د. عبدالحليم الشرقي

دكتور في علم النفس

كلية الآداب والعلوم الإنسانيةسايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، فاس، المغرب

الباحث / عبد الإله خبطة

باحث في ماستر العمل الاجتماعي وعلوم الرعاية بشعبة علم النفس

كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، فاس، المغرب.

cherqui@usmba.ac.ma

212661506757+

الملخص

شهد عالم ما بعد الحداثة تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية مركّبة مسّت مختلف مستويات الحياة الخاصة والعامة. وتلك  التغيرات واكبها تزايد وتنوع في الاضطرابات النفسية  كالقلق والاكتئاب والرهاب…إذ باتت هذه الاضطرابات تؤرق الإنسان في عصر يسوده مجتمع المعرفة والرقمنة، والمفعم بالثورة الصناعية والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي. وتشير بعض الإحصائيات أن زهاء نصف البالغين بالمجتمع المغربي مثلا يعيشون أو سبق لهم أن عاشوا في حياتهم تجربة معاناة اضطراب نفسي أو عقلي. وهذا المؤشر الإحصائي يجعل القائمين على أمر الصحة النفسية بالعالم بشكل عام وبالمغرب بشكل خاص، مطالبين بتبني استراتيجيات متنوعة على مستوى العلاج النفسي وعدم الاكتفاء ببعض النظريات السيكولوجية التي أظهرت قصورها في العلاجات النفسية لدى الأفراد والفئات الاجتماعية.فهل تعتبر قضية تعدد الاضطرابات النفسية مصوغا لتعدد المقاربات العلاجات النفسة في زمن ما بعد الحداثة؟ أم أن العلاج النفسي بصيغة الجمع ما هو إلا نسخة مكررة تخضع للتنميط وإعادة الإنتاج؟.تتمثل أهمية هذا البحث في تناول قضية تعدد العلاجات النفسية في الحقل السيكولوجي. وتناول هذه القضية المعاصرة  له إسهام كبير على مستوى تجاوز المشكلات النفسية وتحقيق الاندماج الاجتماعي للفرد ومساعدته على التكيف سواء في علاقته مع ذاته أو مع محيطه، وإزالة السلوك المرضي وتعويضه بآخر أكثر إيجابية. كمايهدف هذا البحث إلى تعرف العلاج النفسي ونشأته، والكشف عن  القواسم المشتركة والفروقات بين العلاجات النفسية. ثم الإجابة عن سؤال الوحدة والتعدد( هل هو تنوع أم إعادة إنتاج الموجود؟).

الكلمات المفاتيح:العلاج النفسي، التعددية ، التنميط ، ما بعد الحداثة. السلوكي، المعرفي.

Psychological therapies between pluralism and stereotypes

 in the postmodern era

AbdelhalimCherqui1* AbdulilahKhabta2

1Phd in Psychology, Faculty of Arts and Human Sciences – Sais, University of Sidi Mohamed Ben Abdallah, Fez, Morocco

2 Researcher in the Master of Social Work and Care Sciences in the Department of Psychology, Faculty of Arts and Human Sciences – Sais, University of Sidi Mohamed Ben Abdallah, Fez, Morocco

 

 Abstract

The postmodern world has witnessed complex social, economic, political and psychological changes that affected various levels of private and public life. These changes were accompanied by an increase and diversity in mental disorders such as anxiety, depression and phobias…These disorders are troubling people in an era dominated by the knowledge and digitization society, which is full of the Industrial Revolution and scientific, technological and information progress. According to some statistics, about half of the adults in Moroccan society, for example, live or have lived in their lives an experience of suffering from a psychological or mental disorder. This statistical indicator makes those in charge of mental health in the world in general and in Morocco in particular, demanding to adopt various strategies at the level of psychotherapy and not to be content with some psychological theories that have shown their shortcomings in psychological treatments among individuals and social groups. Is the issue of the multiplicity of mental disorders a formulation of the multiplicity of approaches to psychotherapy in the postmodern era Or is psychotherapy in the plural just a duplicate that undergoes stereotyping and reproduction? The importance of this research is to address the issue of the multiplicity of psychological therapies in the psychological field. Addressing this contemporary issue has a great contribution at the level of overcoming psychological problems, achieving social integration of the individual and helping him to adapt both in his relationship with himself and with his surroundings, removing pathological behaviour and compensating for it with a more positive one. This research also aims to identify psychotherapy and its genesis and to reveal the commonalities and differences between psychological treatments. Then answer the question of unity and diversity

Keywords: Psychotherapy, pluralism, stereotyping, postmodernism. Behavioural, cognitive.

 

مقدمة

لقد تطورت العلاجاتالنفسية بشكل عام من داخل حقل علم النفس كرد فعل على قصور بعض النظريات السيكولوجية في معالجة بعض المشاكل النفسية التي طفت على الواقعين الاجتماعي والنفسي للمجتمعات والأفراد،ونتيجة للتطور الكبير الذي أفرزته الثورة الصناعية والتقدم التقني والتكنولوجي والحربين العالميتين وما خلفتاه من أزمات وأعطاب وظواهر أدت إلى بروز أنماط عيش مختلفة وتنظيمات جديدة، كصعود الحركات العمالية والحركات النسائية وتزايد عدد الأصوات الحقوقية وتقسيم الأدوار بين الجنسين، وما استتبع ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية مركّبة مسّت مختلف مستويات الحياة الخاصة والعامة. وتلك التغيرات واكبها تزايد وتنوع في الاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب والرهاب…إذباتت هذه الاضطراباتتؤرق الإنسان في عصر يسوده مجتمع المعرفة والرقمنة، والمفعم بالثورة الصناعية والتقدم العلميوالتكنولوجي والمعلوماتي. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن زهاء نصف البالغين بالمجتمع المغربي مثلا يعيشون أو سبق لهم أن عاشوا في حياتهم تجربة معاناة اضطراب نفسي أو عقلي(المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي, 2022) . وهذا المؤشر الإحصائي يجعل القائمين على أمر الصحة النفسية بالعالم بشكل عام وبالمغرب بشكل خاص، مطالبين بتبني استراتيجيات متنوعة على مستوى العلاج النفسي وعدم الاكتفاء ببعض النظريات السيكولوجية التي أظهرت قصورها في العلاجات النفسية لدى الأفراد والفئات الاجتماعية.

من جهة أخرى، يهدف العلاج النفسي إلى تجاوز المشكلات النفسية، من خلال معارف نظرية وتطبيقات عملية تتوخى تحقيق الاندماج الاجتماعي للفرد ومساعدته على التكيف سواء في علاقته مع ذاته أو مع محيطه، وإزالة السلوك المرضي وتعويضه بآخر أكثر إيجابية. لقد شهد العالم الغربي (مشتل هذه العلاجات) تطورات فكرية وتقنية جد مرتبطةفيما بينها، إذ أن التغيير في الأولى كان ينتج عنه تغيير في الثانية والعكس صحيح، بدءا بعصر النهضة إلى التنوير فالحداثة ثم ما بعد الحداثة أو الحداثة في نسختها السائلة والتي سيكون لها بالغ الأثر في ظهور باقةمن العلاجات أو بالأحرى مدارس علاجية نفسية متعددة المشارب والتوجهات والنظريات.

إن العلاجات النفسيةالكلاسيكية ممثلة في السلوكية والمعرفية قد عجزت عن مقاربة السلوك الإنساني من كافة جوانبه، لهذا سيعمد الباحثون إلى إعادة التفكير في صيغ وسبل أخرى تمكنهم من فهم أعمق لهذا السلوك، بل إنهم قاموا بما يشبه الانفصال عن هاتين المدرستين الكلاسيكيتين قبل أن يعودوا إليهما بتقاطعات مختلفة. بناء عليه، سيتم خلق مجموعة علاجات نفسية سيكون لها صدى كبير من داخل حقل علم النفس الاكلينيكي،يمكن تقسيمها من حيث مدارسها إلى خمس مدارس علاجية كبرى، وداخل كل واحدة منها اتجاهات ومقاربات ورؤى كثيرة، هي: العلاج السيكو ديناميكي، العلاج السلوكي المعرفي، العلاج الإنساني الوجودي، العلاج البنائي، العلاج الدامج الانتقائي.

لقد حاول الباحثان الغوص في إشكالات جدلية لها علاقة بموضوع العلاج النفسي، كانت قد برزت خلال العقدين الأخيرين، والتي تسير في اتجاه تحديد معالم علاجية نفسية جديدة تجعل من الإنسان شبيها لأخيه الإنسان، خصوصا مع الأطروحات النظرية التي باتت تتحدث عن “شكل نهائي” و “نموذج أخير” للحضارة وللإنسان.

مشكلة البحث:

تتمثل إشكالية هذا البحث في النظر إلى وجودقواسم وفروقات تميز العلاجاتالنفسية  أكثر من الوقوف على تاريخ نشأتها ومحطات تأسيسها،في أفق محاولة الإجابة عن سؤال الوحدة والتعدد، ومقارنة التقنيات العلاجية المستخدمة “لما بعد الحداثة” داخل كل مدرسة علاجية بمنطلقاتها النظرية وأدواتها الإجرائية ومساءلتها بشأن إنتاج المعنى داخل هذه التعددية الواسعة.ويمكن تفكيك هذه الإشكالية من خلال الأسئلة التالية:

–      هل تعتبر قضية تعدد الاضطرابات النفسية مصوغا لتعدد المقاربات العلاجات النفسية في زمن ما بعد الحداثة؟ أم أن العلاج النفسي بصيغة الجمع ما هو إلا نسخة مكررة تخضع للتنميط وإعادة الإنتاج؟

–      ما الأغراض الحقيقية من بلورة علاجات نفسية قد تكون هي نفسها في كل مرة؟ وكيف يمكن قراءة دلالات تعددها في ظل الواقع العالمي الراهن، خصوصا مع تنامي السوق الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية؟

أهمية البحث:

تتمثل أهمية هذا البحث في تناول قضية تعدد العلاجات النفسية في الحقل السيكولوجي. وتناول هذه القضية المعاصرة له إسهام كبير على مستوى تجاوز المشكلات النفسيةوتحقيق الاندماج الاجتماعي للفرد ومساعدته على التكيف سواء في علاقته مع ذاته أو مع محيطه، وإزالة السلوك المرضي وتعويضه بآخر أكثر إيجابية.

أهداف البحث:

يهدف هذا البحث إلى ما يلي:

–      رصد نشأة وتطور العلاج النفسي

–      الكشف عن  القواسم المشتركة والفروقات بين العلاجات النفسية.

–      الإجابة عن سؤال الوحدة والتعدد قي قضية العلاج النفسي(هل هو تنوع أم إعادة إنتاج الموجود؟).

حدود البحث

تندرج نتائج هذا البحث في سياق الظرفية الراهنة المعقدة التي يعيشها الإنسان في زمن ما بعد الحداثة وذلك عبر استقراء مختلف المقاربات العلاجية النفسية القديمة منها والحديثة، التي تيسر الاطلاع على مجالاتها النظرية والتطبيقية. غير الحقل السيكولوجي منفتح دوما على آفاق رحبة تقود إلى التجديد في المداخل العلاجية النفسية تفرض على الدارسين مواكبة المستجدات بنفس من المرونة والابداع في التعاطي مع مختلف المقاربات، سواء تلك التي استنفدت أغراضها أو التي لم تفقد بعد صلاحيتها.

فروض البحث

تتمثل مجل الفروض التي بني عليها هذا العمل في ما يلي:

– العلاجات النفسية حاجة إنسانية مجتمعية في ضل عصر القلق ضغوط  الحياة المتسارعة والمستمرة وقد تضبح تلك الحاجة عرضة للمتاجرة والاستهلاك المصلحي لا يقود بالضرورة إلى تحسين جودة الحياة لدى العملاء.

– واقع ما بعد الحداثة والذي من سمته التعددية قد يكون مصوغا موضوعيا لتعدد المداخل العلاجية النفسية. غير أن هذا التعدد ربما لا يكون انعكاسا لتعدد الأزمات والمشاكل النفسية، بل هو تعدد ذو صبغة نمطية مكررة يظل في عمقه واحدا.

– قد يكون تعدد تلك المداخل هو تعدد كمي يروم إعادة إنتاج الموجود بمسميات مختلفة، لا كيفي يعبّر عن اختلافات نظرية وتقنيةجوهرية.

الإطار النظري والدراسات السابقة

1- العلاجات النفسية في زمن ما بعد الحداثة: نشأتها وتطورها

يُعتبر العلاج النفسي -حسب معجم علم النفس والتحليل النفسي- أحد الأنواع العلاجية باستخدام أساليب نفسية بحثة (أي دون استخدام عقاقير أو صدمات كهربائية أو جراحة) سواء قام بها محللون نفسيون أو معالجون نفسيون. والهدف من هذا العلاج هو إزاحة الاضطراب النفسي، من خلال معارف نظرية وتطبيقات عملية هدفها تحقيق الاندماج النفسي للفرد ومساعدته على التكيف، وعلاج مشاكل الصحة العقلية من خلال التحدث مع معالج نفسي أو أخصائي نفسي أو غيره من مقدمي خدمات الصحة النفسية. لقد بات العلاج النفسي حاجة ملحّة أفرزتها المتغيرات المتلاحقة في عالم صار يتغير باستمرار، ويمضي مثقلا بالمشكلات النفسية التي أصبحت أكثر تعقيدا وأصعب تداخلا.

قبل البدء، لا بد من الإشارة إلى ملاحظة أولية وهي أن الهدف من هذا البحث ليس الغوص في تاريخ العلاجات النفسية ولا الاستغراق في ذلك، ولكن ما يهمنا تحديدا هو الوقوف عند القواسم المشتركة والفروق التي تميز هذه العلاجات عن بعضها خصوصا وأنها شهدت تفرعات واتجاهات ومدارس متنوعة. ولهذا قد يجد القارئ أحيانا أننا نتجاوز بعض المعطيات النظرية التاريخيةللعلاجات النفسية أو تطورها من داخل حقل السيكولوجيا، ليس من باب القصور أو الإهمال ولكنه أمر مقصود نتوخى فيه السير قدما نحو الإجابة عن إشكاليتنا الأساسية دون استغراق نظري- لكون المجال لا يتسع هنا -.أما المعلومات المفصلة عن تاريخ العلاجات النفسية فهي موجودة وبكثرة، ويمكن للقارئ العودة إليهاوالاستزادةمنها متى ما أراد ذلك. وعموما، لا يمكن الحديث عن العلاج النفسي كمجال علمي له نظرياته وتطبيقاته ومناهجه إلا من داخل حقل علم النفس، فالظاهر أن التاريخ البشري كان مفعما بالمعاناة النفسية بل كان لصيقا بها،إذ كان الإنسان في كل مرة يحاول تجاوزها إما عبر تفسيرها ميتافيزيقيا، وإما عبر معالجتها بطرق عديمةالجدوى، وإما عبر التوجه نحو أساليب السحر والشعوذة. كما كانت هناك محاولات جادة لكنها لم تكن ترقى إلى العلمية المطلوبة، سواء مع العلماء المسلمين أو مع مفكري عصر النهضةلكون الواقع الاجتماعي لم يكن بذلك التعقيد الذي سيشهده العالم منذ القرن 19. في نفس السياق هناك مرحلة تعتبر فارقة في تاريخ العلاجات النفسية بل في تاريخ علم النفس ككل، وهي مدرسة”التحليل النفسي”الفرويدية، هذه الأخيرة يمكن اعتبارها كإرهاص مباشر لظهور العلاج النفسي كحقل علمي نفسي مستقل، ورغم ذلك لا يمكن الجزم بعلمية “التحليل النفسي” إذ ظل مرتبطا بطرق تقليدية ومقولات لا يمكن إخضاعها لمنطق العلم مثل “التداعي الحر”، “تحليل الأحلام”، “عقدتي أوديب و إلكترا”، “مركزية الدافع الجنسي”.. فالتحليل النفسي يصبح وكأنه امتداد للتفسيرات الميتافيزيقية فقط. وعليه سيتم التفكير جديا في علاج نفسي ينطلق من الفرد داخل مجتمعه الحاضن ويعود إليه، ليتم التأسيس الأول للعلاجات النفسية. وعموما، قفد تعددت العلاجات النفسية حسب مدارسهاالكبرىباتجاهاتها وأقسامها وهيكما يلي:

1.1-العلاج السيكو ديناميكي: ويضم العلاج الأدلريAlfred Adler، العلاج النفسي التحليلي اليونغيCarl Jung، العلاج النفسي التحليلي القائم على التعلق، العلاج اللاكانيJacques Lacan. وينقسم العلاج السيكو ديناميكي إلى مرحلتين منفصلتين، المرحلة الكلاسيكية التي تتأسس على “النورولوجياالستاتيكية”(خباش, 2015)وهي المرحلة الفرويدية، ثم المرحلة الحديثة والتي تبلورت قبل عقدين من الزمن وتتأسس على “النورولوجيا البنائية”(خباش, 2015).ويجعل هذا العلاج من فرضية انطلاقه الأساسية هي أن “الفهم في سياق علاقة واحد لواحد مع شخص موثوق به، يسمح بتحرير العقل واكتشاف جوانب الذات التي كانت مبهمة في السابق”(Feltham et al., 2017)،أي أن الأرضية التي يقوم عليها العلاج تنبني على تأسيس علاقة متينة قوامها الثقة والانخراط والتفاعل بين المعالج والعميل، ثم إعادة اكتشاف الذات من خلال توسيع المدارك والأفكار وتسليط مزيد من الضوء على الجوانب الخفية في ذات العميل.

 

1.2-العلاج السلوكي المعرفي: ويضم العلاج السلوكي، العلاج المعرفي، العلاج بالتقبل والالتزام، العلاج المبني على التعاطف، العلاج الجدلي السلوكي، العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية، عقلنة العواطف.فالعلاج السلوكي المعرفي والذي يُعرف باسم العلاجات السياقية أو الموجة الثالثة من العلاجات النفسيةلكونها تجعل من السياق منطلقا في فهم السلوك الإنساني، فإنها تنقسم إلى: الموجة الأولى وهي العلاجات السلوكيةBehavioralTherapy، الموجة الثانية: وهي العلاجات المعرفية Cognitive Therapy، الموجة الثالثة: وهي العلاجات السلوكية المعرفية Cognitive BehavioralTherapy. ظهرت علاجات الموجة الأولى مع السلوكيين أمثال “إيفان بافلوف” “جون واطسون” و”فريديريك سكينر”، الذين كانوا يركزون فقط على السلوكيات والأحداث الملحوظة بهدف قياس الاستجابات السلوكية والتنبؤ بها والسيطرة عليها، معتبرين أن الشعور وما يرتبط به جزء من حياتنا النفسية لكنه غير قابل للتناول العلمي؛ لهذا يجب عدم الانشغال به بل يجب التركيز على ما هو ظاهر من السلوك البشري. لقد ركزت هذه العلاجات على ربط السلوك بمثيره إذ أن المثير الظاهر ينتج عنه سلوك ظاهر. ونتيجة “للقصور الذي خلّفته السلوكية على مستوى تجويد حياة الناس وعجزها عن تفسير العمليات الداخلية (الشعورية) في التجربة الإنسانية، وكذا اعتبارها من طرف منتقديها بأنها ميكانيكية ومختزلة جدا وعدم اهتمامها بدور المشاعر والأفكار”(بينيت& أوليفر, 2021)،فسيتم التوجه صوب العلاج المعرفي والذي يركز أساسا على الإدراك وتطوير تقنيات لتغيير المعتقدات والأفكار، وهو ما سيؤسس الموجة الثانية منCognitive BehavioralTherapyمع “ألبرت إليس” و” أرون ت. بيك”، إذ ستركز على التقويمات المعرفية، وإعادة بناء المعارف اللاعقلانية المختلة وظيفيا مثل العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي والعلاج المعرفي، إلا أن إغفال هذا العلاج لعناصر مهمة مثل إهمال النظر إلى كيفية التواصل مع مريض لا يفكّر، أو إهمالهلبعض المشاعر والسلوكيات أدى إلى محدوديته وقصوره في عملية العلاج. أما الموجة الثالثة والمعروفة باسم العلاجات السلوكية المعرفيةCognitive BehavioralTherapyفقد “تميزت بالتركيز على العلاقة الوظيفية بين السلوك والسياقات التي يحدث فيها، مع تركيز التدخلات على تعديل طريقة ارتباط الأفراد بالأفكار والسلوكيات والأحداث” (بينيت& أوليفر, 2021).فالحقيقة تكمن “بين أفكارنا حول العالم وما هو موجود”(Hayes et al., 2012)، على أن المشكل يقع حينما يكون هناك شيء من اللاحقيقة بين أفكارنا وما هو موجود أي تمثلاتنا الخاطئة وتقييماتنا غير الصحيحة عن المواقف والوقائع واعتبارها صحيحة. إن هذا العلاج الحديث ظهر كرد فعل على القصور البيّن في بروتوكولات العلاج المعرفي والسلوكي، خاصة في ظل عدم تركيزه على مهارات ضبط وتنظيم الانفعالات والمشاعر وتعلقه بصورة مباشرة بمحاولات تعديل تفكير العملاء أو المضطربين، ولهذا سيحاول الربط بين الفكر والسلوك والانفعال. هذا العنصر الأخير كان بمثابة القطعة المفقودة التي تم إدراجها في عملية العلاج النفسي، إذ لم تكن له أهمية مذكورة في العلاج المعرفي السلوكي الكلاسيكي، وبالتالي سيتم التركيز على قيمة وأهمية الانفعالات، المشاعر، اللغة، اليقظة الذهنية وعناصر أخرى. وإن كان الانفعال هو العنصر المفقود إلا أنه كفكرة مستعمَلة كان قديما وإن بطرق مختلفة، فالفلسفة الرواقية التي تأثرت بها العلاجات النفسية السياقية كانت ترى مع روادها الأوائل – خصوصا “إيبيكتيتوسEpictetus” و”ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius” أن “حكمنا على شيء ما هو ما يحركنا وليس الشيء في ذاته، وأن الإزعاج النفسي يقع من خلال الزوايا التي ننظر بها إلى هذه الأشياء”. بالمقابل نجد أن علاجات هذه الموجة قد استلهمت من المدارس الدينية الشرقية بشكل كبير، خصوصا البوذية والطاوية والزرادشتية وحتى الصوفية التي تعتمد على مبادئ التأمل واليقظة الذهنية وتصفية الذهن والسلام الداخلي، فالملاحَظهو أن هذه المبادئ تتقاطع بشكل كبير مع مبادئ العلاج المعرفي السلوكي السياقي؛ بل يمكن القول أن العلاج النفسي الأمريكي المعاصر “تأثر كثيرا بمجموعات التعافي من الكحول Alcoholics Anonymousوالتي تنطلق من مرجعيات دينية أخلاقية”(Vitz, 1994).

تُعتبر الأساليب العلاجية المنتمية إلى العلاج السلوكي المعرفي حديثة من الناحية الزمنية، إذ تم تطويرها خلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة، شأنها في ذلك شأن العلاجات النفسية اللاحقة. ومن خلال إطلالة سريعة على خاصيات هذه العلاجات يُلاحظ أنه قد تعددت اتجاهاتها وتنوعت مسمياتها بين علاج بالتقبل والالتزام مع “ستيفن هايز”، وعلاج جدلي سلوكي مع “مارشالينهان”، وعلاج باليقظة الذهنية مع “جون كابات زين”، عكس ما كان عليه العلاج السلوكي أو العلاج المعرفي اللذان تميزا بثباتهما على مستوى المنطلقات النظرية والخطوات الإجرائية. يتم إطلاق وصف “الموجة الثالثة” على هذه العلاجات، وهناك علاجات أخرى جاءت بعدها يُطلق عليها “الموجة الرابعة”، ومن يدري فقد يكون في المستقبل القريب جدا موجات خامسة وسادسة وما بعدها.

1.3-العلاج الإنساني الوجودي: ويضم العلاج الوجودي، العلاج المركز على العاطفة، العلاج الجشطالتي، العلاج المركز على الشخص، العلاج السيكودرامي، التركيب النفسي.والملاحظ بخصوص هذا النوع من العلاج هو أنه يميل إلى جعل الإنسان محورا لعملياته بدءا بمؤسس مدرسة العلاقات الإنسانية “أبراهام ماسلو”، إلى “كارل روجرز” و “فيكتور فرانكل”.هذا العلاج يعتبر أن الإنسان كائن حر له حق في الوجود وفق اختيارات خاصة يحددها هو ليرسم معنى لحياته، وهذه هي فكرة الانطلاق في هذا العلاج من أجل فهم المريض، لأن الوجود ككل هو معطى معقد يشكل خطرا على الفرد عبر سلب حريته وإصابته بالألم مكان اللذة وبالخوف عوض الأمان، وبالتالي فإن الفرد يتبنى “ميكانيزمات دفاعيةتجنبية” تؤذي في الغالب سلامته النفسية. يجب على الفرد إذن فهم عملياته الداخلية وتجاربه الشخصية عبر الوعي المستمر بحاضره وماضيه بكثير من التشجيع والتعاطف من طرف المعالج، ثم “تعرضه” لمشاكله عوض “تجنبها”.

1.4-العلاج البنائي: ويضم العلاج بالسرد، البرمجة اللغوية العصبية، الاستشارة البنائية الشخصية والعلاج النفسي، العلاج المتمركز حول الحل. حيث يعتبر هذا العلاج أن الإنسان هو صاحب الخبرة في حياته وهو المسؤول عنها، وبالتالي فهو يمنح المعنى لوجوده. لكن المعالج هنا يتعاون مع المريض من أجل إعادة بناء شخصية المريض وإعادة صياغة أفكاره عبر استكشافه لذاته والغوص فيها عميقا. لقد تطور هذا العلاج متأثرا بمدارس كثيرة مثل “نماذج العلاجات الأسرية المبكرة مع “جاي هالي”HaleyJay 1976و”كلوي مادان”MadanesCloé 1984والعلاجات البنائية مع “سلفادور مينوتشين”MinuchinSalvador1974ومدرسة ميلانو مع “لويجيبوسكولو”BoscoloLuigi 1987حيث تم استقاء كل تقنيات العلاج من هذه المدارس والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بعصر ما بعد الحداثة”(Miller, 2005).

1.5-العلاج الدامج الانتقائي: ويضم العلاج المعرفي التحليلي، العلاج النفسي البين فردي، العلاج متعدد النماذج، العلاج التعددي، العلاج بالمخطط، النموذج المهاراتي المساعد، تحليل المعاملات.والعلاج الدامج الانتقائيينطلق من مسلّمة أن لكل فرد حاجات متفردة قد لا تتشابه مع باقي الأفراد الآخرين، وبالتالي فمشكلة المريض هي مشكلة لها خصوصياتها وسياقاتها وتحتاج إلى مجموعة حلول تستجيب لتطلعات المريض وتوقعاته وتلبي طموحاته وتنمي جوانب متفرقة من شخصيته على أساس مقاربة متكاملة ومختارة بعناية،”يتم انتقاؤها وتطويرها عبر الفهم العميق لذات المريض واحتياجاتهاوجوانبها المعرفية والعاطفية والبيولوجية والاجتماعية والروحية من المريض نفسه ومعالجه”(Cooper & Dryden, 2016).إن هذا العلاج يحاول المزج بين تقنيات ومعارف نظرية مختلفة تنتمي إلى اتجاهات ومدارس علاجية متعددة.

ما يلاحَظ على هذه العلاجات من خلال تسمياتها ومنطلقاتها الفكرية وأيضا تياراتها المتعددة، أنها تنهل في جلّها من المدارس الفلسفية والنفسية الكبرى بدءا بالعلاج السيكو ديناميكي الذي تأثر كثيرا بمدرسة التحليل النفسي الفرويدي، إلى العلاج السلوكي المعرفي القائم أصلا على أنقاض المدرستين السلوكية مع “بافلوف” Ivan Pavlov”، واطسون” John B. Watsonو”سكينر” B. Frederic Skinnerوالمعرفية مع “أرون بيك” Aaron Beckو”ألبرت إليس”Albert Ellis، ثم العلاج الإنساني الوجودي الذي بلور ركائزه الفكرية متأثرا بوجودية “جون بول سارتر”Jean-Paul Sartre، والعلاج البنائي الذي تُعبّر اتجاهاته عن تأثرها الشديد بمدرسة ما بعد الحداثة كما يؤكد ذلك رائديه “ديفيد إبستون”David Epstonو”مايكل وايت”Michael Whiteمؤسسا العلاج بالسرد، إذ يعترفان أن هذا التيار العلاجي “قد تأثر بأفكار الفيلسوف الفرنسي ما بعد البنيوي “ميشيل فوكو”Michel Foucaultوبكُتّاب ما بعد الحداثة الآخرين”(Feltham et al., 2017).وأخيرا العلاج الدامج الانتقائي الذي يستقي الكثير من مرجعياته النظرية والفكرية من المدرسة الفينومينولوجية والوجودية والمعرفية والإنسانية.في نفس السياق، ثمة ملاحظة تخص الحقب الزمنية التأسيسية لهذه العلاجات مفادها أن كل هذه العلاجات ظهرت في الغالب بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي – إذا استثنينا المدرسة السيكوديناميكية الكلاسيكية التي تأثرت بالتحليل النفسي مع “كارل يونغ” و”جاك لاكان” و”ألفرد أدلر” الذي انفصل عن مدرسة التحليل النفسي. عكس السيكوديناميكية الحديثة التي تأسست نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة – وهي المرحلة التي زامنت الانتشار الكبير لأفكار “ما بعد الحداثة” في أوروبا خاصة والعالم الغربي بشكل عام.يمكن قراءة هذا التعدد العلاجي وفهمه من خلال قراءة الواقع “الما بعد حديث”، وإلا فما الغاية من كثرة المداخل العلاجية النفسية المعاصرة وهي تتناول نفس المشكلات النفسية؟ “فالمعرفية” مثلا حينما قامت،فلأجل ملء الثغرات التي لم تستطع “السلوكية” علاجها، كما أن “السلوكية المعرفية”تبلورت من أجل تجاوز القصور الذي تركته “المعرفية” و”السلوكية”؛ إذ أن العلاج النفسي الكلاسيكي قام على أساس المدارس السابقةله من أجل نقد إرثها وتجاوز هفواتها. أما العلاج النفسي “الما بعد حداثي” فينحو منحى آخر، إذ يغلب عليه طابع التعدد وعدم الاهتمامكثيرا بتجاوز نقائص باقي المدارس العلاجية المزامنة له؛هذا المعطى يمكننا من القول أن التعدد هنا ما هو إلا تعبير جلي من تعبيرات فكر”ما بعد الحداثة”،وانعكاس “للتحديث الوسواسي القهري الإدماني، والإذابة المتواصلة والإحلال السريع للبنى والنماذج الذائبة”(باومان, 2016)،فالسمة”الما بعد حداثية” تتميز بإسقاط السرديات الكبرى والقطع مع حداثة عصر الأنوار واعتبار أن كل شيء خاضع للنقد بل للهدم وإعادة البناء، فإذا كانت “الحداثة” تقوم على مرتكز معلوم هو محورية العقل فإن “ما بعد الحداثة” لن تقوم إلا على الهدم والتشكيك، ولهذا يذهب الكثيرون إلى القول أن “ما بعد الحداثة” كبناء فكري قام تأثرا بفلسفة المطرقة “النيتشوية” التي أعلنت عن “موت الإله”،فثارت على السائد ودعت إلى النسبية والتشكيك بدءا بالعقل الذي أضحى يقينا مطلقا إبان مرحلة “الحداثة”، وسعت إلى تجاوزه بسبب “يقينيته” تلك، ولكونه صار مرتكزا معياريا يشكل جسر عبور وانفصال بين عصر “خرافي مظلم” وعصر “عقلاني مزدهر”. إن “ما بعد الحداثة” كما يشير إلى ذلك “زيجمونت باومان” Zygmunt Baumanهي “مرحلة اللايقين والتعددية والنسبية والشك وانعدام الثقة وعدم وجود واقع موضوعي أو مثالي صالح للانطلاق.. لقد أدى توالي الهدم والتفتيت إلى جعل الحياة سائلة لا صلبة، وبالتالي صار الصلب الوحيد هو السيولة، واليقين الوحيد هو اللايقين، والحقيقة المطلقة هو أنه لا حقيقة”(باومان, 2016). ويمكن تعريف “ما بعد الحداثة” Postmodernismإذن كما أورده المفكر المغربي “محمد سبيلا” في كتابه بأنها “شكل من أشكال الثقافة المعاصرة. فهي أسلوب في الفكر يبدي ارتيابا بالأفكار والتصورات الكلاسيكية كفكرة الحقيقة، والعقل، والهوية والموضوعية، والتقدم أو الانعتاق الكوني والأطر الأحادية، والسرديات الكبرى أو الأسس النهائية للتفسير. وهي ترى العالم، بخلاف معايير التنوير هذه، بوصفه طارئا عرضيا، بلا أساس، متباينا، بعيدا عن الثبات، وبعيدا عن الحتميةوالفطعية، وبوصفه مجموعة من الثقافات أو التأويلات الخلافية التي تولد قدرا من الارتياب حيال موضوعية الحقيقة، والتاريخ، والمعايير، والطبائع المتعينة والهويات المتماسكة. وهذه الطريقة في الرؤية لها شروطها المادية الواقعية، كما يمكن أن يقول البعض. فهي تنبع من تحول تاريخي شهده الغرب صوب شكل جديد من الرأسمالية؛ صوب عالم من التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية وصناعة الثقافة، عالم سريع التبدد والزوال، بعيد عن التمركز، انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات على المصنع التقليدي، وأخلت فيه السياسات الطبقية الكلاسيكية الميدان لسلسلة واسعة من السياسات المرتبطة بقضية الهوية”(سبيلا & بن عبدالعالي, 2007).إن هذا التعدد يعكس حقيقة الواقعين الاجتماعي والنفسي المفعمين بالخوف والشك وذوبان اليقين في قوالب لا حصر لها وأنماط تفسير متنوعة وعلاجات نفسية متعددة ولا زالت تتعدد حتى يومنا هذا. عطفا على ما سبق، يتضح أن كل هذه العلاجات الجديدة ما هي إلا علامة من علامات التأثر الشديد بفلسفة “ما بعد الحداثة” والتي أثرت سواء بشكل مقصود أو غير واع في بلورة هذه المدارس العلاجية “الما بعد حديثة”، كما أن تعدد المشكلات النفسية ليس مصوغا لتعدد المقاربات العلاجات النفسية في زمن “ما بعد الحداثة”. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: ما قيمة هذا التعدد؟ وكيف هي طبيعته؟.

منهج البحث

بعد العرض النظري والدراسات السابقة التي تناولت العلاجات النفسية ومدارسها الكبرى من خلال منهج تحليلي مقارن تم اعتماد المنهج ذاته في صلب متن البحث بهدف استنتاج مدى إسهام  العلاجات  النفسية لما بعد الحداثة في فهم المشكلات النفسية، والعمل على تجاوزها من خلال التعدد على مستوى مقاربات نظرية وتطبيقية. ليتم في الأخير استقراء محرجات التحليل بعرض وضع ملخص مركز لأهم النتائج والمقترحاتمع ببعص التوصيات.

 

متن البحث

1-العلاجات النفسية وسؤال الوحدة من داخل التعدد

تقوم العلاجات النفسية “الما بعد حداثية”على فكرة رئيسية مفادها أن الفرد يجب عليه الانفتاح بشكل عميق على ذاته، أي أن عليه التعرف على حالاته المزاجية والشعورية والفكرية والسلوكية. ومن خلال ذلك تعلم طرق السيطرة على حياته وتحمل المواقف الصعبة. “فالمعتقدات الرئيسية التي يتبناها الفرد عن ذاته، وعن عالمه، وعن مستقبله، والتي تحدد نمطه التفسيري إزاء موقف ما.. قد تؤدي به إلى سوء تكيف، من هنا يكمن دور العلاج النفسي في مساعدة الأفراد على تحديد هذه المعتقدات وتقييمها، ثم حثّهمعلى التفكير بطريقة أكثر واقعية، والسلوك بطريقة أكثر فعالية، والشعور الأفضل نفسيا.. بمعنى أن معتقداتهم الخاصة تلك تساهم بنصيب وافر في مشكلاتهم النفسية، بل تبقي عليها وتسببها”(إس جى, 2012)  . على صعيد آخر، تتقاطع معظم مدارس العلاج النفسي المعاصر في تقنيات علاجية تظهر وكأنها إعادة إنتاج لنفس المدرسة ولكن بمسمى آخر. إن هذه العلاجات تتبنّى كلها مقولات جديدة قديمة من قبيل التأمل واليقظة الذهنية وتصفية الذهن والسلام الداخلي والانفتاح على الذات، والتي تُعتبر مبادئ أساسية في العلاج. ويمكن التدليل على ذلك من خلال رصد الخطوط العريضة لكل علاج من خلال ما سيأتي:

1.1- العلاج السلوكي المعرفي:

    العلاج بالتقبل والالتزام:

يعتبر “ستيفن هايز” Steven Hayesمؤسس هذا العلاج مطلع التسعينات، ويهدف إلى زيادة المرونة النفسية للأفراد، وعيش لحظتهم الراهنة بعيدا عن حضور الماضي أو تسلط المستقبل على الحياة الشخصية، ووضع أهداف يمكن تحقيقها عبر تبني قيم إيجابية معينة. وعموما، يتمحور هذا العلاج على ستة مبادئ أساسية يطلق عليها “هايز” (Hayes et al., 2012)اسم “نموذج الهيكسافليكس” Hexaflex ModelTheأو “المرونة النفسية” هي:

  • التقبل Acceptance:أي تقبل الفرد لمشاكله ومواجهتها عوض الهروب منها أو تجنبها، والوعي بها كمشكلة قائمة عوض الصراع معها.
  • الانفصال المعرفيCognitive Defusing: ويركز على تغيير أسلوب تفاعل الفرد مع أفكاره وعدم تعلقه بها، وجعل تجربة الفرد الشعورية تجربة منفصلة عن الذات، والتفكير فيها دون انخراط قيمي عبر رؤيته لها عوض الرؤية من داخلها.
  • كون الفرد حاضرا BeingPresent: الاتصال باللحظة الراهنة “هنا والآن” والوعي بها باستمرار عوض العيش في الماضي أو في المستقبل.
  • الذات كسياق Self As Context: جعل المرونة النفسية منطلقا في رؤية الذات، وتجديد التصورات الذاتيةوإعادة اكتشافها.
  • القيم Values:بناء القيمالخاصة بالفردكشخص مسؤول وواع، لأنها تمنح للحياة معنى وتمكّن الفرد من تحقيق أهدافه.
  • الالتزام Commitment:متبادل بين المعالج والعميل بتشجيع الفرد على القيام بسلوكيات أكثر فعالية وأدوم استمرارية.

    العلاج باليقظة الذهنية:

يُعتبر “جون كابات زين”Jon Kabat-Zinn أول من أدرج اليقظة الذهنية Mindfulnessكمدخل علاجي اكلينيكي مطلع الألفية الثالثة، إذ يدور هذا العلاج النفسي على فكرة جوهرية مفادها زيادة الوعي باللحظة الراهنة عبر ربط اتصال الفرد بلحظته الآنية المعاشة بانخراط تام كامل وواعي، ويتحقق هذا الأمر بالمزيد من التأمل والصفاء الذهني وتجديد العيش وفق فلسفة “هنا والآن”.

    العلاج الجدلي السلوكي:

تعتبر “مارشالينهان”Marsha Linehanهي المؤسسة الفعلية لهذا المدخل العلاجي، وقد تم “تطويره أساسا لتقليل السلوكيات الانتحارية وإيذاء الذات للعملاء الذين تم تشخيصهم باضطراب الشخصية الحدية، وقد قام هذا العلاج بناء على ثلاث وجهات نظر فلسفية هي السلوكية، معتقدات الزن، والديالكتيك”(Feltham et al., 2017)إذ يدور حول تثمين خبرات الفرد وتعزيز قدراته ومهاراته عبر تعليمه القيام بالمزيد من اليقظة الذهنيةMindfulness، وانفتاح الفرد على واقعه ووعيه بحجم الضغوطDistressTolerance، والتحكم في انفعالاتهEmotion Regulation، ثم الوعي بجودة العلاقات الشخصية InterpersonalEffectivness .

1.2- العلاج الإنساني الوجودي

هذا العلاج كما سبق وقلنا فإنه يركز على الإنسان واعتبار حريته في الوجود بشكل عام.يلاحَظ من خلال اتجاهاته العلاجية المتعددة أنها تركز كثيرا على الشخص داخل سياقه، واستخدامهالمفاهيم ذات وظائف إجرائية من قبيل فهم الذات، تحقيق التواصل الجيد مع المجتمع، تحقيق الذات، اليقظة الذهنية، التشجيع والتعاطف، الوعي الذاتي بالمجتمع وبالذات معا، التركيز الكامل للذهن.. وغيرها. فلنأخذ مثلا “العلاج الوجودي”فإنه يركز على التجارب السابقة في التأثير على الشخص، ومحاولة التركيز على الحاضر والمستقبل عبر استحضار السياق في العلاقة مع الآخرين، بناء القيم الشخصية والبحث عن المعنى داخل هذا العالم المعقد..،(Cooper & Dryden, 2016)وهناك”العلاج الجشطالتي”الذي يتطرق من خلال تقنياته إلى الدور التخييلي في فهم المشكلة وتجاوزها عبر لعب الأدوار من خلال تقنية “الكرسي الفارغ” Empty Chairوهي تدور حول وضع كرسي فارغ أمام العميل وتخيله لشخص وهمي جالس أمامه ليقوم بمحادثته حول مشكلته وما يرجوه من خلال عملية العلاج. أيضا هناك تقنية المبالغة في لغة الجسدExaggeration of body languageعبر فسح المجال للتعبير اللفظي وغير اللفظي وفهم الانفعالات والسلوكيات الصادرة عن الجسد، هناك أيضا تقنيات مثل الأحلام المرجوة ومحاولة تحقيقها بمزيد من الفعالية والاستمرارية، وتقنية “هنا والآن”Here and Nowعبر ربط العميل بحاضره ولحظته وعيشها بشكل كامل وواعي، ناهيك عن التعاطف والحوار الجيد والتفاعل مع العميل.(Miller, 2005)كما أن “العلاج المركز على الشخص” فإنهيؤسس تقنياته على التحالف المثمر بين العميل والمعالج، والتعاطف والاحترام الإيجابي غير المشروط ورسم النهايات الجيدة وتحقيق الذات من خلال النظرة الإيجابية للآخرين عن الشخص..(Miller, 2005)وغيرها.

1.3- العلاج البنائي

تنطلق هذه العلاجات في مقارباتها من أهمية السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الشخص، بمعنى تأثير المجتمع على الناس وعلى مشاكلهم. كما تهتم بشكل كبير بالمعتقدات المتعلقة بالعمر والجنس والعرق والدين وغيرها والتي تمنحه معنى لواقعه وللحياة ككل. هذا المعنى أحيانا قد يتعارض مع المعايير “المثالية” التي يضعها المجتمع والتي يتم تبنيها على أنها “حقائق” لا جدال فيها،الشيء الذي يؤدي إلى مشاكل عاطفية أو سلوكية. (Miller, 2005)إن الأساليبالعلاجية المنتميةلهذه المدرسة ورغم تنوع تسمياتها إلا أنها تنتظم في نسق علاجي شبه موحد، “فالعلاج بالسرد” مثلا يهدف إلى فصل الشخص عن مشكلته ومساعدته على إخراجها عوض استيعابها، واعتبار أن الأفراد هم خبراء لديهم العديد من المهاراتوالكفاءات والمعتقدات والقيم والالتزامات والقدرات التي ستساعدهم على تغييرعلاقتهم بالمشاكل في حياتهم. “يستخدم العلاج بالسرد تقنيات تستحضر السياق بشكل أساسي في معالجة المشكل عبر تثمين خبرات الشخص وإعادة كتابة قصص جديدة متخيلة لوضعيات مستقبلية”.(Miller, 2005) أما “العلاج المتمركز حول الحل” فإنه يرى أن التغيير يأتي من مصدرين رئيسيين هما:تشجيع الناس على وصف مستقبلهم المفضل وكيف ستكون حياتهم في حالة نجاح العلاج، وتفصيل المهارات والموارد التي أظهرها الأفراد واستخدامها من أجل التغلب على المشكلات الحاضرة. وبالتالي تتم الجلسات العلاجية “عبر الحوار المثمر والتفاعل الإيجابي والتشجيع والاهتمام بشكل أساسي بالحاضر هنا والآن، وخلق توقعات لوضعيات مشكلة قد تواجهالفرد في المستقبل عبر التخيل والأحلام”(Miller, 2005).

1.4- العلاج الدامج الانتقائي

ينطلق العلاج الدامج الانتقائي من فكرة جوهرية مفادها الجمع بين الأساليب والأفكار العلاجية المنتمية لمختلف مدارس العلاج الأخرى، على أن تكون الركيزة التي تتمحور حولها هذه الأساليب هي اعتبار العميل ذاتا متفردة لها خصوصياتها وسياقاتها الخاصة، والتعاون والحوار مع العميل وإشراكه في عملية بلورة العلاج، والاهتمام بالحاضر، والرفع من منسوب التأمل الذاتي وغيرها. ويمكننا قياس كل ذلك من خلال “العلاج المعرفي التحليلي”يستخدم تقنيات كثيرة من بينها التعاون المثمر بين المعالج والعميل، والحرص على إبقاء الذات نشطة وواعية خصوصا على المستوى العاطفي، وتجنب تفعيل أدوار وإجراءات العميل بشكل غير مفيد في العلاقة العلاجية..(Feltham et al., 2017)، كما أن هذا العلاج يشير بشكل واضح إلى “إعادة صياغة المهارات والاستراتيجيات” Skills and strategies reformulationمن خلال خطاطة تستحضر تقييم التجارب السابقة وفهم العميل لذاته بشكل جديد.(Feltham et al., 2017).وهناك أيضا “العلاج النفسي البين فردي”InterpersonalPsychotherapyالذي يستقي من تقنيات “هنا والآن” واستحضار السياق في العملية العلاجية، ووضع الأهداف والاستراتيجيات من أجل التعامل مع المشاكل، ورسم مواقف متفائلة للعميل، والتشجيع بهدف استفادة العميل من علاقاته الاجتماعية.(Feltham et al., 2017)هناك علاجات أخرى تنتمي لهذا الأسلوب العلاجي وتشترك معه في الغالب في أبرز خاصياته وتنقنياته مثل العلاج متعدد النماذج، العلاج التعددي، العلاج بالمخطط، النموذج المهاراتي المساعد، تحليل المعاملات.إن العلاج الدامج الانتقائي يعترف أنه مدخل علاجي متعدد الأساليب والأفكار والنظريات، بمعنى أنه ينهل من مدارس مختلفة قام على أساسها، وبالتالي يمكن القول أنه نسخة/نسختمزج بين مختلف العلاجات النفسية من أجل تشييد مدرسة علاجية نفسيةجديدة.

بعد هذه الجولة الاستكشافية لتقنيات المدارس العلاجية النفسية الكثيرة (العلاجات النفسية الما بعد حداثية)، يمكن الجزم بكونها تقوم على فكرة أن العلاج يتم عبر الحوار بين المريض والمعالج من أجل فهم أعمق للمشكلة من طرف المريض أولا ثم المعالج ثانيا، وإعادة صياغة المشكلة وفق مقاربات جديدة وواعية تحاول إنتاج المعنى (الحل) من داخل اللامعنى (المشكل) ولهذا توصف أحيانا بـ”العلاج بالكلام”TalkingTherapy. إن ما يلاحظ على هذه العلاجات الجديدة هو أنها متداخلة من حيثالأهداف كما التقنيات، ويبدو أن هذا معطى ذا دلالة قوية يعكس الوحدة المرجعية العلاجية لها، فإذا عدنا بالزمن إلى الوراء قليلا يمكننا القول بكثير من الارتياح أن كل هذه الاتجاهات العلاجية المعاصرة إنما مردها إلى نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 مع المدرسة السيكو ديناميكية التي أسسها “سيغموند فرويد” Sigmund Freudوالتي سيبرز فيها اسم الطبيب وعالم النفس النمساوي “ألفريد أدلر” Alfred Adlerالتلميذ النجيب لـ “فرويد”، والذي قام ب”ثورة فكرية” على أستاذه لينتهي بهما المطاف إلى قطيعة استمرت حتى وفاة “أدلر”. ويعود سبب القطيعة إلى أن “ألفريد أدلر” اعتبر أن القوة الدافعةفي حياة الإنسان هي “إحساسه بالنقص” عكس ما كان يقوله “فرويد” بأن الطاقة التي تحرك الإنسان هي الجنس واللاوعي والعُقد الطفولية الميتافيزيقية “الأوديبية” و”الإلكترية”. لقد انفصل “أدلر” عن الاتجاه التحليلي النفسي الفرويدي ليؤسس بذلك اتجاها جديدامن داخل الاتجاه السيكو ديناميكي ستستقي منه أغلب العلاجات النفسية “الما بعد حداثية” ركائزها النظرية بل وتدخلاتها الإجرائية أيضا.ومن هنا يمكن القول أن “أدلر” انتقل من كونه محللا نفسيا كلاسيكيا إلى كونه معالجا نفسيا أكثر تفاعلا مع الواقع وارتباطا به، خصوصا في ظل التراكم العلمي داخل حقل العلوم الإنسانية وحقل الطب وتأسيس العلاج المعرفي وظهور العلوم العصبية الحديثة.

تركز السيكو ديناميكية على مفهومين أساسيين هما “التحويل” Transfertو “القالب” Template، بمعنى أن تاريخ الإنسان وماضيه يؤثر في حاضره ومستقبله، فالإنسان يقوم بعملية تحويل ماضيه إلى لحظته الآنية عبر بناء قالب تفسيري يسقط عليه أحداثه الحالية من خلال أحداثه السابقة.إن “أنماط حياتنا وسلوكاتنا ما هي إلا نتيجة عن تصوراتنا الذاتية، كما أنها تظهر لنا منطقية جدا لكنها ليست منطقية بالضرورة للآخرين” (Feltham et al., 2017)هذه الفكرة نجدها حاضرة في المنطلق التفسيري للعلاج السلوكي المعرفي السياقي، وذاك ما أشار إليه “هوفمان”Stefan G. Hofmann في كتابه “العلاج المعرفي السلوكي المعاصر”، إذ يقول: “أن معتقداتنا وأنماط تفكيرنا وقوالب تفسيرنا التي تتشكل من خلال تجاربنا السابقة وطرق إدراكنا للعالم أو أنفسنا أو الآخرين أو المستقبل تؤثر مباشرة في استجاباتنا الوجدانية والانفعالية” (إس جى, 2012).

إن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الفكر “الأدلري” والتي تضمنها كتابه “ماذا تعني لك الحياة” تدور حول كون الشخص منذ لحظات وعيه الأولى بوجوده داخل جماعة تضم مجموعة من الأفراد، فإن عقدة كبيرة تتشكل لديه هي “عقدة النقص أو الدونية” تسير به في اتجاه محاولة “تعويض” هذا الشعور بالنقص إلى قوة. “وتظهر عقدة النقص أمام مشكلة لا يتكيف معها الفرد ويعتقد أنه غير قادر على حلها،فيقوم بحركة تعويضية تنحو نحو الشعور بالتفوق، لكن هذه الحركة التعويضية تسير في اتجاه خاطئ يضع المشكلة الحقيقية جانبا ويهتم بأشياء غير مجدية”(Adler, 1932). وأول استراتيجية يقوم بها الفرد هي البحث عن “انتماء واندماج” داخل جماعة معينة يحس فيها برضى باقي الأفراد عليه ويكون راضيا عن نفسه في الآن ذاته. على أن عدم الانتماء هذا أو صعوبات الانتماء تؤدي به في النهاية إلى عدم القدرة على التعويض ما يعني تفاقم عقدة النقص لتؤدي به في النهاية إلى سلوكات مرضية منحرفة. “ولهذا فكل مريض إنما سبب مشكلته النفسية هي عقدة النقص”(Adler, 1932)، إن الفرد دائم البحث عن استراتيجيات تخفي مرضه الحقيقي ولهذا فإن المرضى غالبا ما يكونون غير واعين بمشكلاتهم الحقيقية أو يتسترون عليها بأساليب “تجنبية” عوض أن تكون “تعرضية”. فمثلا هناك شخص مصاب بالإحباط يحاول جاهدا التغلب على هذا الشعور لكنه يقوم باستراتيجيات تتحاشى المشكل الحقيقي ويقوم بمحاولات واهمة يقنع بها نفسه أنه غير مريض لتؤدي به إلى الشعور بالتفوق “الوهمي”، فهذه الاستراتيجيات هي بمثابة “تنويم مغناطيسي” للنفس وخداع للذات إنما مرده إلى الشعور الذي يحاول جاهدا إخفاءه وهو الشعور بالدونية والنقص(Adler, 1932). إن من بين الاستراتيجيات التجنبية التي يقوم بها الفرد من أجل إخفاء عقدة شعوره بالنقص هي: البكاء، الغضب، الاعتذار، الإفراط في بعض السلوكيات مثل قلة الكلام أو الإفراط في ارتداء الملابس الفاخرة، وضع الصور الشخصية وأحداث الحياة اليومية وأنواع الأطعمة على مواقع التواصل الاجتماعي.. وغيرها.

يركز “أدلر” في تقنياته العلاجية وأساليبه الإجرائية سواء منناحية “الماكرو”أو “الميكرو” على مجموعة أمور يمكن إجمالها في:(Feltham et al., 2017)

–      إفهام العميل لمشاكله الداخلية عبر انفتاحه عليها ووعيه بها.

–      تشجيع العميل والتعاطف معه وعدم الاعتراض عليه.

–      حلق التوقعات لدى العميل عبر وضعه أمام مشكلات مفترضة قد يواجهها مستقبلا.

–      الفهم العميق للأهداف الحقيقية الكامنة وراء السلوك الذي يقوم به الفرد.

–      فحص ذاكرة المريض عبر فصله عن أفكاره والنظر إليها لا النظر من خلالها للعالم.

–      التزام العميل مع المعالج من أجل إتمام العلاج، وإعادة توجيهه عبر ربطه بالحاضر لا الماضي ولا المستقبل (هنا والآن).

يمكننا التدليل مرة أخرى على أن التقنيات المستخدمة في كل المدارس العلاجية النفسيةتتكرر وإن بمسميات مختلفة – هناك خمس مدارس علاجية كبرى كما تمت الإشارة مسبقا وهي: السيكوديناميكية، السلوكية المعرفية، الإنسانية الوجودية، الدامجة الانتقائية، البنائية. وداخل كل مدرسة هناك تفرعات كثيرة- فمن خلال تتبعناالدقيق للتقنيات المستخدمة كما سبقت الإشارة، يلاحَظ أنها نفسها في كل مرة أو تكاد تكون كذلك،ويمكن إجمالها في: التعاطف، الوعي بالحاضر، النمذجة، التعزيز، التعرض، الاحتراز، الواجب المنزلي، اليوميات، التفريغ، التخيل، الاستعارة والمجاز(Feltham et al., 2017) .

إجمالا، لا يسعنا سوى القول أن تعدد الاتجاهات العلاجية النفسية “الما بعد حديثة”هو في حقيقة الأمر تعدد من داخل الوحدة، هو تعدد يجعل من مدرسة “ألفريد أدلر” أرضية صلبة يقوم عليها، ومرجعا نظريا وعمليا ينهل منه، وعليه فهذه العلاجات ما هي إلا إعادة إنتاج للمدرسة “الأدلرية” تحت مسميات جديدة، سواء من حيث المفاهيم أو من حيث التقنيات الإجرائية؛ فاستحضار السياق في العملية العلاجية والتعاطف والتشجيع والاهتمام بالحاضر “هنا والآن” والتخيل والتوقع وغيرها.. كلها نجد لها حضورا وازنا في السيكو ديناميكية الأدلرية، كما أننا نجد لها تموقعات جوهرية لدى مختلف المدارس العلاجية النفسية الما بعد حداثية. إنه تعدد كمّي وفقط، يظهر أحيانا وكأنه مجرد تأثيث داخل تيارات العلاج النفسي أكثر منه تعددية ذات خصوصية مستقلة،فالعلاج السلوكي المعرفي، والعلاج الإنساني الوجودي، والعلاج الدامج الانتقائي، والعلاج البنائي، كلها علاجات ممتدة ومستمَدة من العلاج النفسي لأدلر،بل إنها لا تكاد تنفصل عنه.

قد يتساءل القارئ وقد يلاحظ أن السطور السابقة تتضمن تناقضا كبيرا لأننا اعتبرنا أن العلاجات النفسية المعاصرة هي وجه من أوجه “ما بعد الحداثة” غير أن هذه الأخيرة كفلسفة وكمفهوم وكفكر تتميز بالتعددية الحقيقية والانفصال، بينما العلاجات -حسب ما رأيناه- هي ذات تعددية صورية فقط ولا تعبّر عن الفروق العميقة بينها، إذ أن أصلها واحد في النهاية. وهذه ملاحظة في محلها، يمكننا الإجابة عنها من خلال الجواب عن السؤالين التاليين: ما الأغراض الحقيقية من بلورة علاجات نفسية متكررة؟ وكيف يمكن قراءة دلالات تعددها في ظل الواقع العالمي الراهن؟

2-مدارس العلاج النفسي الما بعد حديثة: بين العلاج النفسي واستراتيجيات التنميط

في مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتشرت في العالم أطروحة نظرية للباحث الأمريكي من أصل ياباني “فرانسيس فوكوياما” Francis Fukuyamaتضمنها كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، تقول بأن العالم قد استكمل بناء نظامه المثالي والنهائي، والذي سيلغي كافة الأنظمة الأخرى (سياسية واقتصاديةواجتماعية وغيرها)، يقصد “فوكوياما”النظام الليبراليالأمريكي، قائلا أن التاريخ سيتوقف عندهكتحصيل نهائي لكل الفلسفات والأفكار البشرية، ولن يكون هنالك إبداع آخر باعتبار أن أرقى ما وصل إليه الإنسان وما يمكن أن يصل إليه في تطوره هو الديمقراطية الليبراليةالأمريكية “النموذجية”.(Fukuyama, 1992)إن هذه الفكرة بكل ما تحمل من تناقضات وأخطاء منهجية لعل أبرزها تلك التي أوردها الباحث الأمريكي “صامويل هانتنغتون” Samuel Huntingtonأستاذ “فوكوياما” في كتابه “صراع الحضارات”،(P.Huntington, 1996)،حيث أشار إلى أن الديمقراطية الليبرالية لن تكون النموذج النهائي في التطور البشري نظرا لتعدد المداخل الثقافية والدينية في العالم، والمستقبل ينبئ أن الصراع سيكون حضاريا ثقافيا ودينيا، لا إيديولوجيا سياسيا. ورغم أن “فوكوياما” نفسه تراجع عن فكرته لاحقا،إلا أن فكرةحشر الإنسان في قوالب نمطية موحدة وصنع إنسان على المقاس هي فكرة ذات امتدادات تاريخية أمريكية، نجد لها حضورا قويا في الفكر والسياسة والسينما وغيرها،غرضها إحكام السيطرة على الإنسان من أجل فهمه أولا ثم التنبؤ بسلوكياته وضبطه ثانيا.لا تبتعد أطروحة “نهاية التاريخ” كثيرا عن فكر “ما بعد الحداثة” ولا تعارضه رغم مناداتها بنظام عالمي موحد وتَمَيُز”ما بعد الحداثة” بالتعددية، فبُعيد نهاية الحرب الباردة وفض القطبية الثنائية وانهيار المعسكر الشرقي الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي وصعود المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، سيتبلور مفهوم جديد هو “النظام العالمي الجديد” أو ما سيطلق عليه فيما بعد “العولمة”، هذه الأخيرة كانت بمثابة فكر عالمي سيزحفعلى جل المجتمعات ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا بل وحتى ذوقيا..إن “ما بعد الحداثة” كبناء فهمي تفسيري ستكون له راهنية اعتبارية مع السقوط المدوي للسرديات الكبرى من قبيل الشيوعية والتفكك العالمي الكبير جراءانحصار الاتحاد السوفياتي وتراجعه لصالح دويلات جديدة، موازاة مع ذلك سينتشر المشروع “العولمتي”في مختلف دول العالم، وبالتالي فـ”العولمة” و”ما بعد الحداثة” مرحلتان لا تكادان تنفصلان عن بعضهما رغم نزوع الأولى نحو العالمية والكونية، ونزوع الثانية نحو الفردانية والتعددية. إن فكرة خلق “نظام عالمي جديد” كان قد أشار إليها أحد رواد المدرسة الألمانية النقدية وهو “هربرت ماركوز” Herbert Marcuseفي كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد”، إذ يقول في بعضصفحات الكتاب أن “الرفاه وافتقاد الحرية في إطار ديمقراطي كحرية الفكر والكلام والضمير، وسيادة العقلانية التكنولوجية بنزعة كلية استبدادية تنميطية هو ما يميز الحضارة الحالية”(ماركوز, 1988) ، ويضيف “ماركوز”أن “المجتمعات اليوم صارت مجتمعات أحادية البعد بفعل التنميط والمكننة والتكنولوجيا، وخلق حاجات إنسانية في سياق مجتمعات صناعية استهلاكية، وإقناع الأفراد عبر وسائل الاتصال الجماهيري والتسويق بتلبية هذه الحاجاترغم أنها قد تكون حاجات كاذبة لا حقيقية، وبالتالي تصبح هذه الحاجات مفروضة،قمعية واضطهادية يكون فيها الفرد مستلبا، أي أنه خاضع لرقابة اجتماعية تسيطر عليه وتخضعه وتؤثر على اختياراته وتسلب حريته وتفصله عن إرادته دون أن يعي ذلك حتى”(ماركوز, 1988) .فالكثير من الحاجات اليوم هي “حاجات وهمية من صنع الدعاية والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري”(ماركوز, 1988).إن الاستلاب المقصود هنا هو أن الفرد يعتقد في قرارة نفسه أنه كائن حر لكونه يمارس اختياراته في الحياة، بينما الحقيقة أنه يمارس اختياراته من خلال ما تم تحديده مسبقا من طرف الرقابة الاجتماعية، فهو يختار من الوجود المفروض عليه لا من خلال ما يشاء كيفما يشاء وقتما يشاء. يتقاطع تحليل “ماركوز” بشكل كبير مع تحليل زميله في مدرسة “فرانكفورت” “إريك فروم”Erich Frommفي مسألة الاستهلاك والاستلاب، إذ يقول في كتابه “المجتمع السوي” أن “المجتمع السوي هو الذي يتوافق مع الحاجات الحقيقية للإنسان، لا الحاجات الكاذبة التي يتم تقديمهاعلى أنها حاجات ضرورية بسبب التراكمات الثقافية والتي تؤكد أن الإنسان ما يزال غير قادر على الانعتاق من سلطة الرأي العام الذي يقلب وعيهبإيهامه أنه سيدأفكاره وحريته وقراراته حسب ما يريد، والحقيقة أنه ليس كذلك بل إنه خاضع لسلطة الرأي العام”(فروم, 2009).ويضيف “فروم” في كتابه الآخر”الإنسان المستلَب وآفاق الحرية” أن “الإنسان المعاصر يتميز بسمة أساسية هي أنه يستهلك بشكل دائم،إنه مستهلك أبدي يستهلك كل شيء.. ولم تعد السوق اليوم كتلك السوق التقليدية، بل صار كل واحد حر في إنتاج ما يريد وتسويقه كما يريد، على أن معيار نجاح السلع هو نفاذها من عدمها”(فروم, 2013).إن هذا التوجه العام الذي تفرضه ثقافة المجتمع والمتمثل في ثقافة الاستهلاك، يصبح توجها “سويا” هو في الآن ذاته شرط وجود الفرد، وكل سلوك يلغي فعل الاستهلاك هذا يصير سلوكا “غير سوي”، فمجتمعات “ما بعد الحداثة”تجعل من ثقافة الاستهلاك أحد أعمدتها الرئيسية، ولهذا كان “إريك فروم” يؤكد على أن الشخص السوي سيعاني نفسيا في المجتمع غير السوي.

في ظل هذا الزخم المعرفي يمكن القول أن العلاجات النفسية “الما بعد حداثية” صارت حاجة تفرضها متطلبات السوق، وقانون العرض والطلب، والتي تزكت بفعل تغلغلمشاعر الخوف والشك وعدم اليقين داخل المجتمعات الغنية؛ أي أنها أصبحت سلعة قابلة للاستهلاك كغيرها من البضائع والسلع والمنتجات في إطار منظومة رأسمالية تعتمد على التجارة و”الماركوتينغ”واستهداف الربح السريع.بل هناك من المتخصصين من نسف عنها صفة العلمية وأطلق عليها لقب “أسطورة العلاجات النفسية”(Szasz Stephen, 1988). كما أن الكثير من الآراء تعتبر أن “العلاج النفسي في عمومه غير قابل للتحقق من علميتهوموضوعيته، وكل ما في الأمر أنه صار عملية إقناع يتم فيها تخفيف المعاناة من خلال إيمان المريض بالمعالج النفسي وتعاطف هذا الأخير ودعمه للعميل”(Vitz, 1994).ومن خلال الإحصائيات أسفله(ينظر الشكل1)يمكننا الاطلاع على حجم الإقبال الكبير على العلاجات النفسية والتي تؤكد أن تزايد الطلب على العلاجات النفسية في نمو مطرد منذ مطلع الألفية الثالثة(Elflein, 2023):

الشكل1:عدد البالغين في الولايات المتحدة الذين تلقوا علاجا أو استشارات في مجال الصحة العقلية في السنوات  الماضية من 2002 إلى 2021 (بالملايين)

تشير هذه الأرقام إلى أن الأشخاص الذين تلقوا رعاية نفسية (دوائية أو استشارية) بالولايات المتحدة الأمريكيةقد ارتفع عددهم بأكثر من النصف في غضون أقل من 20 سنة الأخيرة، علما أنها إحصائيات تخص الراشدين فقط دون الأطفال؛ فالمنحى كان تصاعديا بين سنة 2002 التي استفاد فيها أكثر من 27 مليون شخص من رعاية نفسية، وسنة 2021 التي استفاد فيها أكثر من 41 مليون راشد من رعاية نفسية. إن هذه الأرقام الضخمة تدفعنا نحو التأكيد من جديد أن العلاج النفسي لما بعد الحداثة قد صار “عملا تجاريا” مربحا، خاضعا لقانون العرض والطلب، وفيا للروح الاستهلاكية القائمة على التسويق بشكل أساسي. ومن هنا يمكننا استعارة مقولة “ماركيوز” حينما تحدث عن “الحاجات الحقيقية والحاجات الكاذبة”، فالعلاجات النفسية “ما بعد الحداثية” قد تكون في أغلبها “حاجات كاذبة” استقرت في أذهان الناس كضرورة أساسيةملازمة للعيش، بفعل عدة عوامل لعل أبرزها انهيار منظومة القيم والأخلاقوزحف الثقافة الاستهلاكية الخاضعة لقانون السوق والترويج التجاري؛ إن هذا الواقع كما يصفه الفيلسوف “جون بودريار” أحد مفكري “ما بعد الحداثة” هو واقع يعكس “عصر الاستهلاك” حيت “المجتمعات صارت استهلاكية، من تنظيم العمل واستهلاك المنتجات إلى تسليع الثقافة والعلاقات الإنسانية والحياة الجنسية.. لا من باب الربح فقط، بل لأن الواقع صار فرجويا ممسرحا، وبالتالي صار كل شيء قابلا للاستهلاك”(بودريار, 1995)،والوسيلة الناجعة لتحقيق ذلك، هي قنوات قنوات التأثير الإعلامية والثقافية والتي نجحت في تحويل كل شيء إلى مادة مستهلكة بما في ذلك العناصر الروحية والثقافية.. وعليه، لا يمكن للمنتوج الثقافي داخل هذا السياق، إلا أن يكون سطحيا محدود الصلاحية ومتجاوَزا.. متنوعا وفاتنا نعم، لكنه منعدم العمق، خالي المعنى، هزيل النوعية.. إن واقعا بهذا الشكل، يؤدي وظيفتين في الآن ذاته: فأولا، يضعف الحس النقدي للرأي العام، وثانيا، يدمج الأفراد في مجتمع محدد مسبقا، مجتمع قد يكون مخادعا ومزيفا”(بودريار, 1995).

ومن هذا المنطلق”يصير الفرد مدجنا بفعل الحث الكبير لوسائل الإعلام الجماهيري عبر خطابها الاستهلاكي الذي ينشر الأوهام، ليسهم في الأخير في صناعة”قطعان” من الناس محكومين بالترويض الاجتماعي والضبط والرقابة، ولا هم لهم سوى الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك”(بودريار, 1995)  .

خاتمة

نتائج ومقترحات

تصب نتائج ومقترحات هذا العمل في ما يلي:

– السعي نحو رفاهية المواطنين في إطار “دولة الرفاه” Welfare Stateقد أدى إلى “تسليع” كافة مناحي الحياة بما في ذلك القيم والأخلاق والثقافة والدين، فتم إغراق السوق بالبضائع والمنتجات وتشجيع الناس على استهلاكها؛ وتكاد العلاجات النفسية الآن لا تخرج عن هذا السياق.

– صارت العلاجات النفسية مهنة مربحة أكثر مما هي حاجة مُلِحة، فصار التسابق إليها من طرف المعالجين كما العملاء/الزبناءبوتيرة مرتفعة، بل تم الاتجاه صوب استحداث علاجات جديدة قديمة تستقي في غالبها من المعتقدات الدينية وتنهل من النظرية “الأدلرية” ركائزها.

– أدت العلاجات النفسية “لما بعد الحداثة” – سواء عن وعي أو دون وعي – أدوارا كبيرة في تنميط الإنسان وجعله شبيها لأخيه الإنسان، بل ربما ستؤدي هذه العلاجات إلى ما يمكن تسميته “التدمير الاجتماعي للعلاجات النفسية”،أولا لأن العلاجات النفسية كما سبقت الإشارة هي نفسها تقريبا من ناحية الأصل، وثانيا لأنها صارت تجارة ضرورية الاستعمال شأنها في ذلك شأن باقي السلع ذات الصلاحية المحدودة بل صار الإنسان هو السلعة في كثير من العلاجات، وثالثا لأنها سارت في طريق تحديد اختيارات الأفراد واقتراح خطواتهم المستقبلية – رغم أن هذه العلاجات تقرّ ببناء الحل بين المعالج والعميل -،فصار المعالج في الكثير من الأحيان يختار بدلا عن عملائه.

-إن الواقع ما بعد الحداثي ورغم سمته التعددية وإفرازه لمشكلات نفسية جديدة ومعقدة، إلا أنه ليس مصوغا موضوعيا لتعدد المداخل العلاجية النفسية؛ فحسب ما رأيناه بخصوص هذه الأخيرة فإنها تنسجم في مدخل علاجي واحد يعود لمدرسة”ألفريد أدلر”، وبالتالي يمكننا القول بكثير من اليقين أن تعدد المداخل العلاجية النفسية “لما بعد الحداثة” ليس انعكاسا لتعدد الأزمات والمشاكل النفسية، بل هو تعدد ذو صبغة نمطية مكررة يظل في عمقه واحدا.

-إن تعدد هذه المداخلكمي يروم إعادة إنتاج الموجود بمسميات مختلفة،لا كيفي يعبّر عن اختلافات نظرية وتقنيةجوهرية. وهذاما كان يعيبه العلاجالنفسي Psychotherapyعلى الطب النفسي Psychiatryبدعوى إهماله للعوامل الكلية في الإنسان واستحضار العضو الجزئي وفق مقاربة دوائية Pharmacotherapyتخدر المعاناة النفسية فقط عوض علاجها نفسيا.

-إن العلاج النفسي المعاصر والطب النفسي ورغم خصومتهما الشديدة وعدائهما الكبير إلا أنهما يسيران نحو نفس الأفق، فالأول صار علاجا تنميطيايكاد يكون علامة تجارية مسجلة تدرّ أرباحا طائلةفي إطار السوق الاستهلاكية والطلب المتزايد، بينما الثاني يستفيد ماديا من عائدات بيع الأدوية التي تبلغ مليارات الدولارات، إضافة إلى إسهامه-ولا يزال- في تخدير الاضطراب النفسي لا علاجه، بل في كثير من الأحيان يؤدي إلى تفاقمه؛ليجد الأفراد أنفسهم مجبرين في كل مرة على استهلاك العقاقير،إذ ستكون النتيجة الحتمية لهذه المعادلة هي خلق أفراد خاضعين، خاملي الانفعالات والمشاعر،وتفريخ أجيال من الأشخاص المنقادين، من العقليات المتشابهة، من عقليات “القطيع” التي تفتقد إلى “صلابة نفسية” وإلى “ميكانيزمات دفاعية” ذاتية تتحسن وتتقوى باستمرار في خضم المواجهة مع المشكلات النفسية.

توصيات

تتمة لما سبق قوله، وبعد دراستنا لموضوع العلاج النفسي “لما بعد الحداثة”، فإننا نوصي لا من موقع اقتراحي علاجي، ولكن من موقع اقتراحي موضوعي، بما يلي:

    الانفتاح بشكل كبير على مكوّن الدين كعنصر ثقافي له جدواه الموضوعية في الحفاظ على الاستقرار النفسي، فمن خلال اطلاعنا على العلاجات السابق ذكرها لاحظنا أنها استقت في أغلبها من الأديان والمعتقدات الشرقية. إذن ما المانع من جعل الدين قاعدة ارتكاز في حياة الأفراد والاكتفاء به؟إذ يمكنه أن يصير نوعا من العلاج الروحاني الذي يساعدهمعلى تحقيق المزيد من الصلابة والمرونة النفسيتين. فالصلابة تعني مواجهة الأزمات النفسية بقوة أكثر، والمرونة تعني التعامل مع المشكلات بأفكار جدية متطابقة مع نوع المشكل.

    اعتبار المشكل النفسي والمعاناة المصاحبة له جزء لا يتجزأ من الحياة الإنسانية بشكل عام، وبالتالي ضرورة التعامل مع هذه المشاكل بمنطق أن الفرد ليس مسؤولا عنها دائما، فأحيانا تكون عوامل أخرى خارجية مسببة لها وبالتالي وجوب التفاعل معها بشكل عادي دون مبالغة ولا تضخيم.

    أحيانا، يمكن للفرد علاج نفسه بنفسه دون تدخل نوع علاجي نفسي ولا تدخل طبي نفسي، والدليل أن هاتين المقاربتين (علاجية نفسية وطبية نفسية دوائية) دائمتا الصراع فيما بينهما ومهاجمتهما لبعضهما حول أحقية كل واحدةونجاعتها في علاج المشكل النفسي، رغم أن الواقع يثبت أن المقاربتين قد تعجزان عن ذلك. وبالتالي يمكن للفرد أحيانا الاستغناء عنهما ونهج مقاربة ذاتيةغير خاضعة للإملاء والرقابةوالفوقية.

    قضية تعدد المشكلات النفسية ليست مصوغا لتعدد المقاربات العلاجات النفسية في زمن “ما بعد الحداثة”، وعليه يجب توحيد المداخل العلاجية النفسية المتعددة -من حيث التسمية- من طرف المعالجين النفسيين المعاصرين في علاج نفسي واحد: إما عبر تجميع تقنياتها وأهدافها في قالب واحد، وإما عبر إعادتها إلى أصلها “الأدلري”، والاعتراف بها واعتمادها، فهذا التعدد يظهر أحيانا وكأنه مجرد تنويع بضاعي ذو أهداف ربحية، وإما تعددله أهداف وأجندات أخرى، خصوصا وأن ماضي بعض العلاجات النفسية ليس بريئا (مثل العلاج السلوكي) الذي تم استخدامه بطريقة غير أخلاقية إبان مرحلة الحروب والصراعات العسكرية بين الدول من أجل السيطرة على الآخر/العدو.

    عدم جعل العلاج النفسي اختيارا أولا مفضلا دوما، إذ أن هذا الأمر قد يؤدي إلى خلق نوع من الإدمان لدى الأفراد بل الإسهام في تقليص مستوى الصلابة النفسية لديهم، فالعلاج النفسي بهذه الشكل يصبح كاستجابة شرطية لكل مشكل نفسي،عبر استحضارهكحل “سحري” واهم، وإلغاء المبادرة الذاتية التلقائية دون وسيط.

    يمكن اعتبار العلاج النفسي لما بعد الحداثة حاجات تجارية استهلاكية، وبالتالي يمكن الاستغناء عنها لصالح العلاج النفسي لألفرد أدلر، لا باعتبار أن العلاج النفسي “الأدلري” كان مثاليا، ولكن باعتباره محطة قامت عليها باقي العلاجات اللاحقة.

 

المصادر والمراجع

    عربية:

  1. إس جى, ه. (2012). العلاج المعرفي السلوكي المعاصر ” الحلول النفسية لمشكلات الصحة العقلية ” (م. علي عيسى, Trad.; 1re éd.). دار الفجر للنشر والتوزيع.
  2. المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. (2022). دراسة حول الصحة العقلية على الصعيد الوطني . https://www.cese.ma/ar/le-cese-appelle-a-lelaboration-des-politiques-et-programmes-publics-concertes-de-promotion-de-la-sante-mentale-et-de-prevention-des-troubles-mentaux-et-des-risques-psychosociaux/
  3. باومان, ز. (2016). الحداثة السائلة (ح. أبو جبر, Trad.; 1re éd.). الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
  4. بودريار, ج. (1995). المجتمع الاستهلاكي :دراسةفيأساطيرالنظامالاستهلاكيوتراكيبه (خ. أحمد خليل, Trad.). دار الفكر اللبناني.
  5. بينيت, ر., & أوليفر, ج. (2021). العلاج بالقبول والالتزام (ع. صلاح سيد, Trad.; 1re éd.). ، مكتبة الأنجلو المصرية.
  6. خباش, ه. (2015). الدماغ، الذىن والتعلم مقاربة معرفية دروس وتطبيقات (1re éd.). مركز نقد وتنوير. https://drive.google.com/file/d/1H2RmNAWJ3qKgwOfBtzXU6qy9CDfc4H7I/view?usp=drive_open&usp=embed_facebook
  7. سبيلا, م., & بن عبدالعالي, ع. ا. (2007). ما بعد الحداثة تحديدات (1re éd.). دار توبقال للنشر.
  8. فروم, إ. (2009). المجتمع السوي (م. منقد الهاشمي, Trad.; 1re éd.). دار الحوار للنشر والتوزيع.
  9. فروم, إ. (2013). الإنسان المستلب وآفاق الحرية (ح. لشهب, Trad.). مطبعة فيديبرانت.
  10. ماركوز, ه. (1988). الإنسان ذو البعد الواحد (ج. طرابيشي, Trad.; 3e éd.). منشورات دار الآداب

 

    إنجليزية:

  1. Adler, A. (1932). What Life Should Mean To You. Alan Porter.
  2. Cooper, M., & Dryden, W. (2016). The Handbook of Pluralistic Counselling and Psychotherapy. SAGE Publications.
  3. Elflein, J. (2023, juillet 31). Mental health treatment or therapy among american adults 2002-2021. Statista. https://www.statista.com/statistics/794027/mental-health-treatment-counseling-past-year-us-adults/
  4. Feltham, C., Hanley, T., & Winter, L. A. (Éds.). (2017). The SAGE Handbook of Counselling and Psychotherapy (Fourth edition). SAGE Publications Ltd.
  5. Fukuyama, F. (1992). The end of history and the last man. Free Press ; Maxwell Macmillan Canada ; Maxwell Macmillan International.
  6. Hayes, S. C., Strosahl, K., & Wilson, K. G. (2012). Acceptance and commitment therapy : The process and practice of mindful change (2nd ed). Guilford Press.
  7. Miller, L. (2005). Counselling Skills for Social Work. SAGE.
  8. Huntington, S. (1996). The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (1re éd.). Simon & Schuster.
  9. Szasz Stephen, T. (1988). The Myth of Psychotherapy : Mental Healing as Religion, Rhetoric, and Repression. Syracuse unversity press edition.
  10. Vitz, P. C. (1994). Psychology as religion : The cult of self-worship (2nd ed.). Grand Rapids, Mich. : W.B. Eerdmans Pub. Co. ; Carlisle, UK : PaternosterPress.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *