أ م د محمد خضير عباس الجيلاوي

كلية الطوسي الجامعة – قسم علوم القرآن الكريم – النجف الأشرف

E-mail: Mohammed.KH@altoosi.edu.iq

009647801579876

الملخص                                                   

لا خلاف في أنَّ شخصية أمير المؤمنين علي بن أبى طالب شخصية فذّة؛ بلْ أنها معجزة من معجزات الإسلام، لما تملكه من عمق وثراء في مختلف جوانب الحياة البشرية والإبداع الفكري والحضاري على مرّ العصور.

وقد امتلك امير المؤمنين مؤهلات فكرية جمة استقاها من القرآن الكريم ومن النبي الأكرم محمد (ص) في هذا المجال. ومما لا شك فيه أنَّ عملية الإصلاح القضائي واختيار القضاة تعد أحد أهم العمليات التنظيمية القضائية في المجتمع؛ إذ أوصى مجموعة من ولاته الصفات الواجب أتباعها، ليكون إصلاح القضاء من أولويات الخلافة.

الكلمات المفتاحية: الإمام – علي بن أبي طالب – الإصلاح- القضاء- الفِكر- الحُسبة – النظر بالمظالم.

Judicial reform in the thought of Imam Ali bin Abi Talib

Dr Mohammad Khudhair Abbas Al- Jailawi

Al-Tusi University College – Department of Holy Quran Sciences – Al-Najaf Al-Ashraf

Abstract

There is no dispute that the personality of the Commander of the Faithful, Ali bin Abi Talib, is an outstanding person. Rather, it is one of the miracles of Islam, due to its depth and richness in various aspects of human life and intellectual and cultural creativity throughout the ages.

The Commander of the Faithful possessed a wealth of intellectual qualifications that he gleaned from the Holy Qur’an and the Noble Prophet Muhammad in this field. There is no doubt that the judicial reform process and the selection of judges are one of the most important judicial organizational processes in society. He recommended a group of his guardians the qualities to be followed so that reforming the judiciary would be one of the priorities of the caliphate.

 Keywords: Imam, Ali bin Abi Talib, correction, judicature, the thought, Accounting, consider grievances.

المقدمة

كان الإمام علي بن أبي طالب أقضى الأمة وأعلمها بغوامض أحكام الإسلام وأعرفها بالقرآن الكريم والسنة النبوية وبحوادث زمانه بعد رسول الله (ص)؛ إذ أصبح متداولاً على ألسنة الأصحاب بأنه أقضى الأمة. ولا يخفى على من راجع تواريخ الأمم والأجيال في العالم أنَّ لأمر القضاء وفصل الخصومات مكانة خاصة حساسة في جميع الأمم والمجتمعات البشرية؛ إذ عليه وعلى سلامة نظامه تبنى سلامة المجتمع، وأمنه، واستقرار العدل فيه، وحفظ الحقوق والحرمات. ولو لم يكن القضاء سالماً أو مفوضاً أمره إلى غير أهله، فشا الجور والفساد، وضاعت الحقوق وضعفت الدولة؛ بلْ ربما أعقب ذلك سقوطها وزوالها. فلا محيص من وجود سلطة عالم عادل نافذ الأمر، تصلح بينهم أو تقضي بالحق والعدل فيرتفع النزاع ويجد كل ذي حق حقه. وبما أنَّ إحقاق الحقوق مما يتوقف عليه نظام الدين والدنيا؛ لأنَّ الحُكم في إنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، وإقامة حدود الله تعالى على سنتها بالغ الأهمية، لذا قام الإمام علي في إصلاح نظم القضاء مما يتحقق به الغرض من القضاء الذي هو من المناصب المهمة في الدولة.

سبب اختيار الموضوع: مما لا شك فيه أنَّ عملية الإصلاح القضائي واختيار القضاة تعد أحد أهم العمليات التنظيمية القضائية في المجتمع؛ إذ الحُكم بالعدل أساس الإنسانية وهذا ما لم نجده بعد الخلافة الراشدة إلى الوقت الحاضر.

مشكلة البحث: لأهمية هذا الموضوع في المجتمعات الإنسانية فهناك مشكلات عدة تواجه إصلاح المنظومة القضائية؛ وذلك بفعل ناس مستفيدة من افساد النظام القضائي، فعلى الرغم من أنَّ هذه المشكلة موجودة في كل دول العالم، إلا أنها تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.

أهمية البحث: القضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته؛ لأنَّ الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس استراح قضاتهم ولم يحتج إليهم.

أهداف البحث: إصلاح المنظومة القضائية في المجتمعات الإسلامية التي لم تلتزم بما شرعه الله تعالى. وإنَّ استعراض أقوال الإمام ومعالجاته لأمور القضاء، زيادة على أحكامه في جزئيات المسائل التي ورثناها عنه، يمثل أهم الوثائق التي تمدنا بالأسس الرئيسة لمنهجه في القضاء.

حدود البحث: يقتصر هذا البحث على دراسة  اصلاح المنظومة القضائية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب التي استمرت أربعة سنوات وتسعة أشهر في عاصمة خلافته مدينة الكوفة.

فروض البحث: عندما تكون هناك رقابة مباشرة على القضاء سوف يكون هناك اصلاح في القضاء. ومن الحكمة التسرع إلى تنفيذ هذا الإصلاح لئلا تحصل بتلك الخطوات الهدم والفساد بدلاً من الإصلاح والبناء.

الدراسات السابقة: تعد كتب شروح نهج البلاغة التي تحوي على مجموعة كبيرة من خطب الإمام ورسائله ووصاياه دليلاً لكل باحث في الاتجاهات الفكرية المتنوعة ومنها القضائية. لكن ينبغي أن يضاف إلى موضوعات القضاء تلك الأمور القضائية التي لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال وهي على مستوى أنَّ الجهل بها يجعل القضاء فاقداً للاعتبار.

منهجية البحث: كانت منهجية البحث تاريخية؛ لأننا في هذا الوقت يجب أن نستفيد من تجارب الذين سبقونا.

واقتضت الدراسة تقسيم البحث على ثلاثة مباحث، وسبق هذه المباحث تمهيد بينت فيه التعريف بمفردات البحث وهي كلّ من: (الإصلاح، القضاء، الفِكر)، وذلك لمشاركتها في إعطاء صورة واضحة عن عنوان موضوع البحث.

والمبحث الأول: تكلمت فيه عن الإصلاحات القضائية عند الإمام. فكان ميّالاً بحزم إلى خاصّية النظم الإدارية، ولا سيما الأُمور ذات الصلة بالحُكم.

والمبحث الثاني: تطرقت فيه عن إصلاحات الإمام في نظام الحُسبة وهي كوظيفة القاضي. فكان في خلافته يتجول يومياً في الأسواق، ويرشد الناس للتمسك بالآداب الإسلامية.

والمبحث الثالث: تحدثت فيه عن إصلاحاته في النظر في المظالم. وناظر المظالم: ينظر في كل حُكم يعجز عنه القاضي، فينظر فيه من هو أقوى منه يداً.

وبعد ذلك خلص البحث إلى خاتمة بينت فيها أهم النتائج والمقترحات والتوصيات.

وكانت قائمة المصادر التي نهل منها البحث متنوّعة، منها: كتب المعجمات اللغويّة، وكتب الحديث، والأخلاق، والتاريخ والقضاء، وهي التي تطلّبها موضوع البحث.

التمهيد: التعريف بمفردات البحث

لابدّ من تعريف مصطلحات عنوان البحث، وهي كلّ من: (الإصلاح، القضاء، الفِكر)، لمشاركتها في إعطاء صورة واضحة عن موضوع البحث.

الإصلاح لغةً: صلح: الصَّلاح: ضدّ الفساد؛ صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً. وأصلح الشَّيء بعد فسادِه: أقامه. وأصلحَ الدّابّة: أحسن إليها فصلحت. والصُّلح: تصالح القومُ بينهم. والصُّلح: السِّلم (ابن منظور، 1405هـ، 516) . وقال الراغب الأصفهاني (ت 502هـ): الصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحاً، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده، وتارة يكون بالحُكم له بالصلاح (الراغب، 1404هـ، 284) .

والإصلاح: التغير إلى استقامة الحال على ما تدعو إليه الحِكمة. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى، ومن هذا التعريف يتبين أنَّ كلمة (إصلاح) تطلق على ما هو مادي أو على ما هو معنوي، فيقال: أصلحت العمامة وأصلحت بين المتخاصمين (محمود عبد الرحمن، د ت، 204). ويتبين أيضاً أنَّ الإصلاح من الناحية اللغوية، الانتقال أو التغير من حال إلى حال أحسن، أو التحول عن شيء والانصراف عنه الى سواه.

الإصلاح اصطلاحاً: عرفه الإمام الغزالي (ت 505هـ) بعدما وضح واجب المسلم تجاه نفسه بالإصلاح فقال: فحق على كل مسلم أنْ يبدأ بنفسه فيصلحها، ثمَّ يُعلم ذلك أهل بيته، ثمَّ يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثمَّ إلى أهل محلته، ثمَّ إلى أهل بلده، ثمَّ إلى أهل السواد المكتنف ببلده، ثمَّ إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم وهكذا إلى أقصى العالم (الغزالي، د ت، 67). وقال الآلوسي (ت 1270هـ): الصلاح عبارة عن الاتيان بما ينبغي والاحتراز عما لا ينبغي (الآلوسي، د ت، 214).  

وعُرف الإصلاح اصطلاحاً أيضاً بعدة تعريفات، ويأتي غالباً بالمعنيين الآتيين:

1 – التوفيق بين المتخالفين والمتنازعين، وهو أكثر تداولاً.

2 – إزالة الفساد وإقامة الشيء، ومنه إصلاح العمل، وإصلاح المال، وإصلاح المعيشة، وإصلاح الظاهر، وإصلاح الباطن، ونحو ذلك. لكن المستفاد من الموارد السابقة: إنَّ الإصلاح ربما يكون دفعاً للفساد ولا يلزم أنْ يكون إزالة له بعد وجوده دائماً (الأنصاري، 1415هـ، 390).

إنَّ كلمة الإصلاح ليست جديدة على الفكر الإسلامي، فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم وعلى مستوى جذر كلمة الإصلاح (صلح) في أكثر من (مئة وسبعين موضعاً) (عماد صلاح، 2003م، 29). ومن ثمَّ فانَّ مفهوم الإصلاح ليس جديداً في العقل الإسلامي؛ بلْ هو مفهوم قديم لم يبدأ بظهور الأفكار والتيارات الإصلاحية في القرون الماضية أو المبادرات الإصلاحية في الوقت الراهن، فالدعوة إلى الإصلاح بدأت قديماً في الدولة الإسلامية منذ عهد النبي (ص).

القضاء لغةً: قضى: أي القَضاءُ، بالمدِّ ويُقْصَرُ: الحُكْمُ (الزبيدي، 1414هـ، 84). وقالَ الجَوْهرِي (ت 393هـ): أَصْلُه قَضايٌ؛ لأَنَّه من قَضَيْتُ، إلاَّ أنَّ الياءَ لمَّا جاءَتْ بَعْد الألِفِ هُمِزَتْ (الجوهري، 1407هـ، 2463). وورد القضاء في اللغة لمعان كثيرة ربّما أُنهيت إلى عشرة ونيف، مثل: الحكم، الإعلام، العلم، الإنهاء، القول الحتم، الأمر، الخلق، الفعل، الإتمام، الفراغ (الاردبيلي، 1381هـ، 3). وقالَ صاحِبُ المِصْباح: القَضاءُ بمعْنَى الأدَاءِ لُغَةٌ؛ ومنه قولُه تعالى: )فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ( (البقرة: 20)، )فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ( (النساء: 103)؛ واسْتَعْمَل العُلماءُ القَضاءَ في العِبادَةِ التي تُفْعَل خارِجَ وَقْتها المَحْدُود شَرْعاً، والأداءَ إذا فُعِلَتْ في الوَقْت المَحْدودِ، وهو مُخالِفٌ للوَضْعِ اللُّغَوي، ولكنَّه اصْطِلاحي للتَّمييزِ بينَ الوَقتَينِ (الفيومي، د ت، 507).

القضاء اصطلاحاً: قال الراغب الأصفهاني: فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكلّ واحد منهما على وجهين: إلهيّ، وبشريّ. فمن القول الإلهيّ قوله تعالى: )وقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه( (الإسراء: 23). أي: أمر بذلك، وقال تعالى: )وقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ( (الإسراء: 4). فهذا قَضَاءٌ بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا ًجزماً… ومن القول البشريّ نحو: قضى الحاكم بكذا، فإنّ حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشريّ (الراغب، 675)، )ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ( (الحج: 29). وقوله تعالى: )فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ( (طه: 72).

وعرّف القضاء عرفاً بالحكم بين الناس، أو الحكم بين الناس لرفع التنازع بينهم بالشرائط، أو فصل الخصومة بين المتخاصمين والحكم بثبوت دعوى المدّعي، أو نفي حقّ له على المدّعى عليه) (الأردبيلي، 1).  

الفكر لغةً: قال ابن فارس (ت 395هـ): فكَرَ؛ الفاء والكاف والراء: تردّد القلب في الشيء، يقال: تفكَّر، إذا رَدَّدَ قلبه. معتبراً، ورجل فِكِّيرٌ: كثير الفكر (ابن فارس، 1414هـ، 446). وقال ابن سيده (ت 458هـ) الفكرة: إعمال الخاطر في الشّيء والجمع فِكَرٌ وهو الفكر (ابن سيده، د ت، 75). ويقول صاحب لسان العرب: الفَكْر والفِكْر: إعمال الخاطر في الشيء (ابن منظور، 65).

الفكر اصطلاحاً: معنى الفكر: التحقيق والبحث في موضوع من الموضوعات للحصول على نتيجة معينة. فكما أنَّ المراد من الفكر الرياضي مثلاً، هو الفكر الذي يعطي النتيجة لنظرية رياضية معينة، أو يحل مسألة رياضية. فكذلك الفكر في مثل هذه الموضوعات للوصول إلى توضيح نتيجة معينة.

والفكر هو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان في المجالات العلميّة والأدبيّة المختلفة، وعن طريق الفكر يتحقّق الإبداع والتطوّر والتنمية، ولولا الفكر الإنساني وما نتج عنه من الحصيلة المعرفية المتراكمة عبر القرون الطويلة الماضية، لما وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه الآن في زماننا من تقدّم وتطوّر، ففي زماننا قد تنامى الفكر وثارت المعرفة بشكل كبير.

والفكر الإسلامي يعني: الحُكم على الواقع من وجهة نظر الإسلام. وورد الفكر عند الراغب الأصفهاني فقال: الْفِكْرَةُ: قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتَّفَكُّرُ: جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أنْ يحصل له صورة في القلب (الراغب، 384). وقيل الفكر: ترتيب أمور للتوصل إلى مجهول (السيد السيستاني، 1414هـ، 313). وقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم في نحوِ عشْرين موضعاً (محمد فؤاد عبد الباقي، د ت، 525).

 

المبحث الأول: الإصلاحات القضائية عند الإمام علي

أولى الإسلام القضاء أهمية كبرى، فعدّه من أرفع المناصب وأسماها، وهو من “الوظائف الداخلة تحت الخلافة؛ لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع” (ابن خلدون، د ت، 220). ويعد القضاء شجرة الرئاسة العامّة للنبي (ص) وخلفائه، وهو المراد من الخليفة في قوله تعالى: )يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ( (ص: 26). فالقضاء، منصب حسّاس ومهامّه حيوية ودقيقة لتعلّقها بحقوق الناس وحرّياتهم، زيادة على حقوق الباري عزَّ وجلَّ، وحسبه درجة أنْ يكون بادئ ذي بدء من حقوق الرسول الكريم (ص)؛ إذْ أنّه أوّل قاض في الإسلام، ثمّ أناط أمر القضاء لبعض أصحابه ممّن توسّم فيهم الكفاءة في مركز ولايته وغيرها من الأمصار.

وسلك نهجه المقدّس من بعده الإمام علي. فكان قد قضى بين الناس في خصوماتهم على عهد النبي (ص)، وفي عهود من تولّى الخلافة من بعده. وحسبه منزلة أنْ وصفه نبي الأمّة (ص) بأنّه: ((أَقْضَاكُمْ عَلَيَّ)) (الشريف المرتضى، 1410هـ، 300). فالوحيد الذي لم يختبره رسول الله (ص) حين ولاه قضاء اليمن على الرغم من أنه كان وقتها شاباً يافعاً، الأمر الذي يدلنا على حضوته بالهام رباني وخصوصية قضائية استحق فيها أن يصفه النبي الأكرم (ص) بأنه أقضى الأمة.

وعندما آلت الخلافة إليه، واتخذ من الكوفة مركز خلافته، اشترط على قاضيه شريح ‏بن الحارث فيها أنْ لا ينفذ القضاء في ما يخص الحدود وبقيّة حقوق الله تعالى حتّى يعرضه عليه، ولقد قال له يوماً: (يَا شُرَيْحُ قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُه إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ). (الشيخ الكليني، 1388هـ، 6) وروي عن الإمام علي: (أنّه كان يفعل ذلك – أي القضاء – في مسجد الكوفة، وله به دكّة معروفة بدكّة القضاء) (ابن أبي جمهور، 1403هـ، 344). وعلى الرغم من اختفاء كثير من آثار الإمام علي في هذا الجانب، بفعل الظروف المعروفة التي أعقبت استشهاده، إلاّ أنّ ما بقي منها فيه ما يكفي للوقوف على خصوصيته الفذّة في فقه القضاء وفنّه. فقد أظفرتنا أقواله الشريفة وسوابقه الفريدة في جزئيات المسائل، الخاصّة بمفردات الحياة اليومية للإنسان، بكنوز نفيد منها في معرفة ما ينبغي أنْ يكون عليه القاضي من ضوابط ومواصفات، سواء أكان في شخصه أم في سيرته داخل مجلس القضاء أو خارجه.

ويتبين مبلغ اهتمام الإمام علي بن أبي طالب بالقضاء عند توليته مالك الاشتر قضاء مصر، وقد جاء في الكتاب من مواعظ وحِكم، فقال لمالك: (اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اْلأُمُورُ، ولاَ تُمْحِكُهُ الْخُصُومُ، ولاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، ولاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيءِ إِلَى الْحَقِّ إِذا عَرَفَةُ، لاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع ولاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجِعَةِ الْخَصْمِ، وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ اْلأُمُورِ، وأَصَرَمَهُمْ عِنْدَ اتَّضَاحِ الْحُكْمِ; مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ، ولاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أولئِكَ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَه فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَه، وتَقِلُّ مَعَه حَاجَتُه إِلَى النَّاسِ، وأَعْطِه مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيه غَيْرُه مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَه عِنْدَكَ، فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً) (الإمام علي بن أبي طالب، 1387هـ، 434).

إنَّ ما فعله الإمام هو فصل الجهاز القضائي عن السلطة وتأمين الحصانة الكاملة للقاضي؛ إذْ لا يتأثر بحكمه القضائي أي جهة أخرى وهذا بالضرورة يعطي للقانون صفة النزاهة والموضوعية في الأحكام الصادرة من ذلك الجهاز ويؤمن للمجتمع الحقوق المدنية الكاملة وكانت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية موحدة غير منفصلة في زمن الإمام علي فإذا به يخطو خطوة مبدئية إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة. وهذا ما نراه في الوثيقة المبعوثة لمالك الاشتر بقوله: (واعطه – القاضي – من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من حاجتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً). وبهذا يكون الإمام أحد المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة مع حماية القانون. وقالوا: إنَّ (جون لوك)([i]) قد قسم السلطة على تشريعية تحفظ مصالح المجتمع بوضع القوانين، وسلطة لتنفيذ هذه القوانين، ثمَّ جاء من بعده (مونتسكيو) ([ii]) فزاد عليها سلطة ثالثة، وهي السلطة القضائية، وطالب بفصلها عن السلطتين ضماناً للحرية، فارتبط مبدأ فصل السلطات الثلاثة باسم (مونتسكيو)، وأصبح (جون لوك) في خبر كان (مغنية، 1427هـ، 64).

ولم يقصد (مونتسكيو) الفصل التام بين السلطات وإنما الفصل المرن بمعنى أنْ يكون هناك توازن وتعاون بين السلطات الثلاثة في تحقيق الصلاح العام، وبذلك دعا إلى أنَّ القانون هو الوحيد القادر على حماية الأفراد من السلطة التي تمثل الجهاز التشريعي والتنفيذي وحماية من الأفراد أنفسهم. وبذلك يكون المؤسس الأول لدولة القانون هو الإمام علي وهو ما نراه من سيادة المساواة والعدل في دولته التي لم يشهد التاريخ مثلها فقد سبق إنسان العصور الحديثة (السعيدي، 3). ويستند النظام القضائي عند الإمام علي على ضرورة تأمين وسيلتين أساسيتين، وهما تأمين الأمن الوظيفي والاقتصادي للقضاة؛ لأنَّ عدم ضبط هاتين الوسيلتين، قد تؤدي إلى اضطرار القضاة إلى الانحراف وقد اوضح الإمام هذا الأمر إلى مالك بن الأشتر فقد جاء في رسالته: (وأعطه – أي القاضي – من المنزلة لديك …). وبهذه الرسالة يوصي الإمام علي، أن تكون للقاضي منزلة رفيعة عند السلطة التنفيذية بحيث لا يستطيع أحد مهما كانت درجته ان يعيق عملهم، وذلك لأنَّ القاضي إذا ما تم تأمين الأمن الوظيفي له، فإن الخاصة أو العامة سوف تهابه، ولا يجرؤ أحد على الوشاية به عند السلطة خوفاً منها وأجلالاً لعظمة القاضي؛ لأنه من دون تأمين هذا الأمن الوظيفي للقاضي وبوصفه بشراً فإنه يخاف من السلطة أن تغدر به أو نقضي عليه، أو يخاف من التهديد بالقتل ومن أن ينال الوجهاء المتنفذون من كرامته والاعتداء عليه إذا قضى عليهم لصالح مظلوم أو لغير مصلحتهم. وقد أقرت التشريعات المعاصرة هذا المبدأ الذي أعتمده الإمام علي وأخذت به غالبية التشريعات المعاصرة. وأعد المشرع العراقي تدخل المسؤولين أو أي مواطن في شؤون القضاء، جريمة يعاقب عليها القانون.

أما الوسيلة الثانية التي تضطر القضاة الى الانحراف عن الحق، فهي عدم تأمين الاحتياجات الاقتصادية لهم. ولذلك حقق الإمام علي الأمن الوظيفي للقضاة في رسالة لمالك بن الأشتر والتي جاء فيها: (وأفسح له – أي القاضي – في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس) ولذلك ألزم الإمام السلطة بأن توسع على القاضي وعلى عياله، خوفاً من أن يطمع في أموال الناس. لذلك كان عطاء القاضي في عهد الرسول (ص) أكبر عطاء يناله عامل من عمال الدولة الإسلامية. وهذا ما دأبت عليه تشريعات الدول المتقدمة، يمنح القاضي راتباً يصل إلى أعلى مسؤول في الدولة، لكي لا يطمع لرشوة أو منفعة وينحرف على جادة الحق (العبودي، 2009م، 26).

السمات والخصائص في اختيار القاضي عند الإمام علي

أوصى الإمام علي مالكاً الاشتر والي مصر في عهده بمجموعة من الوصايا الواجب أتباعها ليكون قاضياً بالعدل ومنها على سبيل المثال:

1- يدعو الإمام علي واليّه أن لا يولى منصب القاضي من لا يجيد التعامل مع المواقف القضائية الحرجة والدقيقة، وبذلك يقول: (مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اْلأُمُور).

2- يبين أنَ من يتولى المنصب (لاَ تُمْحِكُهُ الْخُصُومُ) تجعله ماحكاً – لجوجاً-، محك الرجل، أي أن لا يتحول بحكم هكذا ظروف إلى عسر الخلق لشدة المطاولة والمناقشة في أثناء جلسة المحاكمة أو إطلاق الحكم بين القاضي من جهة والمتخاصمين من جهة أخرى، فلهذا يوصي الإمام علي بتولية من (لاَ تُمْحِكُهُ الْخُصُومُ).

3- يؤكد الإمام أن لا يكون المتصدي للقضاء مصراً على الخطأ في إصدار حكم ما؛ بلْ عليه التراجع في حال استشعار وجود خللٍ معين في حكم أصدره، زيادة على طريقة استجواب المتخاصمين التي قد يقع فيها بعض الخطأ أو الزلل، فلهذا يدعوه أن: (لاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، ولاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيءِ إِلَى الْحَقِّ إِذا عَرَفَةُ). يبدو أنَّ الإمام كان يركز على أهمية عدم الإصرار على الخطأ أياً كانت صيغته أو طبيعته بما يصدر القاضي.

وبينت الدراسات الحديثة، أنَّ هذه الخصائص والسمات الواجب على القاضي الاتصاف بها هي مقاربة بشكل كبير لأصول المحاكمات الحقوقية المعاصرة، التي تحتم على القاضي مراعاتها والالتزام بها في إدارة المحاكمة (سمات، 2019م، 2).

آداب القضاء في فكر الإمام علي:

ذكر الفقهاء في كتبهم عندما تطرقوا إلى القضاء وآدابه، مسائل عدة منها:

1 – المواساة بين الخصوم: قال الإمام علي لشريح القاضي: (ثُمَّ وَاسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِوَجْهِكَ ومَنْطِقِكَ ومَجْلِسِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ قَرِيبُكَ فِي حَيْفِكَ ولَا يَيْأَسَ عَدُوُّكَ مِنْ عَدْلِكَ) (الشيخ الكليني، 413). وفي كتاب له إلى محمّد بن أبي بكر رضي الله عنه حين قلده مصر. قال: (فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، ولَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ) (الإمام علي بن أبي طالب، 383). وعن الإمام قال: (مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَلْيُوَاسِ بَيْنَهُمْ فِي الإِشَارَةِ وفِي النَّظَرِ وفِي الْمَجْلِسِ). (الشيخ الطوسي، 1390هـ، 226). وعن الإمام كذلك قال: (ينبغي للحاكم أنْ يدَعَ التلفّت إلى خصم دون خصم، وأنْ يقسم النظر فيما بينهما بالعدل، ولا يدَعُ خصماً يُظهر بغياً على صاحبه) (القاضي النعمان، 1383هـ، 533).

2 – أنْ لا يعلو كلامه كلام الخصم. قال الإمام علي لأبي الأسود الدؤلي لما سأله عن علة عزله من القضاء وهو لم يخن ولم يجن: (إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك) (الطبرسي، 1408هـ، 359).

3 – أنْ لا يتضجر في مجلس القضاء. قال الإمام علي لشريح: (إياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء، الذي أوجب الله فيه الأجر، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق) (الريشهري، 1416هـ، 2589).

4 – أنْ لا يضيف أحد الخصمين دون صاحبه، إما أنْ يضيفهما معاً، أو يدعهما معاً.

روي أنَّ رجلا نزل عند الإمام علي، فأدلى بخصومة، فقال له الإمام: (ألك خصم)، قال: نعم، قال له: (تحول عنا، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين، إلا ومعه خصمه) (ابن ادريس الحلي، 1410هـ، 166).

5 – أنْ لا يسار أحداً في مجلس القضاء. قال الإمام علي لشريح: (لَا تُسَارَّ أَحَداً فِي مَجْلِسِكَ) (الشيخ الطوسي، 227).

6 – التأمل والتروي قبل الحُكم. قال الإمام علي لشريح: (لسانك عبدك ما لم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده، فانظر ما تقضي؟ وفيم تقضي؟ وكيف تقضي؟) (ابن عساكر، 1415هـ، 24).

7– أنْ لا يقضي القاضي وهو غضبان أو نعسان. قال الإمام علي لرفاعة بن شداد: (لا تقضِ وأنت غضبان ولا من النوم سكران) (القاضي النعمان، 537). وقال كذلك: (إِنْ غَضِبْتَ فَقُمْ فَلَا تَقْضِيَنَّ فَأَنْتَ غَضْبَانُ)  (الشيخ الطوسي، 227).

8– أنْ لا يقضي القاضي وهو جوعان أو عطشان. قال الإمام علي لشريح: (ولَا تَقْعُدَنَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حَتَّى تَطْعَمَ) (الخوانساري، 1355 ه‍ ش، 13).

9– أنْ لا يقضي قبل سماع كلام أحد الخصمين. قال الإمام علي: (بعثني رسول الله إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟)، فقال (ص): ((إنَّ الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أنْ يتبين لك القضاء)) (ابن حزم، د ت، 367). وقال الإمام علي: (فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعد) (أبو داوود، 1410هـ، 160).

10- أخذ الحجج من الطرفين المتخاصمين: يوصي الإمام علي القاضي النظر إلى أي قضية بوصفها مسألة تقديم  أدلة من كلا الطرفين أي “المتهم والبريء”، فلهذا يلزم القاضي بأخذ الحجج المطروحة أمامه ومن الطرفين حتى يبني عليها حكمه العادل، فلهذا يؤكد الإمام علي (وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ) (الإمام علي بن أبي طالب، 434).

11- عدم التسرع بأطلاق الحُكم: يأمر الإمام علي القاضي الى التعمق في القضية المطروحة أمامه والتأمل فيها بعناية ودقة شديدتين قبل إصدار حكم معين، أي أنَّ الامام علي  يدعو الى عدم التسرع بإطلاق الحكم حالما يخطر بباله الحكم القضائي للشكل المطروح، ولهذا يقول: (ولاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ)، لاسيما أنه يدعو القاضي إلى التبصر في القضية المطروحة امامه بعناية شديدة، لهذا يدعو الإمام القاضي أن يكون (وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ) (ابن ميثم البحراني، 1404هـ، 152). أي لا يستعجل في إصدار الحكم حتى يتبصر شؤون القضية بدقة وتركيز.

12– يجب أنْ يكون مكان القضاء في المسجد. قال الإمام علي لمّا بلغه أنّ شريحاً يقضي في بيته: (يا شريح، اجلس في المسجد؛ فإنّه أعدل بين الناس، وإنّه وهنٌ بالقاضي أنْ يجلس في بيته) (الطبرسي، 358).

13- عدم تأثر القاضي بالمديح والثناء: يبين الإمام علي فيمن يجب أن يتولى القضاء أن لا يؤثر فيه المديح والثناء والإغراء أي التحريض على مسألة ما أو ركنٍ ما يحيد بالقاضي عن جادة الصواب والعدل، فلهذا يدعو الإمام علي إلى أن يكون القاضي: (مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ، ولاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ) (الإمام علي بن أبي طالب، 434).

14– على القاضي الصبر وعدم الملل. قال الإمام علي من كتابه إلى رِفاعة لمّا استقضاه على الأهواز: (نِعْمَ عون الدينِ الصبرُ، لو كان الصبرُ رجلاً لكان رجلاً صالحاً. وإيّاك والملالةَ؛ فإنّها من السخف والنذالة) (القاضي النعمان، 534).

15- الصرامة عند اصدار الحُكم: قال الإمام علي: (وأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ) (الإمام علي بن أبي طالب، 435). أصرمهم: أي أقطعهم للخصومة وأمضاهم، فإنْ اتضح الأمر، عليه أنْ يكون قاطعاً حاسماً في اتخاذ القرار، وأنْ لا يؤجله و يسوفه جاعلاً الناس في حيرة.

16- ومن الأمور الأخرى التي ذكرها الإمام علي لرفاعة في آداب القضاء: (لا تُحضِر مجلسك من لا يشبهك، وتخيّر لوردك، اقضِ بالظاهر، وفوّض إلى العالِم الباطن، دع عنك: أظُنُّ وأحسِبُ وأرى، ليس في الدين إشكال، لا تمارِ سفيهاً ولا فقيهاً، أمّا الفقيه فيحرمك خيره، وأمّا السفيه فيحزنك شرّه. لا تجادل أهل الكتاب إلا بالّتي هي أحسن بالكتاب والسنّة. لا تعوِّد نفسك الضحك؛ فإنّه يذهب بالبهاء، ويجرّئُ الخصوم على الاعتداء، إيّاك وقبولَ التحف من الخصوم. وحاذر الدُّخْلَة. من ائتمن امرأةً حمقاء، ومن شاورها فقبل منها ندم، احذر من دمعة المؤمن؛ فإنّها تقصِف من دَمَّعها، وتطفِئُ بَحُورَ النَيِّران عن صاحبها، لا تَنبُزِ الخصُومَ، ولا تنهر السائل، ولا تُجالس في مجلس القضاء غير فقيه) (الطبرسي، 348).

توصيات الإمام علي للقضاة:

بلغ مدى اهتمام الإمام بالقضاء عن طريق توصياته للقضاة فقد اوصى بـ :

1- التحكيم الاختياري، وإحياء روح الصلح بين الخصمين كأصل من أصول القضاء، فكان يدعو الإمام علي الخصوم قبل المحاكمة إلى الصلح كما كان يفعل رسول الله (ص) في القضاء.

2- أمر الإمام علي بسهولة القضاء وسرعة تنفيذه، وخلوه من التعقيدات الموجبة لفوات الوقت، وتضرر أصحاب الدعوى.

3- أعطى الإمام علي الحق للدفاع والتوكيل عن المتهم. وكان يرى تهذيب المجرم واصلاحه لا تحقيره ولا تعذيبه (محمد خضير، 2015هـ، 69).

الرقابة على القضاة:

القاضي بحاجه إلى من يُراقبه ويسدده؛ لأنه إنسان لا يختلف عن باقي البشر، يراقبه في سلوكه ومدى أمانته في الحفاظ على أموال الناس، ومراقبته في أثناء تعامله مع الخصم. ففي نطاق الأمانة أنبّ الإمام علي قاضيه شريحاً عندما اشترى داراً بثمانين ديناراً، فاستدعاه وقال له: (بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً، وكَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً وأَشْهَدْتَ فِيه شُهُوداً)، فَقَالَ لَه شُرَيْحٌ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَنَظَرَ الإمام علي إِلَيْه نَظَرَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ لَه: (يَا شُرَيْحُ أَمَا إِنَّه سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، ولَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً ويُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً، فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِه الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا ودَارَ الآخِرَةِ. أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ، لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِه النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِه الدَّارِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ) (الإمام علي بن أبي طالب، 364).

رقابة القاضي لا تتناقض ومبدأ استقلاله؛ بلْ هي عامل مساعد لدعم هذا الاستقلال؛ ولأنَّ الرقابة تتوخى تقويم الجانب الأخلاقي والسلوكي للقاضي، زيادة على الجانب العلمي والتشريعي فقد رأى الإمام علي إنَّ مصلحة القضاء ورعاية العدل في المملكة تقضي على ولي الأمر أن يُكثر من مراقبة أعمال وتصرفات القضاة أو الحاكم من حين لآخر. وأن كانوا متصفين بالأوصاف السابقة وأنهم من أفضل الرعية علماً وأخلاقاً؛ لأنَّ محاسبة النفس وضبطها والشعور بالمسؤولية قد يكون ضئيل الأثر في نفوس بعض المسؤولين، فأراد الإمام علي أن يكون هذا الحق قوياً وعميقاً في نفوس الموظفين عامة، والقضاة خاصة، فعهد إلى عامله أن يُكثر تعهد قضائه، أي تطلعه على أحكامه وأقضيته، وضمير (قضائه) يعود لأفضل الرعية، وهو القاضي الموصوف بالأوصاف المتقدمة، وقد أخذت حكومات العالم كافة – في هذا العصر – بهذه المبادئ الحكيمة، ومن جملتها حكومتنا، فوضعت نظاماً للتفتيش العدلي وأسست دائرة خاصة لهذا الغرض في وزارة العدلية يرأسها أحد أكابر الموظفين العدليين، وقد كان لهذه المؤسسة الأثر الحسن في تحسين سير المحاكم في العراق.

من هنا فإنَّ العمل بمبدأ استقلال القاضي يُحَتم وجود الرقابة؛ لأنها ستكون الضمانة على عدم انحراف القاضي واستغلاله للحرية الممنوحة إليه (القزويني، 2015م، 6-15).

المبحث الثاني: إصلاحات الإمام علي في نظام الحُسبة

الحسبة: من الناحية الفقهية الأمر المعروف إذا اظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا اظهر فعله، لقوله تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ( (آل عمران: 104) وجاء عن الإمام الباقر في حديث طويل قوله: (إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ ومِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ وتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ وتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ وتُرَدُّ الْمَظَالِمُ وتُعْمَرُ الأَرْضُ ويُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ ويَسْتَقِيمُ الأَمْرُ) (العلامة الحلي، 1419هـ، 440).

وكان القضاء والحُسبة يسندان بعض الأحيان إلى رجل واحد مع ما بين العملين من التباين فعمل القاضي مبني على التحقيق والأناة في الحكم. أما عمل المحتسب فمبني على الشدة والسرعة في الفصل (الأمين، 1408هـ، 76). والحسبة كوظيفة القاضي، استحدثت لتطبيق أسس العدالة في المجتمع ولتنفيذ مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). من هنا كانت وظيفة الحُسبة ذات سلطة قضائية، تتوسط بين القضاء والمظالم. ومع أنَّ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كقاعدة اجتماعية تدخل في مجال الأخلاق والتشريع، لا يمكن تحديد اطارها بشكل دقيق، فإنَّ الحُسبة، كوظيفة إدارية، اختصت بشكل أساس في تنظيم أحوال السوق ومعاملاته (الكروي، د ت، 92).

          واجبات المُحتسب: من الأمور التي ينظر فيها المحتسب: أنه يحول دون مضايقة الناس في الطرقات، ويمنع الحمالين وأهل السفن من المبالغة في الحمل أو شحن السفن، ويحكم بهدم المباني المتداعية للسقوط حتى لا تقع على المارة، ويمنع معلمي الكتاتيب من ضرب الصبيان، ويحكم في الدعاوى المتعلقة بالغش والتدليس، ويحمل المماطلين على أداء ما عليهم من الديون، مراقبة المكاييل والموازين ويحول دون ارتفاع مباني أهل الذمة على مباني المسلمين. ومن هذا يظهر بأنَّ هذه الوظيفة تجمع بين صلاحيات القاضي والشرطة؛ بلْ حتى تفتيشية تربوية تعليمية (الأمين، 76).

          نشأة الحُسبة: ترد بعض الإشارات التاريخية إلى أنَّ الحسبة نشأت منذ عهد الرسول (ص)، فقد مارسها بنفسه، ولاسيما في مراقبة الطعام، فيعد رسول الله (ص) أول محتسب في الإسلام.

خرج (ص) إلى البقيع، فرأى طعاماً يباع في غرائر، فأدخل يده، فأخرج شيئاً كرهه، فقال (ص): ((مَنْ غَشَّنا فليس مِنَّا)) (النووي، د ت، 9).

وكان الإمام علي في خلافته يتجول يومياً في الأسواق، ويرشد الناس للتمسك بالآداب الإسلامية، ويحذر من الغش فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمارس ذلك كل يوم، فكان يقف في السوق ويقول: (يا معشر التجار إياكم واليمين الفاجرة فإنها تنفق السلعة، وتمحق البركة) (ابن كثير، 1408هـ، 5). وعن أبي جعفر الصادق قال: (كان علي عليه السلام كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه وكان لها طرفان، وكانت تسمى: السبيتة([iii])، فيقف على سوق سوق فينادي: يا معشر التجار قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا، عن الكذب واليمين وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (المجلسي، 1403هـ، 100).

مرّ الإمام علي بالسوق مجتازاً بأصحاب الّتمر، فقال: (يا أصحاب التمر أطعموا المساكين فيربو كسبكم، ثمَّ مرّ مجتازاً ومعه المسلمون حتى أتى أصحاب السّمك، فقال: لا يباع في سوقنا طافٍ، ثمَّ أتى دار فرات وهو سوق الكرابيس، فقال: يا شيخ، أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، ثمّ أتى آخر فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ولبسه) (الموفق الخوارزمي، 1414هـ، 122).

وكان الإمام علي يمشي في الأسواق وبيده درّةٌ يضرب بها من وجد من مطفّف أو غاشّ في تجارة المسلمين، قال الأصبغ بن غياث: (قلت له يوماً: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك، قال: ما نصحتني يا أصبغ، وكان يركب بغلة رسول الله (ص) الشّهباء ويطوف في الأسواق سوقاً سوقاً فأتى يوماً طاق اللّحامين، فقال: يا معشر القصّابين لا تعجلوا الأنفس قبل أنْ تزهق، وإيّاكم والنّفخ في اللّحم، ثمّ أتى إلى التّمارين فقال: أظهروا من رديّ بيعكم ما تظهرون من جيّده. ثمّ أتى السّمّاكين، فقال: لا تبيعوا إلاّ طيّبا وإيّاكم وما طفا، ثمّ أتى الكناسة، وفيها من أنواع التّجارة من نخّاس وقمّاط وبائع إبل وصيرفي، وبزّاز، وخيّاط، فنادى بأعلى صوت: يا معشر التّجار، إنّ أسواقكم هذه تحضرها الايمان فشوبوا أيمانكم بالصّدقة، وكفّوا عن الحلف، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يقدس من حلف باسمه كاذباً) (القاضي النعمان، 538).

وفي باب تأديب الصبيان عن الإمام الصادق قال: (إنّ أمير المؤمنين عليه السلام ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم، فقال: أما إنّها حكومة! والجور فيها كالجور في الحُكم، أبلغوا معلّمكم إنْ ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه) (الشيخ الكليني، 268).

إنَّ الضرب بالمقدار المذكور في الأخبار جائز وليس بحرام ولا يوجب دية ولا قصاصاً، وأمّا الزائد عليه فهو حرام يوجب الدية على الأب والجدّ والقصاص على المعلَّم كما يشير إليه الحديث (المدني الكاشاني، 1408هـ، 47).

وأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مالكاً الأشتر بمنع التجار من الاحتكار ومعاقبة من يفعل ذلك بعد نهيه. فقال: (فامنع من الاحتكار، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقبه من غير إسراف) (ابن أبي الحديد، 1378هـ، 83). وعن أبي عبد اللّه الصادق قال: (ِإنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام رَأَى قَاصّاً فِي الْمَسْجِدِ فَضَرَبَه بِالدِّرَّةِ وطَرَدَه) (الشيخ الطوسي، 149). الظاهر أنَّ المقصود من القاصّ من يقصّ قصصاً لهويّةً تشغل الناس عن عبادة الله تعالى، وهو المشار إليه في قوله تعالى: ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ( (لقمان: 6).

وعن مختار التمار- كان من أهل البصرة -، قال: كنت أبيت في مسجد الكوفة وأنزل الرحبة وآكل الخبز من البقّال، فخرجت ذات يوم فإذا رجل يصوّت بي: (ارفع إزارك فإنّه أنقى لثوبك وأتقى لربّك)، فقلت: من هذا؟ فقيل: عليّ بن أبي طالب، فخرجت أتبعه وهو متوجّه إلى سوق الإبل، فلمّا أتاها وقف، قال: (يا معشر التجار إيّاكم واليمين الفاجرة فإنّها تنفق السلعة وتمحق البركة)، ثمّ مضى حتّى أتى إلى التمارين، فإذا جارية تبكي على تمّار، فقال: (ما لك؟) قالت: إنّي أَمَة أرسلني أهلي أبتاع لهم بدرهم تمراً، فلمّا أتيتهم به لم يرضوه، فرددته فأبى أنْ يقبله، فقال: (يا هذا خذ منها التمر وردّ عليها درهمها)، فأبى، فقيل للتمار: هذا عليّ بن أبي طالب، فقبل التمر وردّ الدرهم على الجارية، وقال: ما عرفتك يا أمير المؤمنين فاغفر لي، فقال: (يا معشر التجار اتّقوا الله وأحسنوا مبايعتكم يغفر الله لنا ولكم). ثمّ مضى وأقبلت السماء بالمطر، فدنا إلى حانوت فاستأذن صاحبه فلم يأذن له صاحب الحانوت ودفعه، فقال: (يا قنبر أخرجه إليّ) فعلاه بالدرّة، ثمّ قال: (ما ضربتك لدفعك إيّاي ولكنّي ضربتك لئلاّ تدفع مسلماً ضعيفاً فتكسر بعض أعضائه فيلزمك) (الشيخ الطبرسي، 1392هـ، 100).

المبحث الثالث: إصلاحات الإمام علي في النظر في المظالم

ناظر المظالم: ينظر في كل حُكم يعجز عنه القاضي، فينظر فيه من هو أقوى منه يداً. كظلم الأمراء والعمال فهذا مما نصب له الخلفاء أنفسهم للنظر فيه (ابن العربي، د ت، 61).

وديوان المظالم: عبارة عن هيئة قضائية عالية يشرف عليها شخص يدعى: (قاضي المظالم)، أو (صاحب المظالم) وهو أعلى مرتبة من القاضي، وأنَّ صلاحياته أوسع، ويمكنْ إجمال مهامه بما يأتي:

1- النظر في الشكاوى التي يرفعها أفراد الرعية ضد الولاة، والحُكام، وكُتاب الدواوين، وجباة الضرائب، وإنزال العقوبات بمن تثبت إدانته.

2- تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة؛ لأنَّ والي المظالم أقوى نفوذاً وسلطة منهم.

3- النظر في تظلم الجند ولاسيما المرتزقة منهم إذا نقصت أرزاقهم، أو تأخر دفعها.

4- مراعاة إقامة الشعائر والعبادات كالجمع، والأعياد، والحج، والجهاد وغيرها، وقد أصبحت بعض هذه الصلاحيات في ما بعد من مهام المُحتسب.

5- النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحُسبة في المصالح العامّة، كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه والتعدّي في طريق عجز عن منعه والتحيّف في حقّ لم يقدر على ردّه (الكروي، 90).

وكانت محكمة المظالم تنعقد برئاسة الخليفة، أو الوالي، أو من ينوب عنه، ولمْ تكنْ هناك مبانٍ خاصة بالمحاكم، وإنما كانت تنعقد المحكمة بالمسجد، فكان الناس يدخلون عليهم مباشرة في اليوم المخصص (الجمعة أو السبت) لعرض ظلاماتهم.

وتعرض ظلامات الناس في رقاع (عرائض)، ينظم ترتيبها موظف خاص، ويعرضها على الخليفة ليتدارسها مع مجموعة من الفقهاء، والعلماء، والقضاة المحيطين بمجلسه، فإذا استقر رأيه فيها أصدر حكمه مثبتاً إياه في العريضة نفسها، وما على الجهة المسؤولة أياً كانت، إلا تنفيذ حُكم الخليفة فوراً. ومن هنا نرى سلطة ناظر المظالم ونفوذه يفوقان بكثير ما يحظى به القاضي المقيد في إجراءات وأصول النظر في الدعاوى، حتى أنَّ الماوردي (ت 450هـ) يعدد لنا عشر صفات لناظر المظالم يفوق فيها بسلطته سلطة القضاة (الماوردي، 1386هـ، 84).

       أول من نظر في المظالم في الإسلام: أول من نظر في المظالم في الإسلام رسول الله (ص) في الشرب الذي تنازع به الزبير بن العوّام ورجل من الأنصار، فحضره بنفسه (ص) فقال للزبير: ((اسْقِ أَنْتَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ الْأَنْصَارِيُّ)). فقال الأنصاري: إِنّه لابن عمّتك يا رسول اللّه. فغضب من قوله (ص) وقال: ((يَا زُبَيْرُ أَجْرِهِ عَلَى بَطْنِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ)). وإِنّما قال (ص):” أجره على بطنه أدباً له لجرأته عليه” (الماوردي، 77).

وظهرت وظيفة المظالم في عهد الخلفاء الراشدين، وكان الإمام علي أول من نظر في المظالم وذلك ليرسي العدل، ويرد مظالم الناس (الكروي، 89). وإِذا تتبّعت كلمات أمير المؤمنين في خطبه وفي كتبه إِلى عمّاله تجد عنايته واهتمامه كثيراً إِلى ردّ المظالم وإحقاق الحقوق من الوالي نفسه؛ إذْ إِنّه بقدرته وقوّته يكون أقدر على ذلك من كلّ أحد. وكان لأمير المؤمنين بيت سماه: (بيت القصص)، يلقى الناس فيه رقاعهم (ابن أبي الحديد، 87). ولم يعرف الإسلام قبل الإمام عليّ هذه البادرة، فلأوّل مرّة في التاريخ الإسلامي بادر الإمام في أثناء تولّيه السلطة، إلى تأسيس (بيت القصص) لكي يكون موضعاً لمعالجة مشكلات الناس وتظلّماتهم؛ فمن لا يستطيع من أبناء الشعب أنْ يوصل مشكلته شفوياً أو لا يرغب أن يُعبِّر عنها بهذه الصيغة، بمقدوره أنْ يكتب قصّته، ويوصل قضيّته عن هذا الطريق (الريشهري، 1421هـ، 36). وكان الإمام علي يشرف بنفسه على (بيت القصص) ولا يدع أحداً يصل إليه فيطّلع على الرقاع، ويبعث خلف المظلوم ويأخذ بحقّه من الظالم. ومن جملة الكتب التي أرسلها إلى عماله يحثهم فيها على النظر في المظالم، قال الإمام علي في كتابه لمالك الاشتر: (واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلس عامّاً، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول في غير موطن: لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متتعتع) (الإمام علي بن أبي طالب، 439). وبعد ما فرغ الإمام علي من تشريع النّظام العام وتقرير القوانين لتشكيلات الدّولة وتنظيم أمر طبقات الامّة، توجّه إلى بيان ما يرتبط بالوالي نفسه وبيّنه في شعب ثلاثة:

الأولى: ما يلزم على الوالي بما يتعلق بعموم من يرجع إليه في حاجة ويشكو إليه في مظلمة ووصّاه بأنْ يعين وقتاً من أوقاته لإجابة المراجعين إليه وشرط عليه:

1 – أنْ يجلس لهم في مكان بلا مانع يصلون إليه ويأذن للعموم من ذوي الحاجات في بالدخول عليه.

2 – أنْ يتلقّاهم بتواضع وحسن خلق مستبشراً برجوعهم إليه في حوائجهم.

3 – أنْ يمنع جنده وأعوانه من التعرّض لهم وينحّى الحرس والشّرطة الَّذين يرعب النّاس منهم عن هذه الجلسة ليقدر ذوو الحاجة من بيان مقاصدهم وشرح مآربهم ومظالمهم بلا رعب وخوف وحصر في الكلام.

4 – أنْ يتحمّل من السّوقة والبدويّين خشونة آدابهم وكلامهم العاري عن كلّ ملاحة وأدب.

5 – أنْ لا يضيّق عليهم في مجلسه ولا يفرض عليهم آداباً يصعب مراعاتها ولا يلقاهم بالكبر وأبهّة الولاية والرّياسة.

6 – أنه إنْ كان حاجاتهم معقولة ومستجابة فأعطاهم ما طلبوا لم يقرن عطاءه بالمنّ والأذى والخشونة والتأمّر حتّى يكون هنيئاً، وإنْ لم يقدر على إجابة ما طلبوا يردّهم ردّاً رفيقاً جميلاً ويعتذر عنهم في عدم إمكان إجابة طلبتهم.

الثانية: ما يلزم عليه فيما بينه وبين أعوانه وعمّاله المخصوصين به من الكتّاب والخدمة كما يأتي:

1 – يجيب عمّاله وكتّابه في حلّ ما عجزوا عنه من المشاكلات المهمة.

2 – يتولَّى بنفسه اصدار الحوائج الَّتي عرضت على أعوانه ويصعب عليهم انفاذها لما يعرض عليهم من التّرديد في تطبيق القوانين أو الخوف ممّا يترتّب على انفاذها من نواح شتّى.

3 – أن لا يتأخّر أي عمل عن يومه المقرّر ويتسامح في إمضاء الأمور في أوقاتها المقرّرة.

الثالثة: ما يلزم عليه فيما بينه وبين اللَّه فوصّاه بأنَّ الولاية بما فيها من المشاغل والمشاكلات لا تحول بينه وبين ربّه وأداء ما يجب عليه من العبادة والتوجّه إلى اللَّه تعالى (الخوئي، 1403هـ، 282).

ووقع في كلام الإمام علي اهتمام كبير في رفع المظالم الواردة من جانب الوالي وغيره؛ إذْ للحاكم أذناب وأتباع يرون سلطانه سلطاناً لهم، فيشمخون ويتغطرسون زاعمين بأنَّ لهم أنْ يصدروا الأوامر، وأنَّ على الناس أنْ تسمع وتطيع. وإذا كان الحاكم شخصية ضعيفة تغلبوا على أمره، واتخذوا مال اللَّه دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فقال الإمام علي: (ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ، وتَطَاوُلٌ، وقِلَّةُ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة فَاحْسِمْ مَادَّةَ أوُلئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ اْلأَحْوَالِ ولاَ تُقْطِعَنَّ لأحَد مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً لاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيَها مِنَ النَّاسِ فِي شِرْب أوْ عَمَل مُشْتَرَك يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ. وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ، وكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، واقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ) (الإمام علي بن أبي طالب، 442).

إنَّ من أصعب نواحي العدالة للولاة والحكَّام والسّلاطين والزّعماء في ما يتعلق بالأولياء، والأحبّاء والأقرباء والأرحام من حيث منعهم عن الظلم بالرّعيّة اعتماداً على تقرّبهم بالحاكم ومن بيده الأمر والنّهى، وقد اهتمّ النبيّ (ص) في ذلك فحرّم الصّدقات على ذوي قرباه لئلَّا يشتركوا مع النّاس في بيت المال فيأخذون أكثر من حقّهم، ومنع بني عبد المطَّلب من تصدّي العمل في جمع الصّدقات لئلَّا يختلسوا منها شيئاً بتزلَّفهم إلى النبيّ (ص). وقد عرف الإمام علي ما لحق من الأضرار بالإسلام من استئثار خاصّة الوالي وبطانته وأنّ فيهم تطاولاً وقلَّة انصاف، فأمر الوالي بقطع مادّة الفساد ونهاه مؤكَّداً أقطاع الأراضي لحاشيته وقرابته، زاد عليه أنْ لا يسلَّطه على ما يمسّ بالرّعيّة بوساطة عقد إجارة أو تقبّل زراعة الأراضي ونحوهما لئلَّا يظلمهم في الشّرب ويحمّلهم مئونة لانتفاعه عنهم بلا عوض وأشار إلى أنّ ذلك صعباً فأمره بالصبر وانتظار العاقبة المحمودة لإجراء هذه العدالة الشاقة عليه. ثمّ توجّه الإمام علي إلى أنّه قد ينقم الرّعيّة على الوالي في أمور يرونها ظلماً عليهم فيتّهمونه بالمظالم والجور فيتنفّر عنه قلوبهم ويفكَّرون في الخلاص منه، وربّما كان ذلك من جهلهم بالحقيقة، فلا بدّ للوالي من التماس معهم وكشف الحقيقة لهم وإقناعهم وتنبيههم على جهلهم وحلّ العقدة الَّتي تمكَّنت في قلوبهم (الخوئي، 290-294). وقال الإمام علي في ضمن كتاب كتبه إِلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان في يده من أموال المسلمين: (أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وجَعَلْتُكَ شِعَارِي وبِطَانَتِي، ولَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي، لِمُوَاسَاتِي ومُوَازَرَتِي وأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ، فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، والْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ … واخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ، الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ … وأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وتَشْرَبُ حَرَاماً، وتَبْتَاعُ الإِمَاءَ وتَنْكِحُ النِّسَاءَ، مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ … ووَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ ولَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا) (ابن ميثم البحراني، 89). ممّا يوجب الأسف المحرّق هذا الكتاب المخاطب به أحد خواصّه من بني عشيرته. والظاهر أنه لما كتب الإمام علي إليه كتابه بعد مقتل محمّد بن أبي بكر… أيس المخاطب من إدامة حكومته العادلة وعلم أنَّ الحكومة تقع في يد أعدائه وأعداء بني هاشم وأقلّ ما ينتقمون منهم منعهم عن حقوقهم وايقاعهم في ضيق المعاش وضنك العيش فادّخر من بيت مال البصرة مقادير يظهر من كتاب الإمام علي أنها كثيرة تسع لابتياع العقار في مكَّة والمدينة والطائف وابتياع العبيد ونكاح الأزواج. وقد أثر عمله هذا في قلبه الشريف؛ إذْ يتوجّه إلى تأمين معاش عشرات الألوف من الأرامل اللَّاتى قتل أزواجهنّ والأيتام الذين قتل آباؤهم في معارك الجمل وصفيّن ولا كفيل لهنّ في معاشهنّ، وكان ما يجمع في بيت مال البصرة مبلغاً كثيراً يسدّ كثيراً من حاجته في هذه الأرامل والأيتام فالتهب قلبه الشريف من هذا الاختطاف والاختلاس الَّذي ارتكبه هذا المخاطب بالكتاب أو من يقارنه أو يقاربه من أهله وعشيرته، فرماه من لسانه الشّريف بسهام ما أغرزها في القلب، وسيوف ما أقطعها للوتين وكان هذا المخاطب يتوجّه إلى حالة الإمام علي الروحيّة فيبادر إلى جوابه بأخصر عبارة ويشير إلى عذره في خيانته. قال ابن أبي الحديد (ت 656هـ): وقد روى أرباب هذا القول “أنّ هذا المخاطب كتب إلى عليّ جواباً عن هذا الكتاب، قالوا: وكان جوابه، أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تعظَّم عليّ ما أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إنّ حقّي في بيت المال أكثر ممّا أخذت، والسّلام” (ابن أبي الحديد، 170). فكتب إليه علي: (أما بعد: فإنَّ من أعجب العجب تزيين نفسك لك أنَّ لك في بيت المال من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، ولقد أفلحت إنْ كان ادّعاؤك ما لا يكون وتمنيك الباطل ينجيك من الإثم … واشتريت مولدات المدينة والطائف، تتخيرهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك، والله ما أحب أنْ يكون الذي أخذت من أموالهم لي حلالاً أدعه ميراثاً فكيف لا أتعجب من اغتباطك بأكله حراماً!) (البلاذري، 1394هـ، 175). فَكُتب إلى الإمام علي: “والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملّنه إلى معاوية يقاتلك به. فكفّ عنه عليّ” (ابن عبد ربه، 1404هـ، 107). ولم يكن خواصّ الإمام علي من بني عشيرته من عمل ذلك من الولاة في خلافته، فقد كان النعمان بن عجلان والي البحرين قد أخذ مال البحرين وهرب إلى الشام. ففي تاريخ اليعقوبي: بلغ علياً أنّ النعمان بن عجلان قد ذهب بمال البحرين فكتب الإمام علي إليه: (أمّا بعد: فإنّه من استهان بالأمانة ورغب في الخيانة ولم ينزّه نفسه ودينه أخلّ بنفسه في الدنيا، وما يشقى عليه بعدُ أمرّ وأشقى وأطول، فخف الله إنّك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظنّ بك، وراجع إنْ كان حقّاً ما بلغني عنك). فلما جاءه كتاب عليّ، وعلم أنه قد علم حمل المال، ولحق معاوية (اليعقوبي، د ت، 201).

الخاتمة:

النتائج: خلص البحث إلى ما يأتي:

  • إنّ القضاء من المباحث الكبيرة في النظم والقوانين والشرائع كما أنّ منصب القضاء من المناصب المهمّة في الدولة والنظام العالميّ إنْ لم يكن من أهمّها، وأنّ لأمر القضاء مكانة خاصّة في جميع الأمم والمجتمعات البشريّة طوال التاريخ؛ إذ عليه تبني سلامتها واستقرار العدل فيها وحفظ الحقوق والحرم. ولو فوّض أمره إلى غير أهله شاع الجور والفساد، وانجرّ إلى ضعف الدول ونظام العدل العالميّ.
  • حين تسلم الإمام علي الخلافة بدأ في تطبيق منهجه الإصلاحي، فكانت قضية إصلاح النظام القضائي وتفعيل منظومة العدالة القضائية واحدة من أهم الأولويات على الرغم من علمه بالعوائق الضخمة والعراقيل الهائلة التي ستواجهه. وارتكز برنامجه الإصلاحي على العدل والمساواة، والمحاسبة الدقيقة، والرعاية الكبيرة لجميع أصناف الناس.
  • اهتم الإمام علي بالقضاء عن طريق توصياته للقضاة بكتب عدة. وقد كان يقضي بين الناس بنفسه على الرغم مما عليه من مهام ومسؤوليات. فكان أقضى أهل زمانه؛ لأنه أعلمهم بالفقه والشريعة وهما الوجدان، الذي أعطاه القدرة في استخدام علمه في القضاء أصدق توجيه.
  • مارس الإمام علي الحُسبة؛ إذْ كان يتجول يومياً في الأسواق، ويرشد الناس إلى التمسك بالآداب الإسلامية. وكان أول من نظر في المظالم ليرسي العدل، ويرد مظالم الناس.

المقترحات:

  • ينبغي أن يضاف إلى موضوعات اصلاح النظم القضائية تلك الأمور القضائية الفقهية التي لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال وهي على مستوى أنَّ الجهل بها يجعل القضاء فاقداً للاعتبار.
  • حذف وإقصاء كل الأبحاث والمسائل القضائية التي لم يعد لها محلاً في الحياة العملية القائمة، والتي يحول الاشتغال بها دون التعرف على أمور مهمة مطروحة في الكتب المعنية بالقضاء.
  • الاهتمام بالمسائل الحيوية في اصلاح القضاء التي تستوجب الدقة، مما لم يعن به إلا القليل، ولذلك ينبغي الاتجاه السليم إلى اتباعه بحثاً وتحقيقاً بالمستوى المطلوب.

التوصيات:

  • الشفافية في تعيين القضاة.
  • تعميق معرفة القاضي للمجتمع في إطار مبدأ الصمود أمام الباطل وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، وتطبيق مفهوم المحاكمة العادلة.
  • يجب أن تعمل السلطات مع كل المتدخلين لألا يكون استقلال القضاء مكرساً في النصوص فحسب؛ بلْ ومطبقاً على أرض الواقع. وينبغي أنْ لا يتعرّض للقضاء أحد من مسؤولي الدولة مهما كانت صفتهم وعدم التدخل بشؤونهم القضائية.
  • التحفيز المادي والمعنوي للقضاة.

 

الهوامش:

([1]) جون لوك: فيلسوف انكليزي (ت 1704م) عده البعض أوّل من جدّد نظريّة المعرفة البشريّة.

([1]) مونتسكيو: مؤلف فرنسي له « اصول النواميس والشرائع » (ت 1755م).

([1]) السبتية: وكانت تسمى:” السبيبة ” السب بمعنى الشق ووجه تسمية درته بذلك لكونها ذا سبابتين وذا شفتين (كذا في هامش الكافي).

المصادر والمراجع:

  • خير ما نبتدئ به القرآن الكريم.

المصادر:

  • ابن ادريس الحلي، أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد، (1410هـ)، السرائر، جـ 2، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
  • البلاذري، أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر، (1394هـ)، جمل من أنساب الأشراف، جـ 2، تحقيق محمد باقر المحمدي، مؤسسة الأعلي، بيروت.
  • التفتازاني، السعد بن مسعود بن عمر بن عبد الله، (1401هـ)، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف النعمانية، باكستان.
  • ابن أبي جمهور، محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي، (1403هـ)، عوالي اللئالي العزيزة في الأحاديث الدينية، جـ 2، مطبعة سيد الشهداء، قم.
  • الجوهري، إسماعيل بن حماد، (1407هـ)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، جـ 6، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت.
  • ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي، (1378هـ)، شرح نهج البلاغة، تحقيـق محـمد أبو الفضل إبراهيم، جـ 16، جـ 17، دار إحيـاء الكتب العلميـة، بيـروت.
  • ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري، (د ت)، المحلى، جـ 9، تحقيق احمد محمد شاكر، دار الفكر، بيروت.
  • ابن خلدون، عبد الرحمن محمد بن خلدون المغربي، (د ت)، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم، المسمى (تاريخ ابن خلدون)، جـ 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • الخوارزمي، الموفق بن أحمد بن محمد المكي، (1414هـ)، المناقب، تحقيق مالك المحمودي، طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
  • أبو داوود، سليمان بن الأشعث السجستاني، (1410هـ)، سنن أبي داوود، جـ 2، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر، بيروت.
  • الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل، (1404هـ)، المفردات في غريب القرآن الكريم، الطبعة الثانية، إيران.
  • الزبيدي، أبو الفيض محب الدين محمد مرتضى الواسطي الحنفي، (1414هـ)، تاج العروس من شرح القاموس (المسمى تاج العروس من جواهر القاموس)، جـ 20، تحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت.
  • ابن سِيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل، (د ت)، المخصص، تحقيق دار إحياء التراث العربي، الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • الشريف المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى الموسوي، (1410هـ)، الشافـي في الإمامـة، تحقيـق عبد الزهراء الحسينــي الخطيـب، جـ 2، مؤسسة إسماعيليان، قم.
  • الشيخ الطبرسي، أبو نصر رضي الدين الحسن بن الفضل، (1392هـ)، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي.
  • الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن، (1390هـ)، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان الله عليه، جـ 6، جـ 10، حققه وعلق عليه السيد حسن الموسوي الخرسان، مطبعة خورشيد، طهران.
  • ابن عبد ربه، أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، (1404هـ)، العقد الفريد، جـ 5، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت.
  • ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، (1415هـ)، تاريخ مدينة دمشق حماها الله وذكر فضلها وتسمية من حل بها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها (تاريخ ابن عساكر)، جـ 23، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت.
  • ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري المالكي، (د ت)، أحكام القرآن، جـ 4، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الفكر، بيروت.
  • العلامة الحلي، أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر، (1419هـ)، تذكرة الفقهاء، جـ 9، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مطبعة ستارة، قم.
  • الإمام علي بن أبي طالب (ع): أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، (1387هـ)، نهج البلاغة، مجموع ما اختاره الشريف ابو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، ضبط نصّه وابتكر فهارسه العلميّة وحققه صبحي الصالح، الطبعة الأولى، بيروت.
  • الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، (د ت)، إحياء علوم الدين، جـ 7، دار الكتاب العربي، بيروت.
  • ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي (1414هـ)، معجم مقاييس اللغة، جـ 4، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، قـم.
  • الفيومي: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، (د ت)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، جـ 2، الناشر: المكتبة العلمية، بيروت.
  • القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد التميمي المغربي، (1383هـ)، دعائم الإسلام، جـ 2، تحقيق آصف بن علي أصغر، دار المعارف, القاهرة.
  • ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر القيسي الدمشقي، (1408هـ)، البداية والنهاية في التاريخ، جـ 8، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • الشيخ الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي، (1388هـ)، الكافي (الأصول من الكافي)، جـ 4، جـ 7، تحقيق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران.
  • الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، (1386هـ)، الأحكام السلطانية والولايات الدينية جمع بين المسائل الشرعية والسياسية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر.
  • المجلسي، محمد باقر، (1403هـ)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، جـ 94، مؤسسة الوفاء، بيروت.
  • ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي المصري، (1405هـ)، لسان العرب، جـ 2، جـ 6، نشر أدب الحوزة، قم.
  • ابن ميثم البحراني، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، (1404هـ)، شرح نهج البلاغة، جـ 5، عنى بتصحيحه عدّة من الأفاضل وقُوبِلَ بعِدَّة نُسَخ مَوثوقٌ بها، الناشر مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي، قم.
  • النووي، أبو زكريا محي الدين بن شرف، (د ت)، المجموع في شرح المهذب، جـ 12، دار الفكر، بيروت.
  • اليعقوبي، أحمد بن يعقوب بن واضح، (د ت)، تاريخ اليعقوبي، جـ 2، دار صادر، بيروت.

المراجع:

  • الآلوسي، أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني، (د ت)، تفسير الآلوسي (روح المعاني)، جـ 7، مكتبة أهل البيت، د مط، قم.
  • الأردبيلي، السيد عبد الكريم الموسوي، (1381هـ)، فقه القضاء، جـ 1، جـ 4، مؤسسة النشر، قم.
  • الأمين، حسن، (1408هـ)، مستدركات أعيان الشيعة، جـ 5، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
  • الأنصاري، الشيخ محمد علي، (1415هـ)، الموسوعة الفقهية الميسرة، جـ 3، مطبعة باقري، إيران.
  • الخوانساري، السيد أحمد الميرزا يوسف، (1355 ه‍ ش)، جامع المدارك في شرح المختصر النافع، جـ 6، علق عليه علي أكبر الغفاري، الناشر، مكتبة الصدوق، طهران.
  • الخوئي، العلامة المحقق الحاج ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي، (1403هـ)، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، جـ 20، تحقيق السيد إبراهيم الميانجي، منشورات دار الهجرة، قم.
  • الريشهري، محمد، (1421هـ)، موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب في الكتاب والسنّة والتاريخ بمساعدة محمّد كاظم الطباطبائي ومحمود الطباطبائي، دار الحديث، قم.
  • الريشهري، محمد، (1416هـ)، ميزان الحكمة، جـ 3، دار الحديث، قم.
  • السيد السيستاني، السيد علي الحسيني، (1414هـ)، الرافد في علم الأصول، محاضرات آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، بقلم السيد منير السيد عدنان القطيفي، مطبعة مهر، قم.
  • الطبرسي، ميرزا حسين النوري، (1408هـ)، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، جـ 17، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت، بيروت.
  • عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ داود، (2003م)، الفساد والإصلاح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
  • الكروي، إبراهيم سلمان وعبد التواب شرف الدين، (د ت)، المرجع في الحضارة العربية الإسلامية، منشورات ذات السلاسل، الكويت.
  • محمد خضير عباس، (2015هـ النظم الإسلامية، مطبعة الليزر، النجف الأشرف.
  • محمد فؤاد عبد الباقي، (د ت)، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، المكتبة الإسلامية، إسطنبول.
  • محمود عبد الرحمن عبد المنعم، (د ت)، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، جـ 4، دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة.
  • المدني الكاشاني، أغا رضا ملاَّ عبد الرسول، (1408هـ)،كتاب الدّيات، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
  • مغنية: محمد جواد، (1427هـ)، في ظلال نهج البلاغة، جـ 4، مطبعة ستار، قم.

المجلات:

  • العبودي، عباس زبون، (2009م)، تأملات قانونية في رسالة القضاء للإمام علي، مجلة أهل البيت، العدد 7.
  • القزويني، محسن باقر محمد صالح، (2015م)، استقلال القضاء عند أمير المؤمنين، مجلة أهل البيت، العدد 17.

شبكة المعلومات (الأنترنيت):

  • السعيدي، حامد، الإمام علي ونظام الحكم. .org/nba50/nezam
  • سمات وخصائص القاضي عند الإمام علي.       . https://ar.hawzahnews

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *