ناصر الدين بن رميدة

طالب دكتوراه/جامعة الجزائر

benramida@gmail.com

00213540452138

الملخص:

تُعدُّ المعلقات من عيون الشعر العربي الجاهلي، ومن أحسن ما تداولته الروَّاة، وهي عبارة عن قصائد معيَّنة مختارة اختيارا دقيقا من بين ما قاله كلُّ شاعر، وقد بلغ الأمر بجليل أمرها أنها عُلقت بالكعبة أو بخزانة الملك أو علقت بالقلوب والأذهان، على اختلاف النقاد في هذه القضية .

وقد اشتملت على وقائع وأيام العرب، وتجارب شخصية عاطفية ومفاخرة وشجاعة وبسالة، ووصف للخيل والمرأة وإسراف في شرب الخمر، وما إلى ذلك مما تضمنته هذه القصائد الفريدة.  وقد ظهرت شروح المعلقات مبكرا وأهمها شرح ابن كيسان وأبي سعيد الضرير وابن الأنباري ثم النحاس، وتوجد شروحات أخرى لم يُعثَر عليها ولم يُسمَع بها إلا في بطون الكتب والأسفار سواء من المتقدمين أو من المتأخرين كشرح الأزهري صاحب تهذيب اللغة وشرح أحمد بن محمد البجائي المسمى ” الفنون البابلية في شرح شعر الجاهلية” وغيرها من الشروح النفيسة .   وقد اختلفوا في ترتيب بعض  أبياتها كما اختلفوا في نسبة بعض الأبيات إليها، فتارة نجد أنَّ بيتا يُنسبُ لشاعر آخر ويُنسَبُ لصاحب المعلقة أيضا، وتارةَ نجدُ أنَّ بعضَ الأبيات نُسِبت لصاحب المعلقة في حين لم يذكرها راوٍ آخر. كما اختلف الرواة أيضا في ترتيب القصائد، وإن كانوا اتفقوا على جعل معلقة امرئ القيس أوَّل معلقة، وإلى جانب هذا اختلفوا في عددها، فقد عدَّدها غالب الشرَّاح سبعة قصائد، وبعضهم زاد واحدة لتصير ثمانية، وأوصلها بعضهم إلى عشرة .

 فالسؤال المتبادر: هل لهذا الاختلاف سبب، وما أثره في عملية النقد ، فمثلا ترتيب المعلقات هل كان حسب الأفضلية، وإن كان كذلك فَلِم اختلفوا في الترتيب؟

   وهل اتفاق بعضُ الرواة على نفي نسبة بيت أو أبيات لمعلقة كان سببه الرواية، فيُقدَّم بعضُها على بعض بكثرة الروَّاة لها والاستفاضة ؟ و ما أثر الرواية الشفهية هنا؟ وهل كانت شفهيةً فقط ؟ وهل هذا الاختلاف ناتج عن جمع النصوص والعبث فيها، وهل كانت الذاكرة ضعيفة مما يعني ضعف المروي ومن ثم الشك في ثبوته؟  .

كل هذه التساؤلات تقودني إلى تبيين

أماعملي هنا فيتمثل في:

  تتبع ترتيب المعلقات في كتب الشروحات الأصيلة.

  تتبع  أبيات المعلقات التي اختلفوا في نسبتها لصاحب المعلقة ولغيره.

  تتبع الأبيات التي أضافها بعضُ الروَّاة.

  تتبع رواة المعلقات.

  الوصول إلى:  هل رواية المعلقات كانت شفهية فقط أم دونت ؟  وقد رأينا مذهب المستشرقين في نفي ثبوت الشعر الجاهلي وعلى رأسهم نولدكه وآهلوارد ومرغيليوث بلاشير .

 وعملي هنا هو تمهيد لمنقاشة القضية وتأصيل علمي للإحاطة بالمسألة إذ لا ينبغي أن نغفَل عن جوانب مهمة محيطة بالشعر الجاهلي والرواة وأئمة اللغة.

والقضية كما نرى خطيرة جدا لأنها كانت مثار تشكيك في المعلقات والمؤدي في النهاية إلى نسف جهود اللغويين الذين يستشهدون بالشعر لتقرير المسائل النحوية، ولهذا كان المقال هذا في غاية الأهمية لأنه قائم على أسس علمية من خلال ما عرضتُه من عملي وتتبع للجزئيات، علما أنني تناولت بعض القضايا في تحقيقي لشرح ابن ناشر الوهراني  المسمى ” تهذيب شرح المعلقات وإعرابها” .

هذا، وقد اعتمدتُ على مصادر أصيلة مخطوطة ومراجع حديثة ومطبوعة،  علما أن الفكرة انقدحت عند بحثي في قضايا تتعلق بالمعلقات أثناء دراستي لتهذيب شرح المعلقات للوهراني .

فأرجو أن أكون قد أسهمتُ في تبيين جوانب عديدة للقارئ الباحث، وأن أكون أزلتُ عدَّةَ غموضاتٍ تتعلَّق بما أنا بصدد شرحه وتوضيحه.

الكلمات المفتاحية:

روايات المعلقات- أوجه الاختلاف- النقد- التعامل مع اختلاف الرواة-نسخة شرح ابن كيسان- نسخة شرح النحاس

The different narrations of the Muallaqat and its impact on criticism

Nasir al-Din bin Rumeida

PhD student/University of Algeria

Abstract:

 The Muallaqat are from the eyes of pre-Islamic Arabic poetry, and among the best that the narrators circulated, and they are specific poems carefully selected from among what each poet said. The case. It included the facts and days of the Arabs, personal emotional experiences, bragging, courage and valour, descriptions of horses and women, excessive drinking of wine, and so on, which are included in these unique poems. The commentaries of the Mu’allaqat appeared early, the most important of which were Sharh Ibn Kisan, Abu Saeed Al-Dhair, Ibn Al-Anbari, and then Al-Nahhas. Babylonian in explaining the poetry of ignorance” and other valuable explanations. They differed in the arrangement of some of its verses, as they differed in the attribution of some verses to them. Sometimes we find that a line is attributed to another poet and is also attributed to the owner of the hanging, and sometimes we find that some verses are attributed to the owner of the hanging while another narrator did not mention it. The narrators also differed in the arrangement of the poems, although they agreed to make Imru’ al-Qays’ first suspension, and besides this, they differed in their number, as most of the commentators enumerated seven poems, and some of the increased one to become eight, and some of them brought it to ten

The immediate question is: Is there a reason for this difference, and what is its impact on the criticism process? For example, the arrangement of the pendants was according to preference, and if so, why did they differ in the arrangement?

My work here is:

– Trace the order of the pendants in the books of authentic explanations.

-Trace the verses of the suspensions that differed in their attribution to the owner of the suspension and others.

Trace the verses added by some narrators.-

Trace the narrators of the pendants

key words

Narrations of the Muallaqat – Differences – Criticism – Dealing with the difference of narrators – Sharh Ibn Kisan Version – Sharh al-Nahhas Version

أولا: معنى المعلَّقات وسبب تسميتها   

         المُعلَّقاتُ هي أجودُ قصائدِ الشعر الجاهلي لاتفاق العصر الجاهلي على جعلها أجود الشعر ، إذ جعلوها معلَّقةً بالكعبة ـ على رأي ـ وتناقلتها الألسنة والرُّوَّاة أكثر من نقلها وروايتها لشعر آخر، ولا أدلَّ على اتفاق جماعة الرواة على تفضيلها مِن كثرةِ مسمَّياتِها، فقد تُسمَّى بـ “السموط ”  و” المُذَهَّبات ” و” القصائد المشهورات ” و” السبعُ الطوال الجاهليات ” و” السَّبْع ”  ” المعلَّقات ”   .   

شروح المعلَّقات :

  ذكر بروكلمان (1/69-72) بعضَ شروح المعلَّقات، كشرح ابن الأنباري وابن كيسان وأبي سعيد وأبي جابر والنحاس والزوزني التبريزي والجواليقي والصفي بوري، وكلُّها ولله الحمد اطلعتُ عليها ونقلتُ منها في تحقيقي لتهذيب شرح المعلقات .

          ومما أريدُ أن أذكره هنا هو ذكرُه لشرح ابن كيسان الموجود ببرلين 7440 وفيه: معلَّقة امرئ القيس وطرفة ولبيد وعمرو والحارث، وذكر أنَّ في المكتب الهولندي أول 800 نسخة فيها شرح لمعلَّقةِ امرئ القيس.

  ولا يكادُ ينتهي عجبي من عدم نشر شرح ابن كيسان، ولم أفهَم بعدُ سبب هذا التأخر، بل كان ينبغي أن يكون هو أول ما يُنشَر من الشروح ويحقق، لأنَّ ابنَ كيسان قبلَ أن يكون شارحًا هو راويَةُ، وقد نقل الشرَّاح كلامَه وروايته المخالفة لبعضِ الروَّاة، وكان النحَّاس ينقلُ عنه ويُسميه.

  نعم، نُشرَ لابن كيسان معلَّقةُ عمرو بن كلثوم محققة وكذلك معلَّقة طرفة، ولكن ما الذي أخَّر الباحثين عن نشرها كاملة؟ هل الذي وقف عليها رآها نسخةً سقيمةً بها خروم فتحتاج إلى نسخ أخرى للمقابلة؟ أم هناك أسبابٌ أخرى نجهلُها ؟

         إنَّ نشرَ شرح ابن كيسان مازال دينا على المحققين المشتغلين بالتراث حتَّى يرى هذا العِلقُ النفيس نورَ إشعاعه بين الباحثين.

             ومن الشروح التي ذكرها بروكلمان شرح جنادة بن محمد الأزدي الهروي المتوفى سنة 399هـ، وهو شرح على معلقة امرئ القيس، وهذا شرحٌ عتيق موجودٌ بالمتحف البريطاني، وقد حصلتُ عليه ولله الحمد وهو جدير بالنشر والاهتمام .

  وأما شرح أبي سعيد الضرير وأبي جابر فَأنعِم به من شرح وهو من أقدم شروح المعلقات، وفيه من الأخبار العزيزة والتحقيقات البديعة ما لا مجال لذكره الآن، وتوجد نسخة منه في المكتبة الوطنية الفرنسية تحت رقم (3280) وناسخها من القرن السادس، وهي سقيمة بعض الشيء، وقد نقلتُ عنها في تحقيقي لهذا الكتاب .

    ومن الشروح المفقودة:

  • تفسير السبع الطوال، لعبد الله بن جعفر بن درستَوَيه(347هـ).
  • تفسير السبع الطوال، لأبي علي القالي (ت 356هـ).
  • تفسير السبع الطوال، للأزهري صاحب تهذيب اللغة (ت 370هـ).
  • شرح السبع الطوال، لابن خالوَيه الحسين بن أحمد (ت371).
  • شرح السبع الطوال، للتبريزي   (502هـ).
  • المرتَجَل في شرح السبع الطوال ، لأبي البركات الأنباري (755 هـ) .

  ومن الشروح التي لم أجد من ذكرها شرح ابن الطيب الفاسي، وهو العالم الكبير الذي ينقل عنه كثيرا مرتضى الزبيدي في تاج العروس، وهو أحد شيوخه المهرة، وقد وجدته نقل عن شرحه في تاج العروس  .

  هذا، ولأحمد بن محمد البجائي المتوفى سنة 841هـ كتاب كبيرٌ اسمه “الفنون البابلية في شرح شعر الجاهلية ”   فلعلَّه شرح دواوين شعراء المعلقات، وهو للأسف كتابٌ مفقود .

 رواة المعلقات :

الشعر الجاهلي وصلنا بطريقين :الرواية الشفاهية وبالتدوين، والأدلة على هذا كثيرة جدا معروفة في مظانها ، وسأكتفي بنصين ؛ الأول:

قال ابن سلام : “وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية”.  

 فهذا نص  في الجمع بالكتابة لكنه في زمن أموي .

والثاني : قال ابن الأنباري في نزهة الألباء … : “كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، ذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه، وكان ضنينًا بأدبه”.

 وهذا نص في الجمع بالرواية

  ورواية المعلقات تدخل ضمن الثقافة الشعبية التي تلقاها الناس جيلا عن جيل، وأما الرواة الذين نعنيهم هنا فهم رواة مخصوصون  .

فمن رواة المعلقات عندنا:

  • محمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ)
  •  و محمد بن إسحق ( ت 150هـ)
  • أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) وعنه الأصمعي و أبوزيد(ت 214هـ). قال الأصمعي : جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي.و قال المازني : “قال لي أبو زيد: قرأت هذه القصيدة -يعني معلقة زهير- على أبي عمرو بن العلاء، فقال لي: قرأت هذه القصيدة منذ خمسين ”  مصادر الشعر الجاهلي ص ص(155) و(536 ) .    
  • و أبو زيد الأنصاري روى عنه أبو حاتم السجستاني (ت 255هـ). 
  • والمفضل الضبي (170هـ)
  •  أبو عمرو الشيباني (213هـ)وعنه ابن السكيت(245 هـ) والأصمعي(216 هـ). قال يعقوب بن السكيت  “مات أبو عمرو الشيباني وله مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات؛ وكان ربما استعار مني الكتاب وأنا إذ ذاك صبي آخذ عنه وأكتب من كتبه” . مصادر الشعر الجاهلي (174) .
  • أبو عبيدة (ت 211هـ) وعنه الكوفيون.

وأشهر الرواة من العلماء هم اثنان : أبو عمرو بن العلاء و حماد الراوية ( ت156هـ)، وأشهر الرواة عنه عنه خلف الأحمر .

وقد أخذ عن هذين العالمين: أبي عمرو وحماد سائر من نعرف من شيوخ العلم والرواية كخلف الأحمر، والمفضل، والأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي عمرو الشيباني. وأخذ عن هؤلاء من تلاهم: كابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب، وأبي حاتم السجستاني. ثم أخذ عن هؤلاء السكري وثعلب وأضرابهما “.

هل هناك اتفاق بين حماد وأبي عمرو بن العلاء؟

  هذا متيقن جدا، لأن دعوى الاختلاف مجرد وسوسة خصوصا وأن عصر الرواية في أوجها وعطائها، ويساعد على تعزيز رأي الاتفاق في الجملة مارواه  أبو الفرج  أن أبا عمرو الشيباني قال: ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدَّمه على نفسه، ولا سألت حمادًا عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه ” .مصادر الشعر ص(144).

والسؤال المهم هنا عمن روى أبو عمرو بن العلاء؟ .  

يجيبنا شعبة بن الحجاج إذ يقول:” كنت أجتمع أنا وأبو عمرو بن العلاء عند أبي نوفل بن أبي عقرب فأسأله عن الحديث خاصةً، ويسأله أبو عمرو عن الشعر واللغة خاصةً، فلا أكتب شيئًا مما يسأله عنه أبو عمرو، ولا يكتب أبو عمرو شيئًا مما أسأله أنا عنه.

وكان من أثر شغفه بالتدوين أن كتبه “ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه أحرقها كلها؛ فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلى ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية” مصادر الشعر ص ص(156)  .

وهنا نفهم لمذا اقتصر العلماء في السند على طبقة أبي عمرو وحماد الراوية، ذلك لأن هذه الطبقة قد سمعت الكثير من شعر الجاهلية عن أناس كثيرين، فلا حاجة لذكر هؤلاء الرواة، وصارت هذه الطبقة لها الشرف لاعتنائها بالسماع والتحري فصار الناس يروون عنهم للحاجة إليهم ولضبطهم، بل كانت طبقة الرواة مازالت بعد أبي عمرو بن العلاء متوفرة جدا، فقد جاء في نسخة شرح ديوان زُهير بن أبي سُلمى لابن كيسان التي نور عثمانية برقم3968 مانصه عند بيت :

أمن أم أوفى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ* بِحَومانَةِ الدُّرَّاجِ فالمُتَثَلِّمِ

” : قال أبوعمرو[ وهو الشيباني ]: قرأتُ على بعض بني زُهير : الدُّرَّاج برفع الدال ” .

فقد صرَّح أبو عمرو الشيباني أنه قرأ شعر زهير على بني زهير، والأبناء هنا هم الأحفاد، فإذا كان الرواة متوافرون إلى زمن الشيباني فكيف بزمن حماد وابن العلاء؟

والقراءة في كلام الشيباني هنا تحتمل قراءة من كتاب فيكون أحفاد زهير دونوا شعر زهير، ويحتمِل أنه قرأها عليهم عرضا، والاحتمال الأول أولى، لأن رواية الدُّرَّاج لايمكن أن يتصرَّف فيها أبو عمرو ثم يقول قرأتها على أحفاد زهير.

اعتراض وجواب عليه:

فإن قيل : ذكر النحاس في شرحه على المعلقات (2/682) أنَّ حمَّادَ الرَّاويَةُ جمَعَ السَّبعَ المعلَّقات، فقال:”…. وأما قولُ من قال: إنَّها عُلِّقَت في الكعبة؛ فلا يعرفه أحدٌ من الرُّوَّاة، وأصَحُّ ما قيلَ في هذا: أنَّ حمَّادَ الرَّاوَيةَ لمَّا رأى زُهدَ النَّاسِ في حفظِ الشعرِ جمعَ هذه السَّبعَ وحضَّهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات، فسميَتِ القصائدُ المشهورةُ لذلك “.

فقول النحاس أن حماد الراوية هو الذي جمع المعلقات السبع ليبس على ظاهره وإنما عندما رأى قلة المعتني وخوف ذهاب روايته وشيوعه كما كان من قبل، قال ابن سلام: ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد.

وأيضا تخصيص حماد بالذكر لأنَّه كانت عنده كتب فيها أخبار الجاهلية وأنسابها وأشعارها، بعضها كتبه بنفسه، وبعضها كُتب من قبله فقرأه واستفاد منها في تدوين كتبه . مصادر الشعر ص(156)

بل إن الوليد بن يزيد بن عبد الملك -حين أراد أن يجمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها- استعار من حماد ومن جناد بن واصل الكوفي ما عندهما من الكتب والدواوين فدونها عنده، ثم رد إليهما كتبهما، فقد جاء عن ثعلب قوله : “جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها و لغاتها: الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ورد الديوان إلى حماد وجناد “.   مصادر الشعر ص(157)   

وليس لنا حاجة هنا للبحث عن توثيق حماد فقد كفانا المُؤْنة ناصر الدين الأسد في كتابه ” مصادر الشعر الجاهلي  ” . مصادر الشعر ص(557) .

ثم وجدت ناصر الدين الأسد يقول :” أما ما ذكره ابن النحاس من أن حمادًا هو الذي جمع السبع الطوال فإنه لا يقوم دليلًا على أنها لم تكن موجودة من قبله وأنها لم تكن مكتوبة أو معلقة؛ وإلا لكان معنى ذلك أن الدواوين التي صنعها وجمعها أبو عمرو بن العلاء وأبو عمرو الشيباني و المفضل والأصمعي والسكري وثعلب كلها غير موجودة من قبلهم؛ وهو كلام لم يقله أحد، ولا معنى له. والذي نعرفه، مما قدمنا، أن حمادًا كان يجمع الشعر الجاهلي وكان يدونه، وأنه كانت بين يديه نسخ من دواوين هذا الشعر، فإذًا صح أن حمادًا هو الذي جمع -في ديوان واحد أو مجموعة واحدة- هذه القصائد السبع بعد أن كانت مفرقة، أو جددها بعد أن كادت تبلى ” مصادر الشعر ص(170) .

الخلاصة :

 يُمكن أن يُقال :” الطبقة من الرواية العلماء كانت تجمع ما استطاعت جمعه من الشعر الجاهلي من الشيوخ المختلفين، ومن أفواه الرواة من الأعراب، ومن بعض الصحف المدونة ثم تدرسه، وتمحصه، وتفحصه، وتميز صحيحه من فاسده، والثابت النسبة من المشكوك فيه، وتنتهي من ذلك إلى تسجيل ما ترجح لديها صحته في نسخة خاصة تصبح هي رواية ذلك الشيخ الراوية العالم، ينقلها عنه تلاميذه وينسبونها إليه.

 والطبقة من الراوة العلماء -بهذا التعريف الذي قدمناه والتحديد الذي قيدناها به- لم تكن موجودة فيما يبدو قبل مطلع القرن الثاني الهجري، وربما كان أول شيوخها الذين مهدوا الطريق لمن تبعهم فكانوا هم الرواد السابقين: أبو عمرو بن العلاء “المتوفى سنة 154” وحماد الرواية “المتوفى سنة 156”. ومن هنا كان قول ابن سلام “وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية”، ومن هنا أيضًا قالوا: “كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه ” . مصادر الشعر ص(629) .

الاختلاف بين روايات المعلقات:

 يمكن تقسيم هذا الاختلاف إلى خمسة أنواع :

اختلاف في عدد المعلقات

اختلاف في أصحاب المعلقات

اختلاف في ترتيب المعلقات

اختلاف في نسبة بيت من عدمه وبالتالي اختلاف في عدد الأبيات

اختلاف في ضبط الكلمات

أولا :الاختلاف في عدد المعلَّقات وأصحابها :

  شرح النحاس تسعَ مُعلَّقاتٍ، وإن كان اختياره هو سبعة، فقد ذكر عند خَتمِه لشرح مُعلَّقة عمرو بن كلثوم قال:” فهذه آخرُ السَّبعِ المشهورات على ما رَأيتُ أكثرَ أهلِ اللغة يذهبُ إليه، منهم أبو الحسن بنُ كيسان……، وقد رأيتُ من يذهَبُ إلى أنَّ قصيدةَ الأعشى: ” ودِّعْ هريرةَ “، وقصيدة النابغة وهي: ” يا دارَ ميَّةَ ” من القصائد، وقد بيَّنا أنَّ هذا لا يُؤخَذ بالقياس، غيرَ أنَّا قد رأينا أكثرَ أهل اللغةِ يذهبُ إلى أنَّ أشعرَ أهلِ الجاهليَّة: امرؤ القيس وزهير والنَّابغة والأعشى، إلا أبا عبيدة فإنَّه قال: أشعر الجاهليَّة ثلاثَةٌ: امرؤُ القيس وزهير والنَّابغة، فحدانا قولُ أكثرِ أهلِ اللغة على إملاءِ قصيدَةِ الأعشى وقصيدَةِ النَّابِغَةِ لتقديمِهم إيَّاهُما، وإن كانتا ليستا من القصائد السَّبعِ عندَ أكثَرهم “.

   فقد وضَّح النحَّاسُ أنَّ السَّبعَ المشهورات هي القصائد التي شرحها، والتي تتمثَّل في: معلقة امرئ القيس، وزهير بن أبي سُلمى، وطرفة، ولبيد، وعنترة، والحارث بنُ حِلّزَة، وعمرو بن كلثوم، وأنَّ هذا الاقتصار على السَّبع هو رأيُ ومذهب أكثر أهل اللغة كابن كيسان ، وأنَّه لمَّا رأى بعضَهم يعُدُّ قصيدةَ الأعشى والنَّابغة من المعلَّقات قامَ بشرحهما، وإن كانَ الصَّحيحُ عند النحاس أنَّهما ليستا من المعلَّقات، ثمَّ عزَّز سببَ إقدامِه على ذكرهما كونُ عامَّة علماء اللغة يعُدُّون النابغة والأعشى أشعر أهل الجاهلية، فكان من المستحسن تناول شرحهما مع القصائد السَّبع فيصيرُ العدد تسعًا.

 ومنه يتضح أنَّ ابنَ ناشر الوهراني اتبع مذهب جمهور أهل اللغة في عدِّهم المعلقات سبعا فقط.

 وممَّن اقتصرَ على شرح السبع المعلَّقات التي شرحها النحاس: ابن الأنباري والزوزنيُّ و الجواليقي والفاكهي وعبد الرحيم بن عبد الكريم الصفي بوري الهندي.

  والملاحَظ أنَّ ابنَ الأنباري والزَّوزني والجواليقي لم يَذكُروا سبب اقتصارهم على السبع المشهورات اكتفاءً بشهرةِ كونها سبع القصائد.

 وممَّا فتح الله علي أني وجدتُ في شرحِ أبي سعيد الضرير وأبي جابر أنَّهما شرحا ثمانِيَ قصائد، والقصيدةُ الثامنة للنَّابغة وليست للأعشى.

   هذا، وقد شرح التبريزي عشرَ قصائد بإضافةِ قصيدة عبيد الأبرص مع قصيدة النابغة والأعشى، فلم يقتَصِر على سبع قصائد ولا على تسعٍ، بل أوصلها إلى عشرِ قصائد، وظاهرُ كلامِه أنَّه متبعٌ لجمهورِ العلماء في الاقتصار على سبعٍ، لأنَّه صرَّح بأنَّ قصيدة النابغة والأعشى والأبرص إنَّما شرحَهُم استجابَةَ لطلب السائل الذي أرادَ تلخيص شرح السبع مع هذه القصائد الثلاث، وفي هذا الصَّدد يقول :

” سألتَني ـ أدامَ الله توفيقَك ـ أنْ أُلخِّصَ لكَ شرحَ القصائد السَّبعِ، مع القصيدَتين اللتينِ أَضافَهُما إليها أبو جعفر أحمدُ بنُ محمَّد بن إسماعيل النحوي: قصيدة النابغة الذُّبياني الدَّالية، وقصيدة الأعشى اللاميَّة، وقصيدة عبيد الأبرَص البائيَّة تمامَ العشرة “.

  وقد بيَّن أبو الفضل في كتابه ” المنثور والمنظوم ”  أن المقصود بالسبع الطوال هي قصيدة امرئ القيس وقصيدة طرفة وقصيدة عبيد الأبرص وقصيدة زهير بن أبي سُلمى وقصيدة عنترة وقصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلزة.

 ثم أشار إلى أنَّ قصيدة النابغة والأعشى ليستا من السبع الطوال فقال:” وقد أدخل قومٌ قصيدَةَ النابغة في الاعتذار في السبع، وإنما انفردت بالمعنى الذي لم يُسبَق إلى مثله من العذر، ولما كانت عينُ شعره وأجوَدُ كلامه ألحقها قومٌ بالسبع، وهي:

يا دارَ مَيَّةَ بالعلياءِ فالسَّنَدِ              …………………….

ثم قال:”….، وقد ذكرنا قصيدة الأعشى وألحقوها بالسبع، وهي:

ودِّع هريرةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحَلُ         وَهَلْ تُطِيْقُ وَدَاعًا أَيُّها الرَّجُلُ

وهي وإن كانت غايةً في الجودة وصاحِبُها واحِد في الإجادَة فليست إلى القصائدِ الأُوَل، ولا هي منها في شيء، والمُجْتَمع عليه ما قدَّمناه “.

وكما نرى أن أبا الفضل أدخل قصيدة عبيد الأبرص في السبع الطوال، ولكنه سرعان ما يقول: “والذي وجدنا عليها الرواة مجتمعين  في القصائد السبع الطوال الجاهليات:

لامرئ القيس (قفا نبك) ولزهير (أمن أم أوفى) ولطرفة (لخولة أطلال) ولعمرو بن كلثوم (ألا هبي) ولعنترة (هل غادر الشعراء) وللبيد (عفت الديار) وللحارث بن حلزة (آذنتنا ببينها أسماء) .    

ومنهم من أدخل قصيدة عبيد  (أقفر من أهلها محلوب) وقصيدة الأعشى (ودِّع هريرةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحَلُ)، وقصيدة النابغة (يا دار ميَّةَ بالعَلياء فالسَّنَدِ)

 ولم نجدهم ذكروا غيرَ هذه القصائد لهؤلاء المتقدم لما ذكرنا من اختيارهم” ا هـ

  وبعد هذا كله فقد تبيَّن مذهب الجمهور في عد شعراء المعلقات سبعة، وأن قصيدة الأعشى والنابغة ليستا منها فمن حقنا أن نتساءل هل لهذا الخلاف سبب أو وجه؟

  لقد مر قريبا كلام للنحاس الذي يقول فيه:” فهذه آخرُ السَّبعِ المشهورات على ما رَأيتُ أكثرَ أهلِ اللغة يذهبُ إليه، منهم أبو الحسن بنُ كيسان……، وقد رأيتُ من يذهَبُ إلى أنَّ قصيدةَ الأعشى: ” ودِّعْ هريرةَ “، وقصيدة النابغة وهي: ” يا دارَ ميَّةَ ” من القصائد، وقد بيَّنا أنَّ هذا لا يُؤخَذ بالقياس“.

فقد وضَّح النحاس:

– أن السبع المعلقات التي شرحها هو مذهب أهل اللغة، وذكر منهم الإمام ابن كيسان.

– وأن هذه الرواية المقتصرة على سبع لا تؤخَذ بالقياس، ومفهومُه أن هذا يِؤخَذ بالسماع لا غير.

وعلى هذا كلام النحاس يُفهَم منه أنَّ من أدخَل النابغة والأعشى إنما هو خطأ في الرواية أو اجتهادٌ  في غير محله.

 ومما ينبغي التنبيه عليه، أنَّه إذا أُطلِق السبع الطوال فلا ينصرف الذهن إلا لهذه المعلقات التي نتحدث عنها المتمثلة في: معلقة امرئ القيس، وزهير بن أبي سُلمى، وطرفة، ولبيد، وعنترة، والحارث بنُ حِلّزَة، وعمرو بن كلثوم، مع مراعاة الخلاف السابق ـ على ضعفه ـ هل معلقة النابغة والأعشى وعبيد الأبرص.

 وعليه فالذي جمعه عبد الملك بن مروان من سبع قصائد جاهلية ليست هي التي يعنيها شرَّاح المعلقات، بل هي قصائد أخرى إلا ثلاثةً من المعلقات، وقد أشار أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر إلى هذا المعنى في قوله : “وقد ذكروا عن الحرمازمي أنه قال: ذكر لي غيرُ واحد من العلماء أنَّ السبع القصائد التي سبَّعها عبد الملك بن مروان وجمعها ولم يكن في الجاهلية من جمعها قط، والناس يرون  أنَّه كان يُصَلَّى بها في الجاهلية، قال الحرزامي: أولها:  

ألا هبي بصحنك فاصبحينا

لعمرو بن كلثوم، والثانية:

آذَنَتْنا   بِبَيْنِها    أَسْماءُ

للحارث بن حلزة، والثالثة:

نَشَطَتْ رابِعَةُ الحَبْلَ لَنا

لسُوَيد بن أبي كاهل، والرابعة:

أَمِنَ المنُونِ وَرَيْبِها تَتَوجَّعُ

لأبي ذُؤيب الهُذلي، والخامسة:

أَإنِ تبدَّلَت مِن أهْلِها وُحوشَا

لعَبيد، والسادسة:

يا دَارَ عَبْلَةَ بالجَواءِ تَكَلَّمي

لعنترة.

قال: ثم ارتجَّ على عبد الملك السابعة، فدخَل عليه ابنه سليمان وهو غلام فأنشَدَه قصيدة أوس بن مغراء التي يقولُ فيها:

محمَّدُ خيرُ من يمشي على قَدَمِ     وصاحِباهُ وعثمانُ بن عفَّانا ” ا هـ

ثانيا: الاختلاف في ترتيبِ المعلَّقات :

  هذا المبحثُ في غايةِ الأهميَّة، لأنَّه مبنيٌّ على مسألةٍ وهي: هل ترتيب المعلَّقات مبنيٌّ على حكم نقدي؟ وهل ذِكرُها على نسقٍ مُعيَّن فيه دليلٌ ضمني على أنَّ ترتيبهم على الأفضلية؟  ثمَّ البحثُ يصيرُ هنا: كيفَ كانَ ترتيبُ المعلَّقات في أول أمرها، أوهل كان لها ترتيبٌ معيَّن؟ أو أنَّ الترتيبَ من عملِ الشرَّاح أو تناقلته الرُّوَّاة؟

  كلُّ هذه الأسئلة تعنينا هنا، وسأحاول الوصول إلى غرض: هل الترتيب فرعٌ عن التقديم ، وسأحاول الحفرَ في بعضِ المتون لعلي أصلُ إلى شيء.

   ذكر النحاس في شرحه على المعلقات (2/682) أنَّ حمَّادَ الرَّاويَةُ أوَّلُ من جمعَ السَّبعَ المعلَّقات، وحكايةُ كلامِهِ:”…. وأما قولُ من قال: إنَّها عُلِّقَت في الكعبة؛ فلا يعرفه أحدٌ من الرُّوَّاة، وأصَحُّ ما قيلَ في هذا: أنَّ حمَّادَ الرَّاوَيةَ لمَّا رأى زُهدَ النَّاسِ في حفظِ الشعرِ جمعَ هذه السَّبعَ وحضَّهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات، فسميَتِ القصائدُ المشهورةُ لذلك “.

   في هذا النَّص يذهبُ النحاس إلى أنَّ حمَّادَ الرَّاوَيةَ هو جامِعُ القصائد السَّبع، وأنَّه جمعها لأجلِ حِفظِها بعدَ رؤيَةِ زهدِ النَّاسِ في الحفظ، وهذا الحِفظُ يحتمِلُ حِفظَ صدرِ أو حِفظَ كتاب، وأيًّا كان فحمَّادُ الرَّاوية جمعَ سبعَ قصائد على ترتيبٍ ما. 

 وكلامُ النحاس ظاهرُه يفيد أنه راعى ترتيبَ حماد الرَّاوية، لقوله (2/681-682) بعد نهاية قصيدة عمرو بن كلثوم:” فهذه آخرُ السَّبعِ المشهورات على ما رأيتُ أكثرَ أهل اللغة… وأصَحُّ ما قيلَ في هذا: أنَّ حمَّادَ الرَّاوَيةَ لمَّا رأى زُهدَ النَّاسِ في حفظِ الشعرِ جمعَ هذه السَّبعَ وحضَّهم عليها يذهبُ إليه، منهم أبو الحسن ابنُ كيسان “، فمادامَ أنَّه اعتمدَ على رواية جمع حمَّاد للقصائد السَّبع لإنكار قول من قال أنَّها كانت مُعلَّقة، فإنَّه يَدُلَّ ضِمنًا على أنَّه متبِعٌ لترتيب حمَّاد الرَّاويَة.

   وعند الرجوع إلى مطبوعِ شرح النحاس بتحقيق أحمد خطَّاب فإننا نجد ترتيبَ المعلَّقاتِ السَّبع على هذا الشكل:

امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثم لبيد، ثمَّ عنترة، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ الأعشى ثمَّ النَّابِغَة.

    لكن تفاجَأتُ كثيرًا عندما وجدتُ ترتيب النحاس في نسخة رئيس الكتَّاب يخالِفُ ما في المطبوع، ونسخة رئيس الكتَّاب نسخةٌ نفيسةٌ جدًّا وعتيقة، نُسِخت عام377هـ، وهي نسخةٌ مقروءةٌ على الأذْفوي تلميذ النحاس، وقد جعلها أحمد خطَّاب هي الأصلُ في تحقيقه، وترتيب المعلَّقات فيها على هذا الشكل:

امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم لبيد، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ زهيرُ بن أبي سُلمى، ثمَّ عنترة بن شدَّاد، ثمَّ الأعشى، ثمَّ النَّابِغَة. 

    فكان ينبغي أن يجعَل ترتيبَ القصائد كما جاءت في هذه النسخة، وهي نسخَةٌ مُرقَّمةٌ، لكنَّ الأمرَ المستغرب أنَّه يُصَرحُ في مُقدمَةِ دراسته ص (57) أنَّ قصائدَ شرحه جاءت هكذا: امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثم لبيد، ثمَّ عنترة، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ الأعشى ثمَّ النَّابِغَة، فلا أدري وجهَ فعلِ هذا لأنَّه مخالفٌ لما في نسخة رئيس الكتَّاب المقروءة على الأذَفوي تلميذ النحاس.

   ثمَّ بدا لي أنَّ الجوابَ عن هذا الإشكال سهلٌ جدًّا، وذلك أن النحاس قال في آخرِ معلَّقة عمرو بن كلثوم:” فهذه آخرُ السَّبعِ المشهورات على ما رَأيتُ أكثرَ أهلِ اللغة يذهبُ إليه، منهم أبو الحسن بنُ كيسان “، فيكونُ في نسخة رئيس الكتاب تقديمٌ وتأخيرٌ لم يُنبّه عليه المحقق، وأنَّ الترتيبَ الذي ذكره المحقق جاء كذلك في النسخ التي جلبها وقابلَ عليها، ويزيدُ الأمرَ وضوحًا وتأكيدًا أنَّ ابنَ ناشر مُهَذِّبُ شرح ابن النَّحَّاس رتَّب القصائد كما ذكره أحمد خطَّاب محققُ شرح النحاس، وبهذا يزول الإشكال، وأمَّا ترقيم لوحات نسخة رئيس الكتَّاب فظاهرٌ أنَّها مُتأخرة بعد الأدْفَوي.

 إذن ترتيب المعلَّقات يكونُ عندَ حمَّاد الرَّاويةِ:

امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثم لبيد، ثمَّ عنترة، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم.

 وعلى هذا الترتيب جرى التبريزي وابن ناشر الوهراني.

  وأمَّا عندَ ابن الأنباري فترتيبُها هكذا: امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثمَّ عنترة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثم لبيد.

وعند أبي سعيد وأبي جابر ترتيبُها هكذا:

امرؤُ القيس، ثم لبيد، ثم طرفة، ثمَّ عنترة، ثمَّ زهيرُ بن أبي سُلمى ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ النَّابِغَة.

وعند الزوزني والصفي بوري ترتيبُها هكذا:

امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثم لبيد، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ عنترة، ثمَّ الحارث بن حلزَة.

وعند الجواليقي والفاكهيِّ ترتيبُها هكذا:

امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثم لبيد، ثمَّ عنترة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ الحارث بن حلزَة.

  فأنتَ ترى اتفاقَهم على تقديمِ امرئ القيس على من سِواهُم، وكلُّ هؤلاء جعلوا طرفةَ ثانِيَ القصائد سوى أبي سعيد وأبي جابر فجعلاه ثالَث القصائد، وزهيرًا ثالث القصائد عند جميع من ذكرتُهم سوى عند أبي سعيد وأبي جابر فجعلاه رابِعَ القصائد.

 وأما لبيد ـ رضي الله عنه ـ فهو رابِعُ القصائد عند النحاس والتبريزي وابنُ ناشر، وهو سابِعُ القصائد عند ابن الأنباري، وهو ثاني القصائد عند أبي سعيد وأبي جابر، وهو رابعُ القصائد عند الزوزني والجواليقي والفاكهيِّ والصفي بوري.

وأما عنترة فهو خامس القصائد عند النحاس الزوزني والتبريزي والجواليقي وابنُ ناشر والفاكهيِّ والصفي بوري، وهو رابعُ القصائد عند ابن الأنباري وعند أبي سعيد وأبي جابر.

وأما الحارثُ بنُ حِلزَة فهو سادِسُ المعلَّقات عند النحاس وابن الأنباري والتبريزي وابن ناشر، وهو خامسُ المعلَّقات عندَ أبي سعيد وأبي جابر، وهو سابعُ المعلَّقات عند الزوزني والجواليقي والفاكهيِّ والصفي بوري.

وأمَّا عمرو بن كلثوم فهو سابعُ سبعِ المُعلَّقات عندَ النحاس، وهو خامسُ المعلَّقات عندَ ابن الأنباري والزوزني والصفي بوري، وهو سادسُ المعلَّقات عند أبي سعيد وأبي جابر والجواليقي والفاكهيِّ.

   فظهر بهذا العرض مواضع الاتفاق والاختلاف في ترتيب المعلَّقات في هذه الشروحات، وهي التي رجعتُ إليها في تحقيقي لتهذيب شرح المعلقات.

   وإذا أردنا التدقيق أكثر فالنظر يتجه أولا إلى كتب الاختيارات والشروحات الأولى ـ لأن ما بعدها تبع لها ـ والتي تتمثل في شرح أبي سعيد الضرير، والمنثور والمنظوم لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر، وجمهرة العرب للقرشي، وشرح ابن الأنباري، وشرح النحاس.

  •  فأما أبو عبيدة المتوفى سنة (208هـ)  فرتَّبهم هكذا:

امرؤ القيس حُجْرُ وزهير بنُ أبي سُلمى ونابغة بني ذبيان والأعشى البكري ولبيد بن ربيعة وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم

  • وأما عند أبي سعيد الضرير المتوفى في حدود (240هـ) ترتيبُها هكذا: –

امرؤُ القيس، ثم لبيد، ثم طرفة، ثمَّ عنترة، ثمَّ زهيرُ بن أبي سُلمى ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ النَّابِغَة.

  • وأما أبو الفضل  أحمد بن أبي طاهر المتوفى سنة (280 هـ) فقد ذكر قصيدة امرئ القيس ثم زهير ثم طرفة ثم عمرو بن كلثوم ثم عنترة ثم قصيدة لبيد ثم الحارث بن حلزة.
  • وعند ابن الأنباري المتوفى سنة (328هـ) امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثمَّ عنترة، ثمَّ عمرو بن كلثوم، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثم لبيد.

– وعند النحاس المتوفى سنة (338هـ) امرؤُ القيس، ثم طرفة، ثم زهيرُ بن أبي سُلمى، ثم لبيد، ثمَّ عنترة، ثمَّ الحارث بن حلزَة، ثمَّ عمرو بن كلثوم.

    وكما نرى لم تُجْمع الكتب الأولى في شرح المعلقات السبع الطوال على ترتيب واحد، بل لم يُجْمِعوا على من هم أصحاب السبع الطوال، فقد أدرج أبو عبيدة النابغة والأعشى، وكأن أبي سعيد الضرير مال إلى أن النابغة منهم أيضا فجعله ثامن القصائد دون أن يُخْرِجَ أحدا ممن شرح قصائدَهم ابنٌ كيسان والأنباري والنحاس.

    والترتيب عند الأنباري والنحاس قريبٌ جدا، ويكاد يكون التوافق بينهما متطابقا لولا بعضُ التقديم والتأخير، وكما نرى فإنهم لم يجعلوا النابغة والأعشى من السبع المعلقات.

وخلاصة القول: أجمعت الرواة على تقديم امرئ القيس على سائر أصحاب المعلقات، مما يعني أنهم قدَّموه وفضلوه لاعتبارات نقدية ، وعلى هذا التقديم الإجماع بين النقاد والرواة ولا أعلم خلافا بينهم في هذا إلا على سبيل انتقاد ما يقع للشاعر من هنات كما فعله ابن المعتز و الباقلاني.

  قال الآمدي في الموازنة (1/420):” وبهذه الخلة دون ما سواها فضل امرؤ القيس؛ لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية والاسلام، حتى إنه لا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من أن تشتمل من ذلك على نوع أو أنواع، ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره، ولكان كسائر شعراء أهل زمانه؛ إذ ليست له فصاحة توصف بالزيادة على فصاحتهم ولا لألفاظه من الجزالة والقوة ما ليس لألفاظهم، ألا ترى أن العلماء بالشعر إنما احتجوا في تقديمه بأن قالوا: هو أول من شبه الخيل بالعصى، وذكر الوحش والطير، وأول من قال ” قيد الأوابد ” وأول من قال كذا، فهل هذا التقديم له إلا لأجل معانيه؟

 وأما ثاني من يُمكن أن نجعله فهو إما طرفة أو زُهير .

ثالثا :الاختلاف في ضبط الكلمة

لقد اعتنى العلماء منذ القديم ببيان ضبط الكلمات وتحرير اختلاف الرواة فيها ، وقبل البدء في ضرب الأمثلة لهذا النوع وهي كثيرة جدا، أنوِّهُ بقيمة نسخة شرح ابن كيسان لديوان زٌهير بن أبي سُلمى والتي هي من محفوظات مكتبة نور عثمانية بتركيا  تحت رقم:3968، فهي تمتاز بـ:   

  • أنها نسخة من أصل شرح ابن كيسان .
  • أن ابن كيسان قرأها على ثعلب عن أبي عمرو الشيباني .
  • أن فيها الاعتناء بتمييز اختلاف أئمة الرواة كالأصمعي وأبي نصر وأبي عمرو وأبي  عبيدة .
  • ويُضاف إلى هذه الأمور: أنها لم تُعتَمد في تحقيق شرح ثعلب على ديوان زهير .

 ففي هذه النسخة تحرير دقيق لاختلاف الرواة في ضبط الكلمات، مع نسبة الرواية إلى راويها، فمن ذلك في قول زُهير:

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ    بِحَوْمانَةِ الدُّرَّاجِ فالمُتَثَلِّمِ

ذكر رواية الضم والفتح في “الدُّرَّاجِ“،وفي قوله:

بِهَا العِيْنُ وَالآرَامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً   وَأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مُجْثَمِ

ذكر رواية ” الأُدُم ” وهي الظباء، وفي قوله :

أَثَافِيَّ سُفْعًا في مُعَرَّسِ مِـَـــــرْجَلِ  وَنُؤْيَا كَجِذْمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّمِ

ذكر رواية أبي عبيدة( ثويا ) بدلا من نُؤْيَا، وفي قوله:

بَكَرْنَ بُكورا واسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ    فَهُنَّ لِوادِ الرَّسِّ كاليَدِ في الْفَمِ

ذكر رواية أبي عمرو:” بالْفَمِ “، وفي قوله:

وَقَدْ قُلْتُما إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا   بِمَالٍ ومَعْرُوفٍ مِنَ الأَمْرِ نَسْلَمِ

ذكر رواية السِّلم والسَّلم معا، وفي قوله:

فَأَصْبَحَ يُحْدَى فِيْهِمْ مِنْ تِلادِكُمْ    مَغَانِمُ شَتَّى مِنْ إِفَالٍ مُزَنَّمِ

ذكر رواية :” فَأَصْبَحَ يجري ” وذكر ررواية أبي عبيدة :” مِنْ إِفَالِ المُزَنَّمِ “،

 وفي قوله:

يُنَجِّمُها قَومٌ لِقَوْمٍ غَرَامَةً    وَلَمْ يُهْريقُوا بَيْنَهُمْ مِلْءَ  مِحْجَمِ

ذكر” ولما يُريقُا ” بدلا من ” وَلَمْ يُهْريقُوا بَيْنَهُمْ “، وفي قوله

أَلا أَبْلِغِ الأَحْلافَ عَنِّيْ رِسَالَةً    وَذُبْيَانَ هَلْ أَقْسَمْتُمُ  كُلَّ مُقْسَمِ

ذكر رواية أبي عبيدة :” فمن مبلغ ” وهي رواية الأصمعي كما  ذكره ابن ناشر الوهراني  رحمه الله  ، وفي قوله:

فَلا تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ    لِيَخْفَى، وَمَهْما يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ

ذكر رواية ” مَا فِي صدوركُمْ  ” عن أبي عمرو، وفي قوله :

فَيُرفَع فيُوضَع فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ    لِيَوْمِ الحِسَابِ أَو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ

ذكر رواية يُؤخَّرْ فَيُوضَعْ عن أبي عمرو،وسأكتفي بهذه الأمثلة .

وباقي شرح ابن كيسان لم يذكر فيه سوى الاختلاف في الألفاظ ، وأما الاختلاف في نسبة بيت أو عدم ذكره فلم يشر إليه ابن كيسان، مما يعني أن هذه المعلقة مما اتفق الرواة على أبياتها، وأن الاختلاف في بعض الكلمات  فحسب .

ومن الأمثلة غير ما حرَّره ابن كيسان في غير معلقة زُهير، ماجاء في معلقة امرئ القيس : 

             كَدِيْنِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيـــــرِث قَبْلَـــــــها       وَجـارَتِهَا أُمِّ الـرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ

فإنه يُروى ” كَدَأْبِك

ألا رُبَّ يــــــوْمٍ صَــــــالِحٍ لكَ مِنْهُــــمَا   وَلا سِيـمَا يومٌ   بــِـــدَارةِ جُلْجُــــــلِ

فإنه يُروى برفع “يوم” على أن تجعل “ما” بمعنى الذي ، ويكون التقدير: الذي هو يوم ، فيكون المبتدأ والخبر صلة “ما”

          تَجَاوَزْتُ أَحْرَاساً وَأهوالَ مَعْشَــــــرٍ    عليَّ حِــــراصٍ لويُشِرُّون مَقْتَـــلِ

فمن روى”يُشِرُّ” بالشين المعجمة أراد يُظهرون، ومن روى”يُسِرُّون” بالسين  غيرَ معجمة أراد يكتمون .

      فقُمـــتُ بِها أَمْشِيْ تَجُـــرُّ وَراءَنـــــا   عَلى إِثـْـــــرِنا أَذْيـــــالَ مِـــرْطٍّ مُرَجَّل

 “مُرجَّل”: يُروى بالجيم والحاء، فمن رواه بالجيم كان معناه موشى على صُور المِرْجل وهو المُشْط ، ومن رواه بالحاء فمعنى مرحِّل على صُور الرِّحَال .

              فَأضْحَى يَسُحُّ المَاءَ عَنْ كُلِّ فِيقَةٍ  تَكُـبُّ عَلى الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَـلِ

هذه رواية الأصمعي كما في شرح السُّكَّري (285) وابن الأنباري ص (103) ويُروى: يَسُحُّ الماءَ فوق كثيفة، كما عند النحاس (1/193 ) وقد جاء عنده وعند الزوزني ص (39) والتبريزي ص (125) والجواليقي (ل10ب):” حَوْلَ كُتَيْفَةٍ ” بدلا مِن ” عنْ كُلِّ فِيقَةٍ “.

إلى غير ذلك من الأمثلة المتناثرة في المعلقات المبيَّنة في شروحاتها .  

رابعا: الاختلاف في نسبة بيت لصاحب المعلقة:

مما وقع في رواية المعلقات أبياتٌ اختلفوا في نسبتها للمعلقة، وقبل بيان أمثلة لهذا النوع ينبغي التنبيه أنه لا يدخل في هذا الاختلاف ما إذا اشترك شاعران في بيت وتواردا عليه، وأعني بهذا بيت امرئ القيس:

  وُقُوْفـًــا بِها صَحـْـــبِيْ  عَلَيَّ مَطِيَّهُـــمْ   يَقُوْلــُـوْنَ لاْ تَهْلَـكْ أَســـىً وَتَجَمَّـلِ

 فإنه لطرفة بن العبد بيتٌ مثله في مُعلَّقته، لكن جعل مكان ” تجمَّل ” ” تجلّدِ “، وهذا ما يُعرَف بوقوع الحافر على الحافر عند الاتفاق – وهو التوارد أيضا- من غير سرقة، قال البطليوسي (2/378):” هذا البيتُ وافقَ بيتَ امرئ القيس لفظًا ومعنى، وليس لِسرقةٍ أواضطِرابٍ، وذلك أنَّ أبا عمروبنِ العلاء سُئل عن الشَّاعرين يتَّفقان في المعنى ويتواردان في اللفظِ ولم يَلقَ واحدٌ منهما صاحِبَه ولا سَمِعَ شعرَه، فقال: تلك عقولُ قومٍ توافقتْ على ألسِنَتها، مثل قول طرفة وامرئ القيس: وقوفًا بها صَحبي، ولم يُثْبَتِ البيْتُ لطرفَةَ حتَّى استُحلِفَ أنَّه لم يسمعه قطُّ فحلَفَ…، وقد سئلَ أبوالطيِّب [المتنبي] عن مثل ذلك فقال: الشعرُ محجدَّةٌ فربَّما وقع الحافِرُ على موضِعِ الحافِرِ “

فمن ذلك: قول امرئ القيس

وَقَـدْ أغْتَــدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكُناتِهَـا       بِمُنْجَـــرِدٍ قَيْــــــدِ الأَوَابِــــد هَيْكَـــلِ

   روى بعضهم أبياتًا قبل هذا البيت لم يروها الأصمعي وهي لتأبَّط شرَّا ولفظُها:

وَقِرْبَةُ أقْوامٍ جَعَلْتُ عِصَـامَها      على كــاهِلٍ منِّي ذَلُــولٍ مُـــرَجَّلِ

وَوادٍ كَجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ     بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِيْ كالــخَلِيْعِ المُــعَيَّلِ

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا عَـــوَى إنَّ شَأْنَنَــا     طَــوِيْلُ العَنَــا إنْ كُنْتَ لَمَّــا تَمَوَّلِ

كِلانا إذا مَــا نَـــالَ شَيْئًا أفــاتَهُ    وَمَـنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِيْ وَحَرْثَكَ يُهْزَلِ

وكذا قول طرفة :

وَظُلمُ ذَوِيْ القُـرْبَي أَشَدُّ مَضاضَـةً*علَى المَرْءِ مِنْ وَقْع الحُسَـامِ المُهَنَّدِ

قال ابن ناشر الوهراني :” هذا البيت رواه يعقوبُ بنُ السِّكيت ”  .

 وفي معلقة طرفة عند البيت (98) قال الوهراني : ” وقد روى أبو عمرو الشيباني بعد هذا بيتا له وهو قوله:        وَأَصْفَرَ مَضْبُوحٍ نَظَرْتُ حَوارَهُ     عَلَى النّار واسْتَوْدَعْتُه كَفَّ مُجْمَدِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُرْوَى هَذَا الْبَيْتُ لِعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ؛ وهو الصَّحِيحُ. لسان العرب (ج م د)، وقال ابن الأنباري ص (229): ” وروى أبوعمرو الشَّيباني ههنا بيتًا لم يَروه الأصمعيُّ ولا ابنُ الأعرابي…” وذكره، وقال النحاس كما في نسخة رئيس الكتاب (ل45):” وروى أبوعمرو الشَّيباني بَعدَ هذا بيتًا لا يَعرفه البصريُّون، وفي رواية ابن السكيت: لِعَدي بن زيد “.

 وإنَّما نقلتُ من نسخة رئيس الكُتَّاب لأن المطبوع من شرح النحاس عبارته موهمة، إذ جاء فيها :”  وروى أبوعمرو الشَّيباني بعدَ هذا بيتًا لايَعرفه البصريُّون، وفي رواية ابن السكيت، وهو …” ثم ذكر البيت، فكأنَّ  المحقق ظنَّ أنَّ ابن السكيت هو الذي لا يعرف البيت في رواية، ولكن الصواب أنَّ ابن السكيت في روايته للشعر جعل البيت لعدي بن زيد.

وفي قول  لبيد:  إنْ يَفْزَعوا تُلْقَ المَغَافِرُ عِنْدَهُمْ    وَالسِّنُّ تَلْمَعُ كَالكَواكِبِ لامُهَا

قال النحاس : ”  لم يُنْشِدْناه ابن كيسان “.

 ولهذا لم يذكر البيتَ ابنُ الأنباري والزوزني وليس هو في ديوان لبيد بشرح الطوسي   

معلقة عنترة:

  • قال الوهراني  بيت عنترة

دَارٌ لآنِسَةٍ غَضِيْضٍ طَرْفُها     طَوْعَ العِنَاقِ لَذِيْذَةَ المُتَبَسِّمِ

“هذا البيتُ رواه أبو جعفر النحاس عن مُحمد بن الحَسَنِ عن أبي العباس الخُراساني عن أبي قادِم، ولم يروه الأَصْمعي” .

وقول عنترة أيضا :             بُلَّتْ مَغابِنُها بِهِ فَتَوسَّعَتْ    مِنْهُ عَلَى سُعْنٍ قَصِيْرٍ مُكْدَمِ

هذا البيت والذي بعده خلت منه جلُّ شروح المعلَّقات عدا شرح النحاس للمعلقات (2/490)   والبطليوسي (2/214) وابن ناشر هنا، وذكره الجواليقي( ق38أ) والفاكهي ص (1518)، وانفرد به الكوفيُّون عن أبي عُبيدَة كما يُفهَم من كلام النحاس في قوله (2/490): ” وروى الثقات من الكوفيين أنَّ أباعُبيدَة روى بيتين بعد هذا البيت ” وذكرهما.

وفي قول عنترة كذلك:

            لَمَّا سَمِعْتُ نِداءَ مُرَّةَ قَدْ عَلا      وابْنَيْ رَبِيعَةَ في الغُبارِ الأَقْتَمِ

  وَمُحَلِّمٌ يَسْعَوْنَ تحْتَ لِوائِهِمْ         والمَوْتُ تَحْتَ لِواءِ آلِ مُحَلِّمٌ

   أيقَنَتُ أَنْ سَيُكُونُ عِنْدَ لِقَائِهِمْ   ضَرْبٌ يُطِيْرُ عَنِ الفِراخِ الجُثَّمِ

 ، قال النحاس ” أنشَدَهنَّ بعضُ أهل  اللغة ولم أسمعهنَّ من ابن كيسان ” .

 وفي قوله :

إنْ يَفْعَلا فَلَقَد تَرَكْتُ أبَاهُمَا    جَزَرَ السِّبَاعِ وَكُلُّ نَسْرٍ قَشْعَمِ

  أفاد ابن الأنباري ص (365) أنَّ البيت رواه الأصمعيُّ دون أبي عمرو.

خامسا:الاختلاف في ترتيب أبيات المعلقات:

هذا الاختلاف نجده كثيرا في المعلقات، وأكثر المعلقات وقع فيها هذا الاختلاف هي معلقة عنترة ، وسأكتفي بمثال واحد منها:

فَطَعْنْتُهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ عَلَوْتُهُ     بِمُهَنَّدٍ صَافِيْ الحَدِيْدَةِ مِخْذَمِ

تضارب  الشُّرَّاح في ترتيب هذا البيت، فابن الأنباري ص (351) والتبريزي ص (363) وكذا في شرح أبي سعيد وأبي جابر (ق180) والجواليقي (ل40أ) والبطليوسي (2/228) والفاكهي ص (1571) جعلوه بعد بيتين: ” ربذٍ يداه..” ثم” لمَّا رآني…”، وزاد الزوزني ص (140) بعدهما بيت “عهدي به…” ثم ذكره، والنحاس جعله بَعد بيت: ” ربذٍ يداه..”،  وأما الشنتمري ص( 213) فجعله بعد أبيات ثلاث:” ربذٍ يداه..” ثم” بطَلٍ كأنّ..” ثم ” لمَّا رآني…” ثم ذكره، وابنُ ناشر  خالف الجميع  فقدَّمه وجعله يلي بيت ” ومِشَكِ سَابِغَةٍ..”

تتمة:  كيف نتعامل مع اختلاف الروايات وهل من سبيل لترجيح رواية على أخرى؟

يجب أن تكون لنا قواعد وضوابط في الترجيح والإثبات

أولا: إثبات الروايتين عند عدم التعارض خصوصا في اللفظ المروي بعدة أوجه.

ثانيا:إثبات الزيادة غير المعارَضة برواية أخرى.

ثالثا: ترجيح رواية على أخرى، وهذا يكون أكثر ظهورا وتعلقا في البيت الذي اختلف في نسبته، والترجيح يكون إما بكثرة الرواة او بأمور أخرى تتعلق بالنص ، ولابأس بضرب مثال هنا عن بيت طرفة:

وظُلمُ ذوي القُربى أشدُّ مَضَاضَةً*على المَرءِ مِنْ وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

أولا : قد أثبَتَه في معلقة طرفة كلٌّ من: ابن الأنباري والنحاس والزوزني والتبريزي وابن ناشر والفاكهي وغيرهم، وهو غير موجود في القطعة المتبقية من شرح ابن كيسان  .

ثانيا: روى هذا البيت الرستمي كما في شرح ابن الأنباري ص(209)، ورواه أيضا ابن السكيت كما في شرح النحاس (1/280(

ثالثا: اتفاق الرستمي وابن السكيت على روايته أقوى من قول أبي جعفر فيما رواه عنه ابن الأنباري في شرحه للمعلقات ص(209)  :” ليس هذا البيت من قصيدة طرفة إنما هو لعدي بن زيد العبادي ” .

رابعا: مما يزيد ترجيحا كون البيت من معلقته :أن طرفةَ وافق امرأَ القيس في بيت:

وقوفًا بها صَحبي عليَّ مِطِيَّهم*يقولون لا تهلَك أسىً وتَجلَّدِ

فتجد هذا البيت في معلقة امرئ القيس وتجده كذلك في معلقة طرفة، لكن قال امرؤ القيس ” تجمَّل ” بدلا من”  تجلَّد”  وقد قال النقاد عن هذا التوافق بينهما إنه من باب وقوع الحافر على الحافر وليس سرقةَ شعر  ، قال البطليوسي في شرح أشعار الجاهلية(2/378):” هذا البيت وافق بيتَ امرئ القيس لفظا ومعنى ، ليس لسرقة أو اضطراب ، وذلك أنَّ أباعمرو بن العلاء سُئل عن شاعرين يتَّفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ ولم يَلقَ واخدٌ منهما صاحبَه ولا سمع شعرَه ،فقال :تلك عقولُ قومٍ توافقتْ على ألسنتها،مثلَ قول طرفة وامرئ القيس، ولم يُثْبَتِ البيتُ لطرفةَ حتى استُحلِفَ أنه لم يسمعه قط فحلفَ “.

فأنت ترى توافق طرفة وامرأَ القيس في بيت من المعلقة وتواردا فيه ، ولم تعده العرب سرقة بل أثبتوه في المعلقة، وصار هذا البيت مما يُنسب للشاعرين ويميَّز بينهما في القافية فقط ، فلو كان بيت “وظلم ذوي القربى… “قد رواه عدي بن زياد ثم رواه طرفة لسألته العرب و لاستُحلِفَ كما استُحلِفَ من قبل، فلما لم يوجد هذا دلَّ على أن عديًّا لم يقل البيتَ ، وإنما قاله طرفة ورواه ابن السكيت والرستمي ، وروايتهما له أقوى من نفي أبى  جعفر.

خامسا : ذكروا في ترجمة عدي أنه سكن الحيرة وثقُل لسانُه وأنه عمل في ديوان كسرى ، فلأجل هذه السُّكنى  وثقل اللسان لم يحتج أهل اللغة به، وهذا مما يُستأنسُ به في إثبات البيت لطرفة.

سادسا :ظاهر كلام التبريزي في شرحه للمعلقات ص(188)أنه لم يرتضِ قول أبي جعفر لأنه قال:”  قيل إن هذا البيت لعدي بن زياد “، وقيل صيغة تمريض تفيد ضعف القول.

سابعا:أن البيتَ غير موجود في ديوان عدي بن زياد ، وإنما أضافه المحقق ص( 107)نقلا عن “التمثيل والمحاضرة”.

فلعل بمجموع هذه الأمور السبعة يطمئن القلب لثبوت البيت لطرفة.

أثر اختلاف الرواة على النقد:

أولا :

اتكاء المستشرق نولدكه على اختلاف الرواة لقصائد المعلقات في روايته للأبيات وأنه دليلٌ على عدم التعليق لأنَّ التعليق يستلزم الضبط وعدمه ضبط الروَّاة معناه عدم التعليق.

    يُجابُ عنه أنَّ هذا الإلزام لا يَلزَم، لأنَّه قد يعمِدُ الراوي إلى تغيير كلمةٍ فيرويها بلغة قبيلته، وقد ينسى الكلمَةَ فيذكُرُ لفظةً أخرى بدلها، وفي هذا الصدد يقول الخضر حسين ــ رحمه الله -: ” اختلافُ الروَّاة في ألفاظ القصيدَة ناشئ عن أمرين:

أحدهما: أنَّ الراوي قد يعمد إلى البيت نطق به الشاعرُ على لغته فيُغيِّرُ منه الكلمة إلى ما يُوافقُ لغتَه.

ثانيهما: أنَّ الراوي قد تسقُطُ منه الكلمة على وجه النسيان فيجتهد لأن يضعَ مكانَها كلمةً تُؤَدي معناها أو تُقاربُها، وما كانوا يرون في هذا من بأس مادام الغرض الذي يرمي إليه الشعرُ قائما.

ومن المحتَمَل أن يكونَ الشاعرُ نفسُه قد أنشَد البيتَ على وجهين أو وجوه في أوقات مختلفة، فقد يبدو له أنَّ كلمةً أليَق من كلمة أو تسقُط من حافظَته الكلمة التي أنشأ عليها القصيدةَ أولا ” ا هـ

ثانيا:

 من خلال ماسبق من الكلام عن ترتيب المعلقات – مع استصحاب رواية حماد للمعلقات وترتيبها ـ نُدرك خطَأ رأي المستشرق نولدكه الذي يذهب إلى أن حماد الراوية تعمَّد ذكر معلقة الحارث بن حلزة، لأن حماد كان مولى لقبيلة بكر بن وائل التي كانت في عَداء دائم مع قبيلة تغلب في الجاهلية، وأنَّ قصيدة عمرو بن كلثوم قد لقيت شهرة واسعة لتمجيدها قبيلة تغلب فلم يجد بُدَّا من وضع قصيدة الحارث الممجدة لأسلافه .

وهذا الرأي على ضعفه وهوانه يطرَح الثقة بالرواية في زمنها الذهبي من غير دليل قوي، ويجعَل للنعرات الجاهلية مدخلا لتوجيه الخلاف ولوكان المخالِف طائفةٌ قليلة لا دليلَ معها يُستَنهَضُ به.

فإن كانَ حماد الراوية جعل الحارث بن حلزة ضمن أصحاب المعلقات فما باله يضع عنترة كذلك، الذي لم يأتِ ضمن أصحاب المعلقات عند المُفضَّل الضبي؟

ثم في كلام نولدكه جهل أو تجاهل إلى سبب إنشاد قصيدة الحارث بن حلزة الذي هو نفسه سبب إنشاد قصيدة عمرو بن كلثوم، كما هو معروف في كتب الأدب .

فالصلة بين القصيدتين واضحة ووثيقة، وليس اتصالهَما ببعضهما البعض تعليقا وتذهيبا وتسميطا اعتباطٌ وهوى.

ثالثا: 

 تبين أن ترتيب أصحاب المعلقات اختلف فيه الرواة بعد اتفاقهم على تقديم امرئ القيس، ولم أصل إلى نتيجة صريحة هل ترتيب المعلقات حسب التقديم والأفضلية، أم حسب الرواية التي وصلت للشارح، ولعل الأخير أقرب للصواب

 رابعا:   

 اختلاف علماء النحو مرده النظر في جهة الاستدلال واستعمال القياس، وليس مبنيا أساسا على اختلاف رواة المعلقات، صحيح أن بعض الاختلاف بين الرواة له أثر لكن أن يُبنى عليه أحكاما قاسية فهذا مزلق خطير جدا، كنسف جهود النحويين الأوائل وعلى رأسهم سيبويه الذين أحكموا القواعد ومهدوا السبل لمن بعدهم.

وبين يديَّ كتاب أحققه اسمه: تهذيب شرح المعلقات وإعرابها لابن ناشر الوهراني، وجه اختلاف الحكم الإعرابي حين اختلاف الروايات :فمن ذلك في بيت :

 وَبَيْضَــةِ خِـدْرِ لا يُـــــرامُ خِبــاؤُها   تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهو بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ

قال :” وقوله “غيرَ مُعْجَل”: مَن نصب ” غيرَ” نصبه على الحال مِنَ الضمير في”تمتَّعتُ” وكَسَرَ الجيمَ في مُعْجِل، و من كسر “غيرَ” جعله صفةً للَّهو وفتح الجيم في مُعجَل .

 وفي بيت :

  مُهَفْهَــةٌ بَيْضَــاءُ غَيـــْرُ مُفَاضَـــــةٍ   تــَـــرَائِبُها مَصْقُولــَـــةٌ كالسَّجَنْجَــــلِ

من روى “مهفهفةٌ” رفعه بإضمار مبتدأ تقديره: هي مهفهةٌ ، ومن نصب جعله حالا أيضا من الضمير في “تمايلت”، وما جاز في “مهفهفةٌ” مثلُه يجوز في “بيضاء” و”غيرُ”

وفي بيت :

 وَيُضْحِيْ فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِها  نَؤُومَ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

من نصبَ ” نؤُومَ” نصبه بإضمار فعل تقديره: أعني نؤُومَ، ومن رفع فبإضمار مبتدأ، تقديره: هي نؤمٌ، وفي كِلا الوجهين معناه المدح  ، ومن خفض فعلى البدل من الهاء في قوله ” فراشها ”  .

وفي بيت لبيد:         أقْضِي اللُّبَانَةَ لا أُفَرِّطُ رِيْبَةً     أو أَنْ يَلُوْمَ بِحَاجَةٍ لُـوَّامُهَا    

  قوله ” لا أُفَرِّطُ ريبةً “: نصب ” ريبةً ” على المفعول مِن أجله وهو مُضافٌ إليه قام مقامَ المُضاف إليه، تقديره: لا أُفَرِّطُ مِنْ مخافةِ الريبةِ، ثُم حذف المُضافَ وأقامَ المُضاف إليه مقامه، و عطف ” أنْ يَلومَ ” على ريبةٍ.

 وحكى ابنُ كيسان أنه يُروى بنصبِ ” ريبةٍ ” ورفعِها، فمن نصب فتقديره: مخافةَ أنْ أُفْرِطَ على مذهب البصريين، وأنْ لا أُفْرِطَ على مذهب الكوفيين وهو ضعيف ، ويكون ريبةً بدلاً منْ أنْ أُفْرِطَ. ومن رفع “ريبةً ”  جعل” أنْ أُفْرِطَ ” مبتدأ وريبةً خبرَه وعطفَ ” أن ألومَ ” على قولِه ” أن أُفرطَ “.   اهـ

وفي بيت ابن كلثوم:    وَمِنَّا قَبْلَهُ السَّاعِيْ كُلَيْبٌ     فَأَيُّ المَجْدِ إلَّا قَدْ وَلِيْنَا

:” أيُّ ” تُروى في البيت بالنصب وهي رواية أبي عمرو والأصمعي، بل قال النحاس (2/656) والتبريزي ص (413):  ” الرواية عند أكثر أهل اللغة بنصب ” أي ” على أن تُنصَب بِـ” ولينا ” ا.هـ، وقال في شرح أبي سعيد وأبي جابر(ق 286): ” ووقع الفعل بِأي فنَصَبَه “،  أي هي مفعولٌ به، وأما رواية رفع” أيُّ ” معلَّلة بكون الاستثناء لايعمل فيما قبلَه وهوالذي ذهب إليه الفراء وهشام بن معاوية وأبوبكر الأنباري  وانتصر له  ابن ناشر مستفيدا من الأنصاري في تهذيبه ( ل71ب)، وفي شرح ابن الأنباري ص ( 407) توجيه جيد أنقله بكامله لنفاسته؛ قال: ” قال هشام بن معاوية: أنشد الكسائي هذا البيتَ برفعِ ” أيُّ ” بما عاد من الهاء المُضمَرة، أراد: فَأيُّ المجد إلا قد وَلَيناهُ، قال: وإنَّما أضمَر الهاء لمَّا لم يصل إلى نصبِ ” أيُّ ” بـ” ولينا “، وشبَّهه بقولهم: ماعبدُ الله إلا أضربُ، معناه: ماعبدُ الله إلا أضْربُه، ونَصْبُ عبدُ الله خطأٌ، والفراء يرفعُ ” أيًّا ” بما عاد من الهاء المُضْمَرة، ويحتجُّ بأنَّ ” أيًّ ” لها صدرُ الكلام، إذ كانت لايسبِقُها العاملُ فيها فصار الذي بعدها كالصلة، وأُضمِرَت الهاء فيه كما تُضمَرُ في الصلة، ولا يُجيزُ الفراء: ماعبدَ الله إلا أضرِبُ على إضمار الهاء، لأنَّ عبد الله لايُضمَر له في خبره الهاء، إذْ كان يكونُ قبله وبعده، ونصبُ عبد الله خطأ في قول جماعة من النحويين، لأنَّ ” إلا ” لاينصِبُ ما بعدها ماقبلها. وقال هشام [ بن معاوية ] : روى بيتَ عمرو أبوعمرو والأصمعيّ بالنصب…ولم يَعرف هشامٌ لروايتهما مذهبا، قال أبوبكر [الأنباري]ُ : والصوابُ عندي رواية الكسائي لأنَّ ” إلا ” أداةٌ مانعةٌ تمنعُ مابعدها مِن نصْبِ ماقبلَها “.

وهكذا الشأن في هذا الكتاب، فشتان بين من يجعل الرواية مستندا له وبين من يجعل الرواية سندا لنسف الرواية أصالة.

 خامسا:  هنا وقفات مع بلاشير :

الأولى :

ذكر بلاشير ص(158) اختلاف الشراح في ذكر عدد المعلقات وأصحابها، ثم ختم كلامه بـ قوله ” إن المكانة التي أفردا علماء المسلمين لمجموعة المعلقات قد أسهمت إلى حد بعيد  في تغبيش الرؤيا أمام النقد الغربي “، وكلامه هذا لا يظهر لي صلته بماسبق من اختلاف عدد المعلقات وأصحابها ، ثم لا ضير أبدا في الاعتناء بالمعلقات ولا بالمكانة التي أولاها العلماء بها، بل هذا يدل على خصوصيات رأوها فيها  .

الثانية:

قال في ص(177):” وإذا استطعنا  في بعض الحالات  تمييز الصحيح من الموضوع، ففي حالات أخرى يجب الإذعان للجهل، ويكفينا للحصول على البرهان أن ننخُل دواوين الشعراء الجاهليين الستة فتكون النتيجة كما ياتي: إن عددا قليلا من القصائد صحيح، ولكن الشك يدوم فيما يعود إلى ترتيب الأبيات وشكل كل واحد منها، أما بقية الآثار فإن الشكَّ فيها محتوم لامناص منه ” .

كلامه مضطرب وآخره يهدم أوله، فقد ذكر أنه في حالات صحت له قصائد  وبَقي شاكا في آخرى، ثم في الأخير من غير برهان ذكر نتيجةً توَهَّمَها وهي أن الشك محتوم في غير القصائد التي صحت عنده، و لا ندري كيف نَخَل القصائد وبأي غربال غربلها؟

7 قال بلاشير ص(189-190): ” إن من أكثر القضايا خطورةً قضية التدوين، فكيفَ تصرَّف علماء العراق أمام الأشكال المتعددة التي اتخذتها القصيدة سواء عند تشوئها أو أثناء تنقلها الشفهي؟  لقد تصرَّفوا أحيانا كما تصرَّف socin، فهو عندما تهيَّبوا الاختيار اكتَفَوا برصف النصوص المتعددة إلى جانب بعضها دون محاولة دمجها في نص واحد، وفي الوضع الحالي لجمع الوثائق فإن وجودَ الجمع المتقابل ليس معروفا لدينا إلا بمقارنة عدةَ مصادر .

  وإن هذه الاختلافات في الشكل تمسُّ عدد الأبيات، كما أن َّ هذه الظاهرة ناتجة أحيانا عن بقاء الأثر في المجموعات الشعرية، وتمسُّ هذه الاختلافات أحيانا أخرى ترتيب الأبيات، فكلُّ واحدٍ منها يُشكل كلا يمكن تغيير ترتيبه دون أن يمسًّ بالمعنى، ولكن المدهش هو تعدد الروايات واتساعها داخل كل بيت، و لاريب في أنها ناشئة عن ضعف الذاكرة أثناء الرواية الشفهية، وأن عددا قليلا منها ناشئ عن عدم اكتمال طريقة الكتابة أو عن استبدالات في المترادفات. ومامن شيئ يُجيزُ لنا التأكيد بأن هذه الفروق الجزئية ليست قديمة ولا تصعد إلى ظهور الأثر نفسه………ثم يقول : والخلاصة فإن القصائد التي توجِبُ الشَّكَّ أكثر هي التي ربَّما لاتعكِسُ بأمانةٍ الشَّكلَ المتعدد للقصيدة الجاهلية منذ نشأتِها، وهي تظهرُ لنا في إحصاءات غيرُ متميزةٍ “.

كما نرى فإن بلاشير يرى اختلاف القصائد الجاهلية في ترتيب الأبيات أو اختلافهم في البيت في ألفاظه مرده إلى ضعف الذاكرة الشفهية، وهذه شبهة نولدكه التي سبق ذكرها، وتفنيدها بأمرين :

أحدهما: أنَّ الراوي قد يعمد إلى البيت نطق به الشاعرُ على لغته فيُغيِّرُ منه الكلمة إلى ما يُوافقُ لغتَه.

ثانيهما: أنَّ الراوي قد تسقُطُ منه الكلمة على وجه النسيان فيجتهد لأن يضعَ مكانَها كلمةً تُؤَدي معناها أو تُقاربُها، وما كانوا يرون في هذا من بأس مادام الغرض الذي يرمي إليه الشعرُ قائما.

ومن المحتَمَل أن يكونَ الشاعرُ نفسُه قد أنشَد البيتَ على وجهين أو وجوه في أوقات مختلفة، فقد يبدو له أنَّ كلمةً أليَق من كلمة أو تسقُط من حافظَته الكلمة التي أنشأ عليها القصيدةَ أولا ” ا هـ

وإضافةً إلى هذين الأمرين فإن اتفاق الرواة على الشكل العام للقصيدة يدل على قوة الذاكرة خصوصا وهم جماعة كثر، وإن شئنا أن نقول هي رواية متواترة رواها جيل عن جيل وإن ضعفت في زمن حماد الراوية .

نتائج البحث:

1تبين أن الشراح الأوائل حرروا اختلاف الرواة سواء من ناحية  نسبة البيت أو ضبط الكلمة   

2تبين شدة اعتناء ابن كيسان بتحرير ضبط الكلمات في شرحه لديوان زهير، وأنه في هذا الشرح لم يشر إلى اختلاف آخر.

3 اتفق الرواة على تقديم امرئ القيس.

4تبين وظهر صحة ترتيب النحاس في نسخة رئيس الكتاب وكيفية توجيه ماوقع في نسخة الأدفوي

5لم يجعل الشراح اختلاف الرواة سببا للشك في النص، بل جعلوا النص هو الأصل الذي يستندون إليه. 6تبين تحامل نولدكه الشديد من أجل بيان عدم صحة الشعر الجاهلي

7 تبين أن الرواية الشفهية قوية وأن الاختلاف بين الرواة لايعكس ضعف الذاكرة

9 بينتُ أن الروايات المختلفة مآلها إما الجمع ـ بمعنى إعمال جميع الروايات دون إهمالها ـ  أو الترجيح .

أهم المراجع :

تاريخ الأدب العربي، الرافعي، مؤسسة هنداوي، دت، دط.

تاريخ الأدب العربي الجاهلي، بلاشير، دار الفكر دت، دط .

تاريخ الأدب العربي، (العصر الجاهلي)، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الحادية عشرة.

 تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين، جامعة محمد بن سعود، السعودية ،1411 هـ /1991.

 تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن.لابن أبي الإصبع المصري، تحقيق: حنفي محمد شرف، الجمهورية العربية المتحدة، لجنة إحياء التراث، دت، دط، 

تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، تحقيق: السَّيد الشرقاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى ،1407هـ/1987م

  جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، تحقيق: علي محمد البجاوي، نهضة مصر، دت، د.ط.   

حدق المقلتين في شرح بيتي الرقمتين ص (51) لأحمد بن محمد البجائي، تحقيق: ناصرالدين بن رميدة، دار لمسة، الطبعة الأولى، الجزائر ،2018م

 الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه ص (179-184) ليحي الجبوري، ، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الخامسة،1407هـ/1986.

  الشعر والشعراء، ابن قتيبة نحقيق: أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، دت، د.ط .

فتح المغلقات لأبيات السَّبع المعلَّقات : الفاكهي،تحقيق:جابر بن بشير المحمدي، الطبعة الأولى، الجامعة الإسلامية، السعودية، 1421هـ/2010م.

المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين بن الأثير، تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار نهضة مصر، القاهرة.

مصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد  .

معجم الأدباء، ياقوت الحموي،تحقيق:إحسان عباس، دارالغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى،1993

 معلقات العرب،  لبدوي طبانة، دراسة نقدية تاريخية في عيون الشعر الجاهلي، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1378هـ/1958م .

 المفصل في تاريخ العرب، لجواد علي، دار الساقي ، الطبعة الرابعة

 المنثور والمنظوم، أبو الفضل تحقيق: محسن غياض، منشورات عويدات، بيروت،الطبعة الأولى،1977هـ.

المنصف للسارق والمسروق، ابن وكيع التنسي، تحقيق: عمر خليفة بن إدريس، جامعة قات يونس، بن غازي، الطبعة الأولى، 1994م.

المخطوطات:

  • تهذيب شرح السبع المعلقات وإعرابها، ابن ناشر الوهراني، نسخة ببمكتبة الدولة بألمانيا تحت رقم:1864  .  
  • السبع الطوال بغريبها، الجواليقي، المكتبة الوطنية الفرنسية، تحت رقم :3279
  • شرح المعلقات السبع، لأبي سعيد وأبي جابر، المكتبة الوطنية الفرنسية، تحت رقم   :3280.
  • شرح المعلقات، النحاس، بالمكتبة السليمانية -نسخة رئيس الكتاب -تحت رقم: 848
  • شرح ديوان زهير بن أبي سُلمى: ابن كيسان، مكتبة نور عثمانية بتركيا  تحت رقم:3968
  • نظم التفسير بالبيان الواضح الخبر لأبي أسامة جُنادة الهروي، المتحف البريطاني، تحت رقم(6638)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *