أ.د. حاتم علي حسن

أستاذ اللسانيات ، جامعة بغداد ، كلية التربية للبنات ، العراق .

يبدو أنَّ الانسان بحاجة مستمرة إلى أن ينسجم مع محيطه بكل مايشكله هذا المحيط من ظواهر ومعاني متماثلة أو متباينة، توافق معها أو اختلف. ولكنَّه أدرك أنَّ هذه الظواهر يجب أنْ يتفاعل معها بالقبول أو الرفض، ولكنَّه ادرك أيضاً أنَّ الطبيعة والمحيط الذي يشكل هو جزءاً من ظواهره  سيرتدُ عليه حتماً فيحركه بل يدفعه دفعاً ليقف ازاءَهُ متأملاً ومشككاً، ومن ثمَّ باحثاً عن الحقيقة التي لم يصل إليها بعد.

فسلك طرقاً مختلفةً للوصول إلى تفسير منطقي لما يدور حوله. وإذا عرفنا أنَّ اللغة هي الطاقة الحقيقية التي جعلت الإنسانَّ مختلفاً ومتميزاً، عند ذاك نكون قد عرفنا أيضاً أنَّها أي –اللغة- ستكون العامل الرئيس التي تنتهي بالانسان لاكتشاف تلك الحقائق التي تحيط به لابمعنى أنها الاداة بل بمعنى الظاهرة التي تمتلك القدرة على تفكيك الظواهر الأخرى، وماعلينا إلاَّ أنْ نسمحَ أو على نحوٍ أدق نتيح لها الطريق لتتحدث مكتشفةً ومفسرةً ولكن ومن أجل أنْ يتحقق حلم الانسان انتقل من الحيرة والتردد إلى دخول لعبة أو مغامرة معرفة الاشياء وتحليلها ويبدو أنَّ هذه المغامرة لم تكن يسيرة وسهلة، فبدات متحصنةً برؤى معينة قد تكون على قدر بدايتها إذ قد يكتفي الانسانُ- في بداياته- في التفاعل مع محيطه بما ينسجم وقدراته، ثمَّ يتطور الأمر فينزع إلى مزيد من المعرفة والتحليل والاكتشاف وهنا أقول: إنَّ التطور في المعارف والتعامل معها يقتضي حتماً تطور المدارك وتغيرها ومن ثمَّ تغير احكامنا وآرائنا في الوقت نفسه وإذا كانت اللغة هي العامل المحوري في حركة الإنسان واحكامه فأنَّها –بالضرورة- هي التي شكلت مداركنا ومعارفنا ومن ثم احكامنا. أمَّا والأمر يتعلق بالثقافة العربية الإسلامية فأنَّ النص اللغوي فيها شكَّلَ ايقونتها الفارقة فهي ثقافة نص وهي حضارة نص، وقد تربَّعَ النص القرأني  الكريم على عرش هذه الثقافة، بل هو الذي أنتح هذه الثقافة، ولكن وبسبب كونه نصاً لغوياً عظيماً، ومصدراً تشريعياً مقدساً. اصبحنا بامس الحاجة إلى فهمه واكتشافه ولاسيما بعد وفاة حامل هذا النص العظيم الرسول الكريم محمد (ص). ويبدو أنَّ التأويل كان هو المفتاح الأنسب لاكتشافه وتفسيره، ولكن بعد الجيل الأول من الاسلام إذ إنَّ الصحابة الاوائل لم يخوضوا في التأويل وقضاياه، وقد يكون السبب في هذا قرب عهدهم بالرسول الكريم (ص) فقد “تنازع الصحابة في الكثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين واكمل الأمة ايماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألةٍ واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات مانطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدو الشيء منها ابطالاً، ولاضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالايمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً، واجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عِضِينَ، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين” ( الجوزية ، (1991)،1/39، النظير،(2016)، 35).

وبهذا المعنى أو هذا التحليل الذي ورد ((فانَّ الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل- أي الذات الالهية وصفاتها- دون تأويلات فيها وَمَنْ كان منهم وقف على تأويل لم يرَ أنْ يصرح به- وأمّا منْ أتى بعدهم فانهم لمّا استعملوا التأويل قلَّ تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقاً)) ( ابن رشد،65 ،عياد،(2016)،35-36)

المهم- إنَّ التأويل الاسلامي تعلق بالنص القرأني الكريم الذي حرك عقولهم واثرى فكرهم فكان ماكان من الاتفاق والاختلاف ويمكن أنْ نقول: إنَّ التأويل بدأ مع ظهور الفرق الإسلامية بسبب حاجة كل فرقة منهم إلى اسناد رأيها وتعزيزه فكان التأويل هو المسعف الرئيس لهم ولآرائهم وقد تكون البداية مع الخوارج إذ اكدَّ إبن رشد إن بداية التأويل عند المتكلمين كانت على يد الخوارج ((وأوَّلُ مَنْ غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثمَّ الأشعريَّة ثمَّ الصوفية))(ابن رشد،71). وهنا أخذ التأويل مكانه في الثقافة العربية الإسلامية وتحديداً إزاء النص القرآني الكريم الذي كان محور ومركز هذه الثقافة فقد تنازعت فيه أغلب الفرق، على الرغم من التباين في الآليات والمناهج، إذ كان للمتكلمين آلياتهم وكذلك الفقهاء وعلماء الأصول والفلاسفة، وقد يكون لكل منهم حججه ومبرراته، ولكن الكثير من هؤلاء الزموا انفسهم بالنقل في حين التزم آخرون منهم بالعقل، فكان الحال أول الأمر خلافياً بل متقاطعاً، ولكن مع استمرار هذا التفكير وما إنبنى عليه من الخلاف ظهرت تأويلات وتحليلات اكدَّت أنْ لاتقاطع بين النقل والعقل فكلاهما يستند إلى العقل إذ إنَّ الشرع يجب أنْ ينسجم مع العقل وهكذا فأن العقل يجب أنْ يسند الشرع، فإذا حصل في النقل أو الظاهر من النصوص مايخالف العقل يجب الإستعانة بالتأويل لتنسجم تلك النصوص الظاهرة بما يتوافق مع العقل ولكن البيان قد خالف البرهان بوصفهما أداتين رئيستين في التأويل، لأجل هذا كان الخلاف قد تجدد مرة أخرى بين الفلاسفة الذين تمسكوا بالبرهان وأولئك الذين تمسكوا بالبيان من جهة أخرى، إذ إنَّ الحقيقة في البرهان واحدة وملزمة ومتماثلة ومتطابقة خلافاً للبيان الذي اعتمد التشبيه من مجاز واستعارة وكتابة فكانت التعددية في المعنى والدلالة ومن ثمَّ مغادرة مفهوم الحقيقة الواحدة لمصلحة تعدد الحقائق ونسبيتها.

ومن جهة أخرى فأنَّ بعضهم وجد أنَّ العلاقة بين النقل والعقل أو بين الشرع والعقل علاقة واضحة إذا فهمت على أساس صحيح تتلخص في تأييد الشرع بالعقل وعدم فصل الشرع عن العقل، فلايمكن فصل أحدهما عن الآخر أو الاستغناء باحدهما عن الأخر فكلاهما حق، والحق لايعارض الحق – والإنسان ولاسيما المسلم سيحتاج إلى كليهما ((وعلى هذا فأنَّ ما يعده البعض تعارضاً بينهما لا أساس له من الصحة لأنَّ الذين قدموا واحداَ منهما على الآخر لم ينكروا دور الأخر ولم يهملوه أو يعطلوه، وأية ذلك إنَّ الذين قدموا النقل قدموه- بعد تعقلهم للالوهية والنبوة والرسالة)(ابن رشد، 58-59) ، وقد ارتضوا ذلك لعلمهم ((أنَّ مدارك صاحب الشريعة اوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الانوار الالهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها)) ( خلدون ،2006، 1029).

وهكذا تستمر عملية التبرير والتسويغ فيكون الذين قدموا العقل على النقل مدفوعين بغاية نبيلة تتمثل في الدفاع عن الدين، وقد دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعا ذلك الحجج النظرية ومحاذاة العقائد السلفية بها.

ويأتي الراغب الاصفهاني فيلطف هذا الخلاف فيقول: ((لله -عزَّ وجل- إلى خلقه رسولان أحدهما من الباطن وهو العقل والثاني من الظاهر وهو الرسول، ولاسبيل لأحد إلى الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الانتفاع بالباطن، فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر ولولاه لما كانت تلزم الحجة بقوله، ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل فامره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها، فالعقل قائد والدين مدد، ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقياً ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائراً واجتماعهما كما قال تعإلى “نورٌ على نور”( الأصفهاني ،1985، 207) ويمتد الأمر إلى إبن رشد الفيلسوف الاسلامي الذي عمل جاهداً على إنشاء علاقة طيبة بين الوحي والعقل، إذ إنَّ كلاً منهما بحاجة إلى الآخر فيقول: ((فانَّ الغرض من هذا القول أنْ نفحص- على جهة النظر الشرعي- هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إمّا على جهة الندب وامَّا على جهة الوجوب فنقول: كأن فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، اعني من جهة ما هي  مصنوعات، فانَّ الموجودات إنمَّا تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وانَّه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم وكأنَّ الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحثَّ على ذلك فبين أنَّ مايدل عليه هذا الاسم

 

اما واجب بالشرع واما مندوب إليه فامَّا انَّ الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بين في غير آية من كتاب الله، تبارك وتعإلى، مثل قوله تعإلى “فاعتبروا ياأولى الابصار”      ))( ابن رشد، 22) .

وبعد أنْ استدل إبن رشد أنَّ الشريعة توجب النظر العقلي يذهب إلى ضرورة معرفة الله وسائر موجوداته بالبرهان فيقول: ((وإذا كان الشرع قد حثَّ على معرفة الله تعإلى وسائر موجوداته بالبرهان وكان من الافضل- أو الأمر الضروري- لمن أراد أنَّ يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان، أنْ يتقدم اولاً فيعلم انواع البراهين وشروطها، وبمإذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس المغالطي، ولايمكن ذلك دون أنْ يتقدم فيعرف قبل ذلك ماهو القياس المطلق؟ وكم انواعه؟ ومامنه قياس؟ ومامنه ليس بقياس؟ وذلك لايمكن ايضاً إلاّ ويتقدم فيعرف قبل ذلك أجزاء القياس التي منها تركبت اعني المقدمات وانواعها. فقد يجب على المؤمن بالشرع المتمثل أمره بالنظر في الموجودات أنْ يتقدم هذه الأشياء التي تنزل من النظر منزله الألات من العمل)) ( المصدر نفسه ،22)

وإذا كان القياس العقلي بدعةً في نظر أهل النقل ممن رفض الفلسفة ومنطقها، فأن إبن رشد يرى أنْ ((ليس لقائل أنْ يقول: إنَّ هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة إذ لم يكن في الصدر الأول فأنَّ النظر ايضاً في القياس الفقهي وانواعه هي شيء استنبط بعد الصدر الأول وليس يرى أنَّه بدعة فكذالك يجب أنَّ يعتقد في النظر في القياس العقلي… بل أكثر اصحاب هذه الملَّة مثبتون القياس العقلي إنْ النظر في القياس الفقهي إلاّ طائفة من الحشوية قلية، وهم محجوجون بالنصوص ))( المصدر نفسه ، 24) وهنا نلحظ أنَّ إبن رشد يرى أنَّ الشريعة توجب التفلسف إذ لا تعارض بينهما، لأنَّ كلاً منهما تنتهي إلى الحقيقة نفسها، الحقيقة الواحدة المتعلقة بوحدانية الله سبحانه وتعإلى وهنا لابدَّ من الاشارة أنَّ تعارضاً سيكون واضحاً بين الحقيقة الواحدة التي ذهبت إليها الفلسفة الإسلامية- كما اشار إليها إبن رشد- وبين الحقيقة التي ارادتها التأويلية التي استندت إلى البيان المبنى على المجاز في النصوص الابداعية وعلى رأسها النص القرآني الكريم. في حين أنَّ الحقيقة التي يتحدث عنها إبن رشد هي عينها الحقيقة الواحدة التي تتحدث عنها الشريعة إذ تتعلق كلّ منها بالوحدانية ولكننا سنرى في مايأتي من آراء مدعومةٍ بنصوص ومفاهيم التاويلية نفسها أنَّ الحقيقة فيهاغير الحقيقة التي اشار إليها إبن رشد والفلسفة الإسلامية على نحو عام، إذ النظر- هنا- يتعلق بالظواهر الكونية الأخرى ومنها اللغة بوصفها أهم الظواهر. ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة من التفاؤل في أنَّ ماجاء في تراثنا العربي الاسلامي كان متوافقاً ومنسجماً، بل سنرى أنَّ الاختلاف واضح وجلي بل تحول هذا الإختلاف إلى خلاف ظاهره عقائدي وباطنة متعدد الأسباب وقد انتهى هذا الخلاف إلى تبني كل طرف نظراً معيناَ اعتقد بموجبه أنّه الحقيقة، فكانت التوجهات إلى الحقيقة الواحدة التي بدورها انتهت إلى حقائق متعددة ومختلفة في الوقت نفسه، لكن ليس على مبدأ التعددية وقبول الاخرّ بل على اساس الحقيقة الواحدة. ولكن بالمقابل فانَّ طبيعة النص القرأني الكريم بوصفه نصاً لغوياً معجزاً أظهر أنّه يمتلك حقائق متعددة ناتجة عن تأويلات متعددة مستندة في ذلك إلى البيان ومانتج عنه من تعدد المعنى والدلالة في الوقت نفسه، وهو أمر يقودنا إلى نسبية الحقيقة – محتفظين بالحقيقة الواحدة المتعلقة بالذات الالهية المتعالية-. “وإذا كان مفهوم الحقيقة مفهوماً نسبياً في ذاته فانَّ النسبية هنا يجب أنْ تفهم على أساس النسبية الثقافية لا النسبية الذاتية. من هنا يكون البحث عن حقيقة التراث بحثاً عن حقائق في ثقافتنا لابحثاً عن حقائق مطلقة- وقد يرى الأخرون- الأغيار بالمعنى الثقافي- في تراثنا حقائق أخرى  يدركونها من منظورهم الثقافي الخاص، ولكن ذلك لاينبغي أنْ يشوش علينا رؤيتنا الثقافية للحقيقة. إنَّ ماتدركه ثقافة ما بوصفهِ حقيقة مطلقة هو كذلك بالنسبة لهذه الثقافة- وليست مهمة البحث العلمي- خاصةً في مجال الانسانيات- نفي ذلك أو إثباته، بل مهمتنا تحليله في اطار النظام الثقافي الذي ينتمي إليه. وهنا علينا أنْ نفرّق بين تعدد الأيدلوجيات داخل النظام الثقافي الواحد وبين وحدة الرؤية التي تجعل من الثقافة كلاً موحداً رغم ذلك” ( أبو زيد، 18)

هذه المفاهيم المختلفة والآراء المتباينة أدت إلى تعارضات مفاهيمية واضحة في الثقافة العربية الإسلامية. وقد ادى هذا التعارض المفهومي في الماضي إلى أنْ ذهب قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن إلى التسوية بين كل الأراء وبين كل الاجتهادات مهما تضاربت وتناقضت، فقال: ” كلُ ماجاء به القرأن حق، ويدل على الإختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال يهذا فهو مصيب، لانَّ الأية الواحدة ربما دلَّت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين. وسئل يوماً عن أهل القدر وأهل الإجبار فقال: كلَّ مصيب هؤولاء عظّموا الله، وهؤلاء قوم نزَّهوا الله قال وكذلك القول في الأسماء، فكل مَنْ سمى الزاني مؤمناً فقد أصاب، ومّنْ سماه كافراً فقد اصاب، ومَنْ قال هو فاسق وليس بمؤمن ولاكافر فقد اصاب، ومَنْ قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لانّ القرآن دلَّ على هذهِ المعاني قال وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية وخلافه، وقتل المؤمن بالكافر، ولايقتل مؤمن بكافر، وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب. ولو قال: إنَّ القاتل في النار كان مصيباً، ولو قال هو في الجنة كان مصيباً، إذ كان إنّما يريد بقوله إنَّ الله تعبدهُ بذلك وليس عليه علم الغيب. وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما له إنَّ ذلك كله طاعة لله تعإلى” ( ابن قتيبة ، 2007، 55-56، أبو زيد، 21-22) .

ولكن الواقع التاريخي للثقافة العربية الإسلامية يقول: إنَّ التيارات الثقافية الإسلامية المختلفة تبنت ثوابت بعينها إنطلاقاً من تفسير وتأويل النص القرآني الكريم. فالفلاسفة مثلاً تبنوا البرهان الذي هو تلازم وتطابق، وذهب المتكلمون والأصوليون والفقهاء أيضاً إلى تبني تأويلات بعينها قائمة على اللغة وبيانها، ولاسيما أنَّ العقل العربي هو عقل بياني وهو كذلك عقل شعري ومجازي أو حتى تخييلي. وقد يذهب بنا الظن إلى أنَّ هذا التوصيف للعقل العربي يقلل من قيمته في حال قورن بالعقل البرهاني، إذ يظن أنَّ الأول قد لايندرج ضمن مفهوم العقل لأنَّ العقل يستدعي فيما يستدعي الاستدلال العلمي والمنطقي كما هو الحال في البرهان في حين أنَّ الواقع يشير إلى خلاف ذلك إذ هناك (( نمطان ثقافيان يختلفان إختلافاً بيناً: اللوكوس مقابل النص، والبرهان مقابل البيان، الأول يبحث عن الماهيات، والثاني يولد الدلالات، الأول محكم ويقيني، والثاني متشابه واجتماعي، الأول قابل للنفي والإثبات أو للنقد والتصحيح. والثاني قابل للتفسير والتأويل. وكل نمط يمثل في النهاية نسقاً من أنساق العقل، العقل البرهاني والعقل البياني)) ( حرب ، 2007، 34).

وإذا كان العقل البرهاني حازماً في الوصول إلى النتيجة فأن العقل البياني يذهب بخلافه. إذ يفتح أفق المفاضلة والتعددية وقبول الرأي والرأي الآخر، وبسبب هذا الانفتاح والتعدد صنف على أنهُ الزمَ نفسه بالنقل انطلاقاً من النص، وكأنَّ الأمر يبدو بعيداً عن العقل، فالعقل الحقيقي هو العقل المنضبط المستند إلى الأدلة العلمية التي تنتهي إلى نتائج محددة يقينية، وكأن المفاضلة بينهما- أعني بين البرهان والبيان – هي مفاضلة بين المعقول والمنقول، في حين أنَّ (( البيان كما البرهان نشاط عقلي يتطلب دقة الفكر ونفاذ النظر ولطف الخاطر على حدَّ تعبير الجرجاني)) ( المصدر نفسه ،34) . وبهذا المعنى فأن البيان نشاط عقلي كما أنَّ البرهان نشاط عقلي، بيد أنَّ الفرق بينهما كبير ومفارق تماماً، إذ إنَّ كل واحد منهما يعد نسقاً مختلفاً عن الآخر (( والفرق بين النمطين يتمثل بين صورتين من صور العقل أو منحيين من مناحي الفكر: اللوكوس حيث ينحو العقل إلى القبض على الفروقات واحتوائها عن طريق لعبة التجريد وحيث يرتحلُ الفكر عبر اللغة المجازية من وحدة النص إلى كثرة الأشياء وتعدد الذوات واختلاف الجماعات فالأول ينتج الخطاب الواحد والشامل بينما يسمح الثاني بولادة اكثر من خطاب ومن مقال))(المصدر نفسه ، 34) . وإذا كانت الفلسفة اليونانية قائمة على البرهان فأن الحضارة العربية الإسلامية قائمة على البيان. ولكن هل التزم العقل العربي بالبيان بعد نزول الوحي؟ أو دخل في مرحلة جديدة تستدعي معطيات جديدة؟ على أية حال فأن علماء البلاغة قد اجمعوا على أنَّ الإعجاز البياني يقوم على التشبيه الذي يعد قوام البيان العربي به تعرف البلاغة بحسب الباقلاني، وعليه تعتمد الإستعارة بحسب الجرجاني. وبهذا المعنى فأنَّ سرَّ البلاغة عند العرب هو التشبيه ولكنهم ربطوا بينه وبين القياس، إذ إنَّ (( الإستعارة ضربٌ من التشبيه والتشبيه قياس)) ( الجرجاني ، 10)

وبذلك ارجعوا الظاهرة البيانية إلى المنطق، ولكن إذا رجعنا إلى نص الجرجاني نجد أنَّ التشبيه البياني ينماز عن التشبيه المنطقي بكونه يجمعُ المختلفات في الجنس ويألِّف بين المتناظرات ويعقد نسباً بين الأجنبيات ومن هنا قوله ((شدة إئتلاف في شدة إختلاف))( المصدر نفسه ، 140) ؛ لأن الاختلاف هو الأصل وأن الأشياء لاتتشابه إلا لأنها تتخالف ومن هنا ((نتردد في قبول المفاضلة بين التشبيه والقياس إذ إنَّ التشبيه البياني يحتوي على الغرابة، العجب، الوهم …الخ))( حرب ، 23) . لهذا فأن تناول الظاهرة البيانية من زواية منطقية يحولها إلى خواء دلالي ويفقدها أخص المصطلحات والمفاهيم الخاصة بعلم البلاغة كالإستعارة والتشبيه والإشتراك والإتساع، فالإستعارةُ ليست في النهاية تشبيهاً والتشبيه ليس قياساً، والمماثلة بين البرهان والبيان انطلاقاً من التشبيه بوصفه عنصراً مشتركاً بينهما ليست سوى مجاز، إذ ((إنَّ البرهان والبيان يختلفان في آليتهما، ويؤدي التشبيه في كلِّ منهما وظيفة مختلفة. ففي البرهان التشبيه مطابقة وتلازم وثبات في الدلالة. وفي البيان التشبيه فسحةٌ يتجدد من خلالها الكلام ويفيض المعنى وتتعدد أوجه الدلالة ففي البرهان يتم التماثل بين معنى معطى قائم بذاته وسابق على اللفظ، وفي البيان لا سبيل إلى التقاط المعنى من دون اللفظ، لأن المعنى هو بمثابة استعارة مستمرة، بمثابة دلالات يتسرب بعضها إلى بعض، وفي البرهان يهدف التمثيل إلى البحث عن التشابه الأصلي الكامن بين الأشياء، أما في البيان فأنَّ التمثيل ليس سوى خدعة. والأصل هو الإختلاف بحسب الجرجاني)) ( المصدر نفسه ، 32) . وعلى وفق هذه المعطيات وفي ضوء هذا الجدل الفكري دخلنا صراعاً من نوع آخر، هذهِ المرة لم يكن صراعاً لغوياً بل تحول إلى صراع غالب ومغلوب، ولا نجانبُ الصواب إذا قلنا إنَّه تحول إلى صراع آيدلوجي، ولكن الأهم في القضية كلها أنَّ النص القرآني الكريم دخل منطقة الصراع ولاسيما أنَّ ((القرآن الكريم ينطوي على وجوه كثيرة وأنَّ لغته تختلف عن لغة العقل البرهاني، وأنَّ طبيعة الدليل المستعمل فيه مغايرة لتلك التي يطلبها البرهان. فلغة القرآن يدخلها المجاز والإشتراك والإستعارة، إنَّها لغة تتسع كما قال الفراء( أبو زيد،104)  لغة لا ينضبط فيها المعنى ولا تنحصر الدلالة، لغة فيها من المحكم بقدر ما فيها من المتشابه)) ( حرب ، 35) .

المهم في الموضوع كله أنَّ اللغة هي المنطلق في الاختلاف والاتفاق، مرةً تحت الشرح والتفسير وأخرى تحت التأويل وإذا كان التفسير تعلق بسطح النص بحسب المفهوم اللغوي العربي فأنَّ التأويل يتعلق بباطن النص منطلقاً بالدرجة الأولى من طبيعة الكلام نفسه أي من اللغة نفسها، فالتأويل – بحسب الماوردي- هو إحتمال قائم في القول وامكان تقتضيه اللغة، أي يقتضيه الدال وليس المدلول. وبهذا المعنى فأنَّ الدال يصنع المدلول والبياني يصنع المعرفي وهذا إمكان يتسع كلما كانت اللغة أوضح وأبين، وإذا كان القرآن معجزة البيان العربي… فأنَّ الإعجاز امكان لا ينضب على التأويل ( المصدر نفسه، 36) . تأويل النص – إذن- لن يفعلَ سوى أنْ يُغلّب دلالة على أخرى وأنْ يفاضل بين معنىً وآخر بحيث لا نجد فيه – في نهاية المطاف – سوى امكاناتنا. وبهذا المعنى لن يتيح التأويل سوى التعدد والإختلاف، إختلاف المفردات والأزمنة والخطابات.

فكما أنَّ أهل البلاغة اعتمدوا المجاز للتعبير عن البيان القرآني، كذلك أهل الكلام ابتدعوا مفهوم التأويل لرفع التناقض بين النص والعقل، إذ بالتأويل تستعاد الدلالة المفقودة أو الأصلية، ولكن النص البياني كما يقول رولان بارت: هو ثقوب تتسرب منها وإليها الدلالات.

الهوامش  :

  1. الجوزية ، ابن القيم ، 1991، تح محمد عبد السلام إبراهيم ، دار الكتاب العلميَّة ، بيروت ، ط1 ، وعياد ، نظير محمد النظير ، 2016، إشكالية التأويل عند ابن رشد ـــ دراسة تحليلية ، دار الأفاق العربية ـــ القاهرة ، ط1.
  2. ابن رشد ، 1985، فصل المقال بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، تح محمد عماره، دار المعارف ، ط1.
  3. ابن رشد ، مناهج الأدلة في عقائد الملّة .
  4. عياد، إشكالية التأويل عند ابن رشد، 58-59.
  5. ابن خلدون ، 2006، تحعلي عبد الواحد وافي ، دار النهضة .
  6. الأصفهاني ، الراغب ، 1985 ، الذريعة إلى أحكام الشريعة ، اليزيد العجمي، دار الصحوة ، القاهرة ، ط1 .
  7. ابن رشد ، فصل المقال بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، تح محمد عمارة ، دار المعارف ، ط1.
  8. المصدر نفسه .
  9. المصدر نفسه .
  10. أبو زيد ، نصر حامد ، 1996، مفهوم النص ـ دراسة في علوم القرآن ، المرطز الثقافي العربي ، ط3.
  11. ابن قتيبة ، تأويل مختلف الحديث ، وحرب ، علي ، 2007، التأويل والحقيقة ـــ قراءات تأويلية في الثقافة العربية ، دار التنوير ، بيروت .
  12. حرب ، تأويل مختلف الحديث .
  13. المصدر نفسه .
  14. المصدر نفسه .
  15. الجرجاني ، أسرار البلاغة .
  16. المصدر نفسه .
  17. حرب ، تأويل الحقيقة .
  18. المصدر نفسه .
  19. أبو زيد ، الاتجاه العقلي .
  20. حرب ، التأويل والحقيقة .
  21. المصدر نفسه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *