الباحث / عادل غرار

 جامعة مولاي إسماعيل بكناس – المغرب

 adilghrar@gmail.com

  619719222 212 +        

أ.د.محمد ناجي، جامعة مولاي

 جامعة مولاي إسماعيل بكناس – المغرب

naji.casablanca@gmail.com

الملخص:

يروم هذا المقال معالجة قضية مهمة في مجال البحث وتكامل المعارف بين العلوم  كتابة وفهما وتأويلا؛ حيث سأشتغل على تجليات القياس المنطقي، وامتداداته في البناء الحجاجي في كتابات المتكلمين العرب ، وذلك من خلال التركيز على عمل من أعمال أحد أعلام البلاغة والأدب العربي: كتاب “البخلاء” للجاحظ.

وبناء على ذلك؛ فإنني سأعمل في هذا المقال على التعريف  بمفهوم القياس من وجهة نظر منطقية صورية، مع التفريق بينه وبين القياس عند غير المناطقة، والانتقال إلى الكشف عن علاقة القياس عندهم بالقياس عند البلاغيين، مع بيان الكيفية التي استثمر بها الجاحظ القياس المنطقي في استدلالاته بكتابه الموسوم بـ”البخلاء”.

ويكون الإشكال الرئيس الذي سأركز عليه في هذا المقال: هو ما تطرحه البنيات الحجاجية القائمة على القياس من منزلقات حال الاستدلال بها، وخاصة عندما تَلْبِسُ هذه الأقيسة ثيابا استعارية قائمة على نوع من المشابهة أو المناسبة المتخيلة.

ومن أجل مقاربة الإشكالية السابقة؛ فإنني سأنطلق من فرضية مفادها أن الاستعارات المعتمدة في كتاب “البخلاء” للجاحظ، قد تأثرت بالروافد التي غذت علم الجدل عند المتكلمين المعتزلة، ومن جملتها منطلقات علم المنطق الصوري التي مثلها القياس.

وأما بالنسبة للمنهج الذي سأعتمده في هذه الدراسة؛ فهو منهج استقرائي أنتقل فيه من الخاص إلى العام، ومن التفاصيل إلى الإجمال، وذلك عن طريق تتبع الصورة التي حضرت بها الاستعارة في باب أقسام الحجة عند المناطقة، ثم الانتقال بعد ذلك إلى الكشف عن تجلياتها في البناء الحجاجي بـكتاب “البخلاء” للجاحظ، والدور الذي لعبته تلك الاستعارات في ترسيخ منهج  المتكلمين في الاستدلال والحجاج القائم على القياس.

ويكون الموضوع الأساس من هذا البحث هو: الكشف عن الدور الذي لعبه المنطق في تطوير الآليات الحجاجية عند بعض البلاغيين، باستثمار الاستعارة في مجال الإبداع الأدبي، ومظاهر حضور النِّحَلِ العقائدية من خلال نموذج الجاحظ في الكتابة التراثية؛ حيث تتلخص أهداف هذه الورقة فيما يلي:

            الوقوف على علاقة الاستعارة بأقسام الحجة عند المناطقة؛

            إبراز  العلاقة بين القياس المنطقي والبناء الحجاجي الاستعاري؛

            الكشف عن تجليات القياس في الممارسة الإبداعية عند الجاحظ؛

وحتى أحقق الأهداف السالفة الذكر، فإنني سأسعى للإجابة عن الأسئلة التالية:

            ما الصورة التي حضرت من خلالها الاستعارة عند المناطقة؟ وما علاقتها بأقسام الحجة عندهم؟

            وما الكيفية التي عمل من خلالها الجاحظ على استثمار القياس المنطقي بكتاب “البخلاء” ؟

الكلمات المفاتيح: القياس المنطقي –  الاستعارة – علم المنطق – علم الكلام  – الحجة – الاستدلال.

 

The effect of syllogisms in the discourse of the speakers: metaphor in al-Jahiz’s book al-Bakhla’ from a linguistic

and epistemological perspective

Researcher/Adel Gharar

Prof. Dr. Mohamed Nagy

Moulay Ismail University, Knes, Morocco

Abstract:

This article aims to address an important issue in research and knowledge integration of science, writing, understanding and interpreting; As I will work on the manifestations of logical measurement, and its extensions in the argumentative structure in the writings of the Arab speakers, by focusing on one of the works of one of the notables of rhetoric and Arabic literature: the book “The Misers” by (Al-Jahed).

Accordingly, In this article, I will work on defining the concept of measurement from a logical, formal point of view, with the distinction between it and the measurement by non logicians, and the transition to the disclosure of the relationship of measurement according to the rhetoricians, with an explanation of how (Al-Jahed) invested the logical measurement in His inferences are in his book named, “The Misers”.

The main problem that I will focus on in this article is what the argumentative structures pose based on the measurement when it is inferred, especially when these measures are dressed as metaphorical clothes based on a kind of similarity or an imaginary occasion.

As for the approach that I will adopt in this study; It is an inductive approach in which I move from the private to the general, and from the details to the general, by following the image in which the metaphor was present in the door of sections of argument at the logicians, and then the transition to the disclosure of its manifestations in the argumentative construction in the book “The Misers” by (Al-Jahid), And the role played by these metaphors in the fixation of the approach of the speakers in inference and the pilgrims based on the measurement.

The main topic of this research is: revealing the role that logic has played in the development of argumentative mechanisms for some rhetoricians, with the investment of metaphors in the field of literary creativity, and the manifestations of the presence of dogmatical believers through (Al-Jahed) model in heritage writing; The objectives of this paper are as follows:

            The standing on The relationship of metaphor with the divisions of the argument at the logicians.

            Highlight the relationship between the logical measurement and metaphor argumentative structure.

            Detection of measurement manifestations in the creative practice of (Al-Jahed).

To achieve the above-mentioned goals, I will seek to answer the following questions:

            What is the image in which the metaphor was attended by the logicians? And What is its relationship to the sections of the argument they have?

            And how did (Al-Jahed) invest the logical measurement in the book “The Misers”?

Keywords: Logical measurement – metaphor – logic – the science of speech – argument – inference.

 

تقديم:

لقد شكل علم الكلام والجدل في الثقافة العربية علامة بارزة دالة على ذلك التلاقح الثقافي بين الفكر الإسلامي من جهة، والفلسفة الغربية اليونانية من جهة أخرى، الشيء أسفر عن بروز حركات فكرية تستثمر مبادئ علم المنطق في عمليات الاحتجاج المنطقي، ولتصطبغ الصور البلاغية نفسها بهذا الطابع، وليَعْتَبِر أغلب الدارسين والباحثين في علوم البلاغة قديما وحديثة المعتزلة فرسانا لعلم الكلام.  فكيف اجتمع في الواحد منهم علوم ظاهرها التباين كالبلاغة والجدل على غرار أبي عثمان الجاحظ؟

لقد شكل “أبو عثمان الجاحظ” أنموذجا بينا للأديب البليغ الذي استطاع بفصاحته وحذق صنعته من توظيف آليات حجاجية بصبغة أدبية بلاغية، وفي الوقت ذاته لم يُفْقد النصوص الأدبية التي أبدع فيها جماليتها التي تميزها عن نظيراتها من الأجناس الأدبية، وكذا باقي النصوص والخطابات ذات الطبيعة التقريرية، وهو ما جعل من الجاحظ أيقونة من أيقونات الأدب العربي، ومَحطَّ العديد من الدراسات العربية والغربية على مر العصور والأزمان، لكون شخصيته ومسيرته جمعت فنونا ودروبا من الإبداع التي شدَّت إليها الباحثين كل بحسب تخصصه ومجال اشتغاله.

وفي هذا المقال؛ سأعمل على مقاربة شخصية الجاحظ من خلال منطلقين متداخلين:

المدخل الأول: شكلته روافده الفكرية والعقدية في علاقتها بعلمي المنطق والجدل الذي تشربته شخصية المعتزلي؛ تبعا لأصول نحلته العقدية التي تقدم العقل على النقل حال التعارض؛

المدخل الثاني: مثلته شخصيته المبدعة في علوم البلاغة والأدب؛

وتبعا للمدخلين المشار إليهما أعلاه؛ فإنني سأعمل على العودة إلى المؤثرات التي ساهمت في تشكل بعض أنواع الصور البلاغية في كتابات “أبي عثمان الجاحظ”، ولكون هذه المؤثرات تتسم بالتعدد والتنوع، فإنني سأركز على القياس المنطقي في علاقته بمفهوم الاستعارة، بحسب التصور الذي سطره “أرسطو طاليس في “فن الخطابة” المتصلة بعلم الجدل أصالة، وما تمت الإشارة إليه في “فن الشعر” ارتباطا بالوظيفة الجمالية. مركزا في كل ذلك على البعد الحجاجي للاستعارة في علاقتها بأقسام الحجة عند المناطقة، والوظائف التي تؤديها حال الاستدلال.

وحتى لا أتيه في دهاليز علم المنطق وأبوابه المختلفة بوصفها مدخلا لفهم عقلية المعتزلي الأديب؛ سأحاول الانطلاق مما سطره المناطقة حول القياس المنطقي فيما يتعلق بالاستعارة والحجاج، وتتبع الشروط والقيود التي وضعت لها عندهم، ثم أنتقل إلى بعض مظاهر توظيف المتكلمين المعتزلة لذلك حال الاستدلال لمعتقداتهم وأفكارهم، وخاصة في مجال الأسماء والصفات، وبعض امتدادات ذلك في علم الأدب.

ولكون محط الدراسة هو الجاحظ نفسه، فإن ما تقدم سيكون بمثابة أرضية نفهم من خلالها فكر المعتزلي على وجه العموم، والمعتزلي الأديب الذي يمثله على وجه الخصوص “أبو عثمان الجاحظ”، وذلك من خلال التركيز على أحد مؤلفاته البارزة في سماء الأدب العربي، ألا وهو كتاب “البخلاء”، الذي جمع بين جملة خصائص من شأنها الجمع بين متعتي الإقناع والإبداع في الوقت نفسه.

هكذا فإن صفحات هذا المقال ستحفل بالجاحظ بوصفه علما ترك بصمات بارزة في الأدب العربي القديم وعلوم البلاغة بمفهومها التقليدي؛ حيث افْتَرَع في كل منهما العديد من المفاهيم والتقنيات، وحاز بذلك قصب السبق في كليهما، كما أنه جسد ذلك الانفتاح على ثقافة الغير، بل وتعدى ذلك إلى استيعابها واستثمارها في أعماله الأدبية وحياته الفكرية والعقدية. وهو ما سنحاول الكشف عنه من خلال بيان الخيوط التي تربط بين القياس المنطقي والاستعارة من جهة، وبين حضور هذه الاستعارات ذات البعد المنطقي في كتاب “البخلاء” للجاحظ.

1 – القياس المنطقي والاستعارة عند المناطقة:

لعب مفهوم القياس دورا مهما في تطوير الكثير من العلوم والميادين الفكرية عند العرب، وقد كان للبلاغة والأدب العربيين نصيبهما وحظهما من ذلك، فلم يعد القياس ممارسة منطقية وفقهية فقط، بل تحول إلى أداة للإبداع والحجاج أيضا، وهو ما جسدته الحركة الكلامية المعتزلية في الأدب العربي؛ حيث كان نسقهم الفكري والإبداعي يتساوقان إلى حد التماهي، يعضض أحدهما الآخر، وهو ما سنحاول طرقه من خلال الكشف عن روابط القياس بمفهوم الاستعارة عند المناطقة، ثم الانتقال إلى تلمس ذلك من خلال إحدى كتابات “أبي عثمان الجاحظ” الموسوم بكتاب”البخلاء”.

1 – 1 ) القياس المنطقي في التصور الأرسطي:

تمهيدا للدخول إلى موضوع الاستعارة وتحديد كيفية تشكل بنيتها، تطرق أرسطو إلى هذه القضية في علاقتها باللغة الشعرية، منطلقا في ذلك من الاسم والكلمة المفردة بوصفهما أساسا لبناء الاستعارات، مفرقا بين البلاغة من حيث كونها آلية تستهدف الإقناع موضوعها الخطابة متصلة بنظرية الحجاج والمنطق البرهاني، وبين كونها محاكاة للأفعال الإنسانية النبيلة في فن الشعر بهدف إحداث تطهير داخل النفوس البشرية.

من هنا؛ نجد الاستعارة حاضرة بقوة في كتابي أرسطو الشهيرين: كتاب “فن الشعر” وكتاب “الخطاب”، وتجلى ذلك بوضوح في انطلاق أرسطو للتأسيس لبناء الاستعارات من خلال تحديد طبيعة الأسماء ، والتي فصَّل في خطائصها من حيث الشيوع والذيوع، أو من حيث كونها أجنبية عن لغة القوم التي يستعملونها، وهو ما يحدث نتيجة الاقتراض من لغات أجنبية أخرى. دون أن يغفل أرسطو تناول الكلمات المجازية المستعملة نتيجة التحول، وهو ما عبرت عنه  العرب فيما بعد بالنقل، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الأسماء الخارجة عن موضوع بحثنا.

لكن بالتركيز على الاسم المجازي بحسب تصور أرسطو، فهو إعطاء اسم يدل على شيء إلى شيء آخر، معتمدا في ذلك على التحويل، وهذ التحويل قد يكون من جنس إلى نوع، أو من نوع إلى جنس، أو من نوع إلى نوع آخر، أو بالاعتماد على القياس.

وقد ضرب أرسطو لهذه الأنواع من التحويلات أمثلة:

التحويل من الجنس إلى النوع: كقولنا:” هنا تقف سفينتي”، لكون الرسو في الميناء هو ضرب معين من الوقوف.

التحويل من النوع إلى الجنس: كأن يُقال: “لا ريب أنّ أودسيوس قد قام بفعل عشرة ألف عمل نبيل”، لأن ((عشرة آلاف)) جنس من عدد ضخم، وقد استعمل للدلالة على عدد ضخم عموما.

التحويل من النوع إلى النوع: مثل قولنا : “فَلْيَسْتَلَّ حياته بسيف من البرنز وليقطعهُ بالسيف البرنزي الصارم”، فهنا استعملت كلمة (( يستل)) وكلمة ((يقطع)) متبادلتين، وكل منهما نوع لمعنى الانتزاع.

التحويل عن طريق القياس: وهو عندما تكون أربعة حدود “أ” و “ب” و”ج” و”د” بينها ترابط، وعلاقة الحد الثاني بالأول، كعلاقة الحد الرابع بالثالث، ونتيجة لهذه العلاقة يمكننا القياس ونقلها مكان بعضها على سبيل المجاز بصيغة ” د + أ”، لأن “ب” بالنسبة لـ “أ”، كـ “د” بالنسبة لـ”ج”، فسهل علينا ربط علاقة بين الحد الرابع “د” والأول “أ”.

ولتوضيح هذا التحويل المجازي القائم على استعارة ونقل صفة من مركب إلى آخر عن طريق القياس وفق ما تم تحديده سابقا؛ يعمل أرسطو على إعطاء مثال أكثر تجسيدا للعلاقات المجردة السابقة من خلال المثال التالي: العشية (ب) بالنسبة للنهار(أ)، هي كالشيخوخة (د) بالنسبة للحياة (ج)، وعلى ذلك يمكن تسمية العشية (ب) بشيخوخة النهــــــــــــــــار (د + أ)، وتسمى الشيخوخة (د) عشية الحياة (ب + ج)، وهو ما عبر عنه لمبدوكليس بــ:”مَغْربُ الحياةِ”.(أرسطو طاليس، 1989، ص187).

وإذا كانت الاستعارة حسب أرسطو مندرجة ضمن آليات الحجاج التي تستفيد منها جل الخطابات البشرية، فإنها في الوقت ذاته تتضمن نوعا من المخاطرة حال اللجوء إليها، وقد ناقش أرسطو ذلك عند التطرق لبنية الاستعارة في علاقتها باللغة والأسلوب ، مؤكدا أن اللغة تصبح متميزة وبعيدة عن الركاكة عند استخدام الكلمات غير المُشَاعَةِ كالغريبة أو النادرة أو المجازية، لكن اللغة التي تتألف من مثل هذه الكلمات على سبيل الإطلاق، وتعتمد عليها بالكلية تكون مُلْغِزَةً أو مُبْهَمَةً، وهذا الإلغاز حسب أرسطو لا يمكن أن يتسرب للكلام من خلال المسميات الاعتيادية للأشياء، ولكنه يحدث نتيجة التركيز والإكثار من استعمال البدائل المجازية، لذا حصر مقصده باللغة الملغزة في الكلام المؤلف من المجازات والاستعارات، مفرقا بين الإلغاز والرطانة، في كون الرطانة ترتبط باستعمال الكلمات النادرة.

ومن خلال هذا التصور لبنية الاستعارة حسب أرسطو؛ نستنتج أن الاستعارة عنده تقتصر على الاسم فقط، ولا تتجاوزه إلى الجملة والخطاب، لكونها تحويل في الكلمات، وليست نتاج لبنيات مركبة. ليسيطر هذا التصور الأرسطي على البلاغة الغربية لعقود وقرون طويلة، بل وانحصرت مجهودات الكثيرين في تصنيف المحسنات البلاغية وفق هذا التوجه الأرسطي، وهو ما انعكس سلبا على البلاغة الغربية. كما يمكننا أن نستشف من النماذج المقدمة للتصور الأرسطي للاستعارة أنها تحدد بنيتها الدلالية مفاهيم قائمة على الحركة في المكان، فالاستعارة نقل لكلمة من مكانها الأصلي إلى مكان آخر بالتركيب، فهي تغيير بصفة عامة، بغض النظر عن طبيعة العلاقة التي يقوم عليها النقل.(عبد العزيز لحويدق، 2015، ص13).

وبالتركيز على صور بناء التعابير المجازية والاستعارية السابقة؛ لابد من التنبه إلى كون القياس المشار إليه  بوصفه بنية استعارية يختلف عن القياس الاستنباطي العلمي، والذي نجد أنفسنا فيه أمام عبارات من قبيل:

إذا كان أ = ب

وكان ب = ج

فإن  ج = أ

وهو قياس يقوم على الانطلاق من مقدمة كبرى، ثم تليه مقدمة صغرى، ثم نمر إلى الاستنتاج، والذي يمثل له عادة بالقياس المشهور:

كل إنسان فانٍ

سُقراط إنسان

إذن: سُقراط فانٍ

فيكون القياس السابق تعبيراً عما هو صادق ضرورة، لكن قد يلتحق بالتعبير السابق ما ليس صادقا بالضرورة، بل ما يكون مجرد احتمال أو مقبول ومسلم به عند عامة الناس كما هو في المثال التالي:

نَفَسُ سقراط قصير

إذن فهو محموم

فهنا يحدث إضمار في مستويين: في الأول نستنبط من كون (نَفَسُ سقراط قصير) أنه محموم، وهو مجرد احتمال. وفي المستوى الثاني نلاحظ إضمار أقولا لم يتم التصريح بها كالخروج بتعميم ربط قصر النفس عند عموم الناس بالحمة، وهو يستدعي منا استرجاع الأجزاء المحذوفة، فيحضر القياس في صورة المقدمات، وشكله التام رغم كونه مجرد احتمال:

كل إنسان محموم قصير النَّفَسِ

سقراط قصير النَّفَسِ

سقراط محموم

وهنا نلاحظ أن بنية القياس الذي يندرج ضمن البرهان المنطقي أو الاستنباط العلمي ينطلق من فكرة عامة ليست موضع نقاش لتبرير فكرة خاصة، لكننا في بنية الاستعارات نكون بصدد إدراج الشاهد والقيام بنوع من المقارنة، فنتجنب علاقة الجزء بالكل، وعلاقة الكل بالجزء، ، وكذا علاقة الكل بالكل، وإنما تنشأ البنية نتيجة لعلاقة جزء بجزء، وعلاقة شبيه بشبيه، لأننا نبني خطابنا على قضيتين أحدهما أشهر من الأخرى. وهو استشهاد يستحضر فيه أرسطو مظاهر التشابه بين القضايا والوقائع، كما في تأكيده أن “دِيونيسيو” إذا كان يسعى إلى اتخاذ حرس شخصي، فإنما يسعى بذلك للتسلط، لأنّ ذلك ما فعله قبله “بيسيستراتو” الذي كان يميل كثيرا للتسلط، وقد اتّخذ حرسا، والأمر نفسه حدث مع “تاجنيس”. وهذا الاستشهاد من أرسطو يقوم على التركيز على مظاهر التشابه، ولكنه ليس قطعيا بالضرورة، فهو لا ينطلق من فكرة عامة مسلم بها عند عموم الناس، كما هو الشأن في القياس الاستنباطي، لكونه مجرد استقراء لوقائع بينها نوع من التشابه، فنستدل ببعضها على البعض الآخر. ليؤكد “محمد الولي”  في هذا الصدد أن هذه النماذج الاستدلالية السالفة الذكر والتحديد للشواهد المشار إليها، هي نفسها ما يستند إليه أرسطو في تعبيره عن الاستعارة في الشعرية،(محمد الولي، 2022، ص 60) وبالتي فإن بنية الاستعارة عند أرسطو تتداخل معها بنية الشاهد والمقارنة عنده.

وعموما؛ فإن التصور الذي يقدمه لنا أرسطو حول كيفية بناء الاستعارات في المنطق يجعل منها عملية نقل مطلقا، لذا فهي كل أشكال النقل، وليست  قائمة بالضرورة على التشابه،  (H. Conrad, Mauris Lavergne, 1934, P 9)كما أنها ليست نوعا من القياس والتناسب بين شيئين فقط.

وهذا التوسع في الاستعارة وإداراج  أنواع أخرى فيها؛ جعل التصور الذي قدمه أرسطو عن الاستعارة محل نقاش وانتقاد من قبل جملة من الفلاسفة والمناطقة والبلاغيين الغربيين وغيرهم، وهو ما جسده بشدة “جاك دريدا : Jaques DERRIDA “من الغربيين؛ (Jaques DERRIDA, 1972, P 275 – 276) حيث تم وصف ما قدمه أرسطو بعدم الدق في التحديد، لكن ما يحسب له هو ذلك الربط بين الاستعارة والبناء المنطقي للخطاب من جهة، وما تؤديه من وظائف ارتباطا بالخطابة أو الشعر من جهة أخرى.

لكن ما يهمنا في هذا المقال هو بيان طبيعة العلاقة التي تربط بين القياس والاستعارة في باب الحجاج عند المتكلمين، لذا سأعمل على تناول الصورة التي حضرت من خلالها الاستعارة بوصفها قسما من أقسام الحجة عندهم، ثم أنتقل لسرد مواقف المتكلمين في القياس، قبل رصد مظاهره في مواطن من كتاب “البخلاء”.

1 – 2) الاستعارة وأقسام الحجة عند المناطقة:

قبل الشروع في بيان أقسام الحجة عند علماء المنطق، ثم الانتقال إلى الكشف عن العلاقة التي تربطها بالاستعارة؛ ينبغي لنا معرفة المقصود بالحجة عند المناطقة بإيجاز، مع التفريق بينها وبين ما يقاربها في المعنى عندهم.

يُعَرِّف الغزالي الحجة في “معيار العلم” حال تطرقه لصور القياس بقوله: “والحجة: هي التي يؤتى بها في إثبات ما تمس الحاجة إلى إثباته من العلوم التصديقية؛ وهي ثلاثة أقسام: قياس واستقراء وتمثيل”.(أبي حامد الغزالي، 1990، ص 111). ليكون الغزالي قد جمع في هذا السياق بين التعريف بالحد، والتعريف بالأقسام من أجل التوضيح، إلا أن ما ذكره من التقسيم للحجة ليس محل اتفاق بين المناطقة، لكون الحجة تختلف عن الاستدلال من حيث كونها أعمّ منه، ولكونه يندرج تحتها، على غرار الاستدلال بالكلي على الجزئي في القياس المنطقي:

النبيذ مسكر

كل مسكر خمر

الخمر حرام

بعد التعرف على  المقصود  بالحجة إجمالا من وجهة نظر المناطقة، نحتاج إلى معرفة موقع القياس والاستعارة منها، وبالتالي الكشف عن الخيط الرابط بينهما؛ حيث  نجد المناطقة يقسمون الحجة عموما إلى قسمين كبيرين، وهما: الحجج النقلية في مقابل الحجج العقلية، ثم يفرعون عن الحجة العقلية خمسة أقسام، وهو ما يُجمله الأخضري بقوله في السلم المنورق: (عبد الرحمن الأخضري”، السلم، ص 117).

وَحُجَّةٌ نَقْلِيَّةٌ عَقْلِيّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه          أَقْسَامُ هَذِي خَمْسَةٌ جَلِيّـــــــــــــــــه

خَطَابَةٌ وَشِعْرٌ وَبُرْهَانٌ جَدَلْ        وَخَامِسٌ سَفْسَطَةٌ نِلْـــــــــــــــــــــتَ الأَمَلْ

قاصدا بذلك أن الحجة بالنسبة للمناطقة لا تخرج عن النقل أو العقل، والحجة النقلية هي التي تتألف من مقدمات من الكتاب أو السنة أو الإجماع تصريحا أو استنباطا، أو كانت إحدى مقدماتها من ضمن ما سبق. في حين أن الحجة العقلية هي التي لم تستند في بنائها إلى شيء من ذلك.

والحجج العقلية كما سلف ذكره عند الأخضري؛ تنقسم إلى خمسة أقسام: الخطابة والشعر والبرهان والجدل والسفسطة؛ وإنما تنوعت الحجة العقلية إلى ذلك بالنظر إلى المراد منها، وطبيعة القضايا التي تتألف منها.(محمد محفوظ بن الشيخ فحف ، 2001، ص 197)

وفيما يلي تعريف بكل قسم من أقسام الحجة العقلية، ثم بيان ما يتصل منها بالاستعارة:

الخطابة: هي ما تألف عند المناطقة من مقدمات مقبولة، وهي قضايا نأخذها مِمّنْ يُعتقد فيهم الصدق، أو من مقدمات مظنونة: هذا يَتَجَوّل بالسلاح ليلا، وكل من يتجول بالسلاح ليلا فهو لص، فهذا لص. والغرض من الحجة الخطابية ترغيب المستمع فيما ينفعه وتنفيره مما يضر به.

الشعر: وهي حجة تتألف عند علماء المنطق من مقدمات متخيلة لترغيب السامع في شيء أو تنفيره منه مثل: الخمر ياقوتة سيالة، والعسل مرة مهوعة، والغرض من الشعر التأثير في النفس.

الجدل: وهو ما كان مؤلفا من مقدمات مشهورة عند المناطقة، وهي ما يعترف به الجمهور لأسباب مختلفة: المصلحة العامة؛ التعاطف؛ الحَمِيَّة والانتماء القبلي ومن أمثلته: هذا ظُلْم، وكل ظُلْم قبيح، فهذا قبيح، أو هذا اللباس يظهر عورة الشخص، وكل ما يكشف العورة مذموم، فهذا مذموم. والغرض من الجدل إما إقناع قاصر عن البرهان أو إلزام الخصم أو دَفْعه.

البرهان: وهو ما يفيد العلم اليقيني، لكونه مبني على مقدمات يقينية، وهي سبع أشياء: الأوليات (المسلمات)؛ المشاهدات؛ المجرَّبات؛ المتواترات؛ الحدسيات؛ المحسوسات.

السفسطة: وهي كل حجة عند المناطقة تألفت من مقدمات شبيهة بالحق، وتنطلق عند البعض من مغالطات، أو مقدمات مشهورة – المُشَاغَبَات – ، أو من مقدمات وهمية مثالها: تقول لفرس في صورة على الحائط: هذا فرس، وكل فرس صَهَّال، فهذا صَهَّال، أو نقول عن شخص يَخْبِطُ في العلم: هذا يُكَلِّم الناس بألفاظ العلماء، وكل من يُكَلِّم الناس بألفاظ العلماء فهو عالم، فهذا عالم، ومن أمثلة السفسطة كذلك: هذا ميت، وكل ميت جماد، فهذا جماد .(عبد الرحمن الأخضري”، السلم، ص 117- 118).

وبعد معرفة المقصود بأقسام الحجة عند المناطقة، والفرق بينها من خلال التعريف بها وبيان مادتها مع التمثيل؛ نلاحظ حضور نوعين من الحجج العقلية التي سبق لنا أن تناولناها عند أرسطو سابقا، وكانت محورا لكتابين يعكسان مشروعين من المشاريع الضخمة في تاريخ العلوم البشرية، وهما: “الخطابة” و”الشعر”، ليتضح لنا ارتباط فن الشعر وفن الخطابة بالمنطق والحجاج من جهة ، واتصال أقسام الحجة بالاستعارة من جهة أخر.

فمن خلال التفصيل السابق في أقسام الحجة؛ تبين لنا انقسام الحجة – على وجه العموم – إلى حجة نقلية تنحصر في القياس، وحجة عقلية اشتملت على جملة من الحجج من بينها الشعر والخطابة، وبالتالي فإن حضور الاستعارة في بناء هذا النوع من الحجج أصبح مشروعا وفي الوقت نفسه مبررا، وذلك لربط ها عند المناطقة في مؤلفاتهم في علم المنطق وفي غيرها  كــ”الشعر” و”الخطابة” بوظائف محددة في كل منهما.

وتقدمت معنا – سلفا في هذه الورقة – كون أرسطو هو أول من حدد الاستعارة في الفكر البلاغي الغربي، وظل تصوره للاستعارة مسيطرا لقرون طويلة على المصنفات الغربية التي اختزلت الاستعارة والبلاغة  في جزء منها فقط ؛ حيث انقسم اشتغاله عليها بين مجالين ظاهرهما الاختلاف:

البلاغة التي تتخذ من الخطابة موضوعا لها، وتجعل منه وسيلة تستهدف الإقناع، متضمنة بذلك نظرية الحجاج في اتصال مباشر بالمنطق، ونظرية العبارة، ونظرية تركيب الخطاب؛

الشعر الذي يستهدف محاكاة الأفعال الإنسانية النبيلة، والسبب في ذلك ما يسعى إليه الشعر من التطهير للنفوس البشرية؛(عبد العزيز لحويدق، 2015، ص 9 – 10).

إذن؛ على الرغم من كون أرسطو قد تناول الاستعارة في مجالين ظاهرهما الأدب والفن؛ إلا أن ذلك لم يمنع من وجود روابط وامتدادات في علم المنطق، وهو ما تجسده أقسام الحجج العقلية، والتي تقوم على ما يسمى بالمخيلات – بحسب ما سماه الغزالي – ، والتي تعمل على تشبيه الشيء بشيء مستقبح أو مستحسن، لمشاركته في وصف، ليس هو بالضرورة سبب القبح أو الحسن، وهو ما يجعل النفس تميل إلى قبوله أو رفضه. ليصرح الغزالي بذلك قائلا: “وهي المقدمات الشعرية التي ذكرناها، فلا ترى عاقلا ينفك عن التأثر به، حتى إن المرأة التي يخطبها الرجل إذا ذُكِرَ أن اسمها اسم بعض الهنود، أو السودان المستقبحين، نفر الطبع عنها لقبح الاسم، فَيُقَاوِم هذا الخيال الجمال ويورث محبة ما”.(أبو حامد، 1990، ص191).

وهذا التأثير الذي تقوم به الاستعارات في هذا النوع من الحجج الشعرية أو الخطابية، هو ما سماه الأستاذ “عادل مصطفى” في مصنفه “المغالطات المنطقية ” بالألفاظ الملقمة؛ حيث تُضَمَّن الألفاظ في سياقات دلالات، فَتُحفز على استحضار معنى بعينه، ويقوم الذهن بالتعويض تلقائيا: ” الحافلة أو الباص” عند التلاميذ يستدعى: المتعة، الرفقة والأصدقاء، الراحة والمرح، لكن اللفظ نفسه يستدعى عند الكبار: الرخص، الازدحام، الفقر، الضجيج …وهكذا تصير اللغة المستحضرة استعارية بشكل منطقي بالنسبة للشخص نفسه، ولكنه في الوقت ذاته تحكمها المغالطات القائمة على تجربة شخصية وذوقية غير عامة.

وما ينبغي التنبه إليه كون اللغات المشحونة أو الملقمة بما هو شخصي ليست بالضرورة كلها مغالطات، وإلا لصارات الكثير من الدراسات، وكل من الأدب والشعر مغالطات. (عادل مصطفي ، 2007، ص 124).لأن المراد في النهاية تسخير الطاقات الانفعالية والخيالية للكلمات في خدمة الحقيقة، والدفع بالمستمع إلى الاقتناع في الخطابة، فنستعمل الاستعارة للحجاج المنطقي، ونستهدف بالشعر أن ينفعل إيجابا أوسلبا، وهي أغراض تقوم بها الاستعارات التي تتميز بالتخييلات المختلفة، وتدفع المرء إلى التفكير المنطقي من وجهة نظرنا. إلا أن ما قدمته الأعمال المؤسسة للمنطق التقليدي تجعل من الاستعارة حبيسة الحجج العقلية، وخاصة الشعر والخطابة، في حين أنها قد تحضر في صور أخرى غيرها، وهو ما قد يؤدي إلى مغالطات كثيرة، وهو ما وضحه بعض المناطقة.

ويصرح الغزالي بهذا الأمر في ” معيار العلم في المنطق” عن طريق بيان ضرورة تجنب الاستعارات في البرهان، مع جوازها في غيره قائلا:” والمستعار ينبغي أن يتجنب في البراهين، دون المواعظ، والخطابيات، والشعر، بل هي أبلغ باستعماله فيها”.(أبو حامد، 1990، ص 57). لأن الاستعارة في مجال الخطابة تساعدنا على بناء حجاجي منظم، وفي الشعر تحرك النفوس للتفاعل مع الصورة الشعرية، وفي المواعظ تستفيد من الخطابة والشعر معا، أما في القياس والبرهان، فستكون النتائج عكسية تماما، ونحصل على بناء فاسد بين المقدمات والنتائج.

وإذا كان أرسطو يرى بأننا لا نصل إلى نتيجة فاسدة من مقدمات صحيحة، ولكننا نصل إلى نتيجة صحيحة مطابقة للواقع من مقدمات فاسدة. فهذا التصور قد جعل “رينيه ديكارت” يشن هجوما على القياس بالصورة التي يقدمها أرسطو، موضحا ذلك من خلال مقدمات فاسدة تعطي نتائج صحيحة من قبيل ما يلي:

كل إنسان حصان (مقدمة صغرى)

كل حصان عاقل (مقدمة كبرى)

كل إنسان عاقل (نتيجة)

فالملاحظ أن “كل إنسان عاقل” نتيجة صحيحة من حيث الواقع وإن كان لهذه النتيجة استثناءات، لوجود بعض الناس المجانين، ولكننا قد نصل إلى نتيجة صحيحة وإن كانت المقدمتان فاسدتين، ( محمد فتحي الشنيطي ، 1969) وهذا ما يؤكد قول الغزالي السابق في امتناع دخول الاستعارة في البرهان والأقيسة.

والشاهد عندنا في القياس السالف الذكر أن عبارة :” كل إنسان حصان” هي مقدمة صغرى مبنية في أصلها على تشبيه بليغ عند علماء البلاغة المتقدمين، وهي استعارة عند كثير من المحدثين والمعاصرين وبعض المتقدمين، والأمر نفسه يتكرر في المقدمة الكبرى: ” كل حصان عاقل”، لكونها منتزعة من استعارة: ” حصان عاقل”، لكون استعارة التعقل للحصان هو مجاز بنقل صفة إنسانية لحيوان غير عاقل هو الحصان، وهاتان المقدمتان أنتجتا نتيجة صحيحة: كل إنسان عاقل.

إذن؛ يتضح لنا مما تقدم أن الاستعارة في أبواب المنطق حضرت بصور متعددة، سواء تعلق الأمر بشروط المعرفات والحدود بوصفها مدخلا أساسا للتصورات، أو من خلال ما يتعلق بأقسام الحجة عند المناطقة ارتباطا بالتصديقات بوصفها الأساس من إحداث بقية أبواب المنطق، لكن الجامع بين كل ذلك هو حضور الاستعارة من بَوَّابَتَيْ الخطابة والشعر، باعتبار الاستعارة مادة أساسية في بنائهما، وتؤدي وظائف أساسية متباينة فيهما.

إلا أن هذا التصور التقليدي الأرسطي للاستعارة في علاقتها بالقياس؛ رغم كونه ظل صامدا لقرون طويلة، فإنه سيتم تجاوزه مع تقدم الدراسات المنطقية والنقدية واللغوية واللسانية، إلا أن ما يهمنا هنا هو الوقوف على أثر ذلك في الحجاج عند المتكلمين المبدعين على غرار “الجاحظ”، وهو ما سنحاول استكشافه فيما يلي.

2 – القياس والحجاج عند المتكلمين:

بعد التعرف على التصور الذي قدمه لنا المناطقة عن القياس في علاقته بالاستعارة، فإنني سأحاول تتبع بعض خصائص البناء الحجاجي عند المتكلمين في علاقته بالقياس عموما، والاستعارة التي تُبنى على القياس المنطقي على ما تم إيضاحه سلفا في الأسطر السابقة، تمهيدا للاشتغال على كتاب البخلاء من زاوية رصد بعض تجليات الفكر الاعتزالي في الكتاب من جهة، وأبعاد توظيف الاستعارات القائمة على القياس المنطقي من جهة ثانية.

2 – 1 )  حجية القياس عند المعتزلة:

إن تأثر المتكلمين بالأدوات والتقنيات المنطقية ومناهج اشتغال الفلاسفة لم يكن سطحيا، بل كان قائما على نوع من الوعي والإلمام بالأبواب المندرجة تحت كل فن من فنون الجدل والمناظرة والمنطق، فيتصل بصورة وطيدة  بما تم نقله في كتب الفلسفة المترجمة عن اليونانية إلى العربية، ليتجاوز ذلك مسألة استعارة أدوات الاستدلال إلى جعلها محط نظر ونقاش، وهو ما تعرض له القياس في البيئة المعتزلية.

وبناء على ذلك؛ فالجدير بالذكر أن القياس على صورته المنطقية الصرفة لا يشكل نزاعا عند عموم المتكلمين المعتزلة،وذلك لعلو سقف الحرية الفكرية عندهم وتحرر العقل، إلا أن ذلك لم يمنع من تعدد مذاهبهم داخل المدرستين الكبيرتين ببغداد والبصرة، الشيء الذي أسفر عن تعدد في وجهات النظر في العديد من القضايا، رغم اتفاقهم في الأصول الخمسة المعروفة عندهم: التوحيد، والعدل،  والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين،  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي ظل هذا المناخ المتصف بحرية الفكر؛ تحول القياس إلى مضمار للصراع والجدل الكلامي، واختلفت الفرق المعتزلية في حجيته، ليعده بعضهم مصدرا من مصادر التشريع وأنكره بعضم الآخر. (محمد سيدي محمد أحمد ، 2020، ص 1358) ورغم الاختلاف بينهم حول القياس إلا أن هذه المواقف في مجملها كانت متأثرة بالأصول اليونانية للفكر الفلسفي، وما سطره أرسطو حول القياس.

وبالتركيز على  النافين للقياس على غرار “إبراهيم النَّظام” و”جعفر بن حرب” و”جعفر بن مبشر” و”محمد بن عبدالله الإسكافي” وغيرهم؛ فإنهم يؤكدون على منع التعبد بالقياس عقلا وشرعا، ليعتقد “النَّظام” أن الأمة كلها يجوز عليها الخطأ، ويدخل عليها هذا الخطأ من جهة القياس والرأي. وهو رأي قائم بذاته على القياس، نوضحه كما يلي:

كل الأمة يجوز عليها الخطأ؛

الْعَالِمُ من الأمة؛

الْعَالِمُ يخطئ؛

فالنظام وفئة المعتزلة النافية للقياس؛ قد انطلق من قياس ضمني هو نفسه مُستبطنٌ عندهم، وحجة عقلية أخرى أساسها أن القياس لا ينسجم مع معطيات العقل، إذ العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في الأحكام، والتفريق بين المختلفات، لكن الشرع أباح النظر إلى شعر الأمة الحسناء، وحظر النظر إلى شعر الحرة الشوهاء، كما جمع بين المختلفات كجواز الطهارة بالماء والتراب، وهو أمر ينافي جوهر القياس القائم على إلحاق الفراع بالأصل لاجتماعهما في علة. لذا لا  يمكن قبول  القياس  في الشرع لأنه يناقضه.

وفي مقابل هذا الموقف الذي تزعمه “النَّظام” وقلة من المعتزلة؛ فإن جمهور المعتزلة يعتبرونه حجة ومصدرا من مصادر الاستدلال والتشريع، حتى جعله “القاضي عبد الجبار” هو المقصود بطلب العلم، ورد على من ينكر القياس محتجا بكونه يجوز أن يكون من أدلة الدين، ولو كان من فعل المكلف. وهذا الاستدلال فيه عدة أمور، ما يهمنا منها كونه يرد على المنكرين معتمدا في كل ذلك على القياس:

العبادة من فعل المكلف

الاجتهاد في الدين  عبادة

القياس من الاجتهاد

الاجتهاد عبادة

إذن القياس من الدين

هكذا ستمتد المؤثرات العقدية لملاحقة القياس في أبواب الفقه والأصول؛ حيث ظهرت الخلافات السابقة في حجية القياس وجواز الاستدلال به في عدة مسائل وأبواب في علم الأصول منها: (علي بن عبد العزيز المطرودي ، 2017، ص 1340).

  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في صيغة الأمر؛
  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في صيغة الأمر المطلق على الوجوب؛
  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في صيغة الأمر المطلق على الفور؛
  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في صيغة الأمر على التكرار؛
  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في دلالة العموم على أفراده؛
  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في دخول النساء في الخطاب الذي ظهرت فيه علامة التذكير؛
  • أثر الفرق في الاحتجاج بالقياس في اقتضاء النهي المطلق للفور والتكرار؛

ومن هنا؛ لا يمكننا الفصل بين المؤثرات العقدية للمتكلم المعتزلي من جهة، وبين المؤثرات الفلسفية التي وصلت إلى حد التماهي مع بعضها البعض، لما بينهما من الانسجام الذي قد يصل إلى درجة التطابق أحيانا، وهو أمر يمكن تلمسه في تصورهم للقياس في علاقته ببنائهم الحجاجي في المعتقدات أصالة، وفي الأحكام الفرعية والمناظرات تبعا.

حتى إن القياس دخل في التأسيس للأصول الخمسة: (عبد الوهاب أحمد خليل ، 2018، ص 49 – 50).

  • التوحيد نفي للصفات تجنبا للمشابهة بين الخالق والمخلوق؛
  • العدل يقتضي عدم خلق الله لأفعال العباد تنزيها له عن الجور والظلم، لأنه تعالى يقوم بالأصلح لعباده، وكل أحكامه دائرة على التحسين والتقبيح؛
  • الوعد والوعيد يقضي بوجوب فعل الله تعالى لما وعد به أو توعد عليه، وإلا لزم إخلاف الوعد والكذب، ليترتب عن ذلك قياسا كون مرتكب الكبير كافر مخلد في النار، وأنكروا الشفاعة؛
  • المنزلة بين المنزلتين فالعاصي لا يستحق اسم الإيمان لما في ذلك من التشريف، كما لا يستحق أن يطلق عليه الكفر لعدم جريان أحكامها عليه؛
  • الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على كون المنكر بابا واحدا يجب النهي عن جميعه لقبحه؛

وحضور القياس في صورته القائمة على المشابهة، أو الشبه المستبطن استعاريا؛ هو أمر كان حاضرا في أصول المتكلم المعتزلي العقدية، كما كان حاضرا في مواقفهم من القياس نفسه في أبواب الأصول والأحكام الفرعية الفقهية، وحضر عند المتكلمين في إبداعاتهم الأدبية المختلفة، وهو ما سنراه في الأسطر الموالية مع “أبي عثمان الجاحظ”، من خلال رصد بعض تجليات الاستعارة المبنية على الأقيسة في كتاب “البخلاء”.

             2 – 2 )  الاستعارة والبعد المنطقي للقياس في كتاب “البخلاء” للجاحظ:

إن الدارسين لكتاب البخلاء لا يختلفون في القيمة الفنية والأدبية لهذا المصنف، كما لا يختلف أحدهم حول الدور الذي لعبه الجاحظ في إرساء قواعد الكتابة الأدبية النثرية  وتطويرها خلال الفترة العباسية، إلا أن تناولهم لشخصيته ومصنفاته عرفت اختلافا في زوايا النظر ومناهجها؛ حيث سنكتفي – نحن بدورنا – بتسلط الضوء عليه من خلال التقاطعات التي تجمع بين آثر معتقداته المتصلة بعلم الكلام، وبصماتها في إحدى إنتاجاته الأدبية بشكل موجز.

وأول ما  نفتتح به  هذا الأمر كون الجاحظ من خلال كتابه “البخلاء” قد اشتغل على عملية التنميط نظريا وتطبيقيا في الوقت ذاته، لكونه يسطر لنا السمات المميزة للبخيل، وفي المقابل يصور لنا مظاهر وعلامات الكرم عند العرب، فجمع في معجم الكتاب ىبين حقلين أساسيين، ومتناقضين في الوقت نفسه، وهو ما نستشفه من أول قصة في مصنفه، من خلال رسالة سهل بن هارون  إلى بني عمه من آل زياد عند  ذمهم إياه في البخل؛ حيث حضرت جملة من التعابير والمفردات الدالة على حقلي البخل في مقابل الكرم: (أبو عثمان الجاحظ ، البخلاء، ص 9).

ما يدل على البخل

ما يدل على الكرم
الموجود الرخيص _ الممتنع – التوفير – كيس فارغ – ختم على لا شيء – الترقيع من الحزم – التفرق مع التضييع – رقاع – أحيا بالسم – أحيا بالغذاء – أغص بالماء – قتل بالدواء – ترقيع الثوب – أكل بيضة – حق مضيع …

النعمة – أطيب لطعمه – فاكهة نفيسة – رُطبة غريبة – ثمين الملبوس – أطعم كلبه الدجاج – أعلف حماره السمسم  – طلحة الفياض – الإنفاق …

 

ليستغل “سهل بن هارون” التضاد في الحقول المشكلة للمعجم لإجراء التقابلات والأقيسة وانتزاع الاستعارات،   كما هو الحال في استعارته لقولة عمر رضي الله عنه، ليقيس حاله فيما رُمِي به من البخل على حال أبي حفص الخليفة الثاني حين قال لأهله:” املكوا العجين، فإنه أرْبع الطحينين”، لينفي عن نفسه التهمة حين قال لخادمه يوصيها بما يجب عليها الالتزام به عند العجين: “أجيدي عَجْنه خميراً كما أجدته فطيراً، ليكون أطيبَ لطعمه وأزيدَ في ريعه”. (أبو عثمان الجاحظ ، البخلاء، ص 10).بل ستتكرر هذا الأقيسة والاستدلالات وفق صورة نمطية  في رسالته بنماذج متعددة  في رسالة”سهل بن هارون”، ليتحول الأمر من دفاع عن النفس ضد تهمة البخل من قبل العشيرة، إلى عملية بناء حجاجي قائم على استعارة نماذج لها قيمتها الدينية والتاريخية في نفوس المخاطبين، على ما يوضحه الجدول أسفله:

الواقعة الحقيقية

الشاهد المستعار والمقيس عليه
عبتم علي قولي: من يتعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص، لم يعرف مواقع الاقتصاد في الممتنع الغالي

قال الحسن عند ذكر السرف: إنه ليكون في الماعونين: الماء والكلأ، فلم يرض يذلك في الماء، حتى أردفه بالكلأ.

وعبتموني حين قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج، لتجمع بين التأدم باللحم والمرق. وقد قال صلى الله عليه وسلم: إذا طبختم لحما فزيدوا في الماء، فإن لم يصب أحدكم لحما أصاب مرقا.
وعبتموني ، بخصف النعال وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوف أبقى وأوطأ وأوقى، وأنفى للكبر وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويلطع إصبعه، ويقول: لو أتيت بذراع لأكلتها، ولو دعيت إلى كراع لأجبت.

 

ومسألة التنميط المشار إليها في كتاب “البخلاء”؛ لاتحضر فقط في أفراد القصص والمواقف، بل من خلال انتقاء رموز للكرم في بابه ضمنا في ثنايا القصص، واستحضار أخرى هي علامة على البخل لا  نزاع أو ريب فيها، وهو ما تحيل عليه شخصيات في البخل من قبيل: سهل بن هارون / زبيدة بن حميد الصيرافي / ليلى الناعطية /  أحمد بن خلف اليزيدي / خالد بن يزيد مولى المهالبة / أبي جعفر الطرطوسي /  أبو محمد الخزامي / الكندي /  أسد بن جاني، وغيرهم كثير. حتى يمكننا الربط بين كل شخصية بسمة دالة على البخل والبخيل، كما هو موضح أسفله:

سهل بن هارون           ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ          الدفاع عن البخل بالحجج والأقيسة

زبيدة بن حميد          ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ          مطل الناس عند قضاء الدين

ليلى الناعطية            ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ          ترقيع الرقع

أحمد بن خلف            ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ            الفرار من استقبال الضيوف

خالد بن يزيد              ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ             البخل والتكدية في المال

أبي جعفر الطرطوسي      ــــــــــــــــــــــــــــــ             البخل على الذات

أبو محمد الخزامي         ــــــــــــــــــــــــــــــــ              ذم لباس الجيد من الثياب

الكندي                      ــــــــــــــــــــــــــــــــــ               ادعاء وحم الزوجة بغرض استجلاب الطعام

أسد بن جاني            ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ             التقشف في السرير

وهذه السمات أو الاستلزامات التي أصبحت لصيقة بتلك الشخصيات، تحيلنا على نمط عام محيل على البخل وما يدور في فلكه، حتى إنه يمكننا من خلال حضور سمات صغرى:  /  + الدفاع عن البخل / – /  + مطل الناس / – /+ترقيع الرقع / – /  + الفرار من استقبال الضيوف / – /  + البخل على الذات / – /  + ذم لباس الجيد من الثياب / -/  + استغلال الغير / – /  + ترقيع الرقع / ، نستنتجة وجود سمة كبرى / + بخل/ في مقابل انتفاء سمة كبرى مقابلة / – بخل/، لتتم عملية إجراء للقياس بشكل تلقائي ذهنيا:

كل من يستغل وحم زوجته لاستجلاب الطعام فهو بخيل

هذا الرجل يستغل وحم زوجته لاستجلاب الطعام

إذن هذا الرجل بخيل

وكل السمات الصغرى يمكن القياس عليها بالطريقة نفسها، وهي في الوقت ذاته أصبحت تمثل نمطا عاما لصورة نموذجية عن شخصية البخيل من جهة، وفي الوقت نفسه هي مدخل طبيعي للاستعارات عند اللسانيين المعرفيين فيما بعد.

هكذا فقد اتخذ المدخل المعجمي لمفهوم البخل بعدا ذا حمولة سيميائية، انعكست كما رأينا من خلال المرادفات  والأضداد المرتبطة بالكرم، ليجعل من النقيض دليلا على إثباث العكس لما يضاده من دلالة، (عبد الهادي بن ظافر الشهري ، 2007، ص 5). إضافة إلى البنية الحجاجية في رسائل البخلاء أنفسهم، مع إقحام الوسائل البلاغية في صيرورة الاستدلال باستدعاء تقابلات قائمة على سلمية وأقيسة، يستشهد بها المتصف بالبخل، قصد تبرير ما هو عليه من ذميم الفعل، وقبح الطوية والنية، مستحضرا في ذلك  نماذج بشرية، وأدلة شرعية، إذا ما تأملها العاقل وجدها محمولة على غير مَنَاطِهَا.

كما لا يفوتنا في هذا المقام التنويه بجهد الجاحظ “في البخلاء”، وقدرته على استثمار ظاهرة اجتماعية بأسلوب تهكمي لبق، يُشِيدُ من خلالها بجود العرب وكرمهم، (جمل جبر ، الجاحظ حياته، ص 9) وهو في الوقت نفسه يرد – ضمنا – على بعض الحركات المنتشرة فكريا واجتماعيا في عصره كالشعوبية، والتي كان همها التطاول على القيم الاجتماعية والأخلاقية العربية، حتى تشبعت كتاباتهم بذلك شعرا ونثرا، فكان هذا النوع من الكتابات بمثابة حجاج يرد على شبهاتهم باستعمال نظائرها من الأدوات والمناهج المستحدثة في علم الكلام.

خاتمة:

وفي الختام؛ نخلص إلى كون حركات الفكر الكلامية  قد كانت نتاجا لذلك الانفتاح الثقافي المعرفي الذي شهدته البلاد العربية إبان حركة الترجمة التي عرفتها الخلافة الإسلامية أواخر الفترة الأموية وبداية ترسيخ دعائم الخلافة العباسية في تلك المرحلة؛ حيث كان للفلسفة والمنطق والجدل حظها الأوفر من هذه الحركة الترجمية، فكانت هذه المكونات الثلاثة بمثابة الوقود الذي غدى المذاهب الكلامية عموما، والفكر المعتزلي على وجه الخصوص في كل ممارساته النظرية والتطبيقية، ليمتد سلطان الاعتزال إلى مجال الأدب، ويمثله أعلام تركوا بصمات لا يمكن محوها في تاريخ الأدب العربي على غرار “أبي عثمان الجاحظ”.

وقد ركزنا خلال هذا المقال على جانب من جوانب حضور شخصية المتكلم المعتزلي  التي جسدها الجاحظ في مجال الأدب من خلال كتاب “البخلاء”، بتسليطنا للضوء على آلية من آليات الحجاج التي كان لها وقعها في مجالات كثيرة كالفقه  وعلم الأصول والتفسير، بالإضافة علوم اللغة والنحو والبلاغة، وهي آلية القياس التي لم تترك مجالا إلا غزته وغذته، لما لها من قوة حجاجية تُمكن مستعملها من إفحام الخصوم عن طريق جرهم إلى الاعتراف بالمناسبات والتقاطعات ومواطن الشبه، وهو ما حاولنا رصده في بعض صفحات المصنف محور الاشتغال آنفا.

هكذا لم يكن فكر الجاحظ الاعتزالي ومذهبه العقدي بمنءً عن عمله في مجالي البلاغة والإبداع الأدبي، وهو أمر واضح في جل مصنفاته. وقد جسدته تلك القياسات القائمة على التناسب في كتابه “البخلاء”، بوصفها استعارات بحسب التصور  الأرسطي القديم، والتي تلقفها المتكلمون واعتمدوها في جل خطاباتهم ومواقفهم المختلفة، وما نقل عنهم في مصنفاتهم التي تركزا آثارهم بها.

وتكمن أهمية التنبه لمثل هذه الممارسات في الكشف عن درجة تشبع الأعلام بفكر المذهب الكلامي الذي يمثله، أو نقل عنه أنه يدافع وينافح عنه صراحة أو ضمنا، وهو ما كان حاضرا في حالة “أبي عثمان الجاحظ” الذي نقل فكره العقدي إلى ممارسة أدبية، لتكتسب الواجهات الأدبية المختلفة سمات المذهب الكلامي، ولتتحول إلى ميدان لتصارع الأفكار، و أداة في الوقت نفسه للحجاج والدفاع عن المعتقد.

وقد خلصنا في نهاية هذا البحث إلى جملة من النتائج نوجزها فيما يلي:

  • الفكر المعتزلي هو من أكثر المذاهب الكلامية استبطانا لقوانين الجدل والمنطق والفلسفة؛
  • الاستعارة القائمة على القياس المنطقي من جملة الأدوات التي ساهمت في تغدية الفكر المعتزلي؛
  • استثمار الأدباء المعتزلة للقياس المنطقي في مصنفاتهم الأدبية على غرار الجاحظ في كتاب “البخلاء”؛
  • استحالة الفصل بين حياة الأعلام الأدبية وفكره ومعتقده؛

حيث تجرنا هذه النتائج إلى اعتماد جملة من التوصيات أبرزها:

  • ضرورة التعرف على ترجمة الأعلام بوصفها عتبات موازية تساعد على فهم ما سطروه في كتبهم؛
  • التركيز على الجوانب الفكرية والعقدية والمذهبية للمصنفين؛ لما لها من أثر بالغ حال تحليل كتاباتهم؛
  • تخصيص أعداد وورشات تكوينية من خلالها تتم عملية تمهير الباحثين على عملية تتبع ملامح وآثار المشارب الفكرية في مؤلفات الأدباء والنقاد؛

وعموما؛ لقد شكل “أبو عثمان الجاحظ” علامة بارزة وقمة شامخة في سماء البلاغة والأدب العربيين، سطر من خلالها مصنفات خلد من خلالها اسمه في التاريخ، ولكنه من حيث لا يدري مثل لنا ذلك المعتزلي الأديب الذي استطاع بحذقه وصنعته أن يستثمر مستجدات عصره في نصرة مذهبه الكلامي من جهة، وأن يطور من تقنياته الإبداعية من جهة أخرى.

 

المراجع والمصادر العربية:

  • عبد الهادي بن ظافر الشهري، (2007).استراتيجيات الخطاب:مقاربة لغوية تداولية، ط1 لدار الكتاب الجديد المتحدة –بيروت.
  • أرسطو، طاليس، (1989). الخطابة، حققه وعلق عليه عبد الرحمن بدوي، طبعة دار القلم بيروت – لبنان.
  • محمد محفوظ بن الشيخ فحف، (2001 ). رفع الأعلام على سلم الأخضري وتوشيح عبد السلام في المنطق، ط 1 لدار المشرق بيروت.
  • عبد الرحمن الأخضري، شرح السلم المنورق في علم المنطق، تح، وتقديم وتعليق:أبو بكر بلقاسم ضيف، طبعة دار ابن حزم.
  • أرسطو، طاليس، (1989)” فن الشعر”، ترجمة وتقديم وتعليق د. إبراهيم حمادة، ط 1 القاهرة، مكتبة الأنجلو.
  • محمد، الولي، (2020). الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، تقديم مصطفى رجوان،ط 1 لدار كنوز المعرفة.
  • أبو عثمان الجاحظ، البخلاء، تحقيق وتعليق طه الحاجرى، ط 5 لدار المعارف – القاهرة.
  • جميل جبر، ( 2008). الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، طبعة دار الكتاب اللبناني.
  • محمد سيدي محمد أحمد، ( 2020). القياس بين القبول والرفض عند المعتزلة، مجلة كلية الآداب للإنسانيات والعلوم الاجتماعية، مج 12، عدد 2 يوليو.
  • عبد الوهاب أحمد خليل، ( 2018 ). القياس عند المعتزلة دراسة وتقويما، محاكم، عددالثاني: 1 يناير.
  • عادل مصطفي، (2007). المغالطات المنطقية(طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي): فصول في المنطق الصوري “، ط 1 للمجلس الأعلى للثقافة.
  • محمد فتحي الشنيطي ، (1969). “المنطق ومناهج البحث”، طبعة دار الطلبة العرب ببيروت.
  • أبي حامد الغزالي، (1990). معيار العلم في المنطق ، شرحه أحمد شمس الدين، الطبعة الأولى لدار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان.
  • عبد العزيز لحويدق،(2015).نظريات الاستعارة في البلاغة الغربية: من أرسطو إلى لايكوف ومارك جونسون، ط1 لدار كنوز المعرفة.

 

 

المراجع الأجنبية:

  • Conrad, (1934). Etude sur la Métaphore, Mauris Lavergne, paris.
  • Jaques DERRIDA, (1972).La mythologie blanche, , in Marge de la philosophie, collection « critique » Edition de Minuit, paris.

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *