الحراك الشعبيّ الجزائريّ –إنموذجاً-

    د. زاكية مهنه

جامعة عبد الرحمان ميرة –بجاية –الجزائر

zakiamehenna@gmail.com

07 93 38 05 77(213+

ملخص:

يتبلور ملخص هذه الورقة البحثية حول إشكالية التواصل التفاعلي في خطاب الشباب وآليات المواطنة، ومدى تجسيد ذلك في أرض الواقع، بغية إعادة بناء صرح الأمة على أسس قويمة، وتشيّيد وطن جديد يُقصي كلّ أشكال الفساد في المجتمع، واستناداً لما أحدثه الحراك الشعبي الجزائري سنركز على فكرة الشباب وعلاقتهم بالمواطنة، مع تبيان دلالة الأنساق اللّغوية في تشكل الخطابات الجماهيرية الجزائرية في الشعارات المتداولة، ومدى أهميتها لدى الفكر الإنساني، مع ما يلف مشمولاتها من الدلالات الفنية والتعبيرية أمام ما نشهده اليوم من تقنيات العصر التكنولوجي ومواقع التواصل الاجتماعي.

جاءت أهمية البحث ملامسة لواقع قد لا يبتعد كثيرًا عما يشهده العالم العربي ككل والجزائر تحديدًا من نقلة جذرية تجاه التغيير نحو الأفضل في مختلف المجالات، وكذا التطلع لبناء صرح أمة ووطن قويم، فضلاً عن توفير حياة كريمة شريفة، هذا المسعى النبيل الذي أضحى حلم كل فرد شاب في المجتمع والوطن العربي؛وعليه تبلورت أهداف هذه الورقة البحثية في تنوير مصطلح المواطنة وكشف الغامض فيه، مع العمل على تحقيق مبدأ الديمقراطية والمساواة الحقّة، والتمسك بالقيم الإنسانية السامية، كذلك ضرورة معرفة وإدراك حقوق وواجبات كل فرد، مع ترسيخ حب الوطن والمشاركة الفاعلة لخدمته وبناءه في ظل دولة الحق والقانون لمجابهة مختلف التحديات الواردة، وغير ذلك مما ذكر في ثنايا البحث.

ولبلوغ أهداف البحث ارتأينا اعتماد المنهج السيميائي المدعّم بالوصف والتحليل لصقل هيكلة البحث المكونة من مقدمة، عناصر البحث والخاتمة؛ حيث تناولنا عنصر التواصل التفاعلي لدى الشباب ومدى تجسيده في الواقع، ومنه انتقلنا نحو فاعلية الحراك الشعبي الجزائري السلمي وما يحمله من دلالات ونتائج، كذلك عرجنا إلى ذكر آليات قيم المواطنة لدى الشباب القائمة على التشييد والبناء، لذا وجب صقلها في كيان كل فرد، تطرقنا بعدها إلى دلالات بعض الشعارات المرفوعة في الحراك الشعبي الجزائري وأكثرها تأثيرًا على الصعيد الوطني والدولي؛ إذ أحدثت نقلة نوعية نحو التغير والتفاعل الايجابي خاصة، وخلصنا إلى خاتمة تضم جملة من النتائج.

الكلمات المفتاحية:التواصل، الشباب، المواطنة، الخطاب الجماهيري، الحراك الشعبي.

Interactive communication in discourse and the mechanisms of citizenship

The Algerian popular movement – a model

Dr Zakia mehna

Abderrahmane Mira University – Bejaia – Algeria

Abstract:

The summary of this paper is centred on the problem of interactive communication in youth discourse and mechanisms of citizenship, and the extent to which this has been embodied in reality, to rebuild the nation’s edifice on sound foundations, and to build a new nation that excludes all forms of corruption in society, and based on what the Algerian popular movement has brought about. We will focus on the idea of Young people and their relationship to citizenship, with clarification of the significance of the linguistic systems in the formation of the Algerian public speeches in the circulating slogans, and the extent of their importance to human thought, with the artistic and expressive implications of what we are witnessing today of the technologies’ techniques of the age and social networking sites.

The importance of the research came in touch with a reality that may not be far from what the Arab world as a whole and Algeria, in particular, is witnessing in terms of a radical shift towards change for the better in various fields, as well as the aspiration to build a nation’s edifice and a righteous nation, and providing a decent and honourable life. This noble endeavour has become everyone’s dream young in society and the Arab world.

          Accordingly, the objectives of this research paper were crystallized in enlightening the term citizenship and revealing the ambiguities in it, while working to achieve the principle of democracy and true equality, and adhering to the noble human values, as well as the need to know and realize the rights and duties of every individual, with the consolidation of love for the country and active participation to serve and build it under the state of right and law to meet the various challenges presented, and other things mentioned in the research.

To achieve the objectives of the research, we have decided to adopt the semiotic approach supported by description and analysis to refine the research structure consisting of an introduction, research elements and a conclusion. The researcher dealt with the element of interactive communication among young people and the extent to which they are embodied in reality, and from it is moved towards the effectiveness of the peaceful Algerian popular movement and its implications and results, as well as mentioning the mechanisms of the values ​​of citizenship among young people based on construction and building. So, it is necessary to refine them in the entity of each individual, then we touched upon the connotations of some of the slogans raised in the Algerian popular movement and the most influential nationally and internationally as it caused a qualitative leap towards change and positive interaction in particular, and we reached a conclusion that includes a set of results.

Keywords: Communication, Youth, Citizenship, Discourse, Popular Movement.

مقدمة

يتعيّن تطور وتخلف الدول على عديد المؤشرات الدّالة في تركيبة مجتمعاتها ونظم الحياة وطاقاتها الفكرية، العلمية، الثقافية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، وتمثّل فئة الشباب فيها الركيزة الأساسية لتفعيل عجلة التنمية وبناء صرح المجتمعات، ومواكبة مستجدات العصر التكنولوجي بما فيه انفجار الكمّ الهائل للمعلومة في شتى الميادين مشكّلة تسارع وتيرة التواصل مع آليات التكنولوجيا الرقمية والتفاعل معها وقد اعتمد مبدأ التفاعلية بالإفادة من مجمل العلوم الإنسانية والتقنية التي مكنت إنسان الألفية الثالثة منه، فالتفاعلية تتحصل بمزيج متناسق من تقنيات إلكترونية تتوافر عليها أجهزة الاتصال(التميمي، 2010) المتطورة التي تزامنت معها وتفاقمت الصعوبات الملامسة لفئة الشباب العربي في تقصي الكينونة، الوجود والديمقراطية*، وكشف اللّثام عن معالم الهوّية في عالم يطبعه تداخل الثقافات وقضية الانتماء الاجتماعي.

الأمر الذي نشهده في الحراك الشعبي الجزائري، الذي يستلزم طرح الإشكال الآتي: ما مدى تجسيد التواصل التفاعلي عند فئة الشباب؟ وما درجة تفعيل آليات المواطنة لديهم؟ وما دور المواطنة في بلورة الحقوق الإنسانية للمواطن؟، الأمر الذي نسعى للكشف عنه من خلال تتبع محطّات هذه الورقة البحثية واستقصاء المستجدات المتاحة عن الربيع العربي وتحديداً الربيع الجزائري**، بتسليط الضوء على الشباب وقيم المواطنة.

1/ التواصل التفاعلي لدى الشباب

تعرف المجتمعات العربية تراكماً وتفاقماً مكثفاً للأزمات مع تفشي التناقضات في أنظمتها السياسية، الفكرية، الاجتماعية، الاقتصادية وغيرها، وتعطشها للتغير من خلال إيقاظ الحس الوطني والقومي، والمنطلق هو الإحساس غير الناضج بضرورة تغيير الواقع العربي، لكن دون معرفة ماهية التغيير ولا اتجاهه ولا اسمه ولا حدوده(مروّة، 1985)، فالواضح أنّ السياسات المتبعة في العالم العربي على الأغلب سياسات متوارثة لا تخفى عن أحد في كونها تعسّفية تنشط في السلب والنهب وفيها مرض مستعصي؛ تمثل في حب التملك ولزوم التشبث بكرسي السلطة أبا عن جد، هذه القيادات التي تنتهج سياسة تجهيل الشعب للبقاء الأبدي على عرش الحكم، لكنّها في عديد الأحايين تتجاهل وقد تتناسى الوعي الذي يولد ويتسلل في أواسط هذه الشعوب خاصة فئة الشباب الفتية منها.

 أضف إلى ذلك ما تحدثه ثورة الإعلام خاصة مواقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك والتويتر بالدرجة الأولى التي كان لها دور فعّال في بلوغ المعلومة وانتشارها، ناهيك عن التدفق المعرفي والتكنولوجي في العالم، الأمر الذي جعل مقومات الوطنية وقيمها الثقافية وإرثها الحضاري محط خطر الاندثار، للتأثر السريع بالنتاج الغربي في كلّ المجالات دون رقابة الأمم العربية على معالمها الحضارية ومقدّساتها المهددة بالزوال، تحت شعار التحضر والتفتح للغرب وتجديد المنظومة الاجتماعية.

يعد الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه يستوجب جماعة تنشأ بينهم علاقات اجتماعية ترابطية، وقيم حضارية متوارثة، وأخرى مكتسبة، ويمثل الشباب رمزاً فاعلاً، وطاقة حيوية هامة تنمّ عن الوعي والذكاء في ترسيخ مبادئ وأهداف المجتمع المستقبلية التنموية، ومواكبة كل مستجدات العصر من عدّة نواحي، وللذكاء، كما يتمثل في التاريخ البشري، صورتان رئيسيتان: التفكير في المستقبل والمهارة. إنّ التفكير في المستقبل نتاج الذاكرة. إذ أنّ الإنسان أقل خضوعاً لسيطرة البيئة المحسوسة المباشرة من الحيوانات(برتراندراسل)، وللعلم والثقافة دوراً فعالاً في صقل وتصحيح الرؤى المتعددة للشباب وآراءهم وأفكارهم وتفعيل قيم المواطنة واستراتيجياتها فيهم بالتواصل؛ حيث يمكن تعريف التواصل حسابياً بأنّه إقامة اتصال مشارك بين كون فضائي زماني مرسل أ، وكون فضائي زماني مستقبل ب(ك.أوريكيوني، 2014)، فتحقيق التواصل الفعّال في قضايا العالم وخاصة المجتمع ضروري، لمعرفة الحقوق كما الواجبات والعمل على تجسيدها على أرض الواقع وفقا لمعالم تطلعات الشباب أنفسهم.

 والواضح أنّ التواصل متعدّد الجوانب كمفهوم مجرد وكمفهوم نفسي، لكنّ الأَظْهَرَ في التعدد أنّ أطرافاً ضرورية لحدوثه، أقلّها: متكلّم ومستمع/ باث ومبثوث له(حوشي، 2017)، كما أشار إليه لاسويل (*Lasswell) في دراساته، فعملية التواصل والاتصال** تتطلب طرفين هما المرسل والمرسل إليه على حد تعبير الباحث اللساني فردناند دي سوسور.

عرفت شعوب شمال إفريقيا حراكاً جماهيرياً، التمست من خلالها ترسيخ الحرية والديمقراطية وتحقيق الوحدة الشعبية، (تونس/المغرب/ ليبيا)، وسجلت الجزائر بصمتها الذهبية، والتحقت بالركب بحراك شعبي ربيعي سلمي متميز، بدايةً من 22 فيفري 2019، والمميز فيه هو ما صنعته الوحدة الوطنية والمسيرات السلمية الحضارية بعد صلاة كل جمعة. وإن حصرنا الحديث عن شباب الجزائر بالضبط وما صادفه ووطنه من متغيرات، مفارقات ونكسات بداية من عهد الاستعمار الفرنسي منذ 1830م وما خلفه من أزمات مادية ومعنوية لازالت آثارها متجذرة في ذاكرة التاريخ، وانعكاسات شتى على نسق وبنية الحياة الاجتماعية والقيم الثقافية خاصة التي ترمي إلى طمس الهوية العربية الإسلامية من المجتمع الجزائري، بعدها كابوس العشرية السوداء ثمّ الأزمات الاقتصادية وصولاً إلى الحراك الشعبي.

 نادت النهضة والهبة السلمية بمطالب تصب مجملها في ضرورة التغيير الجذري لنظام الحكم والسياسات المنتهجة، في مجتمع تمثل فئة الشباب فيه النسبة الأكبر، في دولة المليون ونصف المليون شهيد. فمطالب الشعب ترمي إلى تجسيد نظام الحكم الفاضل على حد تعبير الفارابي؛ بمعنى النظام السياسي الذي يكون مبدؤه الموجه هو تحقيق الامتياز البشري، أو الفضيلة وهو يتصور العالم البشري أو السياسي بأنه البحث في الإنسان من حيث إنّه يتميز عن الموجودات الطبيعية الأخرى(كروبسى)، فلأفراد المجتمع قيمتهم التي لا تنتفي في الوجود.

فضلاً عن ذلك تأثّر الموروث الثقافي* الجزائري بالموروث الثقافي الغربي، ومحاولة التكيف مع الظروف السائدة في المجتمع الجزائري، من أجل تخطي الأزمات والعقبات التي تمس الجانب الاجتماعي والنفسي للأفراد، ما ينعكس على سلوكهم  وسرعة التواصل والتفاعلبينهم، وتطلق كلمة التفاعلية على الدرجة التي يكون فيها للمشاركين في عملية الاتصال تأثير على أدوار الآخرين وباستطاعتهم تبادلها ويطلق على ممارستهم الممارسة المتبادلة أو التفاعلية(لعقاب، 2013)خاصة الشباب الذين تفاعلوا سلمياً مع أوضاع البلد، فكان التفاعل ايجابي مثمر، وتجدر الإشارة إلى صعوبة التحكم في أفكار وآراء هذه الفئة الشبابية المندفعة، ما لم تعتمد التعقل والحكمة والرزانة في اتخاذ القرارات والانفتاح على الحوارات الجادة والبنّاءة.

2/ فاعليّة الحراك الشعبي الجزائري السلميّ

تشكّل وعي الشعب الجزائري في خضم المفارقات الحادّة بين مطالبه وسياسة السلطة**، ليصبح التغيير هاجسه، ومصدر قوته وثباته ووحدته، فالشّابُ المغترب في وطنه يثور رافضاً لأنماط الخضوع، والانصياع لأوامر تقتل أحلامه، وتقضي على حرّية تعبيره؛ لأنه فقَدَ الثقة مع السلطة الحاكمة، فالثقة سُلبت وانهارت كما انهارت مصلحة الشباب مع انعدام الحوار والعدل والمساواة، تمخض عن هذه الأوضاع حراكاًشعبياً اهتز له الرأي العام وصنع مشهداً بطولياً سلمياً بمسيرات مليونية مثالية كما توضحه الأيقونات البصرية الآتية:


* إن نظام الحكم الديمقراطي يجعل كل نوع من الرغبة ممكناً، ويحافظ عليه، ويحميه، ويطوره، فإن كل أنواع البشر تعجب به، وتنظر إليه على أنّه الطريقة السعيدة للحياة، إنّهم يحبون الديمقراطية، ويحبون أن يعيشوا في ظلها ويهاجر عدد كبير إليها من أمم مختلفة، ويتقابل مقيمون وأجانب، ويختلطون، ويتزاوجون، وتكون النتيجة هي أكبر قدر ممكن من السلوك الطبيعي، والتربية، والتعليم، وطرق الحياة..فنظام الحكم الديمقراطي نظام متطور بصورة كاملة يعرض علينا مشهداً بهيج الألوان، وتنوعاً وترفاً لا متناهيين. ينظر: ليوشتراوس، جوزيف كروبسى، تاريخ الفلسفة السياسية، تر: محمود سيد أحمد، مرا وتق: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، ط3، ع: 809، ج1، القاهرة: 2009، ص330.

**نشير هنا إلى أن مصطلح “الربيع العربي” قد وظف عام 2011 علماً أن ظهوره الأول كان في منطقة القبائل بالجزائر عام 1980 (TafsutImazighen) أي الربيع الأمازيغي، ليعود اليوم 2019 بمصطلح الربيع الجزائري بحراكه الشعبي السلمي، هذا الحراك السياسي الذي استهدف الرئاسة، وتشييد دولة مستقلة سياسياً وجمهورية شعبية ثانية تعمل على بناء الوطن لا تهديمه وتسهر على استقراره وأمن شعبه.

* لاسويل (Lasswell Harold Dwight) (1902 – 1978) قدم خطاطة سنة 1948 لغاية خلق حالات تواصل، كان لاسويل منشغل بقضايا السلطة والسياسة والنخبة ودورها في تنظيم الفضاء السياسي وفق ما يقتضيه النظام الديمقراطي فهو وجه من الوجوه البارزة في علم الاجتماع الأمريكي، وكان من الأوائل الذين اهتموا بالتواصل الجماهيري، السياسي منه على الخصوص. ولم يكن اهتمامه بالتواصل منفصلا عن قناعاته السياسية، فقد كان يعتقد أن الديمقراطية في حاجة إلى دعاية لكي تحيا وتمارس وتتحول إلى فعل حقيقي. ينظر: سعيد بنكراد، الصورة الإشهارية، آليات الإقناع والدلالة، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب /بيروت-لبنان، 2009،ص:123-124.

** لخّص لاسويل عملية الاتصال بالعبارات الآتية: من يقول؟ ماذا يقول؟ لمن يقول؟ لماذا يقول؟؛ فمن يقول: متعلقة بالمرسل أو الباعث للرسالة، وماذا يقول: تحوي مضمون الرسالة مع تحديد الفئة المستهدفة من خلالها كطلاب الجامعة، أو عمال قطاع الصحة… لمن يقول: تركز على الفئة المقصودة بكلّ تفاصيلها، ميزاتها، وخصوصياتها التي تميزها عن غيرها؛ كفئة الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة، لماذا يقول: بمعنى الهدف والغاية من هذه العملية التواصلية. ينظر: إسماعيل الملحم، التجربة الإبداعية، دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص:11.

* تتمثل أهمية الثقافة في التفتح الكامل لشخصية الإنسان أياً كان، التحول إلى إبداع واسع وغذاء جماهيري واحد، الثقافة هي الهم العام للمجتمع، ضمان الحرية الثقافية بالتشريعات اللازمة التي تفرض التوازن الثقافي، حرية الإبداع وحرية الاستماع، وتقبل الرأي الآخر، والرأي المضاد، الثقافة هي الاعتراف بالتنوع الثقافي، والتعداد الإبداعي واصطناع التقنية دون تعريض الذاتية الأخرى للأذى، الثقافة بوصفها تراثاً قومياً وإبداعاً وتعبيراً وعملية دفاع إنسانية. ينظر: صالح بلعيد، اللغة العربية العلمية، ط4، دار هومه للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2009، ص: 12.

** تشمل كلمة السلطة معنى السلطة البشرية، كما أن هناك، بالنسبة للمتمسكين بالتعاليم الدينية، السلطة الإلهية، وهناك سلطة (الحقيقة) وسلطة الضمير وفي النظم الأخلاقية التقليدية تتحد جميع هذه السلطات معاً. ينظر: برتراندراسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، تر: عبد الكريم أحمد، ص105.

الشكل1: صور* الحراك الشعبي في قلب عاصمة الجزائر

يترجم الشباب الجزائري في حراكه الشعبي معاني المواطنة والوحدة الوطنية، لتتنامى روح الوطنية في كيانات الشباب الجزائري منذ نعومة أظافره، فصار حب الوطن نفسه وأمله في الحياة ومستقبله، رغم ما عان منه الشاب الجزائري لمدة ليست ببعيدة من الضياع واللامبالاة، حينما لامست أحلامه وطموحاته الانهيار طامحاً بعدها للهرب، وركوب أمواج البحار بحثاً عن كينونته في بلدان أجنبية أخرى. إنّه شبح الموت وفقدان الأمل في الحياة، في بلد قدّم النفس والنفيس، لسبيل تحقيق حياة العزة والشرف، غير أنّ البعث والإحياء كان حاضراً عندما نادى الوطن لأبنائه واستنجد بهم فهبوا هبت رجل واحد في كل أصقاع العالم وتفاعل معه، ليقول كلمة واحدة موحدة لا مساس بالوطن، نموت ويحيا الوطن، وطن الشهداء، وطن العزة والكرامة، والعودة لحضن الوطن والتشبث به مهما كان.

ناهيك عمّا أحدثه الربيع الجزائري والحراك الشعبي من قفزة نوعية في الوعي والفاعليّة الايجابية لفئة في عزّ شبابها، يلصق لها عادةً مصطلح الطيش واللهو، أزاح الشباب هذا المصطلح من قواميسهم ليعوضوه بالحنكة والفطنة، وروح المسؤولية تجاه الوطن الأم، لينصب اهتمامهم على تشييد وبناء معالم جديدة تخدم الوطن الذي يعدّ كياناً مشتركاً بين الناس له هوية تميزه عن الأوطان الأخرى، ومن هنا برزت فكرة “الوطنية”، والشعور بالانتماء إلى الوطن(اليحيى، صفحة 26)، الذي سجل اسمه في كتب التاريخ والحضارة.

3/ آليات قيّم المواطنة لدى الشباب

نجد القيّم الثقافية والتربوية والمقومات الحضارية من بين الآليات الفعّالة لبلوغ التنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية مع خلق فضاءات التنفيذ الفعلي لأسس الديمقراطية، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وقيم المواطنة بغية تجسيد دولة الحق والقانون، بأبعادها الفكرية والحضارية التي يحلم بها الشباب، والإيمان بوطن يكون الولاء فيه للقيم الوطنية والاجتماعية والإنسانية(حسين، 1970)، فالنظام المثالي المنشود هو الذي يتضافر فيه الناس معاً، ويتعاونون، بهدف أن يصبحوا فضلاء، ويقوموا بأنشطة نبيلة، ويبلغوا السعادة. وهو يتميز بوجود معرفة كمال الإنسان الأقصى فيه، والتمييز بين ما هو نبيل، وما هو خسيس، والتمييز بين الفضائل والرذائل، والمجهود الملموس العيني للحكام والمواطنين في أن يتعلموا، ويعرفوا هذه الأشياء، ويطوّروا الصور الفاضلة (كروبسى، تاريخ الفلسفة السياسية، صفحة 309)، لتتبلور المواطنة داخل المجتمع المدني وتمارس عبر مشاركة الحياة الاجتماعي وتفعيل قيّم المواطنة من حقوق وواجبات وإرساء دولة الحريات بتنشيط عمل الأحزاب السياسية وضبط المناهج المعتمدة في المؤسسات التعليمية التربوية والجامعية.

تعدّ المواطنة انتماء وعلاقة اجتماعية تبنى بين شخص طبيعي يحفظ الوطن ومجتمع سياسي يتكفل بهما، ويضمن استقرار الوطن، فالمواطنة ظاهرة اجتماعية لم يعرفها العالم الغربي إلا بعد الثورة الأوربية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وهي مفهوم قانوني يضمن حقوق الإنسان المادية والمعنوية، وهي مصطلح جديد، ولهذا المفهوم مستويات وأبعاد(اليحيى، صفحة 50)، كما أنّ المواطنة هي المشاركة الفاعلة والتفاعل التواصلي* لكل أفراد المجتمع بغية بناء صرح الأمة وتشييد أنظمتها وأبعادها الفكرية الثقافية الاجتماعي والسياسي والاقتصادية والحضارية، بطريقة مستمرة ثابتة لا مؤقتة متغيرة حسب النزعات التي تشهدها البلدان.

حمل الشباب شعار مكافحة كل أشكال الفساد والنهب والسلب؛ إذ نشهد اليوم ميلاد الحسّ الوطني والمواطنة**، ليفرض وجوده، ويقول كلمته ها أنا ذا ويتحفظ على عبارة: كان أبي. وأن يتخلّى عن كافة أشكال التقليد الأعمى والتخلف والرجعية، فالمواطنة تهدف ضمان الحقوق الاجتماعية الشرعية للمواطن من حق التعلم، العمل، الحماية، السلام وغيرها، فالمواطنة الحقة تتجسد من اتحاد كل فئات المجتمع ودمج قواهم للنهوض بلواء الوطن، من الطبقات المثقفة والعامة من الشعب.

يروم الشباب إلى التجديد لتجسيد طموحاته وآماله في خضم المتغيرات التكنولوجية، المثاقفة، العولمة وإستراتيجية التعامل مع الآخر، فيجب ضبط أجرأة مطالب الشعب، المشبّع بقيم المواطنة والوطنية من خلال تطبيق آليات الحوار المثمر لبلوغ الأهداف المرجوّة، فظهور الحراك الشعبي انطلاقاً من المسيرات السلمية وفعل الاحتجاج الحضاريّ، أكّد فيه الشباب قطعاً عن ثقل المسؤولية تجاه الوطن الشريف، فما كان له إلاّ أن يضع نصب أعينه التغيير الجذري في كلّ المجالات.

4/ آليات المواطنة:

تتعدد آليات المواطنة في أطر عدّة منها، النظام التعليمي التربوي إذ تسعى المنظومة التربوية التعليمية لتكوين مواطن مسؤول تجاه وطنه؛ حيث يتشبّع بقيم المواطنة ومبادئها وفق دعامة تربوية تعليمية، تعزز روح الانتماء لديه من خلال استجلاء مختلف المعلومات، والمعارف التثقيفية للتوعية للنهوض بصرح الوطن.

نجد من ضمن آليات المواطنة أيضاً انخراط الدول في عصر العولمة (*Mondialisation) وما لحقها من تدفق في الكمّ المعلوماتي الهائل عبر مواقع الإنترنت المختلفة على رأسها شبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الاتصال والإعلام (*Les Médias)، والتي تمثّل ركيزة لبثّ المعلومات عن طريق المذياع، جهاز التلفاز…التي تتضمن في الوقت ذاته وسائل للتعبير(LAROUSSE)، إذ تعمل على تحقيق العلاقات بين الأفراد، ونقل الأخبار والمعلومات منها؛ الجرائد، المجلات، السينما، دور الثقافة، المواقع الالكترونية، الانترنت وغيرها؛ فهي تورد في معظمها المعلومة جاهزة وفورية للمواطن المتلقي، كما تترجم انشغالاته وحقوقه الشرعية، وكذلك ضرورة مشاركته في اتخاذ القرارات المصيرية الخاصة بمستقبله، ودحض كلّ أشكال الفساد التي تعيق حرّية تعبيره، فوسائل الإعلام آلية فعّالة لترسيخ قيم المواطنة، كما أنّها ورقة رابحة للمواطن الحقّ إذا ما تمّ استغلالها بشكل عقلاني ونزيه، لخدمة الوطن والمجتمع بالدرجة الأولى.

تشكّل الجمعيات المدنية بتعددها من بين أهم آليات المواطنة الرصينة لما لها من دور في المجتمع لكونها تخدم المواطن، فهي ديناميكية متواصلة تسعى مؤسساتها لحل انشغالات الشباب، للولوج في مختلف مناحي الحياة العلمية العملية خدمة للوطن، استناداً لمبدأ العدل، المساواة، المشاركة الفعّالة بالتالي المسؤولية الوطنية.

5/ دلالات الشعارات المرفوعة في الحراك الشعبي الجزائري

قدّم الشباب الجزائري في حراكه السلمي معناً جديداً للنضال، ونظرةً سياسيةً جديدة تنم عن الوعي، والمسؤولية، والتأطير الشبابيّ المتقن، دون تدخل الحركات الحزبية والسياسية أو الحكومية. إنّها كلمة فخامة الشعب كما وضحته الشعارات المرفوعة–الشكل 2- كلمة تحمل دلالات؛ فالسيادة للشعب، والفصل في القرارات للشعب الذي ندّد بالدكتاتورية وبحكم العصابة، كما نادى بدولة مستقلة سياسياً، دولة تطبعها الجمهورية الديمقراطية الشعبية، الأمر الذي استلزم مواكبة الحراك من طرف الطبقة البسيطة والمثقفة (أفراد مدنيين، شباب، إعلاميين، مفكرين، حقوقيين، مثقفين، أطباء، أساتذة، طلبة، تلاميذ، أطفال…) بطريقة سلمية هزت كيان النظام نفسه.

تداول الشباب في مسيراتهم السلميّة جملة من الشعارات الدّالة، خاصة حين عين نشطاء الحراك الشعبي الجزائري يوم الجمعة يوماً لمظاهرات سلمية موحدة عبر كامل التراب الوطني، علماً أنّه يوم يحمل في طياته رمزية الدين  وقدسيته، ففي الشرق الأوسط سماه العرب بجمعة الرحيل، أما مصر “جمعة الحسم”، في حين افتتحها الشعب الجزائري بجمعة الرحيل للنظام السياسي، فمن جمعة الرحيل لجمعة الوطن، جمعة الصمود، ثمّ جمعة النصر وغيرها من أيام الجمعة المتتالية إلى أن تتحقق مطالب الشعب المشروعة، فتنوعت الشعارات وتعدّدت في الشكل والمضمون فكانت حادة في لغتها أحياناً وساخرة هزلية أحياناً أخرى، كما طبعتها الرسومات الكاريكاتورية والصور، التي تناقلتها عدسات الصور الذكيّة للمتظاهرين، ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي، نحو “لا تأجيل لا تعديل نطلب منكم الرحيل”، و”لا رئيس بالوكالة الجزائر فيها رجالة” هنا “فخامة الشعب”…


* نشير إلى أنّ الصور المدرجة عبر كامل هذه الورقة البحثية قد أخذت من موقع Google Images، وهي الخاصة بالمسيرات السلمية للحراك الشعبي الجزائري عبر كامل التراب الوطني انطلاقاً من شهر فيفري إلى مارس 2019 في أيام الأسبوع خاصة يوم الجمعة. ينظر: الحراك الشعبي الجزائري، وصور عن المسيرات السلميةhttps://www.google.dz/imghp?hl=fr&tab=wi

* يتكون التفاعل التواصلي من مفهومين: مفهوم التفاعل (Interaction) الذي يعني الفعل وَردّ الفعل، وبذلك يكون معناه في الحوار هو المشاركة في الفعل وَ ردّ الفعل حول مضامين معينة. ومفهوم التواصل الذي يعني الحالة التي يصير إليها الحوار بين طرفين على الأقل. وإضافة المفهومين بعضهما إلى بعض يعطيهما حمولة جديدة ليدلا على كل العناصر التي تفيد المشاركة الحوارية في إطار تفاعلي تساهم فيه كل مكونات الحوار اللّسانية والخارج لسانية. ينظر: محمد نظيف، الحوار وخصائص التفاعل التواصلي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، 2010، ص:15.

** تمثل المواطنة في منظور الدين احترام حقوق الإنسان في الملكية والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، وقد صان الدين هذه الحقوق ووضع لها الإطار القانوني والأخلاقي، وهو بهذا يلتقي مع النظرة العلمانية من حيث النظرية والممارسة. أما من الجانب النفساني والفلسفي فالمواطنة تجسيد لإنسانية الإنسان في إطار المجتمع والدولة، تحقيقاً للأمن والبقاء، ومن هنا تبدو العلاقة بين الانتماء والمواطنة وثيقة، إذ أن المواطنة الصحيحة تعمق الانتماء وتجذره كما أن الانتماء العضوي يقوي العلاقة بين المواطن والدولة في إطار العدالة والديمقراطية. ينظر: فرحان اليحيى، أزمة المواطنة في شعر الجواهريّ، دراسة تحليلية في ضوء المنهج التكاملي، ص50-51.

* سنتعرض إلى مصطلح العولمة في عنصر المفاهيم التكنولوجية، لكنّنا نشير هنا إلى أنّ العولمة أو الكوكبة (Globalization) مفهوم ومصطلح انتشر في السنوات الأخيرة، فكرته الأساسية ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أم في انتقال رؤوس الأموال (الرأسمالية هي ديانة الإنسانية وأن النسبية الفكرية ستكون لها الغلبة على المطلقات الأيدلوجية)، في انتشار المعلومات والأفكار وسرعة تدفقها، أو في تأثر أمة بقيم وعادات وتقاليد وقواعد غيرها من الأمم. ينظر: إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي، معجم مصطلحات عصر المعلومات، كتب عربية، ص:334. كما يشير بركات محمد مراد إلى أن مفهوم العولمة يحيل إلى نوعين مترابطين من الظواهر. يتعلق النوع الأول منهما بتعددية العمليات الاجتماعية وامتداد إحداثياتها أفقياً وعمودياً، ويتعلق النوع الثاني بتزايد وعي الإنسان المعاصر، أفراداً وجماعات، لهذه الترابطات المتصلة التي يتجلى فيها العالم ككل بشري بيئي يتراكب في أنسجته الاجتماعية البعد السياسي بالاقتصادي بالثقافي. ونجد مصطلحات أخرى للعولمة مثل الكوننة، الشمولية. بركات محمد مراد، ظاهرة العولمة، كتاب الأمة، قطر، 2001، ص: 95-96.

*وسائل الإعلام (Média) جاء من الكلمة اللاتيني (Medium) الوسيط ويعني “الوسيلة” أو “الوسط”، للتواصل ونقل المعلومات، حيث تشير لفظة وسائل الإعلام إلى وسائل الإعلام الجماهيري (Les Médias De Masse) ووسائل الإعلام الرقمي والإلكتروني(les Médias Numériques Et Electroniques)، علماً أنّ وسائل الإعلام تشمل الصحافة، التلفزيون والإذاعة، في حين أنّ وسائل الإعلام الرقمية والإلكترونية، ترتكز أساساً على أجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة. لتوضيح أكثر ينظر المقال الرقمي”ما هي الميديا؟” على الرابط المرفق:

Qu’est-ce qu’un média ? Leonardo/Olats& Annick Bureaud, avril 2004.

https://www.olats.org/livresetudes/basiques/1_basiques.php

الشكل2: الشعرات المرفوعة في الحراك الشعبي الجزائري

تعكس المواطنة في البيئة السياسية الجزائرية الراهنة وحدة الرأي الجمعي للشعب، وروح التحدي والنضال السلمي، لدحض أشكال النظام الفاسد ونظرية المتآمرة، هذه المواطنة شكلت سبقاً استثنائياً في العالم العربي من ناحية تنظيم شعبه، وسلمية الحراك بشهادة العالم ككل، الأمر الذي دفع بأصحاب القرار إلى خرق أنظمة وقوانين الدستور للعثور على مخرج لحلّ الأزمة*، علماً أن الدستور تم تعديله أربع مرات خلال الحكم الراهن، بما يخدم السلطة، ما دفع بخروج بأهل العدالة وأصحاب الجبة السوداء -المحامون والقضاة- للاحتجاج بمظاهرات سلمية، يقول ديودوتس في معرض حديثه عن العدالة بأن معظم الناس بطبيعتهم بصورة خاصة وعامة، يرتكبون مخالفات وتجاوزات، ولا يردعهم قانون من قوانين العقوبات ولا تهديد بالعقاب. وبمعنى آخر كلنا مجبرون عن طريق انفعالاتنا الطبيعية إلى جانب آمالنا، على أن نحاول أن نحصل على موضوعات رغباتنا القوية(كروبسى، تاريخ الفلسفة السياسية)، وعليه فأصحاب القانون يطالبون بتطبيق القانون وتجسيد الحق والعدالة كما توضحه الصور الآتية الشكل 3:


* تجدر الإشارة هنا إلى أن الأزمة-من منظور اجتماعي- تعيد إنتاج ذاتها، من خلال العلاقة السلبية بين الفرد والدولة، يسودها القهر والتسلط، وفي مثل هذه العلاقة يأخذ الحراك الاجتماعي طابع التناحر، وتشيع ظواهر الفساد الأخلاقي والاجتماعي، ما يؤدي إلى اختلال في بنية المجتمع التحتية، كما يتولد لدى المواطن الشعور بالغربة، وضعف الحس الوطني فضلاً عن ظهور مراكز القوى، وحالات من التمرد كرد فعل على هذا الوضع المأساوي، وفي هذا المجال يقرر مطاع صفدي: (أن التمرد الاجتماعي لا يختلف عن التمرد السياسي من حيث هدفه الواضح ومنطقه الواعي. ينظر: فرحان اليحيى، أزمة المواطنة في شعر الجواهريّ، دراسة تحليلية في ضوء المنهج التكاملي، ص32.

الشكل3: المحامون والقضاة مع الحراك الشعبي

كما عمل النظام والسلطة على التخطيط والتنقيب عن حلول سياسية بديلة باءت في آخر المطاف بالفشل، بعدما رفضها الشعب جملةً وتفصيلاً من خلال ثورته الإعلامية وحراكه السلمي، يكشف الواقع عمق التباين بين مطالب الشعب وسياسة النظام، فالأفراد سعيهم هو التنمية وقيم المساواة والحرية، وحفظ الحقوق وتحمل المسؤولية والواجبات.

تفجرت خطابات الشعب بكل اللّغات، وتوزعت دلالاتها في شعاراتهم ضمن سياقات التواصل اللّغوي (اللّفظي) وغير اللّغوي (غير اللّفظي)، وخاصة اللّغة الإشارية* والأيقونات السمعية البصرية، وما دمنا نعتز بالحرية الديمقراطية فلا معنى لأن يستبد بنا اتجاه واحد. والحقيقة أنّ مسألة التواصل المتشعبة لا يمكن أن تختصر في نسق واحد، ولا يمكن أن نهمل-أيضاً- حركة التعامل الفعلي مع الخطاب(ناصف، 1995)، فمن الشكل4 المرفق نجد لغة الإعلام الآلي حاضرة، فالشعب يريد: Ctrl Alt Suppr  الدّال على المسح العام للمعلومات، ويقرأ المتمعن خلال هذه الرسالة المشفرة معناً آخر ينضوي تحت مسح الأنظمة الفاسدة. في الصورة المقابلة تظهر دلالة واضحة تجسدها الأيقونة البصرية، ففي أول نوفمبر 1954 تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية المسلّحة، لتدور دورة الزمن لاندلاع ثورة باردة في الجزائر2019، إنّها ثورة إعلامية يتصدرها الفايسبوك.


* اللغة الإشارية أو لغة الإشارات هي لغة الإشارات الجسدية (تعبيرات الوجه-حركات اليدين..). أو لغة الإشارات الرموز الاصطناعية (علامات المرور-الألوان-اللافتات- الملصقات- الصور- الديكور..)ينظر: أمحمد اسماعيلي علوي، التواصل الإنساني، ط1، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2013، ص:58.

الشكل4: إبداع في شعارات الحراك الشعبي

صوت المرأة في الربيع الجزائري كان حاضراً بعدما كان مغيّباً سابقاً، فإذا بها ترفع الشعارات واللافتات وبزغاريد تنشد من خلالها الغد الأفضل، وكذا مشاركة الأطفال بأحلامهم البريئة، لتتسع الدائرة نحو الكهول والشيوخ، إذ لم يكن اندفاعهم إلا لأبنائهم وأحفادهم، انضموا جميعاً للحراك إلى جانب الشباب، توشّح كلّهم العلم الوطنيّ الجزائري بألوانه الثلاث الدّالة عن ملحمة الجزائر تذكيراً وتذكراً، ووقوفاً شامخاً على عتبة التاريخ المنتظر، ما تكشف عنه الأيقونات البصرية الدّالة للشكل5 المرفق:

الشكل5: مشاركة معظم فئات المجتمع في الحراك الشعبي

نلحظ قوة الانتماء وروح الوعي بكل الرهانات لدى مختلف شرائح المجتمع الجزائري، فمع التطور الاجتماعي للبشرية، اتسعت ظاهرة الانتماء، فشملت أطراً جديدة كالعشيرة والقبيلة والأمة، وقد جمعت بين هذه الأطر الاجتماعية روابط مهمة ولدت ونمت على أرض عاشوا فيها وألفوها فتمسكوا بها، لأنّها الحيِّز المكاني الذي شهد مسيرة السلف والخلف، وسيشهد مسيرة الأجيال القادمة، وهذه الدعامة الأولى من دعائم الأمة وموطن استقرارها وتطورها(لطيف، 1986)هذا من جهة.

من جهة أخرى فالوعي الشعبي تجسد في الحوار، النقاش والآراء الهادفة لبناء الوطن والأمة مع التشديد على عدم تدخل الأيادي الخارجية في الشؤون الداخلية للوطن –الشكل6- والعمل على إيجاد الحلول اللازمة لمشكلاتهم المختلفة. وعليه فواجب على الشعب الجزائري استنهاض الهمم، وركوب سنام المجد والاتحاد، لا الذل والهوان والارتماء في أحضان التطرف، فالجزائر ما كانت يوما بيدقاً من بيادق لعبة الشطرنج، يحركها قادة العالم كما أرادوا. فالشعب رفض قطعاً تكرار حلقات مسلسلات أكل الدهر منها وشرب، فقد استيقظت ضمائر الجماهير، وفكّت قيود صوته وخوفه فطالب بحياة الكرامة والنزاهة ولامناص للتدخل أجنبي فيها.

الشكل6: شعارات لرفض التدخل الأجنبي في دولة الجزائر

يمثل الجيش قوة تسيير وتنظيم محكم لحراك الشعب نحو السلمية، كما أنّه طرف هام من معادلة إسقاط النظام ومختلف المناورات السياسية؛ حيث أبدى الجيش الوطني الجزائري استجابة* لنداءات الشعب، لينفك من جماعة الرئيس وينفصل تدريجياً عنهم، فيواكب الشعب بوقفته ومساندته له بعد خروجه السلمي المتكرر إلى الشوارع، ورفعه لشعارات “الشعب والجيش خاوة خاوة”؛ بمعنى إخوة دائماً –الشكل7– أضف إلى ذلك ترديدهم للنشيد الوطني، ونشيد الجيش بحضور عدد هائل منهم، من الضبطية القضائية؛ رجال الشرطة، أعوان الحماية المدنية وأفراد الجيش الشعبي الوطني؛ إنّها إذن وحدة الأمّة الجزائرية، التي تنشد النصر لملحمة التغيير الجذري ووحدة التراب وسيادة الشعب الجزائريّ.


* موضوع الاستجابات وثيق الصلة أيضا بدراسة سيكولوجية المجتمع، وربما كانت هناك طائفة من الإيحاءات التي تزرع أو تقبل من أجل بلوغ أهداف معينة، بعض الاستجابات مثلا قد تساعد على التحكم أو التوجيه أو سهولة القياد. وبعبارة أخرى إن أنماط من القصور الذهني يمكن أن يستثمر إذا لم تجد وعيا كافيا بها. ينظر: مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، ص262.

الشكل7: مساندة الجيش والضبطية القضائية للحراك السلمي

تعارض السياسة المنتهجة سياستها، بأنظمة وقوانين مكشوفة للشعب والتي يتم بمقتضاها حبك سيناريوهات جديدة لمواجهة الحراك الشعبي والربيع الجزائري، والتي كشفها شبابها الثائر حضارياً مطالباً بالتغيير السلمي، وإلغاء كل أشكال الفتنة، خاصة حينما ضم قوته لقوة جيشه لمواجهة السلطة الفاسدة، ما لم تعرفه الشعوب لمواجهة الأزمات السياسية والفكرية والاقتصادية؛ لأنّ مواجهتها غالباً ما تكون سلبية فبدل أن يتعامل معها بالعقل الواعي يهرب منها وأحياناً ينفيها أو يبرر وجوده بالقفز فوق الواقع. وفي كل الحالات يعبر عن عجزه الكامل عن المواجهة والبحث عن الحلول.

وهذا راجع إلى أزمة العقل أولاً لأن أزمة الفكر العربي هي أزمة الفعل، وثانياً أزمة الوعي بالذات والمجتمع والعالم، وثالثاً أزمة الحرية والعدالة وهي نتاج قهر السلطة (سلطة الأسرة والمدرسة والمجتمع وسلطة الدولة والاستعمار). ورابعاً أزمة الإنتاج والإبداع بسبب النقل والإتباع والاستهلاك. وخامساً أزمة الازدواجية بين النظرية والتطبيق. كل هذه الأزمات تضع العقل العربي أمام تحديات العصر(اليحيى)، التي رفع لها الشعب الجزائري لواء التحدي ليحقق بذلك نصراً آخر يضمّ إلى رصيد انتصاراته التاريخية الحضارية.

خاتمة

          ختاماً لما تقدم نجمل نتائج بحثنا الموسوم بالتّواصل التّفاعلي بين الشباب وآليات المواطنة –الحراك الشعبيّ الجزائريّ نموذجاً- كالآتي:

أولاً: تُعنى المجتمعات بالتواصل الثقافي، إذ تمثل الثقافة جملة المعارف والقيم والانجازات المرتبطة بالنتاج البشري، والتي تستلزم تواصلاً لتشكيل حالة الوعي في المجتمع؛ لأنّ التواصل الثقافي يميط اللثام عن مقومات الأمم بتفاعلاتها من معتقد ديني، لغة مشتركة، تاريخ، أخلاق، قانون، حضارة، عادات وتقاليد، فهي تترجم الأساس القاعدي لصقل شخصية الفرد وخلقها داخل المجتمع، بغية الوصول لمواطن على ملكة من الوعي، وقدر من التّحضر والانفتاح على الآخر.

ثانياً:التواصل التفاعلي واقع يشهده المجتمع التكنولوجي، حيث يعدّ التفاعل (L’ Interaction) دعامة التواصل في المجتمع؛ إذ يقودنا للإفادة من مجمل العلوم الإنسانية والثقافية وتحديداً ما توفره أجهزة الاتصال من تقنيات إلكترونية تسهل عملية التواصل التفاعلي بين الأفراد، فالتفاعل ظاهرة استجابة بين أفراد الجماعة اللّغوية الواحدة الهادفة تحقيق المشاركة الفعّالة أثناء التواصل.

ثالثاً: تحقق آليات المواطنةتكاملاً فعالاً لأفراد المجتمع الواحد، فتربطهم مبادئ تنبثق من خلال عديد المؤسسات التربوية انطلاقاً من الأسرة، المدارس، المعاهد، الجامعات، المساجد، دور الثقافة، الجمعيات وغيرها، وتفعيل هذه الآليات لخدمة الوطن والمواطن يتطلب المحافظة على الموروث الحضاري الثقافي، ووحدة العقيدة(الدين الإسلامي).

رابعاً: يسير المشهد السياسي الجزائريّ نحو إصلاح جذري بعيداً عن أيّة انزلاقات، وقد أضحى من المهم خلق آليات مشاركة الشعب، خاصة الشباب الواعي الذي جسد معنى المواطنة الحقة، وأكدّ على ضرورة التشييد والبناء الفعلي في المرحلة الانتقالية التي يجب أن تمسّ جميع قطاعات الدولة الجزائرية، لتكون بذلك مثلاً يقتدى به في ترسيخ المبادئ والقيم الأخلاقية والحضارية.

قائمة المراجع:

  1. إسماعيل الملحم، التجربة الإبداعية، دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003.
  2. إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي، معجم مصطلحات عصر المعلومات، كتب عربية.
  3. أمجد حميد التميمي، مقدمة في النقد الثقافي التفاعلي، ط1، كتاب ناشرون، لبنان، 2010.
  4. أمحمد اسماعيلي علوي، التواصل الإنساني، ط1، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2013.
  5. برتراندراسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، تر: عبد الكريم أحمد، مرا: حسن محمود، جامعة الدول العربية الإدارة الثقافية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
  6. بركات محمد مراد، ظاهرة العولمة، كتاب الأمة، قطر، 2001.
  7. حسين مروّة، علاقة السياسي بالأديب في المجتمع العربي، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب، العدد 171، دمشق: 1985.
  8. ديب أبو لطيف، الوعي والانتماء، مطبعة الصباح، دمشق: 1986.
  9. سعيد بنكراد، الصورة الإشهارية، آليات الإقناع والدلالة، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب /بيروت-لبنان، 2009.
  10. صالح بلعيد، اللغة العربية العلمية، ط4، دار هومه للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2009.
  11. عايدة حوشي، نظام التواصل السيميولساني في كتاب الحيوان للجاحظ، حسب نظرية بورس، ط1، صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، سورية- الإمارات العربية المتحدة،2017.
  12. فرحان اليحيى، أزمة المواطنة في شعر الجواهريّ، دراسة تحليلية في ضوء المنهج التكاملي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق: 2001.محمد لعقاب، مهارات الكتابة للإعلام الجديد، دار هومة، الجزائر، 2013.
  13. ليوشتراوس، جوزيف كروبسى، تاريخ الفلسفة السياسية، تر: محمود سيد أحمد، مرا وتق: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، ط3، ع: 809، ج1، القاهرة: 2009.
  14. محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديث، ج2، دار الإرشاد، ط2، القاهرة: 1970.
  15. محمد نظيف، الحوار وخصائص التفاعل التواصلي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، 2010.
  16. مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت: 1995
  17. مولز- ك.زيلتمان- ك.أوريكيوني، في التداولية المعاصرة والتواصل، تر: محمد نظيف، أفريقيا شرق، المغرب، 2014.
  18. Dictionnaire De Langue Française, LAROUSSE, 2013.
  19. Qu’est-ce qu’un média ? Leonardo/Olats& Annick Bureaud, avril 2004.

https://www.olats.org/livresetudes/basiques/1_basiques.php

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *