أ.م. د. بلقيس خلف رويح

الجامعة المستنصرية/ كلية التربية

 009647708080226

 balqes30000@gmail.com

الملخص 

يهدف البحث لدراسة ظاهرة شعر الإخوانيات في العصر المملوكي، وبيان الموضوعات التي اشمل عليها هذا الغرض الذي عد من الأغراض الثانوية التي كانت تنظم بين أبناء المجتمع المملوكي فكان تنفيسا عن ضغوط الحياة . وقد ازدهر وانتشر في ديوان العرب في نهاية العصر العباسي وتوسع في العصر المملوكي ليصبح غرضا مستقلا بذاته . 

ومن خلال تصفحنا لأمات المصادر والمراجع الأدبية، إستطعنا ان نرصد أكثر المضامين التي شاعت في شعر الإخوانيات مع تحليلها .

الكلمات المفتاحية

(الترابط، المملوكي، الإخوانيات)

 

Social cohesion in Mamluk poetry

The Brotherhood is a model

Abstract

The research aims to study the phenomenon of Brotherhood poetry in the Mamluk era, and to clarify the topics that this purpose included, which was considered one of the secondary purposes that were organized among the members of the Mamluk society, and it was a release from the pressures of life. This purpose flourished at the end of the Abbasid era and expanded in the Mamluk era to become an independent purpose in its own right.

     We were able to monitor the most common contents in Brotherhood poetry with their analysis.

 

تقديم

قام العصر المملوكي بعد ان ضعفت الدولة الايوبية في مصر وسقطت بيد المماليك سنة 648هـ، وقد تمكنوا من توسيع الرقعة الجغرافية لدولتهم فشملت الشام والحجاز، و صد المماليك الغزو المغولي الذي حاول ان يمتد الى مصر والشام في معركة عين جالوت (658هـ).

والمماليك كانوا اكثر رحمة من المغول إذ حاولوا بث الازدهار والعمران في المدن التي كانت تحت سيطرتهم، فبنوا المدارس والكتاتيب وشجعوا العلماء على العطاء وتكريم الشعراء والأدباء، لذلك انتقلت خلافة الأدب والشعر من بغداد إلى مصر والشام.

وقد قام المجتمع المملوكي آنذاك على سبع طبقات وهذا ما ذهب إليه المقريزي فـ ((القسم الأول أهل الدولة، والقسم الثاني أهل اليسار من التجار… والقسم الثالث الباعة، وهم متوسطو الحال من التجار، ويقال لهم أصحاب البر، …، والقسم الرابع أهل الفلح وهم أهل الزراعات والحرث وسكان القرى والريف، والقسم الخامس وهم جل الفقهاء وطلاب العلم، …، والقسم السادس أرباب الصنائع وأصحاب المهن، والقسم السابع ذوو الحاجة والمسكنة وهم السؤال الذين يتكففون الناس ويعيشون منهم)) (المقريزي، صفحة 103). وهذا التفاوت يؤدي الى حدوث اضطراب في العلاقات بين أفراد المجتمع، واشاعة الأوبئة الاجتماعية على مختلف الصعد، لكن مع ذلك ظل المجتمع المملوكي بمعية شعرائه وفقهائه ملتزما بالفضائل النبيلة وأحكام الدين المستمدة من الشريعة، وأخذ الشعب يكن الاحترام والتبجيل لهذه الفئة وجعلهم قدوة لهم في حياتهم .

وبمعنى آخر كان رجال الدين يعتمدون على الشعراء لمعالجة الكثير من المساوئ الاجتماعية والثقافية، فقد اخذ الشعراء على عاتقهم النظم في كل ما يؤدي الى ازدهار المجتمع ورقيه، فقد عالجوا تفشي الجهل والتخلف وبخاصة فيما يتعلق باللغة العربية التي كادت قواعدها تندثر وتنسى، فالفوا الكتب والاشعار التي تحافظ على اللغة العربية، وكذلك عالجوا قضية التفكك الإجتماعي فكتبوا في الشعر الإخواني الذي تطور في هذا الزمن بالتحديد وأقصد به (العصر المملوكي) وهو موضوع  بحثنا .

والترابط الإجتماعي واحد من الوسائل التي تحدد علاقة الفرد بالمجتمع، والترابط يحافظ على استقرار المجتمع ونموه وازدهاره؛ لأنه يعمل على التقليل من حالات الفساد والقتل والخراب.  فسعادة المجتمع واستقراره، تكمن في تمسك أفراده بعقيدتهم وإيمانهم بربهم وهذا الإيمان ينظم عواطف الود والحب المتبادلة بين أفراد المجتمع الإسلامي، والبعد عن الضغائن والبغضاء.

     شعر الإخوانيات

هو غرض من الأغراض الشعرية الثانوية، يصور مختلف العلاقات الاجتماعية بين الشعراء وذويهم أو أصدقائهم ، وقد وجد في العصور الأولى لكن بمساحة ضيقة ويمكن أن نعد الشعر الذي يتبادله كل من أمرئ القيس وعبيد بن الأبرص في وصف الخيل ضربا من الشعر الإخواني. وفي العصر الاسلامي والاموي ظهر بصورة (شعر النقائض) . وكلما تقدمنا في الزمن تكبر مساحة هذا الفن، ففي العصر العباسي نجد بعض المقطوعات أو القصائد القصيرة كالتي نجدها في ديوان البحتري وابي فراس الحمداني. أي أن شعر الإخوانيات بدأ على هيئة محاولات فردية، إلى أن استقر في نهاية العصر العباسي بصيغة غرض من أغراض الشعر، وكان العصر المملوكي العصر الذهبي لازدهاره . وهو صورة من صور النبل الإنسانية التي لا يطمح فيها صاحب النص إلى مكسب أو جاه أو سلطان.

ويتضمن هذا الشعر : العتاب والاعتذار والزيارة والتهنئة والحديث عن الصداقة  والود، والألغاز, وهو بهذه المعاني يكون اقرب إلى شعر المناسبات، وتقاوت الشعراء في الإجادة فيه بحسب قدراتهم الفنية.

وعلى الرغم من كونه غرضا واسعا إلا أنه لم يدرج ضمن الأغراض الشعرية الأساسية ؛ لعدم حاجته إلى العمق في التفكير، والإبداع، ولم يولوا فيه عناية؛ لأنه لم يوجه إلى أمير، ولا قصد به تبرير أو مباهاة (د. التونجي، 1999م، صفحة 45).

وممّا تنماز به الإخوانيات الشعرِية أنّها تعبر عن أسلوب الكتابة في العصر الذي تكتب فيه وتبيّن مقدرة الكاتب في استخدامه للتعابير اللغويَّة والأدبِيَّة ( (ناصيف، 1996م، الصفحات 5-6) .

ومن مضامين الشعر الإخواني:

 

1_ العتاب

وهو قالب شعري يؤكّدُ  الشعراء من خلاله روابط الأخوّة والصّداقة والوفاء والإبقاء على عهود الصّحبة، وتختلف صيغة العتاب باختلاف المواقف التي تحدث للشاعر مع الذين يرسل إليهم الشعر، كقول احد الشعراء يعاتب صديقا له بسبب عدم توديعه، إذ يقول  (العسقلاني، 1329هـ، صفحة 3/152) :                   الطويل

أيا بدر فضل قد علا الشمس قدره

   لك الدهر لم أبرح محبا وداعيا

وما أنا ممن يستحيل وداده

  فيا ليت شعري لم كرهت وداعيا

 

فنلحظ الرقة في استعمال الألفاظ. والتأدب في العتاب، وكان للجناس القافوي أثرا في إظهار المعنى وتجليه، وكذلك إظهار التناقض في المشاعر بين الشاعر والمخاطب، ففي الوقت الذي كان فيه الشاعر داعيا للمخاطب ومحبا له، كان المخاطب كارها لرؤيته وتوديعه .

وقد وقع بين ابن نباتة المصري والصفدي جفاء، وكان السبب في ذلك هو إكثار الصفدي من السرقة الشعرية من شعر ابن نباتة المصري (ت768هـ)، مما جعل الأخير يؤلف كتابا أسماه (خبز الشعير) بين فيه سرقات الصفدي منه، فتعاتبا عتاباً شعرياً قاسياً، وقد ضمن كل منهما قصيدته أعجازاً من معلقة امرئ القيس، مع توافقها في المعاني، حتى لكأنها جزءا من تلك القصيدة ، فبدأ الصفدي العتاب فقال (الصفدي ص.، 2004م، صفحة 2/246):   الطويل

أفي كل يوم منك عتب يسوءني

  كجلمود صخر حطه السيل من عل

وترمى على طول المدى متجنياً

  بسهميك في أعشار قلب مقتل

فأمسى بليل طال جنح ظلامه

  على بأنواع الهموم ليبتلى

ويستمر في تضمين قصيدة امرئ القيس الى نهاية القصيدة البالغة (26) بيتا .

فقال ابن نباتة متقبلا صافحاً  (الصفدي ص.، 2004م، صفحة 2/247):               الطويل

فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبا

  أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

بروحي ألفاظ تعرض عتبها

  تعرض أثناء الوشاح المفصل

فأحييت وداً كان كالرسم عافياً

  بسقط اللوى بين الدخول فحومل

تعفى رياح العذر منك رقومه

  لما نسجتها من جنوب وشمائل

وقد بلغت قصيدته 37 بيتا .

وفي نصوص عتابية أخرى يكون العتاب شديد الوقع على أذن المعاتب، وبخاصة عندما يكون صاحب الحق بريئا من الذنب، وقد طالته أقوال وأفعال لم يرتكبها لذلك لايجد الشاعر بدا من أن يعاتب الشخص الذي جفاه، وتحميله مسؤولية فعل وقول لم يرتكبه، كقول ابن الوردي(ت749هـ) الذي انفعل كثيرا عند سماعه نية ارتحال صديق له تاركا حلب، ويوجه إليه اللوم والعتاب، بل يبدو في عتابه هذا عصبي المزاج إذ يقول( (ابن الوردي (ت749هـ)، 2006م، صفحة 72) :                                                                           الكامل

علامَ أردتَ تهجرني علاما   وتوقظُ بالنوى أهلاً نياما
لعلكَ يا جليدَ القلبِ تبغي   رحيلاً يورثُ الدمعَ انسجاما
فهلْ لاقيتَ في حلبٍ هموماً   فتزمعَ عنْ نواحيها اهتماما
فلا تأخذْ دمشقَ لها بديلاً   أغيظاً ذاكَ منكَ أمِ انتقاما؟
وإنْ تكُ بالتفرّقِ لا تبالي

  فهذا يمنعُ العينَ المناما

فعتابه في هذه الأبيات جاء بصيغة التأنيب الشديد لا بصيغة العتاب الرقيق .

2_ شعر الزيارة:

او قد يبعث احدهم برسالة يستدعي شخصا غالٍ على قلبه للحضور والزيارة، وتسمى هذه الابيات بالاستدعاء، كقول ابن النقيب الحسن بن شاور (ت687هـ)، يستدعي الشاعر سراج الدين الوراق(ت695هـ) الذي كان قد قطع عنه الزيارة، فيقول( (الصفدي ص.، الوافي بالوفيات، 2000م، صفحة 12/34) :                      الرجز

يا ساكن الروضة أنت المشتهى

  من هذه الدنيا وأنت المقتضى

ويا سرور النفس بين الشعرا
ج
  أنت الرضي فيهم والمرتضى

ويا سراجا أصبحت أنواره

  تعيد مسود الليالي أبيضا

مالي أراك قاطعا لواصل

  ومعرضا عن مقبل ما أعرضا

أعلى الشاعر من شأن صاحبه وقدره، وأنزل قدرته البلاغية والفنية في الشعر بمنزلة شاعرية الرضي والمرتضى، وعلى الرغم من قطيعة الشاعر له، الا ان قائل الأبيات أفصح عن تادبه ولباقته في توجيه الخطاب لصديقه، وكان للتكرار تأثير في تبجيل المخاطب وتعظيمه .

فأجابه الوراق بابيات (الصفدي ص.، الوافي بالوفيات، 2000م، صفحة 12/35) :                  الرجز

ياسهمَ عتبٍ جاء من كنانة     أصبت من سواد قلبي الغرضا

لكن أسَوْقُ ماجرحتـــــَـــهُ بما     أعتَبْتَهُ من العتــــــــــــاب بالرضا

ياابن النقيب ماأرى منقبـــــةً     إلا وأولتك الثنـــــــــــــــاء الأبيضا

ونظم الشعراء ابياتا شعرية تقال للترحيب بالزائر، وهي كثيرة تدل على إبداع الشعراء وتفننهم، كقول صفي الدين الحلي( ت752هـ) ( (الحلي، د.ت، صفحة 242):                                 الخفيف

أنتَ أوليتني الجميلَ، ولولا

  ضعفُ حظّي لكنتُ بالسعي أولى

لم تزلْ تسبقُ الأنامَ بحُسنا

  كَ، وتُولي العِبادَ لُطفاً وطَوْلا

قد تصَدّقتَ بالزّيارَة ِ للعَبـ

  ـدِ فصَدّقتَ فيكَ ظَنّاً وقَولا

    وبعث بعضهم بابيات يعتذر بها عن عدم قدرته على زيارة شخص ما، كقول صفي الدين الحلي ايضا( (الحلي، د.ت، صفحة 604) :                                                      الخفيف

حَسَدَت جودَ كَفِّكَ الأَمطارُ

  فَغَدَت مِنكَ بَل عَلَيكَ تَغارُ

صَدَّنا الغَيثُ عَن زِيارَةِ غَيثٍ

  بِشرُهُ البَرقُ وَالنُضارُ القُطارُ

عاقَ أَجسادَنا فَزُرناهُ بِالقَل

 

بِ وَذو الفَضلِ بِالقُلوبِ يُزارُ

استعان الشاعر بمجموعة من التقنيات البلاغية التي أعلت من القيمة الفنية للنص نذكر منها التقديم والتأخير، إذ قدم المفعول به على الفاعل ليجذب العناية من المتلقي للفظة (الجود )، فضلا عن تخصيص خصلة الجود في الممدوح دون غيره. واستعمل الاستعارة المكنية  في البيتين الأولى والثاني التي أسهمت في رفد النص بدلالات الكرم والعطاء، فضلا عن استعماله لأسلوب الجناس التام (الغيث، غيث) فاللفظة الأولى تدل على المطر، والأخرى للدلالة على اسم الممدوح، إلى جانب استعماله لفن العكس والتبديل في البيت الثالث، إذ جاء بالجملة زرناه بالقلوب وأعادها في العجز بترتيب مغاير (بالقلوب يزار)، فالشاعر يتلاعب بالألفاظ لينتج دلالات التعظيم والتبجيل .

3_ الحنين للأهل والوطن

أكثر الشعراء في هذا العصر من المراسلات بينهم وبين ذويهم والتي تسمى بـ(المطارحات)، إذ غدت مظهرا معروفا في هذا العصر، وقد علل عمر موسى باشا كثرت هذه المراسلات قائلا: ((يظهر أن المطارحات بين الشعراء وآبائهم غدت مظهرا معروفا في شعر هذا العصر؛ إذ ظهرت اسر ورثت الأدب كابرا عن كابر)) ( (باشا، 2004م، صفحة 35)، ومثل هكذا رسائل تعمل على ربط الفرد بعائلته، من ذلك مراسلات الشاب الظريف (ت688هـ)  وأبيه الشيخ العفيف التلمساني(ت690هـ)، إذ بعث الشاب إلى والده قصيدة مؤلفة من (31) بيتا وهي سيل متدفق من المشاعر النبيلة التي تصور العاطفة الحقيقية التي أرادها الشرع بين الولد والوالد، ولم تخل هذه القصيدة من المعاني الصوفية التي بدت واضحة في تقرب الشاعر لأبيه، ويؤكد ذكره أينما حل سواء أكان لوحده أم مع أقرانه، ويمضي في وصف حسن أبيه الذي فاق كل حسن وشغله عن الملذات كلها، إذ يقول في مطلعها ( (الظريف، 1967م، صفحة 78) الكامل

أَبَدَاً بِذِكْرِكَ تَنْقَضِي أَوْقَاتي

  ما بين سُمَّاري وفي خلواتي

يَا وَاحِدَ الحُسْنِ البَديع لِذاتِهِ

 

أَنَا وَاحِدُ الأَحْزانِ فيكَ لِذَاتي

وَبِحُبِّكَ اشْتَغَلتْ حَواسِي مِثْلَمَا

 

بِجَمالِكَ امْتلأَتْ جَمِيعُ جِهَاتي

حَسْبِي مِنَ اللَّذاتِ فِيكَ صَبَابةً

 

عِنْدِي شُغِلْتُ بِهَا عَنِ اللَّذَّاتِ

وَرِضَايَ أَنِّي فَاعِلٌ بِرِضَاكَ ما

 

تَخْتارُ مِنْ مَحْوِي وَمِنْ إِثْباتي

وبعدها يشير إلى الفخر بشاعرية والده ولا سيما ما يخص تفوقه على المتصوفة جميعهم، ومن ثم يذكر منن وأفضال والده عليه وكيف كان يقابل سيئات ولده بالإحسان إليه والعفو عنه، إذ يقول:

كَفٌّ تُمَدُّ بِجُودِهِ نَحْوِي وَأُخْ

  رَى لِلسَّماءِ بِصَالحِ الدَّعَواتِ

وَإِذَا جَنيْتُ بِسَيِّئاتي عَدَّها

 

كَرَماً وإِحْساناً مِنَ الحَسَناتِ

 

ويختمها بالدعاء لوالده:

فَعَلَيْكَ مِنْكَ مَعَ الأَصَائِلِ والضُّحَى

 

تُتْلَى أَجَلَّ تَحِيَّةٍ وَصَلاةِ

 

ويقول الشهاب محمود (ت725هـ) مخاطبا أبيه ( ( ابن تغري بردى(784هـ)، 1992م، صفحة 10/261) :

السريع

هل زمن ولى بكم عائد

  أم هل ترى يرجع عيش مضى

فارقتكم بالرغم مني ولم

  أختره لكني أطعت القضا

تصدر البيت الأول باسلوب الاستفهام الخارج إلى معنى التمني بلقاء أبيه، لكن ظروف الحياة تجعله يختار الفراق على مضض لأجل كسب العيش.

وقد يبعث الشعراء برسائل لأبنائهم تعبر عن الحنين والشوق لرؤيتهم، من ذلك قول ابن العديم(ت660هـ)  (ابن العديم، 1996م، صفحة 1/322) :                                             البسيط

هذا كتابي إلى من غاب عن نظري

  وشخصه في سويدا القلب والبصر

ولا يَـمُـنّ بـطـيـف مـنـه يـطـرقـني

  عـنـد المـنـام ويأتيني على قدر

ولا كـتـاب له يـأتـي فـأسـمع من

  أنـبـائه عـنـه فـيـه أطيبّ الخبر

حتى الشمال التي تسري إلى حلب

  حنت فلم تخطر ولم تسر

أخصه بتحياتي وأخبره

  أني سئمت من الترحال والسفر

فألفاظ النص تعبر عن مدى الألم والتحسر التي يشعر بهما منتجه، وكان لتكرار اداة النفي (لا) أثر في الإفصاح عن البعد الذي اختاره المخاطب، فضلا عن تكرار حرف الراء في القافية وفي حشو الأبيات، وحرف الراء حرف مكرر ، وهذه القيمة الصوتية لهذا الحرف جعل الشاعر يجهر برفضه وحزنه لفراق صاحبه .

وكقول القاضي صدر الدين علي بن محمد الآدمي (816ه) مخاطبا صديقه الشاعر ابن حجة الحموي (837ه) وضمن ابيات من معلقة امرىء القيس (حجة، 2008م، صفحة 2/773) :              الطويل

أحنُ الى تلك السجايا وإن نأت   حنينُ أخي ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وأذكر ليلات بكم قد تصرمت   بدارِ حبيبٍ لابدارة جلجل
شَكوتُ الى الصبرِ اشتياقي فقال لي:

  ترفقْ ولاتَهلِك أسىً وتجمل
فقلتُ له : إني عليكَ معولٌ

  وهل عندَ ربعٍ دارسٍ من مُعولِ

فأجابه ابن حجة بأبيات ضمنها اشطر اخرى من معلقة امرىء القيس :

سرتْ نسمةُ منكم إليَّ كأنهـا   بريح الصبا جاءت بريا القُرنفُلِ
فقلتُ لليلى مُذ بدا صبحُ طُرسها:   (الا أيها الليل الطويل ألا انجل)
ورقت فأشعار امرىء القيس عندها

  (كجلمود صخر حطه السيل من عل)
فقلت : قفا نضحك لرِقتها على

  (قفا نبكِ من ذِكـرى حبيبٍ ومَنزل)

وهذه النمط من الشواهد الشعرية لا ابداع فيها، لأنها تعتمد على صور وأخيلة الغير فضلا عن الأوزان والقوافي أي أن الشعراء يعتمدون القولب الشعرية الجاهزة وليس لهم فضل سوى اختيار الأعجاز التي تناسب صدور الشاعر.

ولا ينسى الشعراء الحديث عن الصداقة والأصدقاء، فهم بمثابة الأهل ومستودع السر، كقول الشاعر شهاب الدين محمود الذي عبر عن حنينه لصديقه علاء الدين (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 4/94) :                                                                                         الطويل

ألم يــكــفــنــي شــوق إليـه وأدمـع

  عـليـه إذا مـا جـادت الغيث أمسكا

وأنــي مــذ فــارقـت لا ذقـت بـعـده

  مـحـياه لم أصحب حميماً سوى البكا

إلى أن شـكـا حـالاً غـدوت لحـمـلها

  أكـابـد مـن هـمـي بـه فـوق مـا شكا

وحـرك أشـجـانـي عـلى أن فـي الحشا

  لهـا بـاعـثـاً مـن نـفـسـهـا ومـحركا

فـيـا نـازحـاً أودى بقلبي ولم يزل

  بــإخــلاصــه فــي حــبــه مــتـمـسـكـا

فنلحظ من خلال هذه الأبيات عمق الأواصر المتينة التي تربط الشاعر بصديقه، وكان لألفاظ الفراق والبكاء والشكوى، أثر في إظهار الحالة النفسية التي يمر بها الشاعر ، ولا يخفى الدور الكبير الذي أدته حروف المد في هذا النص التي إذا شاعت أكسبت النص نوعا من البطْء الموسيقي أو ما يمكن أن نصفه نوعا من التراخي الموسيقي (أطيمش، 1986م، صفحة 307) فالشاعر حبذ أن يتمهل المخاطب في قراءة كلمات أبياته تمهلا شديدا ليقرأ معاني اللوعة والحزن الجاثمة في صدر الشاعر الصديق الوفي .

وقد تتجاوز أواصر هذه العواطف حدود الأهل والأقارب والأصدقاء، لتشمل الحنين إلى الوطن بكل ما فيه من صديق وقريب وغريب، من ذلك قول شمس الدين ابن الواسطي (ت712هـ) يكتب إلى محبيه رسالة يجعل فيها من الزمن الذي كان يجمعه بهم وينعم بالمسرات والأفراح هو السبب في حزنه وجريان دمعه  أيضا، بل يصور حاله في ذلك الفراق بان دمعه أصبح ممزوجا بما في أقداحه، مما يدل على عدم ارتياح الشاعر، ومدى تألمه طوال وقته، فيقول( (العسقلاني، 1329هـ، صفحة 3/128) :                                            البسيط

إن الزمان الذي قد كان يجمعني   بكم وينشي مسراتي وأفراحي
هو الذي صار ينشي بعد بعدكم   حزني ويجعل دمعي مزج أقداحي

        ويقول بدر الدين يوسف الذهبي (ت680هـ) ( (الجراخ، 2007م، صفحة 45) :    مجزوء الكامل

إن الذين ترحلوا

  نزلوا بعيني الناظرة

أسكنتهم في مهجتي

  إذا هم بالساهرة

استعان بالآية الكريمة ((فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)) (النازعات 14) كناية عن المبالغة في رعايته لهم، فقلبه هو الوطن الذي يسكن فيه أحبته .

ويقول في نص إخواني آخر( (الجراخ، 2007م، صفحة 90) :                          البسيط

قد انحلتني الغوادي غير راحمة

  ومحقتني الليالي بعد إبدار

فكم أواري غراما من جوى وأسى

  زناده تحت أثناء الحشا واري

جراننا كنتم بالرقمتين فمذ

  بعدتم صار دمعي بعدكم جاري

استعمل الشاعر التورية في البيت الأول في كلمة إبدار ومعناها السطحي طلوع البدر، إلا أنه يشير إلى اسمه، يقول ابن حجة الحموي يعجبني قوله من قصيدة ورى في بيتها الأول باسمه( (حجة، 2008م، صفحة 2/91)، وكذلك في كلمة ( واري) ، والمعنى القريب الشيء المختفي، والمعنى البعيد تشتعل بدلالة زناده . و برزت التورية في كلمة (جاري) من المجاورة وليس جريان دمع العين .

وهذا السراج الروراق يبعث بقصيدة تشوق لصديقه نصير الدين الحمامي(ت 704هـ)، فيقول (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 4/208) :                               الخفيف

شاقني للنصير شعر بديع

  ولمثلي في الشعر نقد بصير

ثم لما سمعت باسمك فيه

  قلت : نعم المولى ونعم النصير

اقتبس في البيت الثاني الآية الكريمة : ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ )) الأنفال آية (40) ، وترديد كلمة النصير عن طريق التكرار والجناس في هذا النص يؤكد مدى الشوق الذي استحكم وسيطرة على ذهن الشاعر. .

4_ شعر المناسبات

وأكثر ألوان الشعر الإخواني يتمثل في تلك الأبيات الشعرية التي يرسلها الشعراء في المناسبات الاجتماعية كافة، كالتهنئة والتعزية، كقول ابن نباتة المصري، يهنئ أحدهم لزواجه( (القليقلي، 1905م، صفحة 115) :   الوافر

وبأيمنِ طالعٍ عقدُ سنيّ

  جليّ اليمنِ متصلُ النجاح

ظفرت على قران السعد في

  بشمس الحسن من شمس السماح

فنعم الأهلُ قد أضحت وماذا

  يقول المدح في أهل الصلاح

فالشاعر حقق التناسق الصوتي في إظهار المعنى والتعبير عن فرحته بهذه المناسبة، فالنون والسين والحاء سيطرت على جسد النص، وهذه الحروف تضفي السكينة في نفس المخاطب،  فالشاعر استعمل التعبير والألفاظ المناسبة للظرف الذي أدى إلى انتاج النص، فالزوج فيه السكينة والاستقرار .

ومنها التهنئة بمولود، من ذلك قول الصاحب تاج الدين (ت707هـ) إلى السراج الوراق، وقد ولد له ولد، فبعث له صلة وثلثا حريريا وخمسة أبيات من الشعر يقول في مطلعها( (الصفدي ص.، 2000م، صفحة 1/176) :

بعثتُ بها     وبالثلث الرفيعِ

فأجابه الوراق بأبيات أولها:                                                                      الوافر

سرتْ مِنْ جَانِبِ العِزِّ الرَّفيعِ

  إليَّ بِطِيْبِ أَنْفَاسِ الرَّبِيعِ

مُصرَّعةٌ كَأَنِّي اليومَ مِنْها

  وَلجتُ على حَبيبٍ وَالصَّريعِ

دَعَونا الخمسةَ الأبياتِ سِتَّاً

  لِسَبْعٍ عُلِّقتْ فَوقَ الجميعِ

فُدينا من هباتِكَ مُذهباتٍ

  كَأنَّ مَحوكَهَا قِطَعُ الرَّبيعِ

تزيدُ بِلَمْسِ كَفِّكَ حُسنَ وشيٍّ

  كَحُسْنِ الرَّوضِ بِالغَيثِ الهَمُوعِ

بما أَحْيَيتْ لِلْنَفْسَاءِ نَفْسَاً

  وَلِي مَعَهَا وَلِلْطِفْلِ الرَّضِيعِ

وَقَدْ سمَّنت كيسى بعد ضعفٍ

  به التقتِ الضلوعُ مع الضلوعِ

فالأبيات الخمسة كانت نقدا للأبيات التي بعثها له صديقه، فهذه الأبيات عبرت عن آصرة المودة والأخوة بين الشاعرين، ونلحظ أن الشاعر كرر لفظة الربيع في القافية، على الرغم من قرب اللفظتين المكررتين وهذا عيب من عيوب القافية ويدعى الإيطاء، ويعنى به إعادة الكلمة في القافية بلفظها ومعناها وإنما يجوز ذلك بعد سبعة أبيات (الهاشمي، 2003م، صفحة 42)

وكقول الصفدي في تهنئة أحدهم عاد إلى منصب قضاء القضاة، نستشهد ببعض أبياتها ( (الصفدي ص.، 2004م، صفحة 2/172) :                                                          الكامل

برجوع تاج الدين قاضي الشام

  أضحى الهناء موفر الأقسام

قاضي القضاة الفاضل الحبرُ الذي انـ

  ـقادة له العليا بغير زمام

نال الكواكب قاعدا لا قائما

  من ذا يسوم فعاله ويسامي

ففي البيت الثالث (نال الكواكب قاعدا لا قائما) كناية عن أن أموره ميسرة والدهر طوع أمره في تحقيق أمنيته.

ويستمر في إيراد صفاته وفضائله، ووصف قدرته الشعرية التي فاقت موهبة أبي تمام، ويعبر عن ما يفعله شعره في الأسماع إذا أنشد، فالنهر يصفق والغصون تتراقص والزهور تضحك، إلى آخره وكلها استعارات مكنية أعلت من شعرية نص الصفدي، ويختم القصيدة بالدعاء للقاضي، فيقول( (الصفدي ص.، 2004م، صفحة 2/173) :

لا زال في سعد من الأيام ما

  رقصت زهور الروض بالآكام

ويقول ابن الوردي عندما دخل على كاتب سر قد عزل، فرآه ينسخ مصحفا( (ابن الوردي (ت749هـ)، 2006م، صفحة 266) :                                                                     البسيط

قـد كـنـتَ كـاتـبَ سـرٍّ خـارجـاً معهمْ

  فــصــرتَ كــاتــبَ وَحْـيٍ داخـلٍ الدارِ

كـمْ قـدْ كـتـبتَ عن الباغي لخشيتِه

  فالآنَ لا تخشَهُ واكتبْ عنِ الباري

يستمد هذا البيت فنيته من الطباق (خارجا، داخل) ، والجناس الذي يحمل طباقا معنويا، (الباغي، الباري) وهو جناس لاحق لتباعد نطق كل من الغين والراء .

وقد يبعث الشعراء بأبيات تعبر عن التهنئة على خلعة جديدة وهذه الخلعة اما ان تعني الرداء أو تعني _مجازا_ تسلم منصبا في الدولة_، كقول ابن نباتة المصري( (القليقلي، 1905م، صفحة 352) :        الكامل

هنئتها خلعاً تذكِّرُ من رأى   نعماك للخضراءِ والعرض النقي
كنت الأحقّ بأن تهنى لبسها   فملابس التقوى أحقُّ بها التقي

ويدخل ضمن التهاني التهنئة بشراء منزل جديد، كقول ابن نباتة ( (القليقلي، 1905م، صفحة 253) :    الوافر

تهن بمنزليك وجر ذيلي

  سعودك فيهما خبرا وخبرا

فمن دار السعادة كل يوم

  الى دار الهنا وهلم جرا

5_ الفكاهة

وقد يتفاكه الشعراء فيما بينهم بسبب نوع الطعام الذي يرسله بعضهما للبعض الآخر، من ذلك قول (كمال الدين بن الأعمى) (ت692هـ) الذي اهدى له صاحبه صحن حلاوة، فوجدها رديئة فلم يطق السكوت عليه ( (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 2/144) :             الخفيف

إن في صحنك المسمى حلاوه

  رقةً تورثُ القلوبَ قساوه

كم حفرنا فلم نجد غير أرض الـ

  صحن يبساً كمثل أرض السماوه

لست أدري من سكر كان أم من

  عسل حين لم تُشِبْهُ نداوه

غير أني رأيت صحناً صغيراً

  ما عليه من النعيم طلاوه

شبهته العيون حين أتانا

  وجه مولود قد علته غشاوه

لا تكن تحسب الصداقة هذا

  ليس هذا صداقةً بل عداوة

فالشاعر مندهش من هذا الصحن الصغير الذي احتوى على حلاوة يابسة، ولا يعرف كيف اكتسبت صفة الحلاوة هل من السكر أم من العسل إذ لا ندواة فيها ليعرف الجواب.

وقول ابن نباتة ( (القليقلي، 1905م، صفحة 479) :                                   المتقارب

دعاني صديقٌ لحمَّامه

  فأوقعني في العذاب الأليم

كلام يزيد وماء يقل

  فبئس الصديق وبئس الحميم

 

6_ الألغاز

شاع فن الألغاز في الشعر المملوكي شيوعا ملحوظا، فأخذ الشعراء يتسابقون في حل الألغاز من خلال رسائل شعرية يظهرون فيها براعتهم في بسط الألفاظ وتماسكها، لذلك عدت من الإخوانيات ، من ذلك قول نصير الدين الحمامي ملغزا في نون ( (الصفدي ص.، 2000م، صفحة 27/26) :                           السريع

ما اسم ثلاثي يُرى واحدا

  وقد يُعدُّ اثنين مكتوبُهْ

يظهر لي من بعضه كله

  إذ كل حرف منه مقلوبُهْ

أضف ثمانين إلى ستة

  إن شئت لا يعدوك محسوبُهْ

اطلبه في البر وفي البحر

  لا فات حجى مولاي مطلوبُهْ

فأجابه الوراق( (الصفدي ص.، 2000م، صفحة 27/27) :                            السريع

يا سالبَ الألباب في سحره

  بمعجزٍ أعجزَ أُسلوبُهْ

ألغزتَ في اسم وهو حرفٌ وقد

  يخفى علينا منك محجوبهْ

وهو اسمُ أنثى مُرضِعٍ طِفلُها

  غيرُ لِبان الناسِ مشروبُهْ

مُطرِدٌ منعكِسٌ شكلُهُ

  سِيْانَ في العينِ مقلوبُهْ

لقد أجاد النصير في توضيح اللغز من خلال التصريح ببعض المعطيات لحله، إلا أنه أخطأ عندما قال أضف ثمانين إلى ستة، لأن النون تحسب في عالم الرياضيات خمسين بما أنها مكررة فيصبح العدد مئة ونضيف إليها ستة قيمة الواو؛ فتصبح مئة وستة . وزاد الوراق تعمية ولغزا عندما قال وهو اسم أنثى مرضع طفلها . ولولا التضاد في قول الوراق (مطرد منعكس شكله ) وكلمة (مقلوبه) لما عرف حل اللغز .

وله أيضا لغز في النار يقول( (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 5/514):   الكامل

ما أسمٌ ثلاثيٌ له النفعُ والضررُ   له طلعةٌ تُغني عن الشمسِ والقمرْ
وليسَ له وجهٌ وليـسَ لهُ قفا   وليسَ له سمعٌ وليسَ له بصر
يمدُّ لساناً تختشي منهُ الريحُ بأسهُ

  ويسخرُ يومَ الضربِ بالصـارمِ الذكر

يموتُ إذا ماقمتَ تسقيهِ قاصداً

  وأعجبُ من ذا أن ذاك من الشجر

أيا سامعَ الأبيات دونك شرحها

  وإلا فنم عنها ونبِّه لها عمر

استعان الشاعر بتقنية التضاد في إيضاح معنى اللغز وتبسيطه للمتلقي، وفي نهاية المقطوعة استعمل فن التضمين، إذ ضمن بيت بشار بن برد، إذ يقول (ابن عاشور، 1966م، صفحة 4/160):      المتقارب

إذا أيقظتك حروبُ العدا

  فنّبِّهْ لها عَمْراً ثُمّ نمْ

وعمر هو أبو عمرو بن العلاء العالم باللغة العربية والشعر .

فأجابه الوراق (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، الصفحات 5/514-515) : الطويل

تُعيدُ لمسكِ الليلِ كافـورة السحرْ

  أراك نصير الدين ألغـــزتَ في التي
وتاللهِ لاتُبقي عليهم ولاتذر

  رأى معشرٌ أن يعشقوها ديانةً
فمسكنُهم منها ومأواهمُ سقر   وكلٌ على قلبٍ لهم ران اسمهَا
كما وصفوا الحسناء بالشمس والقمر

  وقد وصفوا الحسناء في بهجة بها

ولا لذ ماءٌ في حماك لمن عبر

  ولو لم تكنْ ماطابَ خبزٌ لآكلٍ

 

ونظم الألغاز يرهق الفكر والذهن، ويجعل المخاطب يبذل جهدا ووقتا في فك رموز اللغز من خلال المعطيات التي ينشرها صاحب اللغز في نصه الشعري .

وأرسل ابن قاضي شهبة (ت764هـ) الى صلاح الدين الصفدي ملغزا في ديك، فيقول ( (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 5/45) :                                              الخفيف

أيها الفاضل الذي هو في الفضـ

  ـل إمام والناس جمعا وراء

والبليغ الذي له لطف معنى

  عجزت عن مثاله الفصحاء

والإمام الذي له لطف خط

  لم تطق وصف نوره الشعراء

ما اسم ثاو في الأرض بين البرايا

  وله صاحب حوته السماء

وهو عار ومكتس ثوب حسن

  عنده الصيف والشتاء سواء

لم تحك ثوبه يد ولم تحـ

  ـو نظيرا لنسجه صنعاء

قام بالعرف آمرا وعلى العا

  دة يجري وليس فيه رياء

فأبنه ياذا الرئيس المفدَّى

  لا نأتْ عن مقرك النعماء

وابق ما غنَّت الصوادح في الصبـ

  ـح ولاح الضحى وولى المساء

فأجابه صلاح الدين الصفدي بقوله( (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 5/45) :

الخفيف

يا فصيحا عنت له البلغاء

  وبليغا ونتَ له الفصحاء
ج
والبليغ الذي إذا ما بدا البد

  رُ لديه اعتراه منه حياء

نظمك المستلذُّ في كل مسمع

  هو والدرّ والأغاني سواء

أنت ألغزت في مسمى عجيب

  طائر ما حواه قط الهواء

وهو يمشي مثل الملوك بتاج

  وعلى رأسه يشال لواء

ليس تُحصى أشخاصه وهو يُحصى

  فعجيب لما يراه القضاء

وتحاشى من عكسه فهو لأمر

  يتبرَّا من فعله الكرماء

وإذا ما صحَّفتَهُ يتبدّى

  حيوانا وقد حواه المساء

فابق واسلم لكل لغز بديع

  فهو فنٌ تحبه الأدباء

فكلا النصين بدأ بالتمجيد وإعلاء قيمة المرسل له، وختم بالدعاء لكليهما بالبقاء والسلامة .

ونلحظ أن ابن قاضي شهبة فرش في نصه ألفاظا تساعد في حل اللغز، فقوله ثاويا في الأرض كناية عن عدم الطيران، ولفظة العرف سهلت اللغز وقربت معناه للمتلقي، فضلا عن استعمال التضاد (الأرض ، السماء) و(عار ، مكتس) و (لاح الضحى، ولى المساء) . وقد شكل التضاد ظاهرة اسلوبية في شعر الألغاز .

7_  وهناك نمط من الإخوانيات تدعى باسم (الشتويات) وهي المراسلات التي يبعثها الشعراء في فصل الشتاء وقد حوت أوصافا جميلة للطبيعة ومباهجها، مثلما حوت وصفا للمجالس التي كان يقيمها الأصدقاء فيما بينهم.

كقول الشاب الظريف، عندما افتقد صديقه الذي غاب عن مجلس في ليلة شتاء شديدة البرودة، فاستدعاه بأبيات وصف فيها جمال الطبيعة في هذا الفصل فيقول ( (الظريف، 1967م، صفحة 27) :                    الكامل

يَوْمَ أَتانا بَرْدُه في بُرْدَةٍ

  أَضْحَى بِها مِثْلَ الحَديدِ الماءُ

الأَرْضُ قَدْ بُسِطَتْ لِحُسْنِ صَنيعِه

  بِالثَّلْجِ في الأَرْضِ اليَدُ البَيْضاءُ

فاحْضُر فَنحْنُ كما تُحِبُ بِمَجْلسٍ

  لَوْ لَمْ تَغِبْ تَمتْ بِهِ السّرّاءُ

بدأ الشاعر أبياته بفن الجناس المحرف (بَرْدُهُ، بُرْدَةٍ) إذ اختلف اللفظان في حركة الدال، وهذا الفن هو المدخل الذي من خلاله فصل الشاعر المعالم الجمالية لفصل الشتاء .

وقال الصاحب شرف الدين في رسالة كتبها للصفدي، في يوم وقعت فيه أمطار غزير وخرجت عن الحد، مع رعود وبروق، فراح يصف البرق، بقوله: (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 2/294)

الوافر

كَأَنَّ البَرْقَ حينَ تراهُ لَيلا

  ظُبًى في الجوِّ قد خُرِطَتْ بِعُنفٍ

تخالُ الضَّوءَ منه نارَ جيشٍ

  أَضاءَتْ والرُّعودُ حسيسَ زَحْفٍ

فرد عليه الصفدي بقوله( (الصفدي ص.، أعيان العصر وأعوان النصر، 1998م، صفحة 2/294):    الوافر

يُحاكي البرقُ بِشرِكِ يومَ جودٍ

  إذا أعطيتَ ألفا بعد إلفِ

وصوتُ الرعدِ مثل حشا عدوٍّ

  يخاف سطاك من حيف وحتفِ

وعموما فان شعر الإخوانيات في العصر الوسيط مثل وجها للحياة الاجتماعية والفكرية التي كان يحياها المجتمع العربي. وان اهم السمات التي تميز بها شعر الإخوانيات التأدب في الخطاب واللياقة في الحديث واختيار الألفاظ التي تحبب وتقرب الشاعر إلى الشخص الذي تبعث إليه الرسائل، فضلا عن اعتماد الشعراء الأوزان الطويلة التامة في أغلب الشعر الذي نظم على هذا الغرض؛ نظرا لما تحتويه هذه الأوزان من مساحات واسعة تعين الشاعر على التعبير عن معانيه وعواطفه، وكذلك فهي تعد مجالا لإبراز مهارتهم الفنية وقدرتهم الشعرية .

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

_ أروع ما قيل في الإخوانيَّات، ، إميل ناصيف، ط1، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1996م .

_ أعيان العصر وأعوان النصر، لصلاح الدين الصفدي (ت764هـ) حققه : الدكتور علي أبو زيد وآخرون، ط1، دار الفكر المعاصر، بيروت _ لبنان، دار الفكر دمشق_ سوريا، 1998م .

_ إغاثة الأمة بكشف الغمة، المقريزي (ت845هـ)، دراسة وتحقيق الدكتور كرم حلمي فرحات، ط1، الناشر عين للدراسات والبحوث الإنسانية،  2007م .

_ ألحان السواجع بين البادئ والمراجع، صلاح الدين الصفدي (ت764هـ)، ط1، تحقيق إبراهيم صالح، دار البشائر، دمشق، 2004م .

_ تاريخ الأدب العربي، العصر المملوكي، عمر موسى باشا،ط1، دار الفكر المعاصر، 2004م .

_ خزانة الأدب وغاية الأرب، تقي الدين بن حجة الحموي (ت837هـ)، تحقيق د. محمد ناجي بن عمر، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت _لبنان، 2008م .

_ الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد، 1329هـ.

_ دير الملاك، دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر، د. محسن أطيمش،ط2، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986م .

_ ديوان ابن نباتة المصري، تحقيق محمد القليقلي، دار التمدن، مصر، 1905م .

_ ديوان ابن الوردي (ت749هـ) تحقيق : عبد الحميد هنداوي،ط1، دار الآفاق العربية، 2006م .

_ ديوان بشار بن برد، تحقيق: محمد الطاهر بن عاشور، القاهرة، لجنة التأليف والنشر، 1966م.

_ ديوان الشاب الظريف، تحقيق شكر شاكر هادي، مطبعة النجف، 1967م .

_ ديوان صفي الدين الحلي، دار صادر، د.ت .

_ زبدة حلب من تاريخ حلب، لابن العديم (666هـ)، تحقيق: خليل منصور، ط1، دار الكتب العلمية، 1996م .

_شعر يوسف بن لؤلؤ الذهبي (ت680هـ)، جمع وتحقيق ودراسة: عباس هاني الجراخ، دار الفرات الاعلامي، 2007م.

_ فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي (ت764هـ)، تحقيق احسان عباس، دار صادر، 1973م .

_ المعجم المفصل في الأدب،الدكتور محمد التونجي، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت_ لبنان، 1999م .

_ ميزان الذهب في صناعة شعر العرب، السيد أحمد الهاشمي، تحقيق علاء الدين عطية، ط3، دار البيروتي، 2003م.

_ النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة، ابن تغري بردى(784هـ)، قدم له وعلق عليه محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت_ لبنان، 1992م .

_ الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي تحقيق: أحمد الأرنأوط و تركي مصطفى، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت _ لبنان، 2000م .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *