أو استغلال الكوارث الطبيعية أو النزاعات القبلية وغيرها، قد ساهمت بشكل كبير في انتشار ظاهرة العولمة، وبناءً على تلك المعطيات يمكن القول إن القنوات التلفزيونية؛ والفضائية تلعب دوراً كبيراً في صياغة المجتمعات البشرية من خلال بث قيم وسلوكيات نفسية مغايرة عن الثقافة الإسلامية، الأمر الذي أثرت في تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي، سواءً على نطاق الأمن الأسري، أو السلم الاجتماعي. كما دفعت العولمة الإعلامية إلى تشجيع ثقافة ممارسة العنف الجنس بشكل يتناقض مع عفة ديننا الحنيف. ومن وجهة أخرى فإن العولمة الإعلامية قد لا تتنافى مع فكرة التنوع والتعددية؛ ولكن يخالف مقاصد التشريع الإسلامي في التطبيق، هكذا تبدلت هذه المفاهيم وأصبحت وباءً وشراً مستطيراً على المجتمعات المسلمة، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى القضاء على التعايش السلمي والتآلف والتعاون المشترك بين الأمم والشعوب. كل هذه العمليات تم نتيجة لسيطرة الإمبريالية الغربية والصهيونية في ظل غياب الترابط الثقافي بين العربية والإسلامية، وهجرة العقول إلى الغرب، الأمر الذي أفضى إلى تدمير الهوية الإسلامية، وظهور ما يعرف بثقافة الاستهلاك الغربي الغير متجانس في كثير من الأحايين. ومن وجهة نظر أخرى، هنالك من ينظر إلى أن “صدام الحضارات” هو بمثابة ردة فعل عكسية على العولمة الثقافية. وهنا يؤكد صموئيل هنتنغتون على حقيقة أنه في حين أن العالم يصبح كقرية كونية صغيرة، ومترابط بشكل أكبر، يقوم التفاعل بين الشعوب والثقافات المختلفة بتعزيز الوعي الحضاري، وهذا بدوره ينشط الخلافات بين الشعوب والأمم، فبدلاً من التواصل مع المجتمع الثقافي العالمي، تقوم عملية العولمة الثقافية بالزيادة من حدة الاختلافات في الثقافة مما يجعلها مصدراً للصراعات والنزاعات والحروب(هانتغتون، بدون تاريخ:16). فالكوارث بأنواعها المختلفة يمثل مسرح للاختلالات الثقافية والفكرية، لأنها أصبحت في كثير من الأحايين محطة من محطات التبشير لنشر الثقافة الغربية، سواءً عبر تكنولوجيا المعلومات أو عبر تقنية الإلزام البيئي، فالعالم الثالث تشكل اليوم صورة نمطية لتنوع الثقافات والبيئات؛ حيث يضم مجموعة من اللغات والأعراف المتعددة تختلف باختلاف الألسن والقيم. وبالرغم من تلك المحددات فقد اتجهت بعض البلدان النامية نحو خلق تنمية بشرية مستدامة ولكنها برؤية غربية تضمن للجميع في جو من التعاون المشترك، وذلك من خلال استغلال التنوع الثقافي لصالح جهود التنمية المستدامة، ومحاربة الفقر والأوبئة التي تجتاح مناطق عديدة من العالم النامي، وقد استغل الغرب ثقافة التنوع داخل المجتمع الواحد كحافز لاستلاب الفكري والثقافي، عن طريق خلق برنامج وأنشطة تحقق طموحات المستهدفين. فالعولمة الإعلامية هي أداة للهيمنة والسيطرة في حالة الضعف والانكماش أو الانطواء على الذات. فالتطور ليس بالضرورة ضد البعض، وإنما هو لصالح من يتحدى الصعاب، فإذا كانت الاستخدام سليماً يمكن المحافظة على الهوية الثقافية في ظل تعاطي إيجابي مع ظاهرة العولمة، ومع المستجدات الدولية الأخرى التي تساهم في نقل المعارف والعلوم بصورة أكثر قناعة(الخولي،1998:87).

وقد ظهرت ذلك جليّاً من خلال المناقشات الحادة حول حقوق المرأة(سيداو) على حساب الحضارة الإسلامية بحجة أنها غير مواكبة للتقدم البشري، وقد شكلت تلك النداء من خلال وجهة نظر بعض المؤسسات الكنسية(الفاتيكان) التي تدعي العالمية والرسولية، وقد جاءت تلك النداءات مغاير عن  وجهات النظر الإسلامية التي تدعو إلى الكرامة الآدمية، دون استهداف القيم الدينية لكل دين سماوي، ومثل هذه المواقف شكلت منعطفاً خطيراً في الأوساط الدولية، ومغايراً للاتجاه الذي تبنته منظمة اليونسكو الهادف إلى المحافظة على تباين الثقافات والحضارات، كما كشف الموقف عن أن ممثلي الدول الاسلامية في المنظمات الدولية هم  في الواقع يمثلون ثقافة وقيم بلدانهم بقدر تعبيرهم عن ثقافاتهم بعيداً عن القيم الغربية التي تربى عليها المعاهد والجامعات الغربية. فالموقف برمته يدعوا إلى التنبيه بخطورة المرحلة في التعامل مع مفهوم العولمة الثقافية. فالدعوة إلى الاهتمام بالمشاركة الإيجابية في العمل الدولي، والتعبير عن ثقافة وقيم الدول، ثم المتابعة المبكرة لما يجري الإعداد له ضرورة واقعية. وكثيراً ما تسعى العولمة الثقافية على تفكيك الفاعلين الاجتماعيين، وتبني الفئة الساحقة لنشر ثقافة الخلاف والاختلاف. وعلى ذلك فقد أثرت سياسة التفكيك الغربي في السماح للنخب الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية من التحرر من الالتزامات الدينية، وتحويل مجتمعاتهم إلى أداة لتحقيق أجندة خاصة تناقض الأجندة الوطنية، وتتفق مع الأجندات الخارجية.

فالعولمة الاجتماعية أو الثقافية في مفهومها الأخلاقي تعني إطلاق العنان بلا قيود لنوازع الجنس، والتحلل السلوكي، وتدمير القيم الإنسانية، وتدمير الأسرة، وإشاعة الشذوذ. بل هي محاولة السعي في بناء عالم مفتوح الرغبات والشهوات، أساسه توحيد المعايير الكونية، وتحرير العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية، وتقريب الثقافات، واستخدام التقدم التكنولوجي في تغيير قيم السلم الاجتماعي. وبهذا المفهوم يمكن أن تحقق الأهداف بين القوى غير المتكافئة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بحيث يستطيع الطرف القوي فرض هيمنة التغيير على الطرف الآخر. وهذا ما نلمسه بين القوى الغربية والعالم الثالث، فالتغيير أخذ منحاً واحداً. فالعولمة الثقافية يعني عملية انتقائية تسعى إلى تقسم العالم إلى عالمين: عالم القوى الكبرى ذات المصالح المتبادلة، والمؤسسات العالمية، والشركات العملاقة التي تمتلك طاقات تكنولوجية عالية الدقة، وعالم الدول النامية أو الضعيفة التي لا تملك الطاقة التكنولوجية، وتشكل دور التابع المطيع للعالم الأول، فالقوي يستنزف الضعيف، في ظل غياب التكافؤ في التقنية والاتصال.

وفي ذات السياق، يمكن أن على الدول النامية أن تدرك خطورة العولمة الثقافية التي تحاول أن تفرض نفسها من خلال بسط النفوذ السياسي، والهيمنة الاقتصادية، والتغلغل المعلوماتي والإعلامي التي يمارسها الدول الغربية، كذلك ضرورة التحكم في الآثار السلبية التي تنجم من خلال التأثير والتأثر، ومضاعفة توجيه الخطاب الإعلامي والديني للمحافظة على كينونة المجتمعات العربية والإسلامية، أيضاً ضرورة الخروج من ويلات مرحلة الاستلاب الفكري إلى مرحلة التقدم العلمي بالتفكير السليم في كافة مجالات الحياة المختلفة.

 

المبحث الرابع: خصائص ومصادر الهوية الثقافية الإسلامية: يرى كثير من علماء المسلمين أن الهوية الإسلامية هوية متميزة عن غيرها من الهويات، وهذا التميز هو الذي يعطي كل جماعة أو أمة مقومات يمكن أن تشكل رمزيتها ويحفظ لها سمات ثقافتها وحضارتها. لذا فهي تستوعب كل متطلبات حياة المسلم في حله وترحاله، وكل مظاهر شخصيته المادية والمعنوية، لقوله تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، عليه، فهدف المسلم في هذه الحياة هو أن يعد نفسه لأسباب النجاح، وخاصة عندما يوفر لنفسه مقومات حمل أمانة الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وقيادة البشرية لما فيه الخير؛ والسعادة في الدنيا والآخرة. فالهوية الثقافية هي بمثابة سياج الشخصية وذاتيتها، وبدونها يتحول الإنسان إلى كائن غير اجتماعي، فإذا توافقت هوية الفرد مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء هو جوهر الاستقرار الفكري والثقافي، أما إذا اصطدمت الهوية بالنوازع النفسية والمزاجية كانت الأزمة والاغتراب هو سمة المجتمع. وعلى ذات النسق، فالهوية التي تتبناها النفس، وتعتز بالانتساب إليها والانتماء لها، والانتصار لها والموالاة والمعادة على أساسها تتحدد فيها شخصية المنتمي، وعلى أساسها يفاضل بين الخصائص الإنسان في ذاته وفي المجتمع من حوله. فلكل حضارة هوية يتمثل في منجزاتها المادية والبشرية؛ والدلالات العقلية، وكل ما يساعد على رفاهية العيش المشترك، ومتاع الحياة وزينتها، أما روح الثقافة فهي مجموعة العقائد والمفاهيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات، ونظرتهم إلى الدين والكون والحياة ومن أهم العناصر التي تشكل خصائص الهوية الإسلامية منها:

* الربانية: من أهم خصائص النظام الإسلامي، أنه مؤسس علي الوحي الإلهي؛ ويستمد أحكامه من مقاصد التشريع الإسلامي لقوله تعالي:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل:89)، وقال تعالي:{… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(المائدة:3)، فكمال الدين يعني كمال أصول العقيدة الإسلامية، لقوله تعالي:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأنعام:38)، وكمال الشريعة يؤكد خلوها من النقائص والنقائض والظلم والهوى والمحاباة والنسيان والباطل، ونحو ذلك من الصفات التي لا يستطيع البشر النجاة منها حين تكون تشريعاتهم بمعزل عن هدى الوحي، ومن هنا يتسم النظام الإسلامي بميزات جوهرية تميّزه عن النظم والقوانين الوضعية، كالكمال والسمو والدوام وثبات الأصول وقابلية التطور لضبط المتجدد من الجزئيات تحت المفاهيم الكليّة.

* الثبات والمرونة: تتجلّى خاصية الثبات في التشريع الإسلامي في أصول العقائد والعبادات والقيم الأخلاقية والمرونة في فروع أحكامه الاجتهادية المبنية على الأصول الشرعية، ولهذا قرّر علماء الشريعة باستقراء أدلة الأحكام، والقرائن والإمارات الشرعية التي قد تؤدي إلي تقرير صفة الثبات والقطع والمرونة والتغيير. فالثبات والقطع في أصول العقائد والعبادات وأصول المعاملات والمرونة في المجالات الاجتماعية تتغير بتغير الأزمان والأحوال؛ وهو من أعظم مقاصد الشريعة، أما الفروع الفقهية تدخل في بناء أنظمة الإسلام، وتتجدد بتجدد المصالح البشرية؛ لأن في منشأها عدة أمور منها:

أ. مرونة المصادر الإجماع والقياس والمصلحة المرسلة وغيرها من المصادر التي تقدم حلولاً لكل الوقائع والقضايا، والنوازل والتصرفات والانحرافات الدينية والدنيوية.

ب. الثبات في القضايا التي تخضع للتطور والارتقاء والتقدم، وترك الجزئيات والتفصيلات والتفريعات للاجتهاد الفقهي الملائم للواقع الزماني والمكاني.

ج. المرونة في جواز تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان والأحوال والمصالح.

* ثنائية المسؤولية: اهتم النظام الإسلامي بمبدأ ثنائية المسؤولية على المستوى الفردي والجماعي، ويتضمن ذلك أحكام حفظ حقوق الله، وحقوق العباد، وحمل غيره على تنفيذ الشرع بصورة موضوعية وواقعية، ومسؤولية ذاتية تُعني بالولاء لله عزَّ وجلَّ وطاعته لأوامره، وتنفيذ جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالي:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71)، فالأمر بالمعروف المقرر في الشرع مسئولية ثنائية بين المؤمنين؛ والنهي عن المنكر كذلك، وبهذه الخصوصية رسم التشريع الإسلامي منهجه في ضبط القيم والسلوك، وحماية الحقوق، إذ جعل كل فرد في المجتمع قواماً علي ذاته في مراقبة تنفيذ الشرع الإلهي، وحارساً لمبدأ المشروعية المطلقة، كما جاء في قول رسول الله صلي الله عليه وسلم” كلكم راعِ وكلكم مسئول عن رعيته الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”(العسقلاني1413ه:ج2ـ:2600).

* ثنائية الجزاء: قد تتفق الشريعة الإسلامية مع بعض القوانين الوضعية التي لا تخالف مقاصد التشريع الإسلامي، ولكن مبدأ عدم الاتفاق والاختلاف تكمن في أن الشريعة تقوم على مبدأ أن الجزاء فيها أخروي ودنيوي، ومع تطور مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع، وتنظيم علاقات الفرد بالجماعة وضمان حفظ الحقوق يستدعى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، لقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(المائدة:33).

* الأصالة والاستقلال: تتفاوت النصوص القرآنية في تبيين استقلالية أصول النظام الإسلامي وقواعده؛ كقوله تعالي:{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(الأعراف:3)، وقوله تعالي:{… فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(النور:63)، فهذه النصوص وغيرها تبين وجوب إتباع المنهج الشريعي الكامل في أصوله والشامل في فروعه والقابل لاستيعاب المستجدات من الأمور الحياتية الطارئة التي تنمو وتتطور بتطور المجتمع. فالنظم الإسلامية بحكم مصدرها التشريعي لها غاياتها من التطبيق، وهي التعبد إرضاءً لله سبحانه وتعالى، واحتساب الأجر عنده، وهذه الغاية لا وجود لها في القوانين الوضعية، كما أن أصوله وقواعده واجبة وإلزامية لكل مؤمن، لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}(الأحزاب:36). وهذا الواجب مفقود في القوانين الوضعية لما يترتب عليه من ثواب وعقاب، فالمسؤولية الفردية أو الجماعية يجعل إمكانية تطبيق النصوص بشكل صريح. أما إذا نظرنا للغرب الأوروبي حول نظرته للإسلام والمسلمين اليوم فالأمر مختلف، لا يريدون لنا التوافق والمؤاخاة لأن هذه السمة لا يحقق طموحاتهم الآنية والمستقبلية، لذا كثيراً ما يؤلبون ثقافة الخلاف والاختلاف، والصراعات والحروب، لإيجاد موطئ قدم في بلداننا العربية والإسلامية، في الوقت الذي لا يدرك الكثير من شعوب العالم الثالث خطورة هذه المتغيرات، فها نحن نعيش اليوم تحت رحمة الغرب الأوروبي في حل كل المشاكل التي تحاك بالأمة المسلمة.

* الشمولية: يمتاز الفكر الإسلامي بالشمول والعموم، ويتناول كل جوانب الحياة أو الحضارة دون أن يخرج عن الإطار الشرعي المقاصدي، وهو فكر ينبثق من أصول مقننة وينطلق من قواعد الاعتقاد وهي أصول كلية ينطلق من مبادئ القوة الجزئية الذي يتطور مع تطور الزمن؛ كما يتناول الصورة الإجمالية لتفاصيل الحياة، فالفقه الإسلامي في غاية المرونة حيث يملك القابلية المثُلى في التطور والتعديل حتى يستجيب للنوازل وما يستجد من أحداث ونوازع ووقائع ومتغيرات. ولقد نظمت الشريعة الإسلامية ملامح حياة الإنسان بالشكل الذي يتماشى مع البناء العقائدي والفكري، كما وضع عدة تصورات للنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية؛ الذي يوازن بين حاجة الفرد والجماعة؛ دون تغليب كفة على أخرى. أما إذا نظرنا للحضارة الأوروبية بكل مقوماتها نجد أن الأمر مختلف حيث استغل انشغال الأمة المسلمة بنوازع الحكم فنادوا بتعميم فكرة الديمقراطية والحرية المطلقة بدلاً عن الشورى، والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، والسلم الاجتماعي، دون مراعاة لخصوصية النظم الإسلامية التي تستند أحكامها على القرآن الكريم والسنة والنبوية، ولتحقيق تلك الغايات عقدت عدة مؤتمرات إقليمية ودولية لإثارة الشبهات حول الإسلام والمسلمين. ويقول عبد الله دراز(1972 :175)):” الإسلام اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء”. وهذا يدحض كل مقولة تقال عن كيفية خلق الإنسان الأول وترقيته، ومن هنا يظهر ضعف الأدلة التي يسوقها الغرب الأوروبي في هذا الجانب فهي مجرد فروض لا ترتقي إلى العلمية، فالله خلق الإنسان منذ يومه الأول في أحسن صورة وفي أحسن تقويم، ولم يتطور الإنسان مع الخلية الأولى، بل خلقه من طين ومن حمأ مسنون لقوله تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }(الحجرات 26).

* التحلي بمكارم الأخلاق: عرّف بعض الفلاسفة والمفكرين الأخلاق بأنها جملة القواعد والأسس التي يعرف من خلالها الإنسان معيار الخير والشر في السلوك والقيم من خلال تحديد معايير وقواعد السلوك والحقوق والواجبات. كما عرّف بعض علماء المسلمين الأخلاق بأنَّها: عبارة عن المبادئ والقواعد المنظّمة لحياة الإنسان، والتي مصدرها الوحي الإلهي، فالغرض من بعثته صلى الله عليه وسلم إشاعة مكارم الأخلاق، ولعلّ هذا المعنى هو المقصود في الحديث الشريف المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: “إنّما بعثت لاُتَمِّم مكارم الأخلاق” وقال :”بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها”(ابن الحجاج، بدون تاريخ: حديث رقم4655)، فالعلاقة بين الأخلاق والإيمان والعبادة علاقة وثيقة في جوهرها تعبر عن روح الالتزام في أداء الواجبات الإلهية. وإجمالاً فالأخلاق هي مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس بحسن أو بقبح وكمال المرء بحسن خلقه الباطني والظاهري ليسعد في الدنيا والآخرة، فالحقيقة الماثلة أن الإنسان لا يستطيع أن يستخدم طاقاته النفسية والجسدية والروحية بصورة واقعية إلا إذا تحلى بالأخلاق الفاضلة التي تسعى إلى حب المنافسة والتسابق إلى الخير، فإذا انحرف الإنسان عن هذه الخصوصية أصبح جسداً بلا روح، وهذه ظاهرة مرضية لا نجدها إلا عند العلمانيين والرأسماليين الذين ينكرون نعم المولى عزّ وجلّ في خلقه، ويعصون أوامره. وعلى ما ذكر يستطيع كل فرد في المجتمع أنَّ يتخلص من الظواهر النفسية التي تخالف الدين، وقد تختلف القيم الأخلاقية من مجتمع لآخر حسب العوامل الوراثية والظروف البيئية والنشأة. فالعاقل هو من يستطيع أن ينظم مسئولياته، لقوله تعالى:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89)، فالله عزَّ وجلَّ بلَّغ أحكامه لعباده بواسطة رسله وأنبيائه الذين قدموا الحجة بالدليل والبرهان، فلم يبق من الخُلقُ الحسن إلاَّ وقد بينّه للناس كافة. فعندما يغيب الوازع الديني عند الإنسان تنطلق أهواؤه لتعبر عن نفسها بنظريات غير مثالية متناقضة ومتضاربة ويحاول أن يعرف ما حوله ولا يستطيع معرفته لأنه لا يملك الأصل الذي يرجع إليه، ومهما يجتهد في رد وازعه إلى نظام معين فإنه يستعصى عليه، ويومئذ يصبح كالحيوان، إذ أنَّه يسخِّر كل إمكانياته العلمية والمعرفية في الاتجاه المعاكس، وهذا ما ذكر في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين جادلهُ الملائكة في قوم لوط فأرادوا إهلاكهم، وكان الغرض من هذه المجادلة هو تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون، ولكنهم كفروا وتجبَّروا وفسدوا في الأرض، لقوله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ… يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }(هود:74-76)، هكذا تناولت الآيات قصة ضيوف إبراهيم وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإهلاك قوم لوط لأنهم جحدوا بنعم الله فقال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام:” أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، فأربعون؟ قالوا: لا، فمازال يتنزل معهم حتى قال لهم أرأيتم إن كان فيها رجل واحدُ مسلمُ أتهلكونهم؟ قالوا لا فقال لهم: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجّينه وأهله إلاَّ امرأته من الغابرين”(الطبري1974م:80). وهذا دلالة على سمو أخلاق سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه غير عجول في الانتقام إلى المُسئ، وأنه (أوّاه منيب) .فالإنسان العاقل هو الذي يستطيع أن يوزن فعله وعمله في ضوء المعاني الأخلاقية التي يحملها من حيث جودتها أو رداءتها فالأخلاق هي عنوان الشعوب، وقد حثَّت عليها جميع الأديان، ونادى بها المصلحون كما هي وسيلة للنهوض بالمجتمع.

* النزعة الإنسانية: تمثل النزعة الإنسانية إحدى دعائم الفكر الإسلامي، فهو يهتم بالإنسان كمخلوق له خاصية تختلف عن باقي المخلوقات، وخليفة في الأرض له شرط الاستخلاف؛ والإقبال عليها، والتكافل والتراحم في إقامة المساواة والعدل؛ والتحلي بالقيم الأخلاقية، قال تعالى:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159) إِنّ حكمة الخالق المدبّر توجب وجود هدف سام ومنظور راق للخلق بصورة عامة وللإنسان بصورة خاصّة، لأنّه تعالى مُنزّه عن اللعب واللهو والعبث، لقوله تعالى:{وَما خَلَقْنا السَّمَاءَ وَالأرضَ وما بَينَهُمَا لاعِبينَ}(الأنبياء:16)، فالغاية والهدف من وجود الإنسان على هذه البسيطة هو العبادة والخضوع له وتشمل هذه الخاصية الجميع بدون استثناء، لقوله تعالى:{ وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إلاّ ليَعبُدُون}(الذاريات:56). فهناكَ فرقاً كبيراً بين عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى؛ وعبودية غيره، فالعبودية الاختيارية الواعية هي التي تصدر عن حبٍّ الله سبحانه وشوق له، أي مجاهدة هوى النفس ومنازلة الشيطان وإيثار هَوى الله تعالى على هوى النفس وشهواتها واجتياز الابتلاء الإلهي والانتصار على الفتنة، لقوله تعالى:{أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوْا أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لا يُفتَنُون}(العنكبوت:2). وإذا ما حقّق الإنسان هذه العبودية المطلقة استحقّ أن يكون خليفة لله تعالى في الأرض. وقد رسم الله عزّ وجلً من خلال إرسال الرسل والكتب السماوية نظاماً عقائدياً وعبادياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً متكاملاً متوافقاً ومنسجماً مع الهدف من خلقه والغاية من وجوده.

* العقلانية والعلمية: يدعو الإسلام إلى الالتزام في القول والعمل، وعدم إتباع الهوى والسحر والخرافة، والخروج من الأساليب غير العلمية، والاهتمام بما يؤسس الحقائق العلمية الثابتة، وعلى الواقع المشهود له بالاعتراف والقبول؛ لأن إتباع الظن إثم يجب الاجتناب، لقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(الحجرات:6) وقال تعالى:{ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}(المؤمنون: 117) وقد يدرك الباحث حقيقة كبيرة الأهمية، هي أن الجنس البشري بدأ كما يبدأ الطفل أقرب إلى البدائية والبساطة، ثم نمى أفكاره إلى أن وصل إلى مرحلة الفطرة الطبيعية Natural Instinct. وعلى هذا المنوال، كانت الرسالات السماوية تناسب كل طور من هذه الأطوار ولا نزاع في أن مصدر الرسالات هو الله ذو الجاه والسلطان، ولكن جلت قدرته يعطي الدواء بقدر حاجة المريض فأعطى البشرية كل ما تحتاجه من الهدى والتوجيه، ولكن الإنسانية Humanities في صراعها مع نفسها لم تستطيع أن تعيش على الإيثار أو لم يطل عقلها على صفاء القلوب، فحلت القطيعة محل التراحم والتخاصم مكان المسالمةPacify، فجاء الدين ينظم هذا الشكل من الانحراف Deviation، ويرعى الحس والعاطفة، ويدرس العقل والقلب، وينظم للناس شؤونهم. ويقول الأستاذ سيد قطب في تفسير قوله تعالى:{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ }(آل عمران:3)، هذا الكتاب” القرآن الكريم” الذي نزل بالحق مصدقاً ما بين يديه من الديانات السماوية التي سبقته، فهو صورة من صور الحق التي جاء بها الرسل عليهم السلام مناسبة لزمانهم، وكلما تغيرت الحاجة جاء طور من الديانة الجديدة يتفق في أصله ويختلف في فروعه تدرجاً مع الحاجات Needs، وتصديق اللاحق للسابق في أصل الوحدانية(سيد قطب1398هـ: 53-54).

* المواكبة والتطور العلمي والتكنولوجي: الهوية الثقافية الإسلامية هوية مستحدثة وداعية إلى الاستزادة العلمية والنفع العام، والانفتاح على الثقافات والحضارات الإنسانية الأخرى، فهي ليست منغلقة على نفسها؛ وإنما منفتحة بالأخذ والعطاء مع الآخرين بمنطق البحث العلمي الرصين، إذ أن الإسلام مبني على الصدق، ومرتكز على الحق، كما أنه يمثل دعامة وركيزة أساسية في نظام الحياة وصيغة ثابتة في بناء سلوك وقيم المجتمع الذي يقوم على محاربة الظنون والشكوك. ومن المعلوم أن العلم لا يتعارض مع الدين، وإنَّ الاعتماد على العلم في تثبيت الحقائق لا يتعارض مع قيم الدين الحنيف. فالأصل في الدين هو التأمل والتدبر في الكون والطبيعة، فإذا أراد الإنسان معرفة ربه عليه أن يتأمل في مظاهر وجوده ليضمن لنفسه السلامة، ويجد الطمأنينة والقدرة على الاحتمال. ففي الوقت الذي يمكن للإنسان أن يتأمل مظاهر وجود بالنظر إلى الطبيعة، إلا أن دعاة الغرب الأوروبي يدعونه إلى  التفكير البدائي المبني على التصورات والاحتمالات والخيالات في تعريف الدين، وبناءً على تلك الأوهام اختار كل إنسان أو جماعة إلهاً يحبه ويخشاه، ومن هنا جاءت فكرة تعدد الآلهة، لأن فكرة الإله الواحد لم تأت ولم تستقر بعد، ومن خلاله سعى الإنسان البدائي أن يكون له عدد من الآلهة، فبدأ يرسمه على جدران الكهوف التي يعيش فيها، كما وضع له التماثيل والرموز ليواكب كل تطور حديث ومن هنا بدأ الإنسان يعمل على اختراع ما يعينه على مواكبة الحياة فبدأ بصنع عدد من الأدوات ليضمن لنفسه التوزيع العادل لمتطلبات حياته، وعلى ذاك المنوال بدأت التطور العلمي والتكنولوجي للاستزادة في المعرفة العلمية خاصة بعد ظهور فكرة عولمة الحياة الثقافية، وحينها أصبح  الإنسان يتجول في عالم الاختراع والبحث عن كل ما يعينه على مسايرة حياته، وبمرور الزمن تطورت المعارف العلمية إلى نظريات فلسفية، وأصبح إعمال العقل هو القوة الفائقة والجبارة للسيطرة على العالم من حوله، فاكتشف أن للكون قوانين يمكن أن تساعده على الإبداع والابتكار، وله قابلية التعامل مع تكنولوجيا المعرفة، وأن كل نظرية لها قابلة التطور بصورة أكثر دقة وأوسع انتشاراً، ثم أدرك أن العلم يتغير وفق معطيات الزمان والمكان، لكن يظل الإيمان كما هو في القلب. فالعلم نشاط نسبى والدين إحساس مطلق، فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، لا يتغير لكنه يزيد وينقص مع تطور الاكتشافات الحديثة.

إنَّ كلمة علم(Science) في المنظور الغربي يشير إلى العلم التجريبي(Empirical)، أي العلم الذي يقوم ويرتكز على الخطوات المختبرية من ملاحظة وتجربة حتى يمكن إثبات صحته. فكل ما يمكن إخضاعه للعملية الاختبارية بواسطة الحواس يعتبر علماً عندهم، وما لا يمكن اختباره بواسطة الحواس لا يعتبر علماً. ومن هنا يصبح جلياً أن المنهج العلمي الغربي ينفي وجود أي عالم آخر لا تدركه الحوس. وكثيراً ما يطرح بعض التساؤلات من قبل المهتمين بالعالَمين عالَم العلم وعالَم الدين، ومن الطبيعي أن تختلف الأجوبة باختلاف العقيد والبيئة والثقافة. فعندما نتحدث عن الدين فإن هنالك من يصوب أمره لله عزّ وجلّ، ويبنى كل تصوراته بناءً على العقيدة الصحيحة، وهنالك من يبني تصّوراته بعيداً عن الحقائق العلمية. فالإجابة عن حقيقة العلاقة بين الدين والعلم يحتاج إلى دعوة مفتوحة للمسلمين وغير المسلمين بأن يصحوا من غفوتهم، وينظروا إلى القلوب الرصينة بعيداً عن تكالب الإعلام الغربي الذي ينتقص من أهمية الدين في حياة الإنسان، ويسعى الكثير من المؤسسات التعليمية للترويج باستحالة الالتقاء بين الدين والعلم. فالأمر في الحقيقة أكثر تعقيداً مما يدعيه هؤلاء المروجون، فإذا نظرنا إلى الديانتين اليهودية أو المسيحية نجد أنهما يصطدمان بفكرة التنزيه الفطري الذي فطر الإنسان على استحضاره حينما يفكر في الذات الإلهية. لذلك فإن تأثير قوة الله وتدخله في الكون تبين القدرة الفوقية على التنبؤ بما يحدث في النظام الكوني، وهذا ما يتعارض مع نظرية الفوضى العكسية. فالقانون الفيزيائي التي تتعلق بالجاذبية الأرضية مثلاً لا يمكن أن يكون بذاته المسبب لحدوث ظاهرة التجاذب، فالخالق هو الذي يوجه الأجرام السماوية على أن تتصرف وفقاً لقانون الجاذبية، لأن القانون يصف العلاقة ولا يسببها. فالحقيقة أن هذه الحجة هي من أقوى الحجج على الكمال المطلق لله عزّ وجلّ، فالكون كله محتاج إلى وجوده سبحانه وتعالى، وإلى قيامه عليه، فالقانون لا يجبره على التصرف، لقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}(الروم:25)، وعلى ذات النسق فإن تأثير الله عزَّ وجلَّ في الكون ليس محصوراً في احتمالات الكم أو التنبؤ حسب نظرية الفوضى كما يزعم(بلوكنغهورن)، ولكنه ماثل في كل زمان ومكان، ومن وراء القوانين والحقائق يأمر الكائنات أن تسير وفق مشيئته(فقيه2011 :33)، كما أمر النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام، لقوله تعالى:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(الأنبياء:69). فالسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن اثبات وجود أي قضية ميتافيزيقية “الله” أو قوة خارقة للطبيعة؟ قطعاً لا … لأن الاثبات بطبيعته مادي يقوم على المشاهدة والتجربة والتمحيص، فالعلم بطبيعته مادي أي أنه ينطلق من الظواهر المادية ويفسرها بذاتها… فالمعرفة هي وسيلة لتفسير الطبيعة عبر الإدراك الذاتي؛ أي أنَّ الخروج عن الطبيعة يخالف طبيعة الاثبات لأن الاثبات بحد ذاته طبيعي. أما الدين ينطلق من تفسير الواقع، وتتحرك صوب المطلق بقوانين محكمة تعمل على تفسير جميع الظواهر الكونية وفق الأحكام الشرعية. فإذا كان العلم أساسه مادي، فالدين مادي وروحي فنظرة الدين للطبيعة نظرة مثالية تقوم على إضافة جوهر روحي محرك للظواهر الطبيعية من الخارج، أما العلم فهو يقوم على القبول والتمحيص للظواهر الطبيعية وتفسرها من الداخل بصورة منطقية… ويتجلل ذلك بين سطور الإسلام والمسلمين فيقال” العلم نور”. وعلى هذا المنوال فالدين مؤسسة اجتماعية يفرق بين الحق والباطل، وبين العادل والظالم، فكم من وضيع رفعه العلم، فلولا العلم لما آمن الناس ولم يتعوذوا من شر الوسواس الخناس. فالقلوب لا تؤمن إلا عندما تصدق العقول، وعليه، يستخدم الدين العلم النافع حجة للعباد وطريقاً للسداد، ومعياراً لتقييم المعارف السلوكية والأخلاقية. فالإسلامَ في جانب الإعجاز العِلمي تضمن حقائقَ علمية، لم يدركْها المسلمون في القرون الأولى، فيما كشفتْ عنها العلومُ الحديثة بصورة تكشِف عن التطابُق التام بين حقائقه وبيْن النتائج العِلمية الحديثة، الأمر الذي بَهَر المنصِفين من علماء الغرْب، فاستسلموا لحقيقتِه وآمنوا به، بناءً على أنَّ كثيراً مِن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، تُشير إلى حقائقَ عِلميَّة لم تكن معروفةً للناس وقتَ نزول القرآن، وقد كشفت عن صحَّتها حديثاً؛ مصداقاً لقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(سبأ:5-6). وقدْ صنَّف العالِم الفَرنسي “موريس بوكاي” كتاباً في المقارنة بين الكُتب المقدَّسة وبيْن العلم الحديث فخرَج بنتيجةٍ مذهِلة؛ إذ كشَف عن التناقضات الكثيرة بيْن نصوص التوراة والإنجيل وبيْن الكشوفات العلميَّة الحديثة، الأمر الذي لا يوجد في آياتِ القرآن الكريم بل العكس تمامًا؛ فقد ذهل بمدى التوافُق والتناسق بين الحقائق التي أشار إليها القرآنُ الكريم، وبيْن ما توصَّل إليه العلماءُ في جميع العلوم التجريبيَّة”(موريس بوكاي، 1398ه:11). ولهذا الغرَض دعا القرآن الكريم إلى استعمال التفكير السليم في الكشف عن الحقائق العلمية الآنية والمستقبلية، فـدعوة القرآن إلى استخدامِ الإنسان لملكاتِ تفكيره أمرٌ صريح لا يحتاج إلى تأويل، فالعقل مِن مقاصد الشرع، ومِن وظائف العقْل والتفكير في منظورِ الإسلام، أنَّه قضى على الخُرافات، وأبْطَل الكهانة والشعوذة، وركَّز على المسؤوليَّة الفردية كتركيزِه على المسؤولية الجماعية، وجعل الأمن على العقل مِن المقاصِد الضروريَّة، ووَفْقَ ذلك كفَل الإسلام المناخَ الخصب للعقل ليتأمل ويعي ويفكِّر ويفهم… فوظيفة العقْل في الإسلام هي أساسُ معنى الفِكر الحر، والتأمُّل في الكون تأكيداً؛ لقوله تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الجاثية:13)، فالآية تُشير إلى ممارسة الإنسان لوظيفةِ عقْله، ومزاولة نشاطِه المادي والرُّوحي بصورة تكفل له وضع المعايير الموضوعية لتفسير الأشياء من حوله. فالتفكير في الكون وما خلَق الله تعالى، أمرٌ جوهري مقصود، فلابدَّ للإنسان أن يمارسَ دورَه ومسؤوليته، والمقياس في ذلك هو العقلُ السليم، فلا يَنبغي أن يبقى الإنسان مكتوفَ اليدين، فعليه التدبُّر والتفكير باستخدام العقْل، وألاَّ يقِف من الكون موقفَ اللامبالاة، فيحسن تأمُّله ويبْحث فيه ليستفيدَ منه، والاستفادة مِن هذه المسخَّرات في الكون لا تكون إلاَّ بالدِّراسة المتأنية بعيداً عن التفسير الموضوعي للظاهرة الكونية. وما هذا إلا دعوة منه أي القرآن الكريم إلى النظرِ في حقيقة الوجود، باستخدام النَّظَر الحِسي والحواس، لكل من يقَع ثقلُ البحث والتأمُّل والتجريب، والدعوة إلى التبصُّر بحقيقة وجود الكون وانتهاءً بآفاق النَّفْس … كما أعطى (للحواس) مسؤوليتَها الكُبرى عن كلِّ خُطوة يخطوها، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}(الإسراء:36)،وقال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}(الطارق:5). فلمَّا استجاب المسلمون لهذه الدَّعوة، ونظروا إلى الكون ومباحِث الطبيعة، وفقًا للمنهج الذي حدَّده المولى عزَّ وجلَّ، كانتْ نتيجة ذلك أنْ نبغ في الإسلام عظماء جمعوا بين الحِكمة والشريعة، ونظَّموا بين الحديث. وهذا الأمرُ في مقابل الجمود الذي عاشَه الغرب الأوربي من المستشرقين والمنصرّين غير المنصفين الذين يرفُضون ويحاربون كلَّ علم يعتدُّ فيه بالكتاب والسُّنة. فالنظم الإسلامية هو عبارة  عن ثورةٌ علمية ومعرفية كل من يخالف مقاصد التشريع الإسلامي، ويقطعٌ كل العلائق التي لا تمد الحقائق الدينية بصلة، كما أنه حضارة مسايرة للتمدُّن والتقدُّم، أيضاً أنه يناسب الإنسان العصري، ويفتح الآفاقَ أمام عقل الإنسان نحو تطور علومه الآنية والمستقبلية، وتنمية قُدراته الإبداعية والابتكارية.

* التوازن والاعتدال: تمتاز الهوية الإسلامية بخاصية التوازن بين الجانب الروحي، والجانب المادي، فلا تفريط ولا إفراط، ولا غلو بغير وجه حق، ولا اندفاع في نهور، وإنما هو الاعتدال الذي من صميم العدالة التي تقوم في إطار موازين القسط. إن التشريع الإسلامي ينفرد بخصائص لا يمكن تصورها في القوانين الوضعية، مثل: السمو الأخلاقي والديني الذي يمنع الناس من الوقوع في الجريمة، ويعاقب على الجريمة بالترك. كما يتميز أيضاً بإيجاد التوازن بين المنطق القانوني للنظام السائد، وبين مصالح البشر، لأن القاعدة القانونية هي وليدة التفاعل المستمر بين المنطق القانوني للنظام وبين مصالح الإنسانية. وهنا نلاحظ قابلية التشريع الإسلامي للتجديد المستمر، وليس التبديل أو التغيير. أما شبهة المستشرقين وما سواهم من أن التشريع الإسلامي وأحكامه مستمد من القانون الروماني فهذه شبهة أصبحت عتيقة لم تبق في حاجة إلى أن يهتم المحققون في جمع الأدلة على دحضها، ذلك لأن المستشرقين المنصفين منهم قد أغنونا عن دفعها بما كتبوا هم، وبينوا في هذا الشأن وقرروا أن للتشريع الإسلامي أصل مستقل بأصوله، وهو الوحي السماوي، الذي لا يقبل التبديل أو التغيير، فالزعم بأنه مستمد من القانون الروماني، هي خرافة تدل على عدم معرفتهم بالإسلام. فالعدالة وإزالة الفوارق بين الأفراد والجماعات بعيداً عن الازدواجية تحقق المودة والسرور في بناء العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين الأمم والشعوب. وقد أرسى صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة في بناء دولته في المدينة المنورة، على أساس العيش المشترك. فالمجتمع العادل هو الذي يملك من القوانين والنظم ما يسهل لكل فرد أن يحقق مطلوبات حياته دون عناء أو مشقة.

الخاتمة

أكدت الدراسة أن فكرة العولمة الثقافية في الغرب الأوروبي قد بدأت في ظل استقلال التقدم التكنولوجي للتأثير على الرأي العام العالمي لخلق بيئة صالحة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية لكل دولة، من خلال صنع القرارات الدولية للحفاظ على مصالحها بناءً على تطوير سياستها الخارجية، اعتماداً على المنظمات والجمعيات التي تعمل في مجال المساعدات الإنسانية، وهذا ما يسمى بالانفجار الإعلاميInformation Explosion . وبهذه الصياغة فقد اهتم الغرب بالعولمة الثقافية كوسيلة من وسائل تحقيق الأهداف الاستراتيجية من خلال تحقيق المصلحة الوطنية للدولة المسيطرة عليها، كذلك تكييف الرسائل الدعائية بين المؤسسات الإعلامية، والمساهمة في تحقيق أهداف المنظمات الدولية التي تسعى جادة في خلق عدم التوازن بين القوميات، والحفاظ على الأمن القومي للغرب، والاهتمام بالقضايا المثيرة دولياً، ومعالجة بعض القضايا المؤثرة في الاستقرار والامن الدوليين.

أهم التوصيات

  1. ضرورة إبراز دور البناء النفسي للأفراد والجماعات.
  2. ضرورة توحيد المواعين العربية ممثلة في توحيد الخطاب الإعلامي والديني الذي يحقق الأهداف والغايات التي يستمد من تعاليم ديننا الحنيف، وأعرافنا وتقاليدنا التي تتوافق وتتماشى مع ثقافتنا الإسلامية.
  3. تفعيل دور الدبلوماسية العربية والإسلامية في مخاطبة التحديات والتهديدات التي تواجه قيم الثقافة الإسلامية، لتحقيق مفهوم التفاهم والتفاعل الدولي اللذان يشكلان محور التحول الثقافي بين الانظمة التقليدية والدولية التي تسعى للحفاظ على صداقة الصديق والحصول على تعاون المحايدين، وبتعبير آخر التخلص من ثقافة خطاب الكراهية، وتحطيم الروح المعنوية للغرب الأوروبي.
  4. صياغة المناهج الدراسية بمفردات تساعد على بسط قيم الثقافة الإسلامية.

 

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

السنة النبوية

ابن الحجاج، أبو الحسن مسلم النيسابوري(1400هـ)، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، رئاسة إدارة البحوث العلمية، الرياض، ط2.

أبو عنزة، محمد عمر أحمد(2011). واقع إشكالية الهوية العربية بين الأطروحات القومية والإسلامية “دراسة من منظور فكري”، رسالة للحصول على درجة الماجستير، جامعة الشرق الأوسط، كلية الآداب والعلوم، قسم العلوم السياسية، 2011م.

الخطيب، عزالدين التميمي(1984م)، نظرات في الثقافة الإسلامية، عمان الأردن، دار الفرقان للنشر والتوزيع، ط1.

الخولي، أسامة أمين(1998م)، العولمة والعرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

دراز، عبدالله(1949م)، القانون الدولي في الإسلام، المجلة المصرية للقانون الدولي، ط1.

زروق، عبد الله حسن(بدون تاريخ)، العولمة والعالم الإسلامي، رسائل الحركة الإسلامية.

السيد صالح، سعد الدين(1989م)، التبشير الصليبي، دار الأندلس، القاهرة، ط1.

سيد قطب،(1398هـ)، خصائص التصور الإسلامي، بيروت، دار القرآن الكريم للطباعة، ط1.

الطبري، أبو جعفر (1974م)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمود شاكر – دار المعرفة، القاهرة، ط1.

العسقلاني، ابن حجر(1400هـ). فتح الباري في شرح صحيح البخاري. دار الجيل، بيروت، ط2.

عليان، شوكت (1401هـ). محمد الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، دار الرشيد الرياض، ط1.

فقيه، عدنان محمد(2011م)، العلم والدين، مكتبة الأمل، الكويت، ط1.

محزون، محمد(2000م). العولمة بين منظورين، مجلة البيان.

مدكور، إبراهيم(1983م)، المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، مصر، ط1.

موريس بوكاي(1398ه)، التوراة والانجيل والقرآن والعلم، ترجمة العديد من الدعاة بإشراف مجلة الفكر الإسلامي، دار الفتوى اللبنانية، بيروت، ط1.

هانتغتون، صموئيل(بدون تاريخ)، الإسلام والغرب، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2.

 

Andrew Defty, Britain, America and Anti-Communist Propaganda 1945-1953: The Information Research Department, 2007.

Serno kennth,K, (1970). Foundation of communications. Harper.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *